
"دقيقتين من وقتك"...
لم أكن أستطيع النوم، ولم تكن يومها وسائل متقدّمة لسدّ الآذان بسمّاعات Active Noise Cancellation ولذلك كان هدير مولّد الكهرباء والحرب الأهليّة ضيفيّ الدائمين.
كان هناك اختراع اسمهWalkman وهي مسجّلة صغيرة بسمّاعات أذن كبيرة. صمّدت من مصروفي شهوراً لأشتريها. وكان ثمّة أشرطة لا واحد منها يشبه الآخر، مخبّأة في صندوق قديم ومكتوب عليها: بعدنا طيّبين قول ألله! سألت أبي فقال: هذه أشرطة ممنوعة لزياد الرحباني!
ممنوعة؟ سأسمعها كلّها!
كانت الثمانينيّات، وقد مضى على تسجيل هذه الحلقات في الإذاعة اللبنانيّة تحت القصف، عشر سنوات، هكذا عرفت لاحقاً. صوتان في الأشرطة: شابٌّ ظريف بلكنة المنطقة الشرقيّة وكهل طريف بلكنة زحلاويّة لذيذة، زياد الرحباني وجان شمعون.
"أنا شايفتك قاعد مش صامد... إيه صامد عالقاعد! وفي زبالة بتحطّ كولونيا! وكولومبوس يسرد في جزيرة ويقول: ألله يلعن السّاعة اللي اكتشفتك فيها! وفنّانين لبنان، يا عيني على فنّانين لبنان! أهل الأريحة والأريحيّة... وقهوة الهورس شو اللي عم يكبكبو فناجين القهوة... واختلط الحابل بالنّابل، سوريّا بتبعتلك ردع ومصر بتبعت فلافل!".
لم أكن أفهم شيئاً ولكنّني حفظت الأشرطة عن ظهر قلب، فقد استمعت إليها كلّما هدر مولّد الكهرباء، ومولّد الحرب الأهليّة يهدر كلّ يوم، إلى اليوم، وإن بأشكال مختلفة!
ثمّ اكتشفت ثلاثة أشرطة صفراء لدى بائع على العربة: "فيلم أميركي طويل"! ما إن قرأت زياد الرحباني على غلافها حتى اشتريتها وانضمّت إلى مجموعة الواكمان، ولم أقتنع أنّ رشيد هو نفسه زياد وإلى الآن أظنّه كان الحكيم، بيار جماجيان. ثمّ أدركت لاحقاً أنّ زياد هو رشيد والحكيم معاً!
وتوالت الاكتشافات: كلّ كلمة قالها أو عزفها زياد صارت معي وفي أذنيّ... لدرجة أنّني كدت أشارك بتمثيل مسرحيّاته مع طلّاب الجامعات لولا انشغالي بالعمل، فقد كنت أدرس قبل الظهر وأعمل بعده.
زياد الرحباني كان يقولني في كلّ شيء... حتّى إنّه كان يقول ما سأقوله حين أكبر وأفهم الحياة أكثر... كنت من قلّة يفهمون أنّ زياد ليس ظاهرة طريفة فحسب، وليس مجرّد معلّق ساخر على الأحداث. هو صاحب فهم عميق لما يجري، فهم نابع من روح شفيفة تخلو من العقد، وعقلٍ مثقّف موسوعيّ ورجلٍ مبدئيّ عنيد. كنت أستمع إلى مسرحيّاته المسجّلة على أشرطة وأرسم بنفسي الديكور ووجوه الشخصيّات، وأذوب شوقاً لأشاهد مسرحيّة منها... حتّى أعلن عن مسرحيّة "بخصوص الكرامة والشّعب العنيد"، فشاهدتها 10 مرّات في مسرح البيكاديلليّ وأختيها: "لولا فسحة الأمل"، و"الفصل الأخير". لم أفهم كلّ شيء، ولكنّني فهمت أنّه يقول الكثير، وأنّ كثيرين لم يفهموا ما يقول، ومع ذلك ينتقدون بعنف... من الأمور التي لم أفهمها إقحام الكهرباء في عمل مسرحيّ رؤيويّ، أليست تفصيلاً في بناء الوطن؟ وأدركت لاحقاً أنّها مجرّد رمز يكثّف العقليّة التي ستدير البلاد عقب الحرب الأهليّة، التي انتهت فصولها مطلع التسعينيّات وبدأت فصولاً جديدة لا تنتهي. وذهبت للقاءاته الحواريّة حول المسرحيّات الجديدة ولم يتسنّ لي تقبيل زياد في جبينه، وإلى الآن أفهم المزيد كلّما شاهدت وسمعت ما كان يقول، وأقول في نفسي سيأتي يوم أجتمع فيه، فلا أزعجه بالثرثرة وإنّما أكتفي بتقبيل جبينه.
في ساحة رياض الصّلح، متضامنين مع الإضراب عن الطعام لموظّف لم يلتفت إليه أحد، جاء زياد! كان حلماً تحقّق! كنت كطفل في غرفة ألعاب ولديه دقائق ليختار اللعب التي يحبّها، فإذا كلّ اللعب يحبّها، فيعجز عن الاختيار! كنت يومها مشغولاً بفكرة الشيوعيّة المؤمنة، فسألته... قال لي: القيم الإنسانيّة نفسها! بعد سنوات طويلة، وقبيل الانهيار الكبير، رأيته في مقهى بالأشرفيّة، هجمت عليه بلا وعي سائلاً: أريد دقيقتين من وقتك! أجاب، ممسكاً ظهره من ألم ظاهر على وجهه: دقيقتين؟ شو قلال الدقيقتين؟ أدركت يومها أنّ زياد يستعدّ لتوديعنا... صار شديد الحساسيّة تجاه الوقت... غادرته خجلاً، فأردف معتذراً: ظهري عم يوجعني... وقلت في نفسي: كنت أريد أن أقول لك: نحتاجك فلا ترحل... أرسلت له في إحدى الحملات التي تطالبه بتأليف مسرحيّة جديدة: أرجوك يا أستاذ زياد، ألّف مسرحيّة واعرضها وسوف أشاهدها كلّ يوم! قيل لي إنّه ابتسم... ثمّ اعتذر عن مسرحيّة جديدة لن تبصر النّور، لعلّه اكتفى بمسرحيّة تكتب نفسها كلّ يوم في هذا الوطن الذي أنكره أبو الزلف في "شي فاشل".
اليوم صار لكلمات زياد في أذنيّ طعم مختلف، وحين أضع السمّاعات لأستمع ما يقولني فيها، وعلى الرّغم من التطوّرات التقنيّة والتقدّم الحضاريّ والـ Active Noise Cancellation فقد صرت أسمع هدير مولّد الكهرباء مزعجاً أكثر، وهو يهدر كلّ يوم، على إيقاع الحروب الخفيّة والظاهرة، وصوت زياد يخفت باستمرار، لأنّني حين أسمعه اليوم، وغداً، وكلّ يوم، لا أتوق ليوم ألقاه فيه، يوم ليس في ظهره ألم، فأقبّل جبينه، وأقول له: لا أحتاج دقيقتين من وقتك، أحتاج كلّ وقتك، لأنّنا نعيش، تماماً، كما وضعت في مسرحيّة "الأمل"، فوق فسحة الصرّاف، ساعةً لا تعمل... صرنا، يا زياد، نعيش خارج التّاريخ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

القناة الثالثة والعشرون
منذ ساعة واحدة
- القناة الثالثة والعشرون
زياد أخلّ بوعده مع لطيفة؟
قالت لطيفة التونسية إنه في آخر رسالة نصية بينها وبين زياد الرحباني، قال لها: "أنا عم بتحسّن وناطرك"، وتابعت لطيفة التي حضرت الى لبنان معزية: "أنا جيت يا زياد بس إنت رحت وإن شاء الله الألبوم المنتظر الذي أنجزته مع زياد يكون بمستواه". انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


النهار
منذ 5 ساعات
- النهار
عندما يرحل السند... تقف فيروز كأرزة صامدة!
قبل أن يكون زياد الرحباني فناناً ومبدعاً وأسطورةً استثنائية جمعت كلّ اختلافات لبنان على محبّته، كان الولد البار المحب، ليترك اليوم والدته كالأم الحزينة، "بلا ولا شي". ففي الأمس، حيث اللقاء الأخير، ودّعت السيدة فيروز زيادها، لابسةً ثوب القوة وحاملةً في أعماقها أحزاناً لا تحصى ولا تعدّ، رافقته من بيروت، من شارع سبيرز، وحي الأشرفية، وصولاً إلى بلدة المحيدثة في بكفيا. ووسط الحضور الشعبي الكثيف، وقرع الأجراس، وتناثر الورد والأرز على الموكب الجنائزي، كانت فيروز والناس "العاديين" وحدهم صامتين ومحزونين، في حالة هزيمة لرحيل هذه العبقرية، مشاركين في الصلاة على روح الفقيد، ومرافقين السيدة فيروز إلى كنيسة "رقاد السيدة" حيث دُفن زياد. وكانت اللحظة الأكثر تأثراً في هذا اليوم، ظهور الفنانة الكبيرة فيروز بعد غياب طويل، إذ بدت متماسكة رغم الألم البالغ. ورغم وضعها نظارة شمسية، إلا أن الحزن كان أكبر من أن يحجب بعدسات سوداء، ليشعر كلّ لبنان بألمها وليصفها الكثيرون بالأرزة الصامدة. علاقة فيروز بزياد الرحباني، لم تكن مجرّد علاقة أم بابنها، بل تميّزت بطابع فني خاص، حيث كان زياد كاتبٌ لصوتها، وملحنٌ لمشاعرها، عكسا معاً هموم الناس وآمالهم وأحلامهم بفنٍ لا ينسى ولا يندثر. أما اليوم، وبعد رحيله، فقد تغني فيروز "كيفك إنت" لزياد، و"سألوني الناس" لتتذكر زياد، و"إلى عاصي" لتترحّم على والد زياد وزياد، و"إيه في أمل" لتصمد في حزنها من دون زياد و"ولا كيف" لتتناسى آلام الفقدان والإشتياق لزياد. فيروز التي أثار صمتها دهشة العالم في جنازة حبيبها، وسندها، فكيف لصوتها العظيم ألا يصمت حين يغيب من كان يكتب كلماته ويلحّن نبضه؟


النهار
منذ يوم واحد
- النهار
عندما جَثَتْ ماجدة عِنْدَ أَقْدَامِ فيروز
عندما جَثَتْ ماجدة عِنْدَ أَقْدَامِ فيروز، حَامِلَةً وَصِيَّةَ الْمَسِيح فِي خَمِيسِ الْأَسْرَار. لم تكُن ماجدة الرومي تدخلُ بيتاً، بل كانت تطرقُ أبوابَ الوجعِ وتعْبرُ عتبةَ القلبِ المكسور. لم تكُن تمشي إلى فيروز، بل تمشي إلى لبنان الموجوع، المصلوب مرةً أخرى على نعشِ زياد. دخلت بخُطىً خفيفة ٍكأنها تخشى أن تُزعِجَ الصمتَ، ذلك الصمتُ الذي غلّفَ قلبَ فيروز منذ فاضَت روحُ زياد إلى الغياب. كانت تحمِلُ دمعتَها في راحةِ يدِها، وصوتُها الذي طالما صدحَ بالحياة، كانَ هَمساً مكسوراً، كأنّهُ يتوسّلُ إذناً من الجبلِ كي يقتربَ من الحُزنِ الجالِسِ على عرشِه. جَثَت ماجدة. نعم، جَثَت كما لا تجثو إلا الأرواحُ النقية، لم تركع فقط لفقدِ الأمومة، بل لأُمٍ لنا جميعاً، ولابنٍ كان وجهاً آخر للبنان الذي نحلم به. ماجدة لم تكُن تُعزّي فقط، كانت توثّقُ لحظةً في التاريخ الفني والتاريخ الإنساني، لحظةَ أمٍّ تعانقُ أمّاً، لحظةً تَخلعُ فيها الروحُ ثيابَ المجدِ، وتلبسُ رداءَ التواضعِ أمام ألمٍ لا يُحتَمَل. في ذلكَ الانحناءِ، أسقَطَتْ ماجدة عن كَتِفَيها كلَّ مَجدِها لِتحمِلَ مع فيروز القليلَ من الألم، بنَظرةٍ، بلمسةٍ، بصمتٍ. جَثَت ماجدة لتبقى فيروزُ واقفةً. جثَت لأن لبنانَ الحقيقيَّ لا يزالُ حيّاً في القلوبِ النبيلةِ.