
بين باريس وستوكهولم.. اليسار في مأزق.. والإخوان يتقدمون: السويد تدفع ثمن التسامح المفرط
في السنوات الأخيرة، تحوّلت أوروبا من ساحة لاحتضان الأقليات الدينية والثقافية، إلى ساحة مواجهة فكرية وأمنية مع جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. هذا التحوّل لم يكن مفاجئًا لمن تابع تطوّر نشاط الجماعة في القارة العجوز؛ إذ إن الإخوان استغلوا مناخ الحريات والتعددية لتوسيع نفوذهم بهدوء، مستخدمين أدوات قانونية ومجتمعية لتأسيس بنى موازية داخل الدول الأوروبية، في مشهد يعيد إنتاج نموذج "الدولة داخل الدولة" بأساليب ناعمة.
لكن ما كان خفيًا بدأ يطفو على السطح، مع صدور تقارير رسمية أوروبية – من باريس إلى ستوكهولم – تُحذّر من تغلغل تنظيم الإخوان في المؤسسات الثقافية والاجتماعية والبحثية والتعليمية، مستغلًا ما يُعرف بجمعيات الاندماج والمراكز الإسلامية. هذه التحذيرات تعكس قلقًا متزايدًا من قدرة الجماعة على التحايل على الأنظمة الديمقراطية واختراق المجتمعات باسم التعددية. وتكمن الخطورة هنا في أن المشروع الإخواني لا يهدف إلى الاندماج الحقيقي، بل إلى فرض مرجعية دينية ذات طابع سياسي، مناهضة لمفاهيم المواطنة الليبرالية.
في هذا السياق، لعبت "البوابة نيوز" ومركز سيمو بباريس بقيادة الدكتور عبد الرحيم علي، دورًا حيويًا في تعرية هذه المخططات وكشف الأذرع غير المعلنة للجماعة في أوروبا، عبر تقارير استقصائية وتحليلات موثقة اعتمدت على مصادر متعددة، وربطت بين ما يُطرح في العلن وما يُحاك في الخفاء. وقد كان لكاتب هذا التقرير، مساهمة مبكرة في التحذير من هذا التمدد، من خلال كتابه الصادر عام 2020 بعنوان "التنظيم الدولي والضغط على الشعوب"، والذي كشف بالأدلة كيف يستخدم الإخوان المراكز البحثية والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية كأدوات اختراق ناعمة للضغط على المجتمعات الغربية وفرض مشروعهم السياسي المغلف بالدين.
اليوم، وبعد أن بدأت الحكومات الأوروبية تُراجع سياساتها تجاه الإسلام السياسي، يبدو أن التحذيرات التي أطلقتها جهات بحثية وإعلامية مستقلة – ومنها "بوابة الحركات الإسلامية" – لم تكن مجرد اجتهادات تحليلية، بل كانت استشرافًا مبكرًا لخطر داهم. ومن هذا المنطلق، تتناول هذه الورقة تحليلًا تفصيليًا للتجربة السويدية في التعامل مع تنظيم الإخوان، كنموذج صارخ لكيفية استغلال الجماعة لهامش الحرية لتأسيس نفوذ غير مرئي لكنه مؤثر، ويهدد تماسك الدولة والمجتمع على حد سواء.
التقرير الفرنسي
تحوّل تقرير رسمي صادر عن وزارة الداخلية الفرنسية، نُشر في 21 مايو 2025، إلى حجر ألقي في بركة السياسة السويدية، حين خصّص تحليلاً موسعًا لتغلغل جماعة الإخوان المسلمين في عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها السويد. هذا التقرير، الذي حمل عنوان «الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا»، تجاوز حدود الدولة الفرنسية ليقدم توصيفًا مقلقًا عن امتداد الجماعة في الفضاء الأوروبي، لا سيما في أنظمة ذات بنية ليبرالية متساهلة مثل السويد.
ورغم أن عدد المنتمين أو المتعاطفين مع الجماعة في السويد لا يُعدّ كبيرًا من حيث الكم، إلا أن التقرير شدد على أن "فرع جماعة الإخوان في السويد يتمتع بتأثير سياسي واجتماعي يفوق حجمه العددي"، وهو تأثير يعود – بحسب التحليل الفرنسي – إلى ثلاثة عناصر حاسمة:
1. التمويل المتدفق إلى جمعيات ومؤسسات واجهة
أبرز ما رصده التقرير هو اعتماد جماعة الإخوان في السويد على شبكة من الجمعيات والمؤسسات التي تعمل كواجهات قانونية، تتلقى تمويلًا محليًا ودوليًا باسم العمل المجتمعي والديني. هذه الجمعيات تستفيد من نظام الدعم الحكومي المخصص لمنظمات المجتمع المدني، وتحصل أحيانًا على تمويلات من مؤسسات مانحة أوروبية، وفي بعض الحالات من جهات أجنبية ترتبط إيديولوجيًا أو سياسيًا بالجماعة. هذا التدفق المالي لا يُستخدم فقط في تأمين أنشطتها، بل يمكّنها أيضًا من بناء نفوذ ناعم داخل الجاليات، والسيطرة على بعض المنابر الدينية والتعليمية.
ويُثير هذا النمط من التمويل تساؤلات جدية حول الشفافية والمساءلة، إذ غالبًا ما تتم التغطية على الارتباطات الفكرية والتنظيمية للجمعيات المعنية، مما يصعّب على السلطات تتبع الأجندات الحقيقية لها. ولعل الخطورة الأهم تكمن في أن هذه الموارد تُوظّف في بناء "بُنى موازية" للمجتمع السويدي، توفّر بيئة حاضنة لخطاب الهوية الدينية المعزول، وتُقلّص من فرص اندماج بعض الفئات في النموذج العلماني الديمقراطي للدولة.
2. نظام التعددية الثقافية السويدي الذي مكّن الجماعة من التحرك ضمن أطر شرعية
يشير التقرير إلى أن سياسة التعددية الثقافية التي اتبعتها السويد لعقود، والتي تقوم على احترام الخصوصيات الدينية والثقافية للمهاجرين، قد وفّرت بيئة خصبة لتحرك جماعة الإخوان بأدوات شرعية، دون أن تُواجَه بتحديات قانونية أو رقابية حازمة. فبموجب هذا النظام، سُمِح بإنشاء مساجد، ومدارس دينية، ومراكز ثقافية تُدار من قبل جمعيات ذات خلفيات إسلاموية، تحت لافتات المجتمع المدني والتنوع الثقافي. ومن هنا، استطاعت الجماعة التمدد مؤسسيًا لا من خلال الصدام مع الدولة، بل عبر الاستفادة من قوانينها.
غير أن هذه الديناميكية كشفت عن حدود سياسة الانفتاح عندما اصطدمت بممارسات تُناقض قيم الدولة الديمقراطية، مثل الفصل بين الجنسين في بعض المدارس، أو الدعوة إلى نمط عيش مغلق على الذات. وهنا تُطرح معضلة فلسفية وسياسية: إلى أي مدى يجب أن تقبل الدولة الديمقراطية أنماط تنظيم داخلي لا تشترك في منظومة القيم التي تقوم عليها؟ التقرير الفرنسي يضع إصبعه على هذا التوتر، ويعتبره أحد الأسباب الرئيسية التي مكّنت الإخوان من تأسيس نفوذ رمزي ومؤسسي داخل السويد، تحت مظلة الشرعية الشكلية.
3. علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع بعض الأحزاب، أبرزها الحزب الاشتراكي الديمقراطي
النقطة الثالثة التي تناولها التقرير تتعلق بعلاقات الجماعة مع بعض الأحزاب السياسية السويدية، خصوصًا الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والذي يُتهم من قبل خصومه، خاصة في أوساط اليمين، بأنه تغاضى طويلًا عن نشاط الجمعيات الإسلامية المرتبطة بفكر الإخوان، بحجة الحفاظ على قاعدة انتخابية داخل بعض الأحياء والمجتمعات المهاجرة. العلاقة لم تكن دائمًا مباشرة أو مؤسسية، بل كثيرًا ما تمّت عبر شخصيات أو منظمات وسيطة لعبت دور "الناقل" بين خطاب الهوية الدينية وخطاب الاندماج السياسي.
ووفق التحليل الفرنسي، فإن هذه العلاقة منحت جماعة الإخوان نوعًا من الحصانة السياسية في فترات معينة، وسمحت لها بالتحرك بحرية أكبر ضمن المجال العام، مع الحفاظ على خطاب مزدوج: إصلاحي واندماجي في الظاهر، لكنه مؤدلج ومنغلق في العمق. وهذه الازدواجية أضعفت قدرة الدولة على التقييم الموضوعي لأنشطة هذه الجماعات، خصوصًا في ظل غياب أدوات قانونية أو استخباراتية كافية للتمييز بين الإسلام كمكون ديني شرعي، والإسلاموية كأيديولوجيا سياسية تتحدى الدولة من داخلها.
بنية موازية داخل الديمقراطية
ما يكشفه التقرير الفرنسي حول نشاط جماعة الإخوان في أوروبا، ويتردد صداه بوضوح في السياق السويدي، هو أن الجماعة لا تعتمد استراتيجية المواجهة العنيفة أو الخطاب الراديكالي المباشر، كما تفعل التنظيمات الجهادية، بل تراهن على "التحايل الهيكلي" عبر التغلغل البطيء في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. هذا التغلغل يأخذ شكل بناء بُنى موازية ضمن الدولة الديمقراطية، من خلال تأسيس مؤسسات تبدو للوهلة الأولى منخرطة في المنظومة السويدية، لكنها في الواقع تعمل كحامل أيديولوجي لمشروع إسلاموي طويل الأمد. الهدف هو خلق مجتمع داخل المجتمع، يُدار بمنظومة قيم دينية مغايرة لتلك التي يقوم عليها النظام الديمقراطي العلماني.
يتجلى هذا النهج في إنشاء شبكة من المدارس الحرة (Friskolor) ذات الخلفية الإسلامية، والتي تحصل على تمويل مباشر من الحكومة السويدية، وتعمل في بعض الحالات ضمن توجهات محافظة أو فصلية، مثل الفصل بين الجنسين أو التركيز المبالغ فيه على التعليم الديني على حساب المناهج العامة. إضافة إلى المدارس، تُنشئ الجماعة مراكز ثقافية وجمعيات دينية واجتماعية تحت عناوين مثل "تمكين الأقليات" أو "الاندماج المجتمعي"، لكنها غالبًا ما تُدار من أشخاص يرتبطون بأوساط الإسلام السياسي. مثال بارز على ذلك: "الرابطة الإسلامية في السويد" التي ورد اسمها في تقارير عديدة ككيان يُشتبه في تبعيته الأيديولوجية لجماعة الإخوان، منها تقرير "الجماعات الإسلامية في أوروبا" الصادر عن معهد مونتين الفرنسي عام 2018.
السياق السويدي تحديدًا وفّر أرضًا خصبة لهذا التمدد "الناعم"، بسبب الإرث الطويل للبلاد في دعم الحقوق والحريات واحتضان التعددية الثقافية. فالدولة تمنح تمويلًا سخيًا للمنظمات غير الربحية، بما في ذلك المنظمات الدينية، طالما أنها تستوفي الحد الأدنى من المعايير الشكلية. غير أن هذا التساهل أتاح – عن غير قصد – تمويل كيانات تعمل ضمن منظومة قيم مغلقة. في هذا الإطار، نشرت وكالة الطوارئ المدنية السويدية (MSB) عام 2017 تقريرًا صادمًا أكد وجود شبكات إسلاموية ذات طابع إخواني تمارس أنشطة تعليمية ودينية واجتماعية، وتتلقى تمويلًا حكوميًا مباشرًا أو غير مباشر، دون أن تخضع لرقابة فكرية حقيقية على محتواها أو خطابها الداخلي.
أخطر ما في هذا المشروع هو الازدواجية في الخطاب: في العلن، تتبنى هذه المؤسسات لغة الحقوق، التعددية، تمكين المرأة، والاندماج. أما في الداخل، فتقوم على إعادة إنتاج قيم محافظة دينية منغلقة، تشكك في مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية، وتُعلي من مرجعيات فقهية فوق القانون الوطني. هذه الازدواجية مكّنت الجماعة من كسب ثقة بعض النخب السياسية والبيروقراطية، خصوصًا في اليسار، لكنها في الواقع ساهمت في تعميق العزلة الثقافية لبعض الجاليات المسلمة، وخلق مساحات اجتماعية خارج التفاعل مع القيم السويدية، مما يقوّض مشروع الاندماج نفسه من الداخل.
تُظهر حالة السويد كيف أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي، فدعم الأقليات الدينية أو الثقافية دون آليات رقابة صارمة قد يتحول إلى منصة لاختراق الدولة من داخلها. وقد بدأت بعض البلديات والمؤسسات السويدية – متأخرة – في مراجعة سياساتها التمويلية وتدقيق خلفيات الجمعيات المتلقية للدعم، بعد تقارير إعلامية واستقصائية عديدة، أبرزها ما نشرته صحيفة Dagens Nyheter السويدية في 2020 و2022، عن صلات مشبوهة بين جمعيات ممولة حكوميًا وقيادات إخوانية. لكن التحدي الأكبر اليوم يكمن في كيفية تفكيك هذه الشبكات دون انتهاك الحريات العامة، وفي الوقت نفسه منع استخدام القوانين الديمقراطية كحصان طروادة لأجندات معادية لها.
اليسار في مأزق.. واليمين في حالة هجوم
لم يمرّ التقرير الفرنسي حول تمدد جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا دون صدى في السويد، بل تحوّل إلى شرارة صدام داخلي بين القوى السياسية، حيث استغلته أحزاب اليمين كدليل على فشل الحكومات اليسارية المتعاقبة في مواجهة خطر الإسلام السياسي. وركزت الاتهامات على الحزب الاشتراكي الديمقراطي (Socialdemokraterna) بوصفه راعيًا ضمنيًا لسياسات التعددية الثقافية التي وفّرت مظلة قانونية ومالية لكيانات محسوبة على الإخوان. وكان لافتًا أن بعض الجمعيات الواردة في تقارير استخبارية أو إعلامية – مثل رابطة الشباب الإسلامي في السويد (SUM) – سبق أن تعاونت محليًا مع فروع للحزب الاشتراكي في برامج الاندماج والمشاركة المجتمعية، ما فتح باب الشكوك حول علاقة غير مباشرة بين الحزب والجماعة.
أبرز من التقط هذه الثغرة السياسية كان حزب "ديمقراطيو السويد" (Sverigedemokraterna) اليميني المتشدد، الذي استثمر التقرير لتصعيد هجومه على الحكومة السابقة بقيادة الاشتراكيين. قادة الحزب، مثل جيمي أوكيسون (Jimmie Åkesson)، أطلقوا تصريحات تتهم الحزب الاشتراكي بالتراخي، بل وبـ"التحالف الضمني مع الإسلاميين"، في محاولة لكسب أصوات الناخبين القلقين من الهجرة والتطرف. كما ساند حزب المحافظين (Moderaterna)، الشريك في الائتلاف الحاكم، هذه الاتهامات، ودعا إلى إجراء تدقيق شامل في تمويل الجمعيات الإسلامية، بما في ذلك تلك التي حصلت سابقًا على دعم من البلديات ذات القيادة الاشتراكية، مثل مالمو ويوتيبوري.
الرد الحكومي الرسمي لم يتأخر. فقد طالبت وزيرة الهجرة ماريا مالمير ستينيرغارد (عن حزب المحافظين) الحزب الاشتراكي بـ"تحقيق داخلي شفاف" حول علاقته بجمعيات إسلامية تحمل شبهة أيديولوجية. الوزيرة صرّحت لصحيفة Expressen في مارس 2025 أن "السويد بحاجة إلى اليقظة، لأن بعض التنظيمات تستخدم مؤسسات الدولة كحصان طروادة لأجندات لا تتفق مع ديمقراطيتنا". كما أكدت أنها ستقترح آلية رقابة جديدة على تمويل الجمعيات الدينية، مشيرة إلى ما كشفه تقرير وكالة الطوارئ المدنية السويدية عام 2017 بشأن وجود شبكات إخوانية تستخدم غطاء الجمعيات الثقافية والدينية لترويج أفكار موازية للنظام الديمقراطي.
من جهته، حاول الحزب الاشتراكي الديمقراطي احتواء العاصفة الإعلامية والسياسية عبر النفي المتكرر لأي علاقة تنظيمية مباشرة مع جماعة الإخوان أو الجمعيات التابعة لها. المتحدثون باسم الحزب شددوا على أن أي تعاون تم مع جمعيات محلية كان في إطار العمل المدني، ولا يمثل اعترافًا بأجنداتها الأيديولوجية. لكن هذه التبريرات لم تقنع خصومهم، خصوصًا أن بعض القيادات المحلية في الحزب ظهرت في صور وفعاليات إلى جانب شخصيات محسوبة على الطيف الإسلاموي، مثل أعضاء في رابطة المسلمين في السويد، أو قياديين سابقين في جمعيات شبابية إسلامية لها جذور إخوانية.
ما بين تصعيد اليمين وتبريرات اليسار، يظهر خلف المشهد صراع أعمق يتعلق بإشكالية الاندماج وفشل الرقابة على الجمعيات الدينية والسياسية. أجهزة الأمن السويدية (Säpo) كانت قد نبّهت في تقارير سابقة إلى أن بعض المجموعات الإسلاموية تعتمد على استراتيجيات "التحايل القانوني" لتوسيع نفوذها داخل الأوساط المسلمة، مستخدمة خطابًا مزدوجًا: معتدل في العلن، ومتشدّد في الداخل. هذا ما دفع بعض المحللين، مثل الباحث السويدي ماغنوس نوريل، إلى القول إن "الإخوان لا يسعون للسيطرة بالعنف بل عبر التغلغل الناعم في البيروقراطية والديمقراطية"، وهو ما يجعل القضية ليست فقط أمنية أو سياسية، بل سؤالًا وجوديًا حول حدود التعددية في مجتمع مفتوح مثل السويد.
من باريس إلى ستوكهولم.. تصدّع النموذج الليبرالي
تشهد أوروبا لحظة مراجعة عميقة للنموذج الليبرالي الذي حكم علاقتها مع الدين والتعددية لعقود، خصوصًا بعد تنامي نفوذ جماعات الإسلام السياسي. فالتجربة أظهرت أن قيم التسامح وحرية المعتقد، التي شكّلت حجر الزاوية في المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، باتت عُرضة للاستغلال من قبل تيارات إيديولوجية لا تؤمن بهذه القيم فعليًا. السويد، مثلها مثل فرنسا وألمانيا والنمسا، بدأت تدرك أن التعددية الثقافية غير المنضبطة يمكن أن تنتج مجتمعات موازية، تستفيد من مؤسسات الديمقراطية دون أن تندمج في نسيجها. وتحديدًا بعد هجمات باريس 2015 وقضية المعلمين في السويد الذين تعرضوا للتهديد بعد انتقادهم ممارسات دينية متشددة، بدأ النقاش يأخذ منحى أكثر صرامة في ربط الأمن القومي بالتطرف الديني.
في هذا السياق، برزت تقارير أوروبية، التي دعت إلى إعادة رسم العلاقة بين مؤسسات الدولة والجمعيات ذات المرجعية الإسلاموية. أوصت تقارير المركز، مثل تقرير يناير 2023، بسنّ تشريعات تقيّد تدفق التمويل الخارجي إلى تلك الجمعيات، وإنشاء وحدات متخصصة لمراقبة الخطاب الديني والسياسي داخل المراكز الإسلامية، خاصة تلك التي تتبنى سرديات إخوانية أو سلفية سياسية. كما دعا المركز إلى اعتماد الشفافية التامة في عمل الجمعيات الدينية، وتدريب الموظفين العموميين على التفرقة بين النشاط الإسلامي المدني والنشاط الذي يحمل خلفيات أيديولوجية.
استجابةً لهذه الدعوات، شرعت الحكومة السويدية منذ عام 2022 في إجراءات تدريجية تهدف إلى تحجيم نفوذ جماعات الإسلام السياسي. أحد أبرز هذه الخطوات كان إعلان وزارة الثقافة السويدية عن مراجعة شاملة لآلية تمويل الجمعيات الدينية، خاصة تلك التي تتلقى دعمًا من جهات خارجية مثل قطر أو تركيا. كما بدأت السلطات بفحص "البنية الداخلية" للمراكز الإسلامية الكبرى، ومنها مركز ستوكهولم الإسلامي وجمعية فورشبيرغا الإسلامية، التي ذُكرت في تقارير إعلامية واستخباراتية بتهمة تقديم منابر لخطاب مزدوج، معتدل علنًا ومتشدّد ضمنيًا.
في موازاة ذلك، تعمل الحكومة على إعادة تنظيم المشهد الديني الإسلامي داخل السويد. أحد أبرز التوجهات المطروحة اليوم هو فرض الرقابة على خطب الجمعة وخطاب المساجد، خصوصًا في المدن الكبرى مثل ستوكهولم ويوتيبوري ومالمو. هذه الخطوة جاءت بعد تقارير استخباراتية أكدت أن بعض الأئمة يتعمدون تمرير رسائل غير منسجمة مع قيم المواطنة والديمقراطية، مستخدمين اللغة العربية أو التركية للتلاعب بالرقابة. إضافة إلى ذلك، تدرس الحكومة إنشاء هيئة مركزية لتأهيل الأئمة على النمط الفرنسي – حيث يُشترط اليوم في فرنسا أن يخضع الإمام لتدريب مدني وقانوني – وذلك لمنع التحاق خطباء غير مؤهلين قادمون من دول خارجية إلى منابر المساجد السويدية.
مواجهة الإخوان.. ليست حربًا على الإسلام
في قلب النقاش الدائر حول جماعة الإخوان المسلمين في السويد، يجب التأكيد على مبدأ أساسي: التمييز بين الإسلام كعقيدة روحية، وبين الإسلام السياسي كمشروع أيديولوجي. فالحركات التي تتبنى أجندات سياسية باسم الدين – وعلى رأسها جماعة الإخوان – لا تمثل الجالية المسلمة، بل تسعى إلى احتكار تمثيلها وفرض سردية موحدة تعكس مصالحها التنظيمية. هذا ما أشار إليه تقرير وكالة الطوارئ المدنية السويدية (MSB) عام 2017، حين أكد أن بعض الجمعيات المتشددة "تدّعي تمثيل المسلمين لكنها تروّج لرؤية ضيقة ومؤدلجة للإسلام"، ما يخلق صراعًا داخليًا داخل الجاليات نفسها، ويضر بمبدأ التعدد داخل الإسلام ذاته.
تجربة السويد تكشف أن جماعة الإخوان لا تتصرف كجمعية دينية محلية بل كفرع من تنظيم عالمي له أهداف استراتيجية تتجاوز حدود الدولة المضيفة. هذا التنظيم يتبنى خطابًا مزدوجًا: معتدلًا موجهًا للإعلام والرأي العام، ومتشدّدًا في الأوساط المغلقة وبين الأنصار. وقد كشفت تقارير سويدية، منها ما نشرته صحيفة إكسبريسن، عن استخدام بعض الأئمة المرتبطين بالجماعة للمنابر في التحريض ضد مفاهيم الدولة العلمانية، أو رفض مشاركة النساء في الأنشطة المجتمعية. هذه الممارسات لا علاقة لها بالإسلام كدين، بل تعكس بنية تنظيمية تسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع وفق مشروع جماعي شمولي.
السياسات السويدية الجديدة في مراقبة التمويل الخارجي للجمعيات الدينية، أو فحص محتوى خطاب المساجد، لا تُصنف ضمن حملة ضد الإسلام أو المسلمين، بل تأتي في إطار دفاع الدولة عن قيم المواطنة وفصل الدين عن الدولة. فحرية الدين مكفولة تمامًا في الدستور السويدي، لكن التحايل على هذه الحرية لترويج أجندات سياسية دينية يهدد أسس التعايش الديمقراطي. ولهذا السبب، أكدت وزيرة الثقافة السويدية باربرو أوسكارسون في تصريح عام 2023 أن "الدولة لا تحارب الدين، بل تحارب أولئك الذين يستخدمونه كوسيلة لبناء سلطات موازية داخل المجتمع".
من المفارقات التي يجب التنبه لها أن ضحايا الإسلام السياسي في أوروبا كثيرًا ما يكونون من المسلمين أنفسهم، خصوصًا النساء والشباب الذين يُراد لهم البقاء تحت وصاية دينية أو ثقافية مفروضة باسم "الهوية". في السويد، أطلقت جمعيات إسلامية معتدلة – مثل "رابطة المسلمين الديمقراطيين" – حملات ضد احتكار الإخوان للتمثيل، ونددت باستخدام الدين في الخطاب السياسي. كما دعت هذه الجمعيات إلى تمكين المرأة المسلمة، واحترام الحريات الشخصية ضمن الإطار المدني، ما يعكس وجود تيار إسلامي تقدمي لا يتماهى مع الإسلاموية السياسية. وبالتالي، فإن مواجهة الإخوان ليست حربًا على الإسلام، بل حماية للإسلام من التسييس، وللمجتمع من الانقسام.
الإخوان تحت المجهر
ما بدأ كتقرير أمني في باريس، أصبح اليوم لحظة مواجهة سياسية وفكرية في ستوكهولم. السويد التي طالما وُصفت بأنها حاضنة التسامح الليبرالي، تقف اليوم أمام سؤال وجودي: هل يمكن الحفاظ على نموذج الانفتاح دون أن يتحول إلى بوابة لتسلل جماعات عابرة للقيم الوطنية؟
الإجابة لا تكمن في خطاب الكراهية أو ردود الفعل الشعبوية، بل في سياسات عقلانية، واضحة، صارمة، تراعي الأمن دون أن تفرّط في الحريات. فمكافحة مشروع الإخوان ليست فقط معركة ضد التطرف، بل دفاع عن العقد الاجتماعي الأوروبي نفسه.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


وكالة أنباء براثا
منذ 37 دقائق
- وكالة أنباء براثا
"الجميع سيرى الحقيقة".. مدير FBI يعلق على الخلاف بين ماسك وترامب
علق رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي FBI كاش باتيل على الخلاف بين رجل الأعمال إيلون ماسك، والرئيس دونالد ترامب. ورد باتيل خلال بودكاست "Joe Rogan Experience"، على تصريح ماسك حول سبب عدم قيام النائبة العامة بام بوندي بالإفراج عن ملف جيفري إبستين بالكامل هو وجود اسم ترامب ضمنه، بأنه لا علاقة له بالموضوع. وقال مقدم البودكاست بعد قراءة تصريح ماسك: "يا إلهي! هذا جنوني. كيف يعرف ذلك؟ هل يعرف أن دونالد ترامب موجود في ملفات إبستين؟ أم أن لديه حق الوصول إلى تلك الملفات؟" ليرد باتل بأنه لا يعرف كيف يمكن لماسك أن يعرف أي شيء عن محتويات ملفات إبستين، رافضا التعمق في النزاع بينهما، حيث أضاف: "أنا فقط أبتعد عن صراع ترامب وإيلون، هذا خارج نطاق اختصاصي تماما. أعرف مجال عملي، وهذا ليس منه". وفي وقت سابق كتب ماسك على منصة "إكس": "حان الوقت لإسقاط القنبلة الكبيرة حقا.. دونالد ترامب موجود في ملفات إبستين. هذا هو السبب الحقيقي وراء عدم نشرها. يوم سعيد، يا دونالد". وناقش باتل خلال البودكاست مسألة الإفراج الوشيك عن لقطات كاميرات المراقبة من زنزانة إبستين في مانهاتن، والتي تثبت أن المتاجر بالأطفال المحكوم عليه، انتحر في أغسطس 2019. وانتشرت نظريات المؤامرة منذ وفاة إبستين، مدعية أنه قتل من قبل شخص يخشى أن يكشف عن جرائم جنسية لشخصيات بارزة في السياسة والمالية الذين كون صداقات معهم على مدى عقود. وقال باتل: "لا أقول إن كل كاميرا في المكان كانت تعمل، لكن لدينا لقطات وسيتم إصدارها، وبعدها يمكنكم تكوين رأيكم بأنفسكم.. الجميع سيرى الحقيقة". وفي فبراير الماضي، أصدرت وزارة العدل حوالي 200 صفحة من الوثائق المتعلقة بإبستين، بما في ذلك قائمة اتصالاته وسجلات رحلاته وقائمة الأدلة التي جمعتها الحكومة ضده. وزعمت النائبة العامة بام بوندي أن مكتب التحقيقات الفيدرالي في نيويورك لديه آلاف الصفحات من الوثائق غير المكشوف عنها، وطالبت الوكالة بتسليم تلك المواد حتى تتمكن من الكشف عنها للجمهور.


وكالة أنباء براثا
منذ 37 دقائق
- وكالة أنباء براثا
مقدم كوميدي أمريكي شهير يعلّق على خلاف ترامب وماسك ويثير ضحك الجمهور
سخر المقدم الكوميدي بيل ماهر من خلاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك، معتبرا أن ما جرى هو "أشهر انفصال علني" منذ أيام انفصال النجمين أنجيلينا جولي ويراد بيت. وشبّه المُقدم الكوميدي الساخر هذه الحرب العلنية والحقد المتبادل بينهما بـ"غودزيلا ضد كينغ كونغ (مخلوقان خياليان)، لو كان غودزيلا تحت تأثير الكيتامين ( الكيتامين: مخدر قد يُسبب هلوسة وتأثيرات غريبة على العقل)، وكان كينغ كونغ يرتدي تسريحة الكومبوفر (الكومبوفر: تسريحة شعر تمشيط تغطي الصلع عند الرجال)". ويعتبر هذا الانفصال الكبير والمثير أكثر دهشة لأن ترامب وماسك كانا "قريبين جدا"، مثل الثنائيات الشهيرة براد بيت وأنجلينا جولي (برانجيلينا)، وبين أفليك وجين لوبيز، الذين أسرت علاقاتهم الصحافة لسنوات طويلة، حيث علق ماهر بالقول: "كان لديهما اسم زوجي خاص بهم: E-lump". وأضاف في مونولوجه الافتتاحي لبرنامج "Real Time" على "HBO" يوم الجمعة: "لا أستطيع التفكير في شيء آخر سوى صراع ترامب وماسك". وأشار إلى أن بداية تدهور العلاقة ربما بدأت الأسبوع الماضي، حيث ظهر ماسك بعين فيها كدمة سوداء. وقالت إدارة ترامب إنه عرض على ماسك مستحضرات تجميل لكنه رفض، وهو ما وصفه ماهر بأنه "غريب". وبدأ الصراع يزداد اشتعالا مع تبادل الاتهامات، منها اتهام ماسك لترامب بأن تعريفاته الجمركية ستؤدي إلى ركود، ووصف ماسك مشروع القانون الاقتصادي الذي يدعمه ترامب ويدعوه ترامب "القانون الجميل والضخم" بأنه "شر مقيت"، معتبرا أنه سيزيد العجز الفيدرالي بشكل كارثي، حيث أن المشروع يتضمن إعفاءات ضريبية ضخمة وزيادة في الإنفاق، ما قد يضيف تريليونات الدولارات إلى ديون الحكومة. ورد ترامب بأن لا أحد يريد شراء سيارات تسلا الكهربائية. لكن الأمور تصاعدت عندما قال ماسك إنه السبب في فوز ترامب في الانتخابات. وحول ذلك، علق المقدم الكوميدي ساخرا: "ورد ترامب قائلا: 'حسنًا، أنت تعرف أن المريخ كوكب مقرف'. فرد ماسك: 'يا إلهي، أنت لست نفس الرجل الذي كنت أؤيده". وتصاعد الخلاف مؤخرا، حيث ادعى ماسك على منصة "إكس" أن تورط ترامب في ملفات إبستين هو سبب عدم الكشف عنها، لكنه حذف المنشور لاحقا. من جهته، حاول ترامب التظاهر بعدم الاهتمام بصديقه السابق، وفي هذا الصدد، سخر ماهر قائلا: "الرهان مرتفع جدًا لأن الفائز سيواجه بلايك لايفلي"، في إشارة إلى التراجع الإعلامي الأخير لصورة الممثلة. وأنهى ماهر بالقول إن أي شعور جيد بين الرجلين ربما انتهى بعد تصعيد ماسك نقده لـ"القانون الجميل والضخم" المدعوم من ترامب، ودعوته لعزل الرئيس وتأسيس حزب سياسي جديد لمواجهة الحزب الجمهوري.


الأنباء العراقية
منذ 38 دقائق
- الأنباء العراقية
الزراعة تعلن إطلاق ملايين من إصبعيات الأسماك لدعم الثروة السمكية
بغداد – واع – آمنة السلامي أعلنت وزارة الزراعة، اليوم السبت، إطلاق ملايين من إصبعيات الأسماك لدعم الثروة السمكية، فيما حددت فترة حظر الصيد لحماية المخزون السمكي. قال مدير عام دائرة الثروة الحيوانية في الوزارة، وليد محمد رزوقي، لوكالة الأنباء العراقية (واع): إنه "تم إطلاق نحو 100 مليون يرقة من أسماك الكارب بأنواعها العادي والعشبي والفضي، كما تم إطلاق حوالي مليون إصبعية من نفس الأنواع في عموم المسطحات المائية، إضافة إلى إطلاق حوالي 5400 إصبعية من الأسماك العراقية المحلية، مثل البني والقطان والشبوط، في بحيرة سد حديثة". وأضاف رزوقي، أن "الإجراءات المتخذة لمنع الصيد الجائر تشمل إصدار بيان بمنع الصيد خلال موسم التكاثر الذي يمتد من 15 شباط وحتى 1 تموز في مناطق معنية، إضافة إلى التنسيق مع وزارة الداخلية لضمان تنفيذ هذه الإجراءات وحماية الثروة السمكية".