
كانّ 78 - "صراط": الطريق إلى الحفل أجمل من الطريق
يأخذنا المخرج الفرنسي من أصول إسبانية أوليفر لاشيه في رحلة بصرية وروحية من نوع خاص عبر فيلمه الجديد "صراط"، المشارك ضمن مسابقة مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار). يقدّم لاشيه عملاً يتجاوز حدود السرد التقليدي، ليصوغ تجربة تُقارب معنى العبور والبحث والضياع، مستنداً إلى خلفية ثقافية متعدّدة ومتجذّرة في تربة روحية وفكرية خصبة.
ليس جديداً على لاشيه أن يختار الصحراء مسرحاً لفيلمه، فقد سبق له أن صوّر فيلمه الأول "ميموزا" في المغرب، ما يدل على أن ارتباطه بهذه الجغرافيا ليس عارضاً، بل يتعدّى البُعد المكاني ليصبح عنصراً فلسفياً داخل رؤيته الفنية. الصحراء، هنا، لا تُستخدَم كخلفية محايدة، هي تُستحضر كفضاء يتقاطع فيه التجريد مع الواقع، ويتحوّل فيه الزمن إلى حالة شعورية تتيح للإنسان أن يعيد النظر في مسار وجوده.
يحكي "صراط" قصّة أب إسباني (يؤديه سيرجي لوبيز) ينطلق في رحلة محمومة بحثاً عن ابنته المختفية منذ أشهر. تتردّد شائعة بأنها قد تظهر في "حفل" يُقام في قلب الصحراء، فيقرر الأب، برفقة ابنه، التوجّه نحو هذا الحدث الغامض. ما يبدأ كرحلة مادية، سرعان ما ينقلب إلى عبور روحي داخلي، حيث يكتشف الأب أنه لا يبحث فقط عن ابنته، بل عن ذاته أيضاً، عن خلاص ما، عن المعنى في عالم يتآكل من حوله.
اختيار العنوان "صراط" ليس بريئاً، فالمفهوم المستمد من الثقافة الإسلامية يشير إلى الجسر الفاصل بين الجنّة والنار، لكن لاشيه يعيد تأويله ليصبح تعبيراً عن حالة وجودية معاصرة. يقول المخرج في مقابلة: "ما يهمّني هو المعنى العميق للكلمة، بوصفها طريقاً مزدوجاً: مادياً وروحياً. "صراط" هو ذاك الخط الداخلي الذي يدفعك لأن تموت قبل أن تموت، كما يحدث مع شخصية لويس في الفيلم". في هذا المعنى، يصبح الفيلم أقرب إلى اختبار للقدرة الإنسانية على التغيير، على كسر الحلقة المفرغة من التكرار، وعلى مواجهة الذات في لحظات الضعف القصوى.
يطرح لاشيه أسئلة صعبة ومباشرة: هل نستطيع، كأفراد ومجتمعات، أن نكسر دوائر الأخطاء القديمة؟ هل يمكن أن نولد من جديد في لحظة انهيار؟ في الفيلم، كما في الحياة، لا توجد إجابات جاهزة. هناك فقط مسارات مفتوحة، واحتمالات كامنة في التجربة ذاتها. عندما تدهم الشخصيات لحظات انهيارها، تتحرّر من قيد الأنا، وتصبح قادرة على عبور مناطقها الداخلية الأكثر ظلمةً. تلك هي ذروة الفيلم الحقيقية: ليس في العثور على الابنة، بل في عبور الحقل النفسي الملغّم، حيث تتكشّف الهوية وتتعرى الحقيقة.
الحفل الذي يشكّل ذروة الحدث ليس احتفالاً بالمعنى التقليدي، بل فضاء صوفي يتحلّق فيه المهمّشون من العالم، يحتفلون بوجودهم، ويتحررون من القوالب الاجتماعية والدينية والسياسية. وعندما تسعى السلطات المحلية إلى فضّ التجمّع، يواصل بعض المشاركين السير نحو منطقة صحراوية أخرى، رافضين العودة إلى "العادي". في هذا القرار، تتجلّى إرادة الانعتاق من السلطة، من المألوف، من الانضباط المفروض. وهنا، يرفض الأب التراجع، ويواصل تتبّع آثارهم، مدفوعاً برغبة خافتة في اللقاء، أو ربما في الفهم.
لاشيه لا يبحث عن إثارة أو حبكة تقليدية، إنما عن تأثير شعوري. كما يقول في ملاحظاته الفنية: "أردتُ أن يكون الفيلم بمثابة رجّة داخلية، تدفع المُشاهد الى التأمل، لا الى الفهم السردي الخالص. أعتقد أن السينما قادرة على استعادة العلاقة بالأسئلة الوجودية الكبرى التي تم نفيها من مجتمعاتنا". يذهب لاشيه بعيداً في تحليله لواقعنا الراهن، مشيراً إلى أن الإنسان المعاصر يعيش في مجتمع يهاب الموت، يخفيه، يهمّشه، ويُفرغ طقوسه من معناها. من هنا تأتي أهمية "صراط" كفيلم يُعيد الى الموت مكانته الرمزية، بوصفه فرصة للعبور.
لا يمكن تجاهل التأثّر الواضح بأعمال سينمائية وجودية سابقة، خاصةً تلك التي اختبرت العلاقة بين الموت والحياة كما فعل كيارستمي في "طعم الكرز". إلا أن لاشيه يحافظ على صوته الخاص. يستخدم إيقاعاً بطيئاً، متأملاً، يُسخّر الصورة والصوت والمكان لبناء حالة حسيّة معقّدة. الموسيقى نادرة، لكن حضورها حين يأتي، يكون جارحاً، تماماً كما الصمت الذي يملأ الصحراء. في نهاية الرحلة، يدرك المشاهد أن الحفل لم يكن سوى وهم، أو بالأحرى، وسيلة لاكتشاف الحقيقة الأعمق: أن الطريق هو الغاية. أن السير في ذاته، رغم ما يحمله من وجع وضياع، هو ما يخلق المعنى. "صراط" ليس فقط فيلماً عن البحث، بل عن الانخلاع من الذات، عن الاحتراق من أجل بعث جديد، عن رقصة مؤلمة مع الموت تُفضي إلى حياة أكثر صدقاً.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحراء ميديا
منذ 25 دقائق
- صحراء ميديا
"الإصلاح" يشارك في مؤتمر اشتراكيّ دوليّ في تركيا صحراء ميديا
شارك حزب الإصلاح الموريتاني، في مؤتمر الأحزاب الاشتراكية الدولية، المنعقد في اسطنبول، تركيا، تحت شعار 'متحدون من أجل العالم، نحن نستحق رؤية عالمية للحلول والتضامن'.وأطلع الحزب، أطراف المؤتمر المشارِكة، على رؤى الحزب الديمقراطية والاجتماعية الحداثية التي وجد تجسيدها في برنامج الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ ولد الغزواني، وفق بيان صادر عن الحزب. ولفت الحزب إلى تضمين ولد الغزواني 'للفلسفة الاشتراكية الأممية' في برنامجه، 'سواء تعلق الأمر بالاقتصاد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية والحوار السياسي مع المعارضين وحرية الصحافة.'وتدعو الاشتراكية الأممية التي ضمّن ولد الغزواني فلسفتها في برنامجه، وفق بيان الإصلاح، إلى اتحاد الطبقة العاملة عبر الحدود الوطنية، وتنظر إلى الرأسمالية كنظام عالمي يجب مواجهته. بينما تُعدّ منظمة الاشتراكية الأممية التي نظمت المؤتمر من أهم المنظمات السياسية حول العالم، تضم أكثر من ثمانين حزبا سياسيا من ضمنها الأحزاب الاشتراكية وأحزاب اليسار الليبرالي في الغرب.'واستغل وفد الحزب،' وفق البيان، 'الفرصة لإيصال أنات إخواننا الفلسطينين في غزة، وكذا الدفاع عن القضايا العادلة، وتسليط الضوء على المخاطر التي تهدد منطقتنا.' مثّل الحزب، في المؤتمر، كل من الأستاذ محمد ولد طالبن، رئيس الحزب، ومحمد السالك ولد أحمد بانم، الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في المكتب السياسي للحزب.

مصرس
منذ 25 دقائق
- مصرس
قلب الأمريكيين يقطر دمًا رغم تجاهلهم ما يحدث بغزة.. عمرو أديب يُعلق على مقتل موظفين بالسفارة الإسرائيلية بواشنطن
علق الإعلامي عمرو أديب، على حالة الازدواجية التي أثيرت بشأن مقتل موظفين بالسفارة الإسرائيلية بواشنطن في إطلاق نار بالمتحف اليهودي وما تخلله من اهتمام كبير مقابل تجاهل لعملية القتل التي تقع في غزة. وقال خلال برنامجه «الحكاية» عبر شاشة «mbc مصر»، مساء الجمعة، إن مقتل موظفي السفارة أثارت تحركات كبيرة في الولايات المتحدة لدرجة أن قلبهم يقطر دما على القتيلين، حيث يتحرك الكثير من المسئولين في إشارة إلى أن ما جرى أمر شديد خطير وغير مسبوق.وأضاف: «الدنيا واقفة على رجل في أمريكا بسبب الواقعة دي رغم إنه في نفس الليلة كان فيه 100 شهيد في غزة .. هو ده إرهاب وده مش إرهاب».وتابع: «مفيش حد بيعبرنا على اللي بيحصل في غزة.. محدش بيقولنا إزاي الناس دي متبهدلة وبتتقتل كل يوم ومش لاقية تاكل».واستكمل: «هو الإسرائيلي أحسن مننا في إيه.. لماذا إسرائيل بهذه القوة.. لماذا يعمل الجميع حساب لإسرائيل.. إحنا ملناش سعر مفيش حد بيراعي خاطرنا».


ناظور سيتي
منذ 25 دقائق
- ناظور سيتي
المغرب يستعد لتوسيع أسطوله البحري بأول بارجة حربية إسبانية منذ 40 سنة
المزيد من الأخبار المغرب يستعد لتوسيع أسطوله البحري بأول بارجة حربية إسبانية منذ 40 سنة ناظورسيتي: متابعة شهد ملف تعزيز قدرات البحرية الملكية المغربية تطورا بارزا مع إعلان موعد طرح سفينة الدورية البحرية "أفانتي 1800" على الماء، وذلك يوم الثلاثاء 27 مايو المقبل في ورشات البناء بمدينة سان فرناندو الإسبانية. هذه السفينة تمثل علامة فارقة، فهي أول سفينة حربية تبنيها إسبانيا للمغرب منذ إطلاق فرقاطة "تنيينت كرونيل الرحماني" عام 1983. تم التعاقد على بناء "أفانتي 1800" في سنة 2021، وشهد المشروع انطلاقة رسمية في يوليوز 2023 عبر قطع أول صفيحة فولاذية. بعد ذلك، قطع المشروع خطوات مهمة تمثلت في وضع "الكيب" في شتنبر 2024، وهو إجراء جاء عقب تقييم دقيق من قبل قيادة البحرية الملكية المغربية، ما أكد توافق سير الأشغال مع الجدول الزمني المتفق عليه مع شركة نافانتيا الإسبانية، المتخصصة في بناء السفن الحربية. يبلغ طول السفينة 89 مترا وعرضها 13.3 مترا، ويصل غاطسها إلى 4 أمتار، مما يجعلها ضمن فئة السفن الدورية العالية القدرة والمتطورة التي صممتها نافانتيا. تحمل السفينة طاقما يضم 46 فردا، مع إمكانية استضافة 12 راكبا إضافياً. زودت بأنظمة رصد ورادارات حديثة، وتقنيات مضادة للتشويش الإلكتروني، بالإضافة إلى مدفع عيار 76 ملم، ونظام إطلاق صواريخ، فضلا عن سطح مخصص لهبوط طائرات الهليكوبتر. تعتمد سفينة "أفانتي 1800" على نظام دفع مزدوج ديزل-ديزل (CODAD)، مزود بأربعة محركات من نوع MAN 175D وخمسة مولدات كهربائية Baudouin 6 M26.3، ما يمنحها قدرة تحمل متميزة بمدى يصل إلى 4000 ميل بحري بسرعة اقتصادية تبلغ 15 عقدة، مع إمكانية بلوغ سرعة قصوى تصل إلى 26 عقدة. بعيداً عن بناء السفينة، يتضمن العقد حزمة دعم لوجستي وتقني شاملة تشمل قطع الغيار، الأدوات، الوثائق الفنية، فضلا عن تدريب الطواقم المغربية على صيانتها وتشغيلها داخل إسبانيا. وتعد هذه الصفقة حيوية من حيث خلق فرص العمل في المنطقة، إذ تستقطب أكثر من مليون ساعة عمل في ورشات كاديث البحرية، وتوفر حوالي 1100 وظيفة مباشرة وغير مباشرة. عند الانتهاء من تجهيزها وتسليمها المتوقع منتصف 2026، ستشكل هذه السفينة إضافة نوعية إلى أسطول البحرية الملكية المغربية الذي يضم بالفعل فرقاطة FREMM محمد السادس، وسفن دورية من فئة SIGMA، إضافة إلى وحدات دوريات أخرى متطورة، مما يعزز قدرات المغرب في حماية شواطئه ومصالحه البحرية.