logo
فرقة الثلاثي المرح... كأنهن صوت واحد

فرقة الثلاثي المرح... كأنهن صوت واحد

العربي الجديدمنذ 3 أيام

مع أواخر خمسينيات القرن الماضي، لاحت في أفق الحياة الفنية المصرية فرقة
نسائية
تضم ثلاث شابات من خريجات معهد الموسيقى العربية في القاهرة، هن صفاء لطفي وسناء الباروني ووفاء مصطفى، وتحت عنوان جذاب هو "الثلاثي المرح".
خلال فترة وجيزة، استطاعت الفرقة أن تصبح جزءاً مهماً من المشهد الغنائي المصري، بعد النجاح الكبير لعدد من أغانيها الاجتماعية الخفيفة والمرحة. بدت الفرقة وكأنها تملك رؤية جديدة للأداء النسائي الجماعي، وأثبت أعضاؤها قدرة كبيرة على التآلف الفني، وأيضاً قدرة واضحة على التكيف المرن مع المنظومة الفنية والإعلامية التي تبلورت بعد ثورة يوليو 1952.
ارتبط اسم الفرقة بأجواء البهجة في المناسبات الدينية والاجتماعية، ومثلت لوناً مختلفاً تتبناه الإذاعة المصرية، ويرعاه الموسيقي المصري البارز علي إسماعيل. ومع النجاح الواضح، حرص الملحنون على التعاون مع الفرقة التي غزت كل بيت عبر أثير الراديو، ثم البث التلفزيوني، وقبلت الجماهير كل أغانيها، بعدما وجدت فيها وسيلة إلى البهجة، وطريقة معتمدة لكسر الملل الموسيقي والرتابة الغنائية.
في الفترة التي سبقت تدشين الفرقة، كانت صفاء وسناء تتعاونان في تقديم أغان وعروض تتسم بالنشاط والصخب، داخل حديقة معهد الموسيقى العتيد، ثم انضمت وفاء إليهما ليتحول الثنائي إلى ثلاثي، ساعدته ظروف مواتية، تمثلت في سعي دؤوب من القائمين على الإذاعة المصرية بحثاً عن مواهب جديدة، تمتلك القدرة على مواكبة المستجدات السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري، ولديها ما تجتذب به الجماهير الواسعة في القرى والنجوع ومراكز الصعيد والدلتا.
وفي ظل هذه الأجواء المرحبة، ساقت المصادفة الموسيقي المرموق علي إسماعيل إلى حديقة المعهد، فاستمع إلى الفتيات الثلاث، ووجد في استعراضاتهن وغنائهن ما يملأ مساحة خالية لدى الإذاعة المصرية.. كان دور إسماعيل كبيراً في رعاية الفرقة وإطلاقها، وحتى اختيار اسمها.
لحن إسماعيل الأغاني الأولى للفرقة، فكانت قوة دافعة كبيرة إلى تعريف الجماهير بها، وفي مقدمة هذه الألحان الأغنية الرمضانية الشهيرة "أهو جه يا ولاد"، التي كتبتها الشاعرة الغنائية نبيلة قنديل، زوجة علي إسماعيل، وستسهم بنصيب وافر من نصوص أغاني "الثلاثي المرح"، كما سيكون زوجها صاحب الجانب الأكبر من ألحان الفرقة.
أدى نجاح أغنية "أهو جه يا ولاد" إلى حالة من الارتباط الوجداني بين الثلاثي وشهر رمضان. ويبدو أن الإذاعة ومستشاريها قرّروا استغلال تلك الحالة، وتقويتها بعدد من الأغاني الرمضانية، ومنها: "سبحة رمضان"، و"يا صايم قوم افطر"، و"أهلاً أهلاً يا رمضان"، و"شهر الصيام ابتدى"، و"هل هلال الصوم"، و"عودة رمضان"، و"افرحوا يا بنات"، و"الشيخ رمضان رجع تاني"، و"وحوي يا وحوي"، وهي أغنية تختلف في كلماتها ولحنها عن أغنية أحمد عبد القادر الشهيرة، كما اشتركت الفرقة في أوبريت إذاعي بعنوان "رمضان في الحسين".
تدريجياً، بدأت معالم الخطة التي اختارتها الفرقة تتبين للجماهير، فـ"الثلاثي المرح"، التي يمكن اعتبارها أول فرقة غنائية نسائية تعرفها الإذاعة المصرية، آثرت الغناء للمناسبات ذات الطابع الاجتماعي، التي تمس الأغلبية الساحقة من الجماهير، أو بمعنى أوضح، كان غناء الفرقة لكل حدث يمس عموم الناس، دينياً كان أم اجتماعياً أم سياسياً. غنت الفرقة للأعياد، ومناسبات الزفاف، وللعمال والفلاحين، وللحجاج، وقضايا الدولة الناصرية، وللعواصم العربية، كما غنت للأم وللأطفال، وللحارة المصرية، وللمرضى في المستشفيات، وللنادي الأهلي، كما غنت كثيراً من الأدعية والابتهالات.
يكشف الاستماع إلى قائمة أغنيات الفرقة عن أنها لم تكن حفية بالغناء العاطفي الصرف، ولا بكلمات الحب والهجر واللوعة، وفي المرات القليلة التي قدم فيها الفريق غناء عاطفياً. كانت الكلمات متسمة بمسحة كوميدية، وباستخفاف مرح. فالفرقة منشغلة بإذهاب الهم عن المهمومين لا بتعميق أحزانهم.
مثلت التوجهات العامة لثورة يوليو والرئيس جمال عبد الناصر موضوعاً أساسياً في غناء "الثلاثي المرح"، فغنّين للقومية العربية، ولعيد جلاء القوات البريطانية، ولوحدة مصر وسورية، ولثورة اليمن، ولنضال الشعوب الأفريقية ضد الاستعمار، وللسد العالي، ولعيد إنشاء إذاعة صوت العرب، وللصناعات العسكرية، ولعيد الطيران.
ويرجع عبد الناصر من رحلة خارجية فتغني الفرقة "جيت بالسلامة يا ريس". تشكل هذه الأغاني جانباً كبيراً من التسجيلات التي تركتها الفرقة، وهي أعمال لا يمكن فهمها إلا بفهم سياقاتها، ومن المؤكد أن بعضها فقد كل مبررات استمراره، وإلا فمن الصعب على شاب من الجيل المعاصر أن يستوعب سبب الغناء لمشروع الصوت والضوء عند أهرام الجيزة وتمثال أبو الهول.
جذب فريق الثلاثي المرح اهتمام الملحنين، ليس بسبب النجاح الجماهيري الذي حققته أغانيه فقط، ولكن أيضاً بسبب الأسلوب الغنائي للفرقة، فالفتيات الثلاث يؤدّين الأغاني في توافق مدهش، كأنهن صوت واحد، ولا يصدر عن أي منهن أي محاولة -ولو في غاية الضآلة- للاستعراض أو التميز، ولو حتى من خلال تصرف جمالي قد يشكل إضافة فنية يقبلها المستمع. ولا ريب أن هذا النمط الآلي من الأداء يمثل فرصة للملحن كي يقدم تفكيره النغمي كاملاً، من دون أن يحمل هم الأمانة الأدائية أو أن يقلق من تصرفات المطرب، ولا سيما إن كان ممن يفرطون في الحلايا والزخارف الصوتية.
ولذا، استطاعت الفرقة خلال سنوات قليلة أن توسع من قائمة الموسيقيين الذين قدموا لها الألحان، لتضم عدداً كبيراً من الأسماء المهمة، ومنهم: أحمد صدقي، وعبد العظيم محمد، ومحمود الشريف، وعبد العظيم عبد الحق، ومحمد فوزي، ومنير مراد، ومدحت عاصم، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وحسين جنيد، ورؤوف ذهني، وفؤاد حلمي، وعطية شرارة، وعبد الرؤوف عيسى، وحلمي أمين، وعز الدين حسني، ورياض البندك، ومحمد محسن، وحلمي بكر.
واتسعت قائمة الشعراء الذين قدموا لها النصوص لتضم: بيرم التونسي، وصلاح جاهين، ومصطفى عبد الرحمن، وفتحي قورة، وعبد الوهاب محمد، ومرسي جميل عزيز، وصالح جودت، ومأمون الشناوي، وبخيت بيومي، وعبد الرحمن الأبنودي، وإمام الصفطاوي، وعبد العزيز سلام، ومحسن الخياط، وغيرهم.
اتسعت جماهيرية الفرقة، وتجاوزت الحدود المصرية إلى مختلف بلدان العالم العربي، ولا سيما مع الزيارات الفنية التي نفذتها إلى عدد من البلدان العربية، وفي العراق قدمن حفلات ناجحة وتأثر الجمهور كثيراً عندما أدت الفرقة باللهجة العراقية أغنية "أسعد يوم"، من تلحين العراقي رضا علي، كما سافر الفريق إلى لبنان لتسجيل أغان من التراث الليبي مثل "يا العنب"، و"يا صغير في صغارنا". وفي أواخر الستينيات، زُرن العاصمة الأردنية لتسجيل عدد من الأعمال للتلفزيون الأردني.
موسيقى
التحديثات الحية
المطربة حورية حسن... أغاني الحارة المصرية
لم تكن "الثلاثي المرح" مجرد فرقة غنائية، لكنها مثلت ظاهرة اجتماعية وفنية تجاوزت حدود الموسيقى الإذاعية لتلتحم بوطنية البهجة الشعبية، وتصبح جزءاً من ذاكرة مصر التي تحتفل بالفوانيس، والمدفع، وفرحة الريف، وألوان السهر الجماعي. تكونت الفرقة في خمسينيات القرن الماضي من ثلاث فتيات شابات اجتمعن على نمط غنائي متناغم، يحمل البهجة والعذوبة، وينقل روح مصر الاجتماعية والوطنية في مرحلة ما بعد الثورة.
منذ الوهلة الأولى، كان واضحاً أن هناك شيئاً جديداً يلوح في الأفق. فـ"الثلاثي المرح" لم تكن مجرد تجمع لأصوات نسائية، بل كانت مشروعاً غنائياً متكاملاً يقوم على التناسق الصوتي والدرامي، والتوزيع الذكي للأدوار داخل الأغنية الواحدة، مع توظيف التعدد الصوتي في تقديم أعمال تحمل البساطة والعمق في آن واحد. وقد مهدت هذه الرؤية الطريق أمام فرقة نسائية شابة أثبتت جدارتها في عالم فني ظل لسنوات طويلة مقتصراً على الأصوات الفردية.
بلغت الفرقة ذروتها في عقدي الستينيات والسبعينيات، فباتت أغانيها جزءاً من المشهد الثقافي المصري، وشاركت غنائياً في عدد من الأفلام السينمائية، وقدمت مسرحيات استعراضية للأطفال، وكان لها برنامج إذاعي شهير بعنوان "عصافير الجنة"، الذي تميز بجمعه بين الغناء والدراما الطفولية. وقد استُقبل البرنامج بحفاوة كبيرة، لما فيه من تنوع بين الترفيه والتثقيف.
موسيقى
التحديثات الحية
بدرية السيد... الإسكندرية في تلك المواويل
لكن مع مطلع الثمانينيات، بدأ بريق الفرقة يخفت تدريجياً، لأسباب متعددة. منها تغير الذوق العام، وصعود أنماط غنائية جديدة، إلى جانب انسحاب بعض العضوات من العمل الفني، سواء لأسباب شخصية أو عائلية.
وقد كان لرحيل سناء الباروني عن الفرقة أثر كبير في تراجع نشاطها، ثم توالى الغياب تدريجياً، حتى توقفت الفرقة عن تقديم أعمال جديدة. كما أن تغير مناخ الإنتاج الفني، وانحسار دعم الدولة للأعمال الجماعية، جعلا من الاستمرار أمراً صعباً.
رغم ذلك، ظل إرث "الثلاثي المرح" حاضراً في الذاكرة. فقد أعيد تقديم بعض أغانيها في حفلات وأعمال درامية، كما أعادت بعض الفرق الشبابية توزيع أغانيها بروح عصرية، ما ساهم في تعريف أجيال جديدة بهن. وساهمت منصات الإنترنت في إحياء أرشيفهن، من خلال مقاطع الفيديو والتسجيلات النادرة.
ما يمنح تجربة "الثلاثي المرح" خصوصيتها هو أنها لم تكن مجرد تجربة نسائية في مجتمع محافظ، بل كانت مشروعاً فنياً متكاملاً، ارتكز على تناغم جماعي نادر، ورؤية فنية واعية. لقد قدمن نموذجاً للغناء الجماعي الخالي من الصراعات الفردية، وللفن المرح الذي لا ينفصل عن الهم الاجتماعي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وسام أبو علي وهاتريك تاريخي يُعادل رقم بيليه.. وفلسطين حاضرة باحتفال
وسام أبو علي وهاتريك تاريخي يُعادل رقم بيليه.. وفلسطين حاضرة باحتفال

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

وسام أبو علي وهاتريك تاريخي يُعادل رقم بيليه.. وفلسطين حاضرة باحتفال

يوماً بعد يوم يُثبت الفلسطيني وسام أبو علي (26 عاماً)، أنّه المهاجم المثالي والثروة الحقيقية التي يجني الأهلي المصري، ثمارها حالياً منذ التعاقد معه في شتاء عام 2024، بعدما بات أول لاعب عربي يسجل ثلاثة أهداف "هاتريك" في مباراة واحدة خلال بطولة كأس العالم للأندية المقامة حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، ليصنع لنفسه تاريخاً ذهبياً، معادلاً رقم سبقه إليه، الأسطورة بيليه، نجم الكرة البرازيلية التاريخي. وبات وسام أبو علي بات ثاني لاعب يُحرز "هاتريك" في فريق أوروبي بمنافسة خاصة بالقارات، بعدما فعلها بيليه في بطولة "الإنتركونتيننتال" التي جمعت في ثوبها القديم عام 1962، ناديه سانتوس البرازيلي بنظيره بنفيكا البرتغالي، أي بطلا أميركا الجنوبية وأوروبا، وفاز سانتوس وقتها ذهاباً (3-1)، وسجل بيليه هدفين، ثم كرر الفريق البرازيلي فوزه (5-2) في الإياب بالبرتغال، وكان للجوهرة البرازيلي موعده مع هزّ الشباك ثلاث مرات. واحتفل وسام أبو علي بأشكال مختلفة بأهدافه الثلاثة، منها على طريقة لاعب كرة السلة الأميركي دي أنجيلو راسل، عبر منح نفسه" إبرة"، تؤكد قدرته على الصمود، ومواجهة الضغوط، والتحدّيات، كردٍّ على الانتقادات التي لاحقته، رغم تحمّله لها،إذ تحدّث النجم الفلسطيني عن تلك الطريقة في تصريحات متلفزة سابقة، ووصفها بطريقة "وسام أبو علي"، وأنّ هدفه هو توقيت وسام، وذلك منذ أن كان لاعباً محترفاً في صفوف فريق سيريش السويدي. كما شهدت المباراة احتفال وسام أبو علي بطريقة "حنظلة"، من خلال الوقوف، ويده وراء ظهره في لقطة واضحة أنّ وطنه فلسطين في باله وعقله خلال مونديال الأندية في الولايات المتحدّة، برسالة للعالم أجمع، في ظلّ تعرّض قطاع غزّة لحرب إبادة على يد الاحتلال الإسرائيلي، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مع العلم أن شخصية "حنظلة" ابتكرها الرسام ناجي العلي لطفل فلسطيني، يدير ظهره للعالم، وذلك دعماً للقضية الفلسطينية. كرة عربية التحديثات الحية الفلسطيني وسام أبو علي.. رجل الأوقات الصعبة في الأهلي المصري وصنع وسام أبوعلي لنفسه تاريخا آخر، بعدما حاز على لقب رجل المباراة أمام بورتو البرتغالي، إثر مستواه المميز، وتسجيله ثلاثة أهداف في أقل من 60 دقيقة، قبل استبداله، وهو الذي ولعب دور المهاجم النموذجي، بعدما قدّم مباراة هي الأروع له، إذ حاز على تنقيط عشرة على عشرة من قبل موقع "فلاش سكور"، ردّ خلالها على الانتقادات التي طاولته بعد أدائه غير الموفق في لقاء بالميراس البرازيلي. ويعتبر النجم الفلسطيني، أفضل مهاجم ضمّه الأهلي في آخر خمس سنوات بشكل خاص، وأحد أفضل مهاجميه في الألفية الثالثة، بعدما صنع لنفسه تاريخاً كبيراً في أقل من عامين، إذ توج في أول مواسمه مع الأهلي 2023-2024، حين وصل في منتصف الموسم، بطلاً للدوري المصري، وكأس دوري أبطال أفريقيا، ونال لقب هداف الدوري المحلي برصيد 18 هدفاً، وفي الموسم الثاني، نجح في الفوز مع الأهلي ببطولتين، هما الدوري المصري، وكأس السوبر المصري، وكان الفتى الذهبي في رحلة التتويج بالدوري، وسجل العديد من الأهداف المؤثرة، ويُعتبر الحل السحري الذي أنقذ هجوم الأهلي من أزمات كبرى مرّ بها بسبب فشل العديد من المحترفين من قبله في أداء دور رأس الحربة السوبر، مثل أليو بادجي، ووالتر بواليا، أو محليين لم يستمروا كثيراً، مثل شادي حسين وحسام حسن الصغير، ليعيد بريق القميص رقم 9 الكبير في تاريخ الأهلي تهديفياً.

فرقة الثلاثي المرح... كأنهن صوت واحد
فرقة الثلاثي المرح... كأنهن صوت واحد

العربي الجديد

timeمنذ 3 أيام

  • العربي الجديد

فرقة الثلاثي المرح... كأنهن صوت واحد

مع أواخر خمسينيات القرن الماضي، لاحت في أفق الحياة الفنية المصرية فرقة نسائية تضم ثلاث شابات من خريجات معهد الموسيقى العربية في القاهرة، هن صفاء لطفي وسناء الباروني ووفاء مصطفى، وتحت عنوان جذاب هو "الثلاثي المرح". خلال فترة وجيزة، استطاعت الفرقة أن تصبح جزءاً مهماً من المشهد الغنائي المصري، بعد النجاح الكبير لعدد من أغانيها الاجتماعية الخفيفة والمرحة. بدت الفرقة وكأنها تملك رؤية جديدة للأداء النسائي الجماعي، وأثبت أعضاؤها قدرة كبيرة على التآلف الفني، وأيضاً قدرة واضحة على التكيف المرن مع المنظومة الفنية والإعلامية التي تبلورت بعد ثورة يوليو 1952. ارتبط اسم الفرقة بأجواء البهجة في المناسبات الدينية والاجتماعية، ومثلت لوناً مختلفاً تتبناه الإذاعة المصرية، ويرعاه الموسيقي المصري البارز علي إسماعيل. ومع النجاح الواضح، حرص الملحنون على التعاون مع الفرقة التي غزت كل بيت عبر أثير الراديو، ثم البث التلفزيوني، وقبلت الجماهير كل أغانيها، بعدما وجدت فيها وسيلة إلى البهجة، وطريقة معتمدة لكسر الملل الموسيقي والرتابة الغنائية. في الفترة التي سبقت تدشين الفرقة، كانت صفاء وسناء تتعاونان في تقديم أغان وعروض تتسم بالنشاط والصخب، داخل حديقة معهد الموسيقى العتيد، ثم انضمت وفاء إليهما ليتحول الثنائي إلى ثلاثي، ساعدته ظروف مواتية، تمثلت في سعي دؤوب من القائمين على الإذاعة المصرية بحثاً عن مواهب جديدة، تمتلك القدرة على مواكبة المستجدات السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري، ولديها ما تجتذب به الجماهير الواسعة في القرى والنجوع ومراكز الصعيد والدلتا. وفي ظل هذه الأجواء المرحبة، ساقت المصادفة الموسيقي المرموق علي إسماعيل إلى حديقة المعهد، فاستمع إلى الفتيات الثلاث، ووجد في استعراضاتهن وغنائهن ما يملأ مساحة خالية لدى الإذاعة المصرية.. كان دور إسماعيل كبيراً في رعاية الفرقة وإطلاقها، وحتى اختيار اسمها. لحن إسماعيل الأغاني الأولى للفرقة، فكانت قوة دافعة كبيرة إلى تعريف الجماهير بها، وفي مقدمة هذه الألحان الأغنية الرمضانية الشهيرة "أهو جه يا ولاد"، التي كتبتها الشاعرة الغنائية نبيلة قنديل، زوجة علي إسماعيل، وستسهم بنصيب وافر من نصوص أغاني "الثلاثي المرح"، كما سيكون زوجها صاحب الجانب الأكبر من ألحان الفرقة. أدى نجاح أغنية "أهو جه يا ولاد" إلى حالة من الارتباط الوجداني بين الثلاثي وشهر رمضان. ويبدو أن الإذاعة ومستشاريها قرّروا استغلال تلك الحالة، وتقويتها بعدد من الأغاني الرمضانية، ومنها: "سبحة رمضان"، و"يا صايم قوم افطر"، و"أهلاً أهلاً يا رمضان"، و"شهر الصيام ابتدى"، و"هل هلال الصوم"، و"عودة رمضان"، و"افرحوا يا بنات"، و"الشيخ رمضان رجع تاني"، و"وحوي يا وحوي"، وهي أغنية تختلف في كلماتها ولحنها عن أغنية أحمد عبد القادر الشهيرة، كما اشتركت الفرقة في أوبريت إذاعي بعنوان "رمضان في الحسين". تدريجياً، بدأت معالم الخطة التي اختارتها الفرقة تتبين للجماهير، فـ"الثلاثي المرح"، التي يمكن اعتبارها أول فرقة غنائية نسائية تعرفها الإذاعة المصرية، آثرت الغناء للمناسبات ذات الطابع الاجتماعي، التي تمس الأغلبية الساحقة من الجماهير، أو بمعنى أوضح، كان غناء الفرقة لكل حدث يمس عموم الناس، دينياً كان أم اجتماعياً أم سياسياً. غنت الفرقة للأعياد، ومناسبات الزفاف، وللعمال والفلاحين، وللحجاج، وقضايا الدولة الناصرية، وللعواصم العربية، كما غنت للأم وللأطفال، وللحارة المصرية، وللمرضى في المستشفيات، وللنادي الأهلي، كما غنت كثيراً من الأدعية والابتهالات. يكشف الاستماع إلى قائمة أغنيات الفرقة عن أنها لم تكن حفية بالغناء العاطفي الصرف، ولا بكلمات الحب والهجر واللوعة، وفي المرات القليلة التي قدم فيها الفريق غناء عاطفياً. كانت الكلمات متسمة بمسحة كوميدية، وباستخفاف مرح. فالفرقة منشغلة بإذهاب الهم عن المهمومين لا بتعميق أحزانهم. مثلت التوجهات العامة لثورة يوليو والرئيس جمال عبد الناصر موضوعاً أساسياً في غناء "الثلاثي المرح"، فغنّين للقومية العربية، ولعيد جلاء القوات البريطانية، ولوحدة مصر وسورية، ولثورة اليمن، ولنضال الشعوب الأفريقية ضد الاستعمار، وللسد العالي، ولعيد إنشاء إذاعة صوت العرب، وللصناعات العسكرية، ولعيد الطيران. ويرجع عبد الناصر من رحلة خارجية فتغني الفرقة "جيت بالسلامة يا ريس". تشكل هذه الأغاني جانباً كبيراً من التسجيلات التي تركتها الفرقة، وهي أعمال لا يمكن فهمها إلا بفهم سياقاتها، ومن المؤكد أن بعضها فقد كل مبررات استمراره، وإلا فمن الصعب على شاب من الجيل المعاصر أن يستوعب سبب الغناء لمشروع الصوت والضوء عند أهرام الجيزة وتمثال أبو الهول. جذب فريق الثلاثي المرح اهتمام الملحنين، ليس بسبب النجاح الجماهيري الذي حققته أغانيه فقط، ولكن أيضاً بسبب الأسلوب الغنائي للفرقة، فالفتيات الثلاث يؤدّين الأغاني في توافق مدهش، كأنهن صوت واحد، ولا يصدر عن أي منهن أي محاولة -ولو في غاية الضآلة- للاستعراض أو التميز، ولو حتى من خلال تصرف جمالي قد يشكل إضافة فنية يقبلها المستمع. ولا ريب أن هذا النمط الآلي من الأداء يمثل فرصة للملحن كي يقدم تفكيره النغمي كاملاً، من دون أن يحمل هم الأمانة الأدائية أو أن يقلق من تصرفات المطرب، ولا سيما إن كان ممن يفرطون في الحلايا والزخارف الصوتية. ولذا، استطاعت الفرقة خلال سنوات قليلة أن توسع من قائمة الموسيقيين الذين قدموا لها الألحان، لتضم عدداً كبيراً من الأسماء المهمة، ومنهم: أحمد صدقي، وعبد العظيم محمد، ومحمود الشريف، وعبد العظيم عبد الحق، ومحمد فوزي، ومنير مراد، ومدحت عاصم، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وحسين جنيد، ورؤوف ذهني، وفؤاد حلمي، وعطية شرارة، وعبد الرؤوف عيسى، وحلمي أمين، وعز الدين حسني، ورياض البندك، ومحمد محسن، وحلمي بكر. واتسعت قائمة الشعراء الذين قدموا لها النصوص لتضم: بيرم التونسي، وصلاح جاهين، ومصطفى عبد الرحمن، وفتحي قورة، وعبد الوهاب محمد، ومرسي جميل عزيز، وصالح جودت، ومأمون الشناوي، وبخيت بيومي، وعبد الرحمن الأبنودي، وإمام الصفطاوي، وعبد العزيز سلام، ومحسن الخياط، وغيرهم. اتسعت جماهيرية الفرقة، وتجاوزت الحدود المصرية إلى مختلف بلدان العالم العربي، ولا سيما مع الزيارات الفنية التي نفذتها إلى عدد من البلدان العربية، وفي العراق قدمن حفلات ناجحة وتأثر الجمهور كثيراً عندما أدت الفرقة باللهجة العراقية أغنية "أسعد يوم"، من تلحين العراقي رضا علي، كما سافر الفريق إلى لبنان لتسجيل أغان من التراث الليبي مثل "يا العنب"، و"يا صغير في صغارنا". وفي أواخر الستينيات، زُرن العاصمة الأردنية لتسجيل عدد من الأعمال للتلفزيون الأردني. موسيقى التحديثات الحية المطربة حورية حسن... أغاني الحارة المصرية لم تكن "الثلاثي المرح" مجرد فرقة غنائية، لكنها مثلت ظاهرة اجتماعية وفنية تجاوزت حدود الموسيقى الإذاعية لتلتحم بوطنية البهجة الشعبية، وتصبح جزءاً من ذاكرة مصر التي تحتفل بالفوانيس، والمدفع، وفرحة الريف، وألوان السهر الجماعي. تكونت الفرقة في خمسينيات القرن الماضي من ثلاث فتيات شابات اجتمعن على نمط غنائي متناغم، يحمل البهجة والعذوبة، وينقل روح مصر الاجتماعية والوطنية في مرحلة ما بعد الثورة. منذ الوهلة الأولى، كان واضحاً أن هناك شيئاً جديداً يلوح في الأفق. فـ"الثلاثي المرح" لم تكن مجرد تجمع لأصوات نسائية، بل كانت مشروعاً غنائياً متكاملاً يقوم على التناسق الصوتي والدرامي، والتوزيع الذكي للأدوار داخل الأغنية الواحدة، مع توظيف التعدد الصوتي في تقديم أعمال تحمل البساطة والعمق في آن واحد. وقد مهدت هذه الرؤية الطريق أمام فرقة نسائية شابة أثبتت جدارتها في عالم فني ظل لسنوات طويلة مقتصراً على الأصوات الفردية. بلغت الفرقة ذروتها في عقدي الستينيات والسبعينيات، فباتت أغانيها جزءاً من المشهد الثقافي المصري، وشاركت غنائياً في عدد من الأفلام السينمائية، وقدمت مسرحيات استعراضية للأطفال، وكان لها برنامج إذاعي شهير بعنوان "عصافير الجنة"، الذي تميز بجمعه بين الغناء والدراما الطفولية. وقد استُقبل البرنامج بحفاوة كبيرة، لما فيه من تنوع بين الترفيه والتثقيف. موسيقى التحديثات الحية بدرية السيد... الإسكندرية في تلك المواويل لكن مع مطلع الثمانينيات، بدأ بريق الفرقة يخفت تدريجياً، لأسباب متعددة. منها تغير الذوق العام، وصعود أنماط غنائية جديدة، إلى جانب انسحاب بعض العضوات من العمل الفني، سواء لأسباب شخصية أو عائلية. وقد كان لرحيل سناء الباروني عن الفرقة أثر كبير في تراجع نشاطها، ثم توالى الغياب تدريجياً، حتى توقفت الفرقة عن تقديم أعمال جديدة. كما أن تغير مناخ الإنتاج الفني، وانحسار دعم الدولة للأعمال الجماعية، جعلا من الاستمرار أمراً صعباً. رغم ذلك، ظل إرث "الثلاثي المرح" حاضراً في الذاكرة. فقد أعيد تقديم بعض أغانيها في حفلات وأعمال درامية، كما أعادت بعض الفرق الشبابية توزيع أغانيها بروح عصرية، ما ساهم في تعريف أجيال جديدة بهن. وساهمت منصات الإنترنت في إحياء أرشيفهن، من خلال مقاطع الفيديو والتسجيلات النادرة. ما يمنح تجربة "الثلاثي المرح" خصوصيتها هو أنها لم تكن مجرد تجربة نسائية في مجتمع محافظ، بل كانت مشروعاً فنياً متكاملاً، ارتكز على تناغم جماعي نادر، ورؤية فنية واعية. لقد قدمن نموذجاً للغناء الجماعي الخالي من الصراعات الفردية، وللفن المرح الذي لا ينفصل عن الهم الاجتماعي.

محمود أبو زيد:  العار والكيف وجري الوحوش
محمود أبو زيد:  العار والكيف وجري الوحوش

العربي الجديد

time١٠-٠٦-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

محمود أبو زيد: العار والكيف وجري الوحوش

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم كنا ثلاثة ندرس الإخراج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وبعد تخرجنا في سنة 1966 لم يعمل أحدنا بالإخراج، بل بالتأليف. محمود أبو زيد ومحسن زايد أصبحا من أشهر كتاب السيناريو في السينما المصرية، وأنا انطلقت في بيروت مؤلفاً مسرحياً وتلفزيونياً وإعلامياً. وكنا ثلاثة من طلبة قسم الإخراج ربطت ما بيننا صداقة نشأت بسرعة ودامت على مهل، وامتدت إلى ما بعد التخرج: أنا ومحمود أبو زيد وعلي عبد الخالق، ثم انضم إلينا زميل يدرس التصوير، هو شوقي علي، الذي سيصبح بعد سنوات من التخرج عميداً لمعهد السينما. وكنا نجتمع مراراً وتمتد بنا سهرات الأحاديث إلى قرب الفجر. وفي بعض الليالي كنت أبيت في منزل محمود أبو زيد أو في بيت علي عبد الخالق. ثمة موضوع واحد كان يفصل بيننا، هو متابعة مباريات كرة القدم. لم يكن محمود أبو زيد مهتماً بشؤون الكرة ومثله شوقي علي. أما أنا وعلي عبد الخالق فلا تفوتنا مباراة. لكن بينما كنت مشجعاً متحمساً للنادي الأهلي كان علي من الأنصار الملتزمين بتأييد فريق الزمالك اللدود. وكدنا، أنا ومحمود أبو زيد، أن نُطرَد من المعهد قبل أن تنتهي السنة الدراسية. بسبب السهر كنا في بعض الأيام نصل متأخرين إلى المعهد، في تمام التاسعة يتمّ سحب كشوف التوقيع التي تثبت الحضور. ولو حضر الطالب في التاسعة ودقيقة يعتبر غائباً ذلك اليوم. وحدث أن استدعانا حسين عسر (الممثل وشقيق الشهير عبد الوارث عسر) وكان يشغل وظيفة إدارية في المعهد، ونبّهنا قائلاً: "عليكما بالحذر. في رصيد كل منكما حتى الآن 14 غياباً، ولو بلغتما اليوم الخامس عشر فلن يتورع العميد الصارم محمد كريم عن توقيع قرار الطرد. لا تستهترا بمستقبلكما". كنا على مسافة شهر من نهاية العام الدراسي، فاتبعنا نظاماً صارماً مع لجوء إلى دعم الأهل للإيقاظ في الصباح الباكر، فمضى الشهر من دون وقوع الكارثة. كان محمود أبو زيد الطالب الوحيد في دفعتنا، المُسَجَّل في معهد السينما، وفي كلية الآداب في الوقت نفسه. هنا يدرس السينما وهناك الفلسفة وعلم النفس. كان قد أمضى سنة في كلية الآداب قبل الالتحاق بالمعهد. ثم أعطى الأفضلية لدراسة السينما وتخرجنا سنة 1966، وأكمل دراسة الفلسفة ونال الليسانس. وكان اثنان من أساتذتنا يعرفانه، كونهما أساساً من أساتذة كلية الآداب، وهما د. يحيى الخشاب (علم الاجتماع) ود. مصطفى سويف (علم النفس). بعد التخرج عمل محمود أبو زيد في وزارة الثقافة، في لجنة الرقابة على الأفلام. ثم تفرغ للتأليف، خصوصاً للسينما، كاتباً القصة والسيناريو والحوار في اثنين وعشرين فيلماً. أولها فيلم "القتلة" (1971) من إخراج أشرف فهمي (خريج معهد السينما، في دفعته الأولى). وهو فيلم بوليسي-اجتماعي قام ببطولته صلاح ذو الفقار وناهد شريف. أعقبه في السنة التالية فيلمان من إخراج حسام الدين مصطفى "الخطافين" و"ملوك الشر" وكلاهما من بطولة فريد شوقي، بمشاركة نبيلة عبيد في الأول ونيللي في الثاني. وبعد تأليف أربعة أفلام أخرى، بدأ التعاون بين الصديقين محمود أبو زيد كاتباً، وعلي عبد الخالق مخرجاً، في خمسة أفلام غاصت موضوعاتها في حضيض المجتمع، ونالت لدى عروضها إقبالاً شعبياً كبيراً. أولها فيلم "العار" (1982). وبطله حاج متديّن لكنه تاجر مخدرات، معتبراً إياها من العطارة التي يملك متجراً لبيعها. أحد أبنائه يعلم السر، ويستنكر الاثنان الآخران ذلك، لكنهما وقد ورثا الثروة يسوّغان التجارة الحرام. غير أن البضاعة المخبأة في بحيرة مالحة تفسد، وتفسد حياتهم. والمخدرات هي موضوع فيلم "الكيف" وبطله طالب فاشل يتحول إلى مطرب فرق شعبية منحطة ويدمن المخدرات ويرفض نصيحة أخيه الكيميائي، بل يخدعه ويغريه بتجربة تقود إلى الإدمان بشراسة فيخسر عمله وحياته. أما في "جري الوحوش" فالآفة هي تجارة الأعضاء البشرية، وطبيب يجري التجارب على بشر يقبلون بسبب الحاجة على المال، أو الجشع في ربحه ولو بطرق غير مشروعة. وأما فيلم "البيضة والحجر" فيعالج هوس سكان حي شعبي بالشعوذة، ويؤمنون بقدرات دجال محترف. يخلفه في مسكنه أستاذ فلسفة ضاقت به سبل العيش. يحاول أن يقنع الأهالي بأن ألاعيب السحر خرافات لا طائل تحتها، لكنهم يلحّون عليه أن يعالج مشكلاتهم على غرار سلفه، ولا يلبث أن ينساق ويجني من الدجل أرباحاً لم ينل مثلها من تدريس الفلسفة. وبطلة فيلم "عتبة الستات" طبيبة تظن أنها عاقر لأنها لم تنجب برغم مرور سنوات على زواجها، في حين يكتشف الأطباء أن الزوج هو العقيم، لكنه يخفي الحقيقة، وتلجأ الطبيبة إلى مختلف السبل لكي تحمل، ومنها الدجل الشعبي. يحدث أنها تتعرض لحمل كاذب، فيتهمها زوجها بالزنا. وكان قد جَمعُ الثروة من الربا موضوعَ "ديك البرابر" (إخراج حسين كمال) وفيه الأب المنحرف يرغب في توريث ابنه الذكر الوحيد وحرمان بناته الأربع، برغم تخلّف الولد العقلي. وفي "الأجندة الحمراء" (إخراج علي رجب) طبيب يكتشف أن صديقه مصاب بداء الزهري، ولحماية المجتمع يبحث عن النسوة المصابات، فيتضح أن الصديق هو ناقل المرض الذي أصابه من داعرة. من سِيَر تجار المخدرات والمدمنين، إلى المشعوذين، فتجار أعضاء الجسم الإنساني، إلى جماعة الربا والزنا والأمراض السارية والدعارة والاستيلاء على أرزاق الغير، والرغبة في الثروة ولو من طريق الحرام، كانت معظم موضوعات الأفلام تدور في فلك ذلك الجانب المظلم من المجتمع. وفي جلسة جمعتني به قال لي محمود أبو زيد "أنت يا صديقي أخبر الناس. حكايات القوم الأسوياء لا تنتج مادة لفيلم سينمائي. لكن سير شذّاذ الآفاق بها ما يجعل المؤلف يكشف ويناقش ويدين. معالجة الانحراف مادة مغرية للمؤلف الدرامي". وفي أفلامه التي تضمنت أغنيات، كان محمود أبو زيد كاتب الكلمات، وكان حسن أبو السعود ملحن معظم هذه الأغاني. منها ما أنشده أحمد زكي في فيلم "البيضة والحجر" ومطلع الأغنية الواردة في مستهل الفيلم يقول "جاب الخبر من ع الشجر/ الدنيا دي فيها العِبَر/ في ناس بتنحت في الصخَر/ وناس بتلعب بالبيضة والحجر". ومنها ما أنشده محمود عبد العزيز في فيلم "الكيف" مثل: "الكي كيمي كا" أو "يا حلو بانِتْ لبِّتك/ أول ما دابت قشرتك/ تحرم عليَّ محبّتك/ ورح أتوب عن سِكّتك/ القلب منك مليان جفا/ والصبر من قلبي اختفى/ وضاع معاه كل الصفا/ ضيّعتُه بِعِنْدَك يا قفا/ آه يا قفا" أو "تعالى تاني/ للدور التحتاني/ ناكل لحمة ضاني/ ونحلّي بسوداني/ دي القعدة هنيّه/ واللقمة شهيّه/ وح نشبع أغاني". في أغنية "البيضة والحجر" ذكر أنها من تأليفه، أما في عناوين فيلم "الكيف" فذكر أن الأغاني من "تخريف" محمود أبو زيد. إذ هي في الفيلم أغاني تحشيش ينشدها مغنٍّ سوقي وينظمها شويعر بذيء. وهي نقد للأغاني الهابطة الرائجة آنذاك. وهي نظمٌ على منوالها للسخرية منها. في الفيلم يقول المغني للشويعر المدعو سَتاموني "احنا عايزين كلمات هايفة". وعندما يسمعه الهذر ويشرح مزهوًا قيمة استخدام تعبير "القفا" بقوله "كلهم بيغنوا للعيون والرموش والخدود والشعر. إنت أول واحد ح يغني للقفا"، يثني عليه المغني "بحبك يا سَتاموني مهما الناس لاموني". وحدث أن شركة إنتاج أغان رغبت في شراء حقوق هذه الأغاني لطبع أسطوانات وأشرطة تجارية، فرفض محمود أبو زيد، مبرراً أن هذه الأغاني مطابقة للشخصية التي تؤديها في الفيلم، فإذا أخرجت من هذا السياق، يمكن اعتبارها ذات كلمات مبتذلة. لكن محمود عبد العزيز أقنعه بالموافقة، مع ذكر أنها من الفيلم، ولكون مؤدّيها ممثلاً وليس مطرباً، فستبقى هذه الأغاني مرتبطة بمنبتها الدرامي. وكما كلمات الأغاني كذلك بعض عبارات الحوار التي شاعت على الألسنة، وهي من نوع الهذر الصادر عن ألسنة متعاطي المخدرات، مثل "نفيّش الهوامش" و"أنا اللي سَتِّفْت الأونطه جوّه الشنطه" و"أنا بحبك يا فنانِسْ". وعلى غرار كلمات الأغاني وعبارات الحوار تجد أسماء الشخصيات في بعض الأفلام مثل تايكون الدخاخني وعِشَرِيه (ديك البرابر) سباخ التيبي ونظنظ هانم (البيضة والحجر) عاصم الخرابشة والشيخة هناجه (عتبة الستات) جمال مزاجنجي وسليم البهظ وعبده الكرف (الكيف). أما في الأفلام التي لا تجري أحداثها في أوساط الرذائل، فالأسماء من المألوفة المتداولة. في كل أفلامه قاد محمود أبو زيد الشخصيات سيئة السلوك إلى بئس المصير. لحقت بها الهزائم في نهايات أفلامه. وفي ذلك عبرة أخلاقية إيجابية واضحة. وبرغم ذلك، حرص المؤلف في بعض أفلامه على دعم العبرة بآية من القرآن الكريم، أو ببيت شعر عربي، أو بحكمة محمودة. في ختام فيلم "الكيف" تسمع الراوي يردد بيتَ شِعر شهيراً لأحمد شوقي: "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا". وينتهي فيلم "بون سواريه" بحكمة "ومن كان رزقه على الله فلا يحزن". أما فيلم "كيدهن عظيم" فيقول البطل في ختامه مردداً الآية الكريمة ﴿من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم بحسنات﴾. رأى البعض في ذلك ضرباً من تأكيد المؤكد، تجعل الدراما تُختتم بعظة، ورأى البعض الآخر أنها من ضرورات التأثير في المتلقّي من مدخل الثوابت الإيمانية وهى أرفع ما يتمسك به الفرد في مجتمعه العربي. فضلاً عن تأليف الأفلام السينمائية، كتب محمود أبو زيد مسرحيتين من لون الكوميديا: "جوز ولوز" من بطولة أحمد بدير وسعاد نصر، و"حمري جمري" من بطولة صابرين وعلاء ولي الدين. كما كتب المسلسل التلفزيوني "العمة نور" وكان من بطولة نبيلة عبيد، بطلة مسلسله الإذاعي "سجن الزوجية" مع محمود عبد العزيز. وكان فيلم "بون سواريه" آخر ما كتب محمود أبو زيد (سنة 2010). وبعد عام أخذ يراقب متغيرات الأحوال السياسية التي طرأت في مصر، لعله يستخلص من أحداث الربيع العربي المتلاحقة مادة لفيلم جديد. لكن المرض العضال أقعده عن العمل، وكانت وفاته أواخر 2016 عن 75 عاماً. نجوم وفن التحديثات الحية دفاتر فارس يواكيم: رشدي أباظة... الفتى الأول ونسيج مصري إيطالي كان قد أنجب ثلاثة أبناء، عملوا في الوسط الفني. ابنه البكر أحمد أبو زيد درس الإخراج والسيناريو بمعهد السينما، والتحق بعد التخرّج بالقناة الفضائية المصرية وأخرج عدداً من البرامج التلفزيونية والأفلام التسجيلية، وبرز اسمه بمسلسلات تمثيلية من تأليفه، وبعضها استناداً على قصص أفلام والده مثل "العار" و"الكيف" وفي هذا المسلسل شارك الأخوة الثلاثة: الأخ الأوسط أشرف مؤلف الموسيقى التصويرية، والأخ الأصغر كريم، قام بالتمثيل (وهو كان أدّى دور "الطفل كوكي" في فيلم "الكيف"). كريم درس السيناريو، واحترف الغناء وسجّل ألبومات، منها "لون شعرك" و"تفاحة آدم" من ألحان أخيه أشرف، لكنه فضّل التمثيل، وأدّى أدواراً مختلفة في مسلسلات وأفلام، ويعكف حالياً على تأليف القصص القصيرة. أما أشرف، فقد توفي سنة 2023 عن عمر ناهز السابعة والأربعين

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store