
"نافذة على الشعر الصيني" مختارات من الحقبات القديمة إلى اليوم
من الواضح ان الصين شرعت في الانفتاح على العالم في السنوات الأخيرة، تجارةً وثقافة، وبرز من ثم احتكاك كثير من مبدعيها بمنابع الأدب العالمي، في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، في ظل صخب "اقتصاد السوق" وأجواء العولمة، وتراجع الشعر أمام اكتساح الرواية.
ووفقاً لمحسن الفرجاني، وهو من أبرز مترجمي الأدب الصيني إلى العربية، فإنه وفي ظل تنامي تأثير شبكات التواصل الاجتماعي، انقسمت ساحة الشعر في الصين إلى جماعات متنافرة، وانزاحت الكتابة الشعرية إلى أقصى حدود الهامش، وإن ظل بعض الشعراء يحتفظون بمكانة طيبة. وهذا الرأي المستند إلى خبرة عميقة في الأدب الصيني القديم والحديث، أورده الفرجاني، أستاذ اللغة الصينية المساعد في كلية الألسن في جامعة عين شمس، ضمن تقديمه لكتاب "نافذة على الشعر الصيني: مختارات نخبة من الشعراء" (سلسلة آفاق عالمية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة). ويتضمن الكتاب قصائد لـ 25 شاعراً صينياً، وقصيدة للشاعر الهندي رابندرانات طاغور (1861 – 1941) انطلاقاً من أنه "صاحب تأثير عميق على الأدب الصيني الحديث"، وقصيدتين لعميد الأدب الصيني الحديث لوشون؛ "ليالي الربيع" و"مشاعر الحنين".
طاغور ومويان
المختارات الشعرية بالترجمة العربية (هيئة قصور الثقافة)
شارك في اختيار وترجمة هذه القصائد من الصينية إلى العربية تسعة من المترجمين الشباب؛ "بوحي من تقديرهم الشخصي وحسهم الجمالي ووعيهم بقيمة المادة المترجمة دون تدخل أو تفضيل أو ترشيح من أي جهة"، بحسب الفرجاني الذي راجع الترجمات وتولى بنفسه ترجمة قصيدة للروائي الصيني مويان (1955) عنوانها "هافانا الجميلة"، وقصيدة "أحزان الرحيل" للشاعر القديم تشيوان (340 ق م – 278 ق م). ويلاحظ أن مترجمي هذه القصائد، جميعهم من النساء، باستثناء الفرجاني والمترجم محمد حسن صبري. وبعضهم درس اللغة الصينية في المركز الثقافي الصيني في القاهرة، وورش للترجمة الأدبية، فيما غالبيتهم من خريجي كلية الأسن في جامعة عين شمس. أما المختارات نفسها، فيقتصر تمثيل المرأة فيها على شاعرتين فقط هما سان ماو، من الصين الحديثة، ولي تشينغ تشاو من الصين القديمة. وتعتبر الأخيرة في تقدير بعض الدارسين "خنساء الصين"، علما أنها عاشت بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين.
وأوضح الفرجاني في تقديمه للكتاب الذي جاء في 343 صفحة من القطع الوسط، أنه حرص على أن تتضمن المختارات قصيدة لمويان الفائز بجائزة نوبل عام 2012 للتعريف به كشاعر، في ظل اشتهاره بإنتاجه القصصي والروائي. واعتبر الفرجاني قصيدة "هافانا الجميلة" "واحدة من إبداعات مويان في غير المعهود في كتاباته، ولا يخفى أن للرجل كثيراً من المحاولات المتميزة في أكثر من جنس أدبي، وقد قال هو نفسه إن أولى محاولاته للنشر كانت عبارة عن مسرحية قصيرة" ص 47. وعن ورود قصيدة لطاغور ضمن هذه المختارات، أوضح الفرجاني أنها "تجربة عملية للمترجم محمد حسن صبري لإثبات واحدة من حقائق التبادلات الثقافية التاريخية وهي أن الصين كان لها الإسهام البارز والفضل العظيم في حفظ كثير من عيون التراث الهندي في الأساطير والحكايات والفلسفات والنظ العقائدية، وبالتالي فلا غضاضة من أن تكون الصينية جسراً طبيعياً ووسيطاً أصيلاً في النقل عن الثقافة الهندية، بحكم الجوار الجغرافي وعمق التواصل الحضاري".
25 شاعراً
الشعر الصيني والرسم (من الكتاب)
وبالإضافة إلى قصائد طاغور ومويان وللوشون، تضم القائمة قصائد ل- 25 شاعراً صينياً، منهم: بيداو، الذي ترجمت أعماله لأكثر من عشرين لغة ورشح من قبل لجائزة نوبل، علما أنه يعيش حالياً في هونج كونج، وسبق له العيش في الولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية. تشانغ جيو لينغ (678 – 740م)، تشيوان وهو مؤسس الأدب الرومانسي الصيني، وتعتبر قصيدته "أحزان الرحيل" إحدى معلقات الشعر الصيني القديم. جوان جين تشاو (1950) ويشغل حالياً منصب مدير الرابطة الوطنية لكتاب الأقليات. خوشه (1891 – 1962) وكانت "المختارات الشعرية" التي نشرها عام 1920 أول مجموعة شعرية عامية في تاريخ الأدب الصيني الجديد. دوفو (712 – 770) كان يلقب بـ "حكيم الشعر" وكشفت قصائده بجرأة عن التناقضات الاجتماعية في زمنه. سان ماو (1943 – 1991) درست في إسبانيا وألمانيا والولايات المتحدة وتعتبر من أبرز وجوه الساحة الأدبية الصينية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. شه جه (1948) وهو حاصل على أعلى جائزة في فئة الشعر بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وتضم قائمة المترجمين، بالإضافة إلى محسن الفرجاني ومحمد حسن صبري: أسماء مصطفى عيطة، بسمة طارق محمد، دينا التهامي، رانيا فتحي، ريهام سمير، سندريلا سمير،هدير مصطفى شوقي، وياسمين شورى.
المرجعية الأخلاقية
وذهب الفرجاني في المقدمة التمهيدية للمختارات إلى أنه ليس هناك أدنى مبالغة في القول بأن الشعر هو ديوان الإبداع الصيني، فهذا قول صحيح تماماً في تقدير قيمة الكتابة الشعرية الصينية، سواء أكانت قصائد غنائية في فترة مبكرة من عصر الأدب القديم، الذي انطلق قبل ألفي عام، أم في مراحل لاحقة. ويبقى القول صحيحاً، حتى مطلع القرن العشرين، حين برزت أجناس أدبية أخرى، تفوقت على الشعر للمرة الأولى في تاريخ الصين. ومسألة ربط الشعر بالأخلاقيات مفهومة في إطار الفلسفة الصينية القديمة وحكمائها الكبار. فهذا كونفوشيوس يرى في موسيقى الشعر وأوزانه تأصيلاً لفكرة "القواعد" الراسخة بوصفها مرجعا يُحتكم إليه مثلما يجري الاحتكام إلى مرجعية الأخلاق وأصوليتها. فذلك هو الشعر الصيني الذي حظي بمكانة فنية جمالية بوصفه أرفع أجناس الأدب فضلا عن صلته الوثيقة بالمرجعية الأخلاقية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول الفرجاني إن الصين عرفت الشعر في صورته القديمة التقليدية بين القرنين السابع إلى السادس قبل الميلاد. وإذا كانت الصين لم تعرف "الملحمة" ولا "التراجيديا" في عصورها البعيدة أو الوسيطة فقد قام الشعر بما كانت تقوم به هذه الأجناس من حيث ذكر بطولات الأقدمين والتغني بأمجاد عصور غابرة وتاريخ للأحداث الكبرى وترسيخ القيم العريقة. ثم جاء حين من الدهر تحوَّل فيه الأداء الشعري من الالتزام بنسق كلاسيكي، تراثي المنهل، مطروق السبيل، إلى الأخذ بنمط يسمح بالتعبير عن المشاعر الشخصية بوصفها غرضاً جديداً من أغراضه.
الثورة الثقافية
وبلور هذا التحول – يقول فرجاني - قاعدة عريقة في الكتابة الشعرية في الصين وهي أن القصيد (التقليدي والغنائي) يتضمن التعبير عن الأغراض الاجتماعية والسياسية. وامتزج الثقافي بالسياسي والاجتماعي في حركة الرابع من مايو/ أيار 1919 وبدا للمثقفين أن من أسباب وقوع بلادهم تحت نير الاستعمار الالتزام بالتقاليد الكونفوشية والنظام الاجتماعي والفكري القديم، خصوصا في الآداب والفنونوبالتالي دعوا إلى الكتابة بالعامية المتداولة وهحر الصينية الكلاسيكية، فتراجع الشعر لتزدهر الرواية والقصة والمسرح على أساس أن هذه الأجناس الأدبية أكثر ارتباطاً بأجواء المجتمع العصري. وفي الخمسينيات من القرن الماضي تدفق الإنتاج الشعري ولكن كعاصفة جامحة، ضاع في خضمها الصوت الفردي.
ولما جاءت الستينيات تراجعت موجة القصيد القصصي الواقعي ليحل محلها اتجاهان: أحدهما استغرق في وصف مظاهر الحياة اليومية عبر لوحات شعرية، بعيداً عن الاهتمام بتفاصيل الواقع المعيش. والآخر راح يربط بين الكتابة الشعرية والأحداث السياسية في خضم التطلعات الثورية، ومن بين الأعمال المهمة في هذا التيار قصيدة "نافذة قطار إلى الغرب" للشاعر هتشينغ تشي، وقصيدة "مسيرة كونلون" للشاعر قوشياو تشاو، وقصيدة "العودة إلى قرية يانغ لو" للشاعر لوتشي. وتتفق معظم مصادر تاريخ الأدب الصيني الحديث والمعاصر على أن سنوات "الثورة الثقافية الكبرى" كانت مرحلة أزمة في مسار الشعر الصيني. كانت أول كتابة شعرية ذات قيمة عقب تلك السنوات الممتدة من منتصف الستينيات إلى منتصف السبعينيات، هي قصيدة "أكتوبر الصين" للشاعر هتشينغ تشي، وربما كانت هي الشرارة التي ألهمت ساحة الإبداع الشعري باستعادة وهج الكتابة في السنوات العشر التي أعقبت قيام "الصين الجديدة".
مرحلة جديدة
ومع بداية ثمانينيات القرن العشرين كان الإبداع الشعري الصيني على موعد مع مرحلة جديدة من تاريخه، تخلص فيها من القالب السياسي، واندفعت مسيرة تطوره في ثلاثة تيارات كبرى، بحسب فرجاني: تيار الواقعية، تيار شعر الغموض، شعر العصر الجديد. وكان طبيعياً في ظل التأكيد على الصوت الفردي، بعيداً عن أصداء الحشود أن يجري الالتفات إلى صوت الأقاليم. ويمكن القول إن منطقة سيتشوان أسهمت بشكل بارز في ظهور تيارات شعرية متمردة. كما ظهر تيار الشعر النسوي، فلمع نجم الشاعرة وانغ شياوني (1955). ولم يكن هذا التيار كما يقول الفرجاني، محاولة للكشف عن جوهر النسوية بعيداً عن المسلمات الذكورية التي حجبته طويلاً (بوصفه جزءاً متمماً لفهم العالم) بل كان تجربة فنية جمالية تبتغي إعادة تفسير النظام الكوني والأصول الاجتماعية الراسخة، تمهيداً لإبداع مفاهيم نقدية جديدة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سفاري نت
منذ يوم واحد
- سفاري نت
فندق والدورف أستوريا يعلن عن تجربة جديدة في ردهة بيكوك آلي بدبي
سفاري نت – متابعات أعلنت ردهة بيكوك آلي في فندق والدورف أستوريا مركز دبي المالي العالمي، عن إطلاق تجربة 'ميت مي أت ذا كلوك' لشاي ما بعد الظهيرة بنسخة الأوبرا الجديدة. وتستضيف الوجهة الفعالية كل يوم سبت، وتدعو الضيوف للاستمتاع بعروض أوبرا راقية تؤديها مغنية السوبرانو بمرافقة عزف حيّ على البيانو. تجربة ميت مي أت ذا كلوك ويحظى الضيوف بفرصة مثالية للاستمتاع بهذه التجربة الفريدة كل يوم سبت من الساعة 3 عصراً حتى 6 مساءً، وسط أداءٍ مبهر تقدّمه مغنية السوبرانو الصربية الشهيرة آنا كوفاتشيفيتش، على وقع أنغام البيانو الحيّة. وتؤدي كوفاتشيفيتش باقة من أشهر المقطوعات الكلاسيكية، مثل تايم تو ساي غودباي ونيسن دورما ضمن أجواء راقية تحتضنها الردهة الفخمة. وتشتهر كوفاتشيفيتش بتألقها في الفعاليات الموسيقية والمحافل الدولية، بما فيها حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في بكين عام 2008، ومراسم توزيع جائزة نوبل للسلام في عام 2011، ليضفي حضورها في قلب مركز دبي المالي العالمي لمسات فنية بطابع عالمي رفيع. تشكيلة فاخرة من المأكولات كما يتسنى للضيوف تذوق تشكيلة فاخرة من المأكولات التي تحمل توقيع الشيف التنفيذي غوركان غوزيلماز. وتتضمن القائمة مقبلات المأكولات البحرية التي تضم السلطعون الطازج والكافيار، والبطاطا المهروسة المقرمشة مع كمأة أومبريا السوداء، وشرائح البطاطس الرفيعة المحضرة يدوياً مع لفائف السلمون المدخن، وعجينة محشوة بكبد الأوز مع سابليه البارميزان وحبيبات الشمندر. وتتضمن قائمة السندويش مجموعة من الخيارات الشهية، مثل سندويش التونة مع صلصة أيولي بخبز البريوش، وطبق دجاج كورونيشن مع خبز القمح الكامل. وتخصص التجربة تشكيلة غنية من الشاي تتضمن الشاي الأخضر والأبيض والأحمر والأسود وشاي الأعشاب، بالإضافة إلى شاي البابونج كشاي ترحيبي مع شراب الفانيليا وعصير الليمون. وتلبية لشغف الضيوف بالحلويات، يقدم الشيف التنفيذي جوناثان تروين قائمة مختارة بعناية تضم مجموعة من الفطائر والحلويات، بما في ذلك كعكة الفراولة والورد، وتشيزكيك المانجو، وموس الفستق والتوت، إلى جانب تشكيلة من كعكات السكونز المقدّمة مع القشدة الكثيفة والمربى. وتنفرد هذه النسخة بتقديم كيك الأوبرا المميز، المحضّر خصيصاً لهذه المناسبة، حيث استُوحي كل صنف من أناقة الأوبرا بأدق تفاصيلها. تتوافر تجربة 'ميت مي أت ذا كلوك' التقليدية يومياً من الأحد إلى الجمعة، بدءاً من الساعة 2 عصراً حتى 6 مساءً، فيما تتوافر التجربة بنسخة الأوبرا كل يوم سبت من الساعة 3 عصراً حتى 6 مساءً.

سعورس
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- سعورس
ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟
جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».


الوطن
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- الوطن
ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟
من الأمانة الأدبية أن نبدأ هذا المقال باعتراف، لا يخدش من قدر أحد ولا يعبث باختيارات أحد: إنني كنت، وما زلت في رأيي الشخصي أعتقد، أن الصوفية – في صورتها التقليدية – تحمل في طقوسها ومظاهرها الكثير مما لا يستسيغه العقل، وتتشرب بعناصر مستعارة من ثقافات ومذاهب متباينة، حتى ليصعب الفصل بين الأصل والوافد! وبالعامية (أحسها نزعة دراويش وضحك على الذقون!)، ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يمنعني من أن اجل الاحترام والتقدير الكبير لجلال الدين الرومي، لا بوصفه «صوفيًا»، بل بوصفه عبقريًا إنسانيًا، شاعرًا بحجم العالم، ومفكرًا تخطّى الزمان والمكان! جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».