
وعد ماسك بالسفر إلى المريخ غير واقعي
انتقد مستشار في وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" خطط الملياردير إيلون ماسك الرامية إلى هبوط البشر على كوكب المريخ، وكتب الخميس الماضي أن هذا المسعى الطموح جداً لن يتحقق "في وقت قريب".
ماسك، مؤسس الشركة المتخصصة باستكشاف الفضاء "سبايس إكس" SpaceX، كان قد صرح مراراً وتكراراً بأن هدفه الأساس إرسال البشر إلى المريخ. وفي مقابلة معه على قناة "فوكس نيوز" الأسبوع الحالي، توقع أن مشروع وجود حضارة بشرية على كواكب متعددة سيتحقق خلال العشرين إلى الثلاثين عاماً المقبلة. وكان أشار سابقاً إلى أن "الكوكب الأحمر" ربما يشهد هبوطاً غير مأهول في عام 2026، فيما سيصل البشر إلى هناك قبل 2030.
ولكن عالم الكون [عالم الكونيات] الدكتور بول سوتر قال في مقال نشرته مجلة "ساينتفك أميركان" Scientific American إن التواريخ المذكورة سابقاً التي حددها ماسك لا تتماشى مع وجود خطة شاملة ومدروسة، بل ببساطة [مجرد استغلال] "لنافذة (فرصة) فلكية تالية متاحة للإطلاق [نحو المريخ]، عندما يكون كوكبا الأرض والمريخ في تقارب على الجانب نفسه من النظام الشمسي، ما يتطلب أقل قدر من الطاقة لتنفيذ عمليات نقل إلى ذلك الكوكب".
"إنها أشبه بالإعلان عن رحلة تخييم في أقرب عطلة نهاية أسبوع متاحة، من دون شراء أي من لوازم التخييم. وسيارتك في ورشة التصليح. وقد تعرضت لحادث كبير"، أضاف سوتر.
صحيح أن مهمة الوصول إلى المريخ [والعيش على سطحه] ليست مستحيلة، وفق عالم الأبحاث المشارك في "جامعة جونز هوبكنز"، وأن "سبايس إكس" قد قطعت "خطوات هائلة" في تطوير معززات الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام في عمليات إطلاق لاحقة [ما يساعد في خفض التكاليف]، بيد أن "طريقاً طويلاً" يفصلنا اليوم عن الوصول إلى هناك في المستقبل، كما يقول.
وأشار سوتر إلى أن جزءاً من المشكلة يكمن في التصميم نفسه الذي تقوم عليه المركبة الفضائية "ستارشيب" Starship. فقد انتهت الرحلتان التجريبيتان لهذا الصاروخ بانفجارات نارية. ولا ننسى أيضاً التكلفة، التي قد تُقدر بمليارات، إن لم تكن تريليونات، الدولارات.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف سوتر أنه "في ستينيات القرن العشرين، انتقل برنامج "أبولو"Apollo من مرحلة وضع المخططات إلى مرحلة الهبوط على سطح القمر في أقل من عقد من الزمن. ولكن المريخ تحدٍ مختلف تماماً وأكبر بأشواط". "أقرب مسافة بيننا وبينه تبلغ 56 مليون كيلومتر، أي نحو 150 ضعف المسافة إلى القمر. لا يمكن لـ"ستارشيب" الانطلاق مباشرة من الأرض والوصول إلى المريخ في رحلة واحدة. لا بد من أن تتزود بالوقود في مدار الأرض، في حين أن هذه التكنولوجيا ما زالت في مراحلها الأولى من التطوير".
لم تحقق أي مركبة هبوط فضائية المهمة المنوطة بمركبة "ستارشيب": الوصول إلى سطح المريخ المليء بالفوهات من طريق هبوط مستقر ومحركات تدور عجلتها [مزودة بالوقود]. والجدير بالذكر أن أي بعثة مأهولة ستتطلب إطلاقاً آخر وهبوطاً مضبوطاً بالتوجيهات المناسبة، ما تترتب عليه عقبات محددة.
وقال سوتر: "بداية، لا نملك أي مركبة فضائية مخصصة للاستخدام البشري في الفضاء العميق. يجب أن تزود "ستارشيب" بأنظمة تركيب واختبار دقيقين لأنظمة دعم الحياة، وأن تتحلى بدرجة أعلى بكثير من معايير السلامة، تخولها نقل طاقم بشري إلى المريخ".
خلال السنتين اللتين تستغرقهما رحلة الذهاب والإياب المعتادة إلى المريخ، على "ستارشيب" حماية طاقمها من الإشعاع الكوني و"مخاطر الجاذبية الصغرى".
كل هذه التفاصيل كانت الولايات المتحدة تعمل على تحقيقها وإيجاد حلول لها قبل أن يتحول تركيزها إلى القمر في الماضي. صرّح تشارلز بولدن، مدير "ناسا" في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأن أقداماً أميركية ستطأ أرض المريخ بحلول عام 2030. وخلال ولايته الأولى، غير الرئيس دونالد ترمب الاتجاه مجدداً لمصلحة بعثات "أرتميس" Artemis [هدفها إرسال أول إمرأة وأول رجل إلى القمر وإنشاء محطة قمرية].
قال سوتر: "نحن بعيدون كل البعد عن بلوغ هذه الأفكار نماذج أولية، ناهيك عن أن تصبح مكونات قوية وموثوقاً بها للبعثات" إلى المريخ.
يُذكر أن "اندبندنت" طلبت من "سبايس إكس" التعقيب على هذه المسألة ولكن الشركة لم تقدم أي رد.
هل السفر إلى المريخ مجرد حلم بعيد المنال أم أنه مشروع محتمل، يبقى موضوعاً محل جدال. ولكن يتفق البعض مع موقف سوتر.
من بين هؤلاء رائد الفضاء السابق في "ناسا"، خوسيه هيرنانديز، إذ قال في تصريح أدلى به إلى صحيفة "ذا هيل" أخيراً: "تفصلنا عن الوصول إلى المريخ 15 سنة تقريباً، وليس خمس سنوات كما يلمح إيلون ماسك".
وتابع هيرنانديز: "كما قلتُ دائماً... ليس السفر إلى الفضاء مشروعاً سهلاً، لذا أول ما علينا القيام به إغلاق "محطة الفضاء الدولية"، واستثمار تلك الأموال التشغيلية في تطوير قاعدة قمرية نعمل فيها على تطوير واختبار وإثبات التقنيات اللازمة للسفر إلى المريخ، لأن أمامنا في الوقت الحالي عقبات تقنية كثيرة".
أما العالم بيل ني ["رجل العلوم"] فأعرب في مقابلة مع صحيفة "يو أس أي توداي" في 2019 عن استنكاره ورفضه "فكرة تحويل المريخ إلى أرض صالحة للعيش فيه"، وقال "مع كل الاحترام، هل أنتم أسوياء؟. نحن عاجزون حتى عن الاعتناء بكوكبنا الذي نعيش فيه، ونحن متكيفون تماماً معه، فكيف لنا أن نعتني بكوكب آخر".
ولكن مع ذلك، يتبنى آخرون وجهة نظر أكثر توازناً في مسألة استكشاف المريخ، فيتعاملون مع التحديات بحذر ولكن مع الأمل في إمكانية تحقيق النجاح في المستقبل.
مثلاً، قبل عقد من الزمن، قال هوبي برايس، من "مختبر الدفع النفاث" التابع لوكالة "ناسا": "السفر إلى المريخ ممكن، وضمن فترة زمنية مثيرة للاهتمام. ربما يحدث خلال حياتنا، ولن يتطلب تحقيقه تريليون دولار".
بدوره أبلغ روبرت زوبرين، رئيس جمعية "المريخ"، صحيفة "غارديان" في سبتمبر (أيلول) الماضي أن السفر إلى المريخ "ممكن تماماً في عام 2028. تتحدث الآن عن رحلة ذهاب فقط إلى المريخ [ولكن] لا ينبغي إرسال الناس في رحلة ذهاب من دون عودة قبل أن تتوافر دفيئات زراعية ومستوطنات وكل ما يقتضيه العيش هناك، باختصار أن يكون مكاناً ملائماً للعيش".
وأضاف: "هذه واحدة من النقاط الخلافية بيني وبين ادعاء ماسك. لا أعتقد أنهم يعكفون فعلاً على تطوير الأنظمة اللازمة للعمليات البشرية على سطح المريخ. إنهم يعملون بجدية على نظام النقل، ولكنهم لا يعملون على نظام لإنتاج الميثان والأوكسجين مثلاً، على نطاق واسع على المريخ".
ليس مؤكداً ما إذ كان المريخ سيصبح مستعمرة بشرية أو لا. صرّح ماسك عام 2016 أن إنشاء حضارة مكتفية ذاتياً على الكوكب سيستغرق من 40 إلى 100 عام. ولما كان المريخ قاحلاً ومغبراً وبارداً، تذكر "سبايس إكس" إنها تستطيع تدفئته بطريقة ما.
وقال عالم الفيزياء الفلكية نيل ديغراس تايسون سابقاً في حديث إلى الموقع الإلكتروني "فوتوريزم": بالتأكيد، سنزور المريخ كوجهة سياحية لقضاء العطلات. و[لكن] أشك في أن تجدوا أعداداً كبيرة من الناس ترغب في الذهاب إلى ذلك الكوكب والمكوث فيه".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 3 ساعات
- Independent عربية
منشآت إيران النووية الرئيسة... عددها ومواقعها الاستراتيجية
تمتلك إيران عدداً من المنشآت المهمة المرتبطة ببرنامجها النووي، والتي أسهمت في تحقيق تقدم سريع للنظام الإيراني في هذا المجال، وهي الآن محور عدة جولات تفاوض مع الولايات المتحدة. تنتشر هذه المنشآت في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك منشأة تقع في قلب العاصمة طهران، مما يعكس اتساع نطاق البرنامج النووي الإيراني. وتعد منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم أبرزها، وتعرضت في أكثر من مناسبة لهجمات تخريبية نسبت إلى إسرائيل. وأما المنشآت النووية الإيرانية من حيث أهميتها ودورها في البرنامج النووي فهي كالتالي: منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم تقع منشأة نطنز النووية على بعد 220 كيلومتراً جنوب شرقي طهران، وتعد القاعدة الرئيسة لتخصيب اليورانيوم في إيران. وصُمم جزء من هذه المنشأة تحت الأرض، في قلب هضبة إيران المركزية، لتكون محصنة ضد أية ضربات جوية محتملة. وتضم المنشأة عدداً من "سلاسل التخصيب" أو مجموعات من أجهزة الطرد المركزي، التي تسرع من عملية تخصيب اليورانيوم. وتعمل إيران حالياً على حفر أنفاق في جبل "كولنغ غزلا" الواقع مباشرة خلف السياج الجنوبي لمنشأة نطنز. وكانت هذه المنشأة هدفاً لهجوم بفيروس "ستاكس نت"، الذي يعتقد أنه من تصميم إسرائيل والولايات المتحدة، وتسبب بتدمير عدد من أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، وتعرضت منشأة نطنز لهجومين تخريبيين منفصلين نُسبا إلى إسرائيل، مما يسلط الضوء على الأهمية الاستراتيجية لهذه المنشأة في البرنامج النووي الإيراني. منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم تقع منشأة فوردو النووية على بعد نحو 100 كيلومتر جنوب غربي طهران، وتضم المنشأة أيضاً مجموعات من أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم، وإن كانت أصغر حجماً من منشأة نطنز. ويعتقد أن منشأة فوردو، المدفونة تحت الجبال ومحاطة بأنظمة دفاع جوي، صممت خصيصاً لتحصينها ضد أي هجوم جوي محتمل. ووفقاً لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بدأ بناء المنشأة عام 2007 في الأقل، لكن إيران لم تعلن وجودها إلا عام 2009، بعدما كشفتها الولايات المتحدة وأجهزة استخبارات غربية، لتقوم طهران لاحقاً بإبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوجود هذه المنشأة رسمياً. محطة بوشهر النووية تقع المحطة النووية التجارية الوحيدة في إيران داخل مدينة بوشهر على ضفاف الخليج العربي، على بعد نحو 750 كيلومتراً جنوب العاصمة طهران. وبدأ بناء هذه المنشأة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكنها تعرضت مراراً للقصف خلال الحرب الإيرانية-العراقية. ولاحقاً، استكملت روسيا أعمال بناء هذه المحطة. وتعمل طهران حالياً على إنشاء مفاعلين إضافيين مشابهين داخل الموقع ذاته. ويزود مفاعل بوشهر بالوقود النووي المخصب في روسيا، وليس داخل إيران، وتخضع عملياته لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) مفاعل أراك للماء الثقيل يقع مفاعل أراك للماء الثقيل على بعد 250 كيلومتراً جنوب غربي طهران. ويستخدم الماء الثقيل لتبريد المفاعلات النووية لكنه ينتج أيضاً البلوتونيوم، الذي يمكن استخدامه نظرياً في تصنيع الأسلحة النووية. وإذا ما قررت إيران السعي لامتلاك سلاح نووي، فقد يشكل هذا المفاعل مساراً بديلاً عن استخدام اليورانيوم المخصب. وبموجب الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015 بين إيران ومجموعة الدول 5+1 (الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا)، وافقت طهران على إعادة تصميم هذا المفاعل بما يبدد المخاوف المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية. مركز أصفهان للتكنولوجيا النووية تقع هذه المنشأة في أصفهان على بعد نحو 350 كيلومتراً جنوب شرقي طهران، وتضم آلاف الخبراء في المجال النووي. وتحوي ثلاثة مفاعلات بحثية صينية ومختبرات مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني. صورة بواسطة الأقمار الإصطناعية لمفاعل طهران للأبحاث كما بدا في 22 أبريل 2025 (بلانت لابس/ أ ب) مفاعل طهران للبحوث النووية يقع مفاعل طهران للبحوث النووية داخل مقر منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وهي الهيئة المدنية المشرفة على البرنامج النووي داخل البلاد، ومنحت الولايات المتحدة هذا المفاعل لإيران عام 1967 ضمن إطار برنامج "الذرة من أجل السلام" الذي أطلقته خلال الحرب الباردة. وفي بداية الأمر، كان المفاعل يعمل باستخدام اليورانيوم عالي التخصيب، لكنه خضع لاحقاً لتحديثات تتيح له العمل باليورانيوم منخفض التخصيب، وذلك استجابة للمخاوف الدولية المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية.


Independent عربية
منذ 5 ساعات
- Independent عربية
ترمب يوقع أوامر تنفيذية لتعزيز الطاقة النووية الأميركية
وقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمس الجمعة، أربعة أوامر تنفيذية تهدف، بحسب مستشاره، إلى إطلاق "نهضة" الطاقة النووية المدنية في الولايات المتحدة، مع طموح بزيادة إنتاج الطاقة النووية أربع مرات خلال السنوات الـ25 المقبلة. ويريد الرئيس الأميركي الذي وعد بإجراءات "سريعة للغاية وآمنة للغاية"، ألا تتجاوز مدة دراسة طلب بناء مفاعل نووي جديد 18 شهرا، ويعتزم إصلاح هيئة التنظيم النووي، مع تعزيز استخراج اليورانيوم وتخصيبه. وصرح ترمب للصحافيين في المكتب البيضوي: "الآن هو وقت الطاقة النووية"، فيما قال وزير الداخلية دوغ بورغوم إن التحدي هو "إنتاج ما يكفي من الكهرباء للفوز في مبارزة الذكاء الاصطناعي مع الصين". وقال مسؤول كبير في البيت الأبيض طلب عدم الكشف عن هويته للصحافيين: "نريد أن نكون قادرين على اختبار ونشر المفاعلات النووية" بحلول يناير (كانون الثاني) 2029. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وتظل الولايات المتحدة أول قوة نووية مدنية في العالم، إذ تمتلك 94 مفاعلاً نووياً عاملاً، لكن متوسط أعمار هذه المفاعلات ازداد حتى بلغ 42 سنة. ومع تزايد الاحتياجات على صعيد الكهرباء، والتي يحركها خصوصاً تنامي الذكاء الاصطناعي، ورغبة بعض البلدان في الاستغناء عن الكربون في اقتصاداتها، يزداد الاهتمام بالطاقة النووية في جميع أنحاء العالم. والعام 2022، أعلنت فرنسا التي تبقى صاحبة أعلى معدل طاقة نووية للفرد بواقع 57 مفاعلا، برنامجا جديدا يضم ستة إلى 14 مفاعلا. ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل أول هذه المفاعلات العام 2038. وتظل روسيا المصدر الرئيسي لمحطات الطاقة، إذ لديها 26 مفاعلا قيد الإنشاء، بينها ستة مفاعلات على أراضيها.


Independent عربية
منذ 10 ساعات
- Independent عربية
مفارقات عالم محوره التكنولوجيا
في فبراير (شباط) 2022، ومع تقدم القوات الروسية نحو كييف، واجهت الحكومة الأوكرانية نقطة ضعف حرجة، حيث كانت شبكات الإنترنت والاتصالات تتعرض للهجوم وكان من المتوقع أن يُعزل الجنود والقادة عن الاتصال قريباً، وحينئذ تقدم نحوهم إيلون ماسك، الرئيس الفعلي لشركات "تيسلا" و"سبايس إكس" و"إكس"، و"إكس إيه آي" XAI، و"بورينغ كومباني" Boring Company [المتخصصة بالإنشاءات] و"نيورالينك" Neuralink [تعمل في ربط الجهاز العصبي بالأدوات الذكية]. وخلال أيام نشرت "سبايس إكس" في أوكرانيا آلاف أجهزة ربط الاتصالات المخصصة لشبكة "ستارلينك" Starlink؛ وشغلت خدمات الاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية من دون مقابل. واُمتدح ماسك كبطل استطاع إبقاء ذلك البلد على اتصال مع خطوط الإنترنت، لكن هذا التدخل الشخصي من الملياردير واعتماد كييف عليه لم يكن بلا تبعات، فبعد أشهر طلبت أوكرانيا من "سبايس إكس" توسيع تغطيتها كي تشمل شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا لتنفيذ هجوم بالطائرات المسيرة بحرية ضد أهداف بحرية روسية، غير أن ماسك رفض ذلك متذرعاً بأن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد كبير في الحرب، وحتى مناشدات الـ "بنتاغون" باسم أوكرانيا لم تنجح في تغيير موقفه، وهكذا فإن مواطناً غير منتخب ولا يخضع لأية مساءلة تمكن منفرداً من إحباط عملية عسكرية في منطقة حرب نشطة، كاشفاً في الوقت نفسه عن مدى محدودية سيطرة الحكومات على قرارات مصيرية تؤثر في أمن شعوبها ودولها. لقد قدم ذلك مثالاً حياً عن عالم باتت "التكنولوجيا قطبه الفعلي"، فالقيادي التكنولوجي لم يقتصر دوره هنا على التأثير في أسواق الأسهم بل يسيطر أيضاً على جوانب من المجتمع المدني والسياسة والشؤون الدولية، وهي مجالات كانت تقليدياً حكراً على الدول، وخلال العقد الماضي أدى صعود مثل هؤلاء الأفراد والشركات التي يتحكمون بها إلى تغيير النظام العالمي الذي ظل طوال ما يقارب 400 عام منذ "صلح وستفاليا" يُبنى على الدول بوصفها اللبنات الأساس للجغرافيا السياسية، وقد وصفت بنية هذا النظام، في معظم تلك المدة، بأنها أحادية القطب أو ثنائية أو متعددة الأقطاب تبعاً لتوزيع القوة بين الدول، غير أن العالم دخل منذ ذلك الحين ما يمكن تسميته بـ "اللحظة التكنولوجية القطبية"، وهو مصطلح استخدمته في مجلة "فورين أفيرز" عام 2021 لوصف نظام ناشئ "تنافس فيه حفنة من شركات التكنولوجيا الكبرى الدول من حيث التأثير الجيوسياسي"، فقد أصبحت هذه الشركات جهات فاعلة قوية على الساحة الجيوسياسية، تمارس شكلاً من أشكال السيادة في الفضاء الرقمي، وفي العالم المادي على نحو متزايد، مما يجعلها نداً محتملاً للدول. في عام 2021 بدا أن نفوذ تلك الشركات يتجه نحو مزيد من التوسع، وقد ازداد بالفعل خلال الأعوام الثلاث الماضية، وكان رأيي آنذاك بأن الحكومات لن تتخلى عن مواقعها من دون مقاومة، ومنذ ذلك الحين احتدم الصراع من أجل السيطرة على الفضاء الرقمي، لكن ميزان القوى بين شركات التكنولوجيا والدول شهد تغيرات مفاجئة، وما يتبلور الآن نتيجة لهذا الصراع لا يشبه أياً من السيناريوهات التي توقعتها في البداية، فهو ليس نظاماً رقمياً معولماً تنتزع فيه شركات التكنولوجيا السيطرة من الدولة، ولا حرباً باردة رقمية بين الولايات المتحدة والصين تعيد فيها الحكومات بسط سلطتها على الفضاء الرقمي، ولا عالماً تكنولوجياً قطبياً بالكامل تنهار فيه هيمنة الدول على يد شركات التكنولوجيا. وإذ لم يتحقق انتصار حاسم للدول على الشركات أو العكس، يتجه المستقبل نحو شكل هجين أكثر تعقيداً، نظام مزدوج تتقابل فيه الولايات المتحدة ذات القطب التكنولوجي، حيث يزداد تأثير الشركات التكنولوجية الخاصة في رسم السياسات الوطنية، مع الصين ذات النزعة الدولتية، حيث فرضت الحكومة سيطرة كاملة على فضائها الرقمي، أما معظم دول العالم الأخرى فستتعرض لضغوط تدفعها إلى الانحياز على مضض لأحد القطبين، لكن مع افتقار النموذجين إلى المساءلة الديمقراطية وضمان الحريات الفردية، تبدو المفاضلة أقل وضوحاً مما قد يبدو عليه الأمر، وبينما تندمج السلطة التكنولوجية مع سلطة الدولة في كل مكان، لم يعد السؤال ما إذا كانت شركات التكنولوجيا ستنافس الدول على النفوذ الجيوسياسي، بل ما إذا كانت المجتمعات المنفتحة قادرة على الصمود أمام هذا التحدي. ترسيخ القطبية التكنولوجية في أواخر عام 2021 كانت صناعة التكنولوجيا في أوج صعودها، فالشركات التي تسيطر على المنصات التكنولوجية الكبرى بلغت ذروة نفوذها، وتعهد مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ بإنشاء "ميتافيرس" متكامل يتيح عالماً موازياً غامراً بالكامل وخالياً من القيود التي تفرضها الحكومات أو العالم الواقعي، وفي الوقت نفسه بدأت العملات المشفرة مثل "بيتكوين" و"إيثيريوم" في الانتشار واعدة ببديل لا مركزي فعال لسلطة الحكومات على الأنظمة المالية وأنظمة الدفع، وقد دفع تفشي جائحة كورونا الناس إلى قضاء وقت أطول على الإنترنت أكثر من أي وقت مضى مما كرس تأثير التكنولوجيا، إذ أصبحت المنصات الرقمية أساساً للعمل والتعليم والترفيه والتواصل الإنساني. وشهدت الفترة نفسها تسارعاً في ترسيخ الاعتماد على الأدوات الرقمية، وجعلت من شركات التكنولوجيا محوراً لا غنى عنه في الحياة الخاصة والاجتماعية والاقتصادية والمدنية، ومع تنامي حاجة العالم إلى الاتصال الرقمي باتت القرارات التي تتخذ داخل مجالس إدارات تلك الشركات، من إطلاق المنتجات إلى آليات عمل الخوارزميات وصولاً إلى قواعد النشر والرقابة، هي التي تحدد ما يراه ويسمعه مليارات البشر، وتؤثر في مساراتهم المهنية والاجتماعية، بل وتعيد تشكيل أنماط تفكيرهم. غير أن شركات التكنولوجيا الكبرى لم تكتف بتوسيع نفوذها داخل حدود العالم الافتراضي بل امتدت سيطرتها إلى الواقع المادي، إذ تحولت منتجاتها وخدماتها إلى بنى تحتية أساس لا غنى عنها، فمراكز البيانات والحوسبة السحابية والأقمار الاصطناعية وأشباه الموصلات وأدوات الأمن السيبراني أصبحت العمود الفقري لاقتصادات الدول وجيوشها وحكوماتها، وقد تجلت هذه التحولات بوضوح منذ اللحظات الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، فلولا تدخل شركات أميركية مثل "سبايس إكس" و"مايكروسوفت" و"بالانتير" بتمكين الاتصالات والتصدي للهجمات الإلكترونية وتحليل المعلومات الاستخباراتية وتشغيل الطائرات المسيرة، لكانت روسيا قادرة على فصل أوكرانيا عن العالم وشل بنيتها القيادية، وربما السيطرة على العاصمة خلال أيام، ولو حدث ذلك فلربما خسرت أوكرانيا الحرب منذ أسبوعها الأول. لم يعد الطموح التكنولوجي مقتصراً على تجاوز الدولة بل بات يسعى اليوم إلى السيطرة عليها غير أن الحكومات سرعان ما أدركت هشاشة الوضع، فقد كشفت حادثة "ستارلينك" في القرم، كما أظهرت أزمة سلاسل التوريد خلال الجائحة، مدى خطورة الاعتماد على عدد محدود من الشركات العملاقة في توفير خدمات وإمدادات حيوية، فقرار فردي من مدير تنفيذي واحد، أو خلل في نقطة مفصلية، قد يفضي إلى نتائج كارثية، ولمواجهة هذا الواقع شنت الدول هجوماً مضاداً، ففي عام 2022 أُطلقت موجة من التشريعات والإجراءات التنظيمية استهدفت شركات التكنولوجيا الكبرى وتناولت قضايا مثل الهيمنة السوقية وضبط المحتوى وحماية الخصوصية وحقوق المستخدمين، وأقر الاتحاد الأوروبي قانوني الخدمات الرقمية والأسواق الرقمية، وهما من أكثر المبادرات طموحاً للحد من تغول شركات التكنولوجيا، أما الولايات المتحدة فشهدت دعاوى بارزة لمكافحة الاحتكار وتشريعات على مستوى الولايات وتحقيقات رقابية من الكونغرس، كما لحقت بها دول مثل الهند وجنوب أفريقيا، فيما صعدت المملكة المتحدة والبرازيل ودول أخرى إجراءاتها الرقابية ضد المنصات الكبرى، ومع ذلك بقيت هذه الجهود محدودة الأثر، إذ ظلت السيطرة الحقيقية على الفضاء الرقمي في يد الشركات لا الحكومات، فهي التي تضع القواعد وتنفذها وتتحكم بمسار العملية. وفي أواخر عام 2022 تعمق نفوذ شركات التكنولوجيا أكثر مع إطلاق نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية الضخمة وما تبع ذلك من طفرة واسعة في هذا المجال الحيوي، وكانت هذه القفزة التكنولوجية كفيلة بتكريس تفوق القطاع الخاص على الدول، إذ يتطلب تطوير وتشغيل هذه الأنظمة موارد هائلة من الطاقة الحاسوبية وكميات ضخمة من البيانات وخبرات هندسية متخصصة، وهي موارد متركزة لدى عدد محدود جداً من الشركات، ووحدها هذه الجهات تعرف حدود إمكانات نماذجها وتتحكم في كيفية استخدامها وأين؟ ولصالح من؟ وحتى لو وُضعت أنظمة حوكمة مناسبة لضبط ما هو قائم من تكنولوجيا فإن وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي المتسارعة كفيلة بتجاوز تلك الأطر بسرعة فائقة. ومع تزايد قوة الذكاء الاصطناعي وإمساكه بدور أكثر محورية بالنسبة إلى الاقتصاد والجيش والتنافس الجيوسياسي، ستتنامى سيطرة الشركات التكنولوجية الكبرى لتصبح أقوى الفاعلين على المسرح الدولي. انتقام الدولة الوطنية في مقابل توسع نفوذ الشركات عادت الجغرافيا السياسية التقليدية للواجهة بقوة، فقد تضافرت عوامل عدة ومنها تصاعد النزعة الحمائية بدفع من رد الفعل الشعبوي ضد العولمة، والدفع بعد الجائحة لتحقيق أمن اقتصادي، والصدمة التي أحدثها الغزو الروسي لأوكرانيا، وقبل كل شيء تصاعد التنافس الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين لتقوض وهم وجود منظومة تكنولوجية عالمية متكاملة. وفي واشنطن بدأت محاولات كبح جماح التطور التكنولوجي الصيني من خلال فرض قيود دقيقة وموجهة على الصادرات والاستثمارات في عدد محدود من التقنيات المتقدمة الحساسة إستراتيجياً، فيما سمته إدارة بايدن "فناء صغيراً بسياج عال"، غير أن هذه الحملة توسعت سريعاً لتشمل طيفاً متسعاً من القيود على عدد هائل من السلع ذات الاستخدام المزدوج، وحتى البيانات اليومية البسيطة باتت تُعد مسألة أمن قومي، شأنها شأن التطبيقات والأجهزة التي تولدها، ومنصات التواصل الاجتماعي والسيارات الكهربائية وأجهزة تتبع اللياقة البدنية كلها جُرت إلى دوامة ما يُعرف بـ "خفض الأخطار"، مع سعي صانعي السياسات الأميركيين إلى الحد من وصول الصين إلى أي تكنولوجيا قد تمنحها تفوقاً في المنافسة التقنية، وهكذا اندمجت المصالح الاقتصادية والأمنية، وأصبح التشظي التكنولوجي، إن لم يكن فك الارتباط الكامل مع الصين، هو الوضع الطبيعي الجديد. وفي الوقت ذاته عاد دور الدولة الصناعية للواجهة، إذ ضخت الحكومات الغربية مليارات الدولارات في برامج دعم لبناء قدرات إستراتيجية محلية، لكن هذه الحوافز كانت مشروطة "ابن في الداخل وتخل عن الصين وإلا فستخسر الدعم الأميركي"، ومع فرض واشنطن قيوداً على أشباه الموصلات وأدوات الذكاء الاصطناعي وتشديد بكين قبضتها على المعادن الحيوية، بدأت سلاسل الإمداد في الانقسام وتباطأت حركة البيانات عبر الحدود. وقد قوض هذا التراجع في العولمة الرقمية والمادية نموذج الأعمال العالمي الذي تبنته شركات مثل "أبل" و"تيسلا" والذي كان يقوم على الأسواق المفتوحة وسلاسل الإمداد المتكاملة لتعظيم الأرباح العالمية، وحتى قبل عودة ترمب للسلطة كانت كثير من هذه الشركات قد بدأت بالفعل بنقل بعض عملياتها إلى دول مثل الهند والمكسيك وفيتنام، فيما عُرف بـ "التوطين في دول صديقة" تحسباً للأخطار الجيوسياسية المتزايدة، إلا أن إعلان ترمب في الشهر الماضي عن رسوم جمركية ضخمة تطاول الحلفاء والخصوم على حد سواء، شكّل ضربة قوية لنموذج العولمة، ومؤشراً إلى انسحاب واشنطن من هذا النموذج العالمي، وفي المقابل وجدت ما يعرف بـ "الشركات الوطنية الرائدة" مثل "مايكروسوفت" و"بالانتير"، نفسها في لحظة ذهبية جديدة قادرة على استثمار تحالفها الطويل الأمد مع الحكومة الأميركية لتحقيق مكاسب في بيئة ما بعد العولمة. أما تحول واشنطن نحو دور الدولة التدخلي، فعلى رغم أنه كان مفاجئاً نسبياً، فإنه لا يزال أقل شمولاً بكثير مما فعلته بكين، فمنذ عام 2020 حين شن الحزب الشيوعي الصيني حملة قمع على مؤسس شركة "علي بابا" جاك ما الذي اعتبره المسؤولون قد أصبح مفرط النفوذ والاستقلال، أعادت بكين إحكام سيطرتها الكاملة على قطاع التكنولوجيا، واليوم تخضع كبرى الشركات الصينية، بصرف النظر عن ملكيتها الرسمية، لإرادة الرئيس شي جينبينغ، وقد حُسم الجواب في شأن من يملك السيطرة على مستقبل الصين الرقمي، إنها الدولة دون منازع. من الليبرالية إلى الدولة المتغولة في الغرب يستمر الصراع حول الإجابة على السؤال الوارد آنفاً، ويتزايد تعقيد الأمر مع عدم الوضوح في شأن من يمسك بالدولة الذي يضاف إلى عدم يقين مماثل حول السيطرة على المستقبل الرقمي. كان بعض من رواد وادي السيليكون مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وبيتر ثيل ومارك أندريسن، يرون في التكنولوجيا فرصة تتجاوز حدود الأعمال التجارية لتكون قوة ثورية قادرة على تحرير المجتمع من قيود الحكومة، وجعل الدولة نفسها مفهوماً بالياً، وقد وصفت هؤلاء في عام 2021 بأنهم "طوباويون تقنيون" يشككون في السياسة وينظرون إلى مستقبل يستبدل فيه النموذج القومي الذي هيمن على الجغرافيا السياسية منذ القرن الـ 17 بشيء مختلف تماماً. لكن خلال الأعوام الأخيرة تبنى بعض هؤلاء توجهاً تقنياً استبدادياً، فبعد أن كانوا يسعون إلى تجاوز الدولة باتوا اليوم يسعون إلى الاستيلاء عليها مستخدمين السلطة العامة لتحقيق طموحاتهم الخاصة، وقد جاء هذا التحول جزئياً بدوافع مصلحية سعياً وراء تنظيمات مواتية وخفوض ضريبية وعقود حكومية على غرار ما يحاول الأثرياء الأميركيون من أصحاب المصالح الخاصة فعله في الغالب، وفي المقابل تعبر تلك الانعطافة عن التبدل في ميزان القوة التكنولوجية وتعاظم الرهانات عليها خلال حقبة تتسم بالتنازع على الجغرافيا السياسية. وعلى عكس المنصات الرقمية الأولى التي ازدهرت في ظل الحد الأدنى من التدخل الحكومي، تتطلب معظم تقنيات اليوم المتقدمة، مثل الفضاء والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية والطاقة والحوسبة الكمية، دعماً حكومياً مباشراً أو ضمنياً لتوسيع نطاقها، ومع تحول هذه المجالات إلى ساحات محورية في المنافسة الأميركية - الصينية، وتزايد هيمنة الأمن القومي على المجال الرقمي نفسه، لم يعد الاصطفاف إضافة إلى واشنطن أمراً مزعجاً بل أصبح ضرورة إستراتيجية، وهكذا تراجعت جاذبية الرؤية الطوباوية في مقابل تصاعد نموذج "البطل الوطني"، وارتفعت الحوافز للسيطرة على الدولة مع ازدياد الغنائم الناتجة منها. وبالنسبة إلى بعض أولئك الطوبايين لم تكن السيطرة على الدولة خياراً براغماتياً فقط بل أيديولوجياً أيضاً، فقد اعتنق عدد من الشخصيات البارزة في قطاع التكنولوجيا، وعلى رأسهم ماسك وثيل، رؤية مناهضة للديمقراطية، فهم يرون أن نظام الحكم الأميركي، بل الحكم الجمهوري عموماً، منهار تماماً، ويعتبرون التعددية وفصل السلطات والخدمة المدنية المحترفة عوائق لا مزايا، ويطمح هؤلاء لأن تدار الحكومة الأميركية كما تدار الشركات الناشئة على يد "رئيس تنفيذي وطني" غير منتخب يتمتع بصلاحيات مركزة باسم التقدم التكنولوجي، ومن وجهة نظرهم ينبغي أن تنتقل السيطرة على الدولة، وعلى المستقبل، إلى نخب تكنولوجية نصبت نفسها وقادرة على قيادة البلاد في عصر التغير المتسارع، وقد صرح ثيل منذ عام 2009 بأنه لم يعد يؤمن بأن "الحرية والديمقراطية يمكن أن يتعايشا"، فيما دعا ماسك عام 2023 إلى "سولا حديث"، في إشارة إلى الديكتاتور الروماني الذي شهد عهده تهاوي النظام الجمهوري. وعلى رغم احتمال أنه كان يمزح آنذاك، فقد أمضى ماسك فعلياً الأشهر الأربعة الماضية محاولاً السيطرة على مفاصل الحكومة الأميركية، لكن ما حدث لم يكن استيلاءً عدائياً، كما وصفه بعضهم، بل أشبه بصفقة كبرى مولها بنفسه للحصول على النفوذ، فقد أنفق ماسك ما يقارب 300 مليون دولار لدعم ترمب وحصول الجمهوريين على الغالبية في الكونغرس خلال انتخابات عام 2024، وهذا المبلغ دون احتساب كُلف تحويل منصة "إكس" إلى أداة دعائية مؤيدة لترمب، وفي المقابل كافأه الرئيس الأميركي الأكثر براغماتية في التاريخ الحديث بمنحه نفوذاً غير مسبوق داخل أقوى دولة في العالم، فقد كان ترمب منذ البداية ميالاً إلى خدمة رجال الأعمال الذين تجمعه بهم مصالح شخصية، لكن في ولايته الثانية لم يقتصر تمكين أباطرة التكنولوجيا على التأثير في السياسات بل جرى منحهم صلاحية تعيين (أو إقالة) من يضعون التشريعات لهم، وكتابة (أو محو) القوانين التي تحكمهم، فمنذ أن تولى ماسك رئاسة ما يسمى بـ "وزارة كفاءة الحكومة" DOGE، ومُنح إمكان الولوج الكامل إلى أنظمة الإدارة الفيدرالية، أقال عشرات آلاف الموظفين الحكوميين وعيّن أنصاره في عشرات الإدارات، وقلص الإنفاق الذي أقره الكونغرس وحصل على كميات هائلة من البيانات السرية المتعلقة بملايين الأميركيين. وقد واصل ماسك وعدد من شركائه من كبار التقنيين الذين تولوا مناصب حكومية الاحتفاظ بوظائفهم في شركاتهم الخاصة على رغم تضارب المصالح، وهؤلاء اليوم يتحكمون في شؤون التوظيف والسياسات العامة على مستوى الحكومة، ويؤثرون في صياغة القوانين وتنفيذها والمشتريات والضرائب والدعم بما يخدم مصالح شركاتهم ويضر بمنافسيهم في الوقت نفسه، وقدّر تقرير صدر أخيراً عن مجلس الشيوخ أن الأرباح التي حققها ماسك من هذا الوضع بلغت نحو 2.37 مليار دولار، من دون احتساب العقود المحتملة مع القطاع العام والمزايا التنافسية التي حصل عليها بفضل هذا النفوذ. تحالف اليمين التكنولوجي مع ترمب تعلق دوماً بالصفقات والتبادلات التجارية وليس بالأيديولوجيا وبالفعل تتحدث تقارير متزايدة عن أن "وزارة الكفاءة الحكومية" تجمع كميات هائلة من البيانات الحكومية الحساسة وتدمجها في قاعدة واحدة، ومنها بيانات الضرائب وقواعد الهجرة وسجلات الضمان الاجتماعي والمعلومات الصحية وغيرها، بهدف معلن وهو كشف مظاهر "الهدر والاحتيال وسوء الاستخدام" في الإنفاق الفيدرالي، والعمل على تحسين الكفاءة الحكومية، بخاصة مع دمج هذه البيانات بأدوات الذكاء الاصطناعي، لكن مع غياب أي حدود قانونية تفصل بين دور ماسك في الحكومة ومصالحه الخاصة فلا يمكن معرفة ما إذا كان قد بدأ فعلاً باستخدام هذه البيانات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التابعة لشركته "إكس إيه آي"، وإذا كان الأمر كذلك فلا أحد يعلم إن كانت النتائج ستستخدم لخدمة المصلحة العامة أم لخدمة مصالحه هو. وقد تنتج هذه القاعدة الموحدة من البيانات مكاسب كبيرة في الإنتاجية للاقتصاد الأميركي، مما قد يدفع دولاً أخرى إلى محاولة تقليد التجربة، لكنها قد تمنح ماسك أيضاً تفوقاً حاسماً في السباق نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي خارقة لا يمكن لأي منافس مجاراتها، وتفتح الباب أمام أشكال جديدة من تتبع سلوك المستهلكين واستهدافهم، وتمنحه سيطرة أكبر على الأسواق والمنصات الرقمية. لكن الآثار المحتملة تتجاوز مجرد تحقيق مكاسب شخصية، فالبنية الرقمية نفسها، التي يمكن أن تحقق فوائد اقتصادية، قد تتحول إلى أداة للسيطرة السياسية، وبحسب بلاغات مسربة فإن "وزارة الكفاءة الحكومية" تستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد المشاعر المعادية لماسك وترمب بين موظفي الدولة، فيما استقال عدد من مسؤولي مصلحة الضرائب الأميركية احتجاجاً على خطط إدارة ترمب لاستخدام بيانات الضرائب في تعقب المهاجرين، والخطر هنا ليس نسخة أميركية من نظام المراقبة الصيني الذي يهدف إلى حماية سلطة الحزب، بل شيء أكثر انتشاراً وهو شبكة مراقبة لا مركزية تستند إلى قوة الخوارزميات تسخّر سلطة دولة مسيطر عليها، لكنها موجهة بحسب منطق السوق وتخدم المصالح التجارية والسياسية لأصحاب شركات التكنولوجيا الكبرى. وللتوضيح فإن هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على واشنطن قد لا تدوم، فقد صرح ماسك أن مشروع "وزارة الكفاءة الحكومية" موقت، وقد ألمح إلى رغبته في الانسحاب من الحكومة، بخاصة مع تراجع شعبيته وتصاعد غضب المستهلكين من شركاته، كما هاجم عدد من الشخصيات البارزة في الجناح الشعبوي لتحالف ترمب، مثل ستيف بانون، ماسك ومن على شاكلته، ووصفوهم بأنهم "أمراء إقطاع رقمي" يسعون إلى تحويل الأميركيين إلى "أرقاء في العصر الرقمي"، فالتحالف بين اليمين التكنولوجي وترمب كان دائماً تحالف مصالح لا تحالف أفكار، وقد جاءت سياسات الإدارة حتى الآن في مجالات التجارة والهجرة وتمويل العلوم متعارضة في كثير من الأحيان مع عقلية التسريع التي يتبناها هؤلاء التكنولوجيون، وقد تتفكك هذه الشراكة قريباً. لكن السيطرة في الوقت الحالي حقيقية، فقد انقلب النموذج الذي كانت الدولة فيه توجه شركات التكنولوجيا لخدمة الصالح العام، وأصبحت السياسات اليوم تخضع لأهداف أصحاب التكنولوجيا الخاصة، وحتى لو لم تستمر هذه الحال طويلاً فإن آثارها ستبقى، فقد أضعفت "وزارة الكفاءة الحكومية" في غضون أشهر قليلة قدرة الدولة الأميركية على أداء وظائفها الأساس إلى درجة أن شركات التكنولوجيا الخاصة قد تصبح ضرورية لسد هذا الفراغ لاحقاً. المستقبل الهجين في عام 2021 طرحتُ ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبلنا الرقمي، وهي "هل سنعيش في عالم تتزايد فيه الانقسامات الرقمية وتخضع فيه شركات التكنولوجيا لأهداف الدول التي تنشط فيها؟ أم ستنجح هذه الشركات الكبرى في انتزاع السيطرة على الفضاء الرقمي من الحكومات، متحررة من الحدود الوطنية لتصبح قوة عالمية مستقلة؟ أم أن عصر هيمنة الدول سيتلاشى لمصلحة نخبة تكنولوجية تتولى توفير الخدمات العامة التي كانت تقدمها الحكومات؟" واليوم يبدو أن العالم الرقمي يتجه نحو مستقبل هجين بصورة كبيرة مع عالم منقسم إلى مجالين رقميين متوازيين، يقود أحد هذين القطبين الولايات المتحدة التي باتت ملامح هيمنتها التكنولوجية أوضح من أي وقت مضى، حيث تسيطر مجموعة محدودة من الشركات وقادتها على الفضاء الرقمي، وتشرف على البنى التحتية الحيوية وتؤثر مباشرة في سياسات البلاد الداخلية والخارجية. لقد أصبح في وسع هذه الشركات ومن يديرونها أن يوجهوا بيئة المعلومات العالمية ويزعزعوا استقرار حكومات أجنبية ويؤثروا في النتائج السياسية على مستوى العالم، وما يزيد خطورة هذا النفوذ هو أن هؤلاء الفاعلين يحظون بدعم أميركي، سواء بصورة ضمنية أو معلنة، وقد أصبحت الحكومات الأجنبية أكثر تردداً في مواجهة شركات التكنولوجيا الأميركية، ليس فقط بسبب قوتها الرقمية والاقتصادية، بل أيضاً لأن أي تحرك ضدها قد يؤدي إلى رد فعل رسمي من واشنطن. وهكذا باتت مكونات كبرى من قطاع التكنولوجيا، المدعومة سياسياً، تتمتع بحصانة جيوسياسية وتحظى بالحماية من الدولة لكنها لا تخضع لمحاسبتها، وهذا التداخل بين القوة العامة والخاصة يمنح الشركات الأميركية القدرة على دفع دول أخرى إلى تبني منتجاتها ومنصاتها ومعاييرها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) أما القطب المقابل فيقوده النموذج الصيني القائم على رأسمالية الدولة، إذ تخضع شركات التكنولوجيا بالكامل لسيطرة الحزب الشيوعي الحاكم، وصحيح أن هذا النموذج قد يحد من إمكانات الابتكار على المدى الطويل ويقلل الحيوية الاقتصادية في بعض الجوانب، لكنه يضمن أن تبقى التقنيات الإستراتيجية منسجمة مع الأولويات الوطنية، والاختراقات الأخيرة من نماذج التفكير بالذكاء الاصطناعي لدى شركة "ديب سيك" إلى مجموعة شرائح "هواوي كلاود ماتريكس 384"، تُظهر أن النموذج الصيني على رغم القيود السياسية المفروضة عليه وسياسات الحظر التجاري الأميركية، لا يزال قادراً على المنافسة بقوة. وفي المنتصف تقف أوروبا التي كانت تعتبر يوماً ما قوة موازنة محتملة أمام هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى، لكن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى شركات تقنية محلية عملاقة ويعاني مشكلات هيكلية في النمو والإنتاجية، ونتيجة لذلك فإن قدرته على تحويل طموحاته التنظيمية إلى سيادة رقمية حقيقية تظل محدودة، كما تواجه بروكسل ضغوطاً متزايدة لتخفيف قيود الذكاء الاصطناعي على الشركات الأميركية، وقد تتردد حتى في فرض ضرائب على خدماتها الرقمية رداً على الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب. السلطة التكنولوجية المركزة تهدد الديمقراطية والحريات الفردية وفي المقابل تواجه المحاولات الباقية، سواء على مستوى الدول أو المؤسسات الدولية لتنظيم قطاع التكنولوجيا، هجمات متواصلة تقوّض من الداخل على يد شخصيات نافذة في شركات التكنولوجيا الأميركية مثل ماسك، وتُشل بفعل الفراغ الحاصل في القيادة العالمية، ومع تعمق الانقسامات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية تنهار سريعاً الحواجز التي كانت تحد من تغول النفوذ التكنولوجي، مما يتيح له التمدد بلا قيود. والنتيجة المرجحة ليست عالماً تهيمن عليه التكنولوجيا بالكامل بل نموذجاً تنفرد فيه الولايات المتحدة بصورة متزايدة بقوة تكنولوجية ضخمة، في مقابل كتلة رقمية صينية تخضع لرقابة حكومية صارمة، ومن المرجح أن معظم الاقتصادات الصناعية المتقدمة لن تجد خياراً سوى الانضمام إلى النموذج الأميركي، في حين قد ترى غالبية دول الجنوب العالمي أن العرض الصيني أكثر جاذبية. لكن تحت هذا الانقسام الأيديولوجي يلوح تقارب فعلي في الوظيفة بين النموذجين الأميركي والصيني، الأول تحركه آليات السوق والثاني تمليه دوافع سياسية، لكن كليهما يقدم الكفاءة على المحاسبة والسيطرة على القبول والتوسع على حساب الحقوق الفردية، وفي عالم تمنح فيه السلطة لمن يسيطر على الفضاء الرقمي قد يصبح السؤال الأهم ليس أين تتركز السلطة، في يد الدولة أم الشركات؟ بل كيف تدار هذه السلطة ومدى قدرتها على التمركز دون مساءلة، وهنا تكمن مفارقة عصر الهيمنة التكنولوجية، فبدلاً من تمكين الأفراد وتعزيز الديمقراطية، كما حلم رواد الإنترنت الأوائل، قد تصبح التكنولوجيا وسيلة أكثر فاعلية لفرض أشكال جديدة من السيطرة المركزية المطلقة وغير الخاضعة للمساءلة، وقد تمكّن تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي الأنظمة السياسية المغلقة من تحقيق قدر أكبر من الاستقرار مقارنة بالأنظمة المفتوحة، إذ تصبح الشفافية والتعددية والفصل بين السلطات وغيرها من مقومات الديمقراطية عبئاً في زمن التغيير المتسارع، وسواء كانت هذه القوة المركزة في يد الحكومات أو الشركات فإنها تمثل خطراً فعلياً على الديمقراطية والحريات الفردية، وكنت كتبتُ عام 2021 أن "تفوق الشركات الكبرى على الدول ليس حتمياً"، لكن يبدو أن تفوقها على الديمقراطية قد بدأ بالفعل. إيان بريمر، رئيس ومؤسس "مجموعة أوراسيا" Eurasia Group. مترجم عن "فورين أفيرز" 13 مايو (أيار) 2025