
عن "رفعت عيني للسما" مُجدّداً: إيقاع سينمائي يكشف وقائع
كتابات نقدية عدّة تقرأ
"رفعت عيني للسما" (2024، 102 د.)
، للمصريين ندى رياض وأيمن الأمير، وحوارات متفرّقة معهما، يجهد بعضها الجدّي في تفكيك الوثائقيّ والبحث في اشتغالاته السينمائية والاجتماعية والفكرية، وهذا كلّه منذ عرضه الدولي الأول في النسخة الـ63 (15 ـ 23 مايو/أيار 2024) لـ"أسبوع النقاد"، المُقامة في الفترة نفسها للدورة الـ77 لمهرجان "كان". لاحقاً، هناك عروضٌ في مهرجانات أخرى، آخرها حاصلٌ في الدورة الـ15 (29 إبريل/نيسان ـ 5 مايو/أيار 2025) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)"، فيفوز بجائزة أفضل فيلم في مسابقة الأفلام الطويلة، وقيمتها المالية 35 ألف كورونة سويدية (3630 دولاراً أميركياً).
لكنّ المهرجانات والجوائز، وإنْ يكن بعضها دولياً ومُصنّفاً فئة أولى، غير مهمّة في تأكيد سينمائيّته، وسلاسته البصرية في مواكبة ستّ شابات منتميات إلى "فرقة بانوراما برشة"، في قرية برشة في المِنْيا (245 كيلومتراً جنوبي القاهرة)، التي تُقدّم عروضها المسرحية في الشارع. ف
الوثائقي
، بحدّ ذاته، يكشف متانة نصّه السينمائي، وآلية التقاطه نبض قرية قبطية في صعيد مصر، يلتزم ناسها تقاليد محافظة، غير خالية من شيء ذكوري، في العلاقات واليوميات والتفكير. والتقاط هذا منبثقٌ من التصاق الكاميرا (مديرو التصوير: دينا الزنيني وأحمد إسماعيل وأيمن الأمير) بالشابات الستّ، مع أنّ ثلاثاً منهنّ يمتلكن المساحة الأكبر في النصّ والحكاية: ماجدة مسعود ومونيكا يوسف وهايدي سامح.
رغم أنّ في القرية موروثاً تربوياً محافظاً، يَظهر انفتاحٌ في مواقف وحالات وتصرّفات، بدءاً من تقديم الشابات عروضاً في قريتهنّ، أمام بعض أهلها، طارحاتٍ فيها مسائل تمسّ جوهر الموروث ذاك، في الزواج والحبّ واللباس مثلاً. يواجهن ناس القرية بأسئلةٍ، لن يتمكّن أحدٌ منهم/منهنّ الردّ عليها، وإنْ يتجرّأ شابُّ على الردّ، فردّه يؤكّد فشله في إجابة واضحة وصادقة: "لا دَخْل لك" ("لا يعنيك الأمر"، بنبرة جافة ومتعالية). والإجابة المبتورة هذه تأكيدٌ على ذكورية و
تقاليد
محافظة، غير قادرة ـ في الوقت نفسه ـ على منع الشابات من ممارسة ما يرغبن فيه: مسرح وغناء يقُلن عبرهما تفكيراً وأحاسيس وتأمّلات عن وقائع حيّة في يوميّات الجميع.
سينما ودراما
التحديثات الحية
ندى رياض وأيمن الأمير: "قرّبنا لغة الفيلم من حقيقة ما عشناه"
في سرد بعضهنّ اختبارات يعشنها في أعوامٍ سابقة، يتجلّى واضحاً انفضاض اجتماعٍ عنهنّ، أو استهزاء بهنّ. فلمونيكا صوتٌ أجشّ يقترب من صوت الرجل، ما يؤدّي إلى تنمّر وسخرية منها. رغم هذا، تُصرّ على الغناء، كما تُصرّ ماجدة على تحقيق حلمها بدراسة
المسرح في القاهرة
: في المشهد الأخير، تستقلّ باصاً متّجهاً إلى العاصمة المصرية. لكنْ، لن يُعرف مصيرها هناك، وهذا المُعلّق في المشهد بديع وصادق، ويُشبه على نحوٍ ما المُعلّق في مصيرَي مونيكا وهايدي، اللتين تتزوّجان، و"مشروع" الزواج يمرّ في حالاتٍ عدّة، أجملها ما يحصل بين هايدي ووالدها، ليس فقط بالنسبة إلى الزواج، بل أيضاً بالنسبة إلى انسحابها التدريجي من الفرقة.
فوالد هايدي مُصرّ على أنْ يكون لها هامشٌ كبير من حرية التفكير بالزواج، والتمهّل في اتّخاذ القرار. كلامه معها، وطريقة كلامه أيضاً، رائعان بقدر صدقهما وشفافيتهما. يخاف عليها، فيُخبرها أنْ لا طلاق في الزواج المسيحي. يحاول أنْ يفهم سبب قبولها، بعد رفضٍ يتكرّر سابقاً. بعد الزواج، ينتبه إلى تخلّيها عن الفرقة، فيسألها لمعرفة السبب، إذْ يشكّ في تسلّط الزوج عليها، الذي يظهر معها قبلاً وهو يضغط عليها لمحو أرقام هواتف صديقاتها في
الفرقة
، وهو يطالبها بتركهنّ والابتعاد عنهنّ. كلام الأب بأسئلته متأتٍ من قلق وشكّ وحبٍّ كبير لها، لكنّه غير متمكّن من ممارسة ضغط عليها، فهذا ليس من شِيَمه.
هذا نموذج مستلّ من فيلمٍ مليءٍ بجمالياتٍ فنية، تكشف قسوة عيش، وبراعة مواجهة، وعفوية تربية تمنح (العفوية) المرء أحياناً تفكيراً متنوّراً في مسائل يختبرها في حياته. شخصية ماجدة مسعود مُثيرة لاكتشافها، لما فيها من شفافية غير خالية من هدوءٍ في المواجهة خارج العرض المسرحي، ونبرة حادّة في المواجهة داخل العرض المسرحي. تريد استمراراً للفرقة، لكنّ الزواج والإنجاب (مونيكا) يصنعان شرخاً غير مقصود. في كلّ لحظةٍ تقريباً، هناك ما يُثير في كلامٍ وبوحٍ، ويدعو إلى تأمّل في أحوال وقناعات وممارسات. بهذا، يبتعد الثنائي ندى رياض وأيمن الأمير عن المباشرة في التصوير، إذْ تلتقط الكاميرا ما يحصل أمامها، من دون تقييد كلّ شخصية بعدستها.
كلّ كلامٍ عفوي يؤكّد، بنبرة أو حركة أو سلوك، أنّ ما تعيشه الشابات كشفٌ سينمائي لبيئة متكاملة. الثنائي رياض ـ الأمير مكتفٍ بمتابعة تصويرية، بعد وقتٍ في الاشتغال والتحضير وإيجاد منافذ للثقة بينه وبين
الشخصيات
. والكشف يرتكز على إيقاع هادئ، يوهم ببطءٍ في سرد حكايات وتصوير حالات. لكنّ الوهم يتداعى سريعاً، فهدوء الإيقاع يُراد له أنْ يتمعّن في تفاصيل، وأنْ يُدقِّق، بل أنْ يُتيح للمهتمّ/المهتمّة التدقيق في كلّ تفصيل يشارك في صُنع "رفعت عيني للسما".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
جعفر بناهي يعود إلى مهرجان كان وسكارليت جوهانسون تعرض أول أفلامها
شارك المخرج الإيراني جعفر بناهي شخصياً في مهرجان كان السينمائي لأول مرة منذ 15 عاماً، من أجل تقديم فيلمه الجديد "إت واز جاست آن أكسيدنت" ("مجرد حادث" بالعربية)، المليء بالانتقادات لسلطات بلاده. وكان عرض الفيلم المشارك في المنافسة على جائزة السعفة الذهبية أحد أبرز الأحداث في المهرجان، الثلاثاء، إلى جانب عرض فيلم النجمة الهوليوودية سكارليت جوهانسون في تجربتها الإخراجية الأولى، وعودة الممثلة الأميركية المحبة للغة الفرنسية، جودي فوستر ، في فيلم فرنسي من إخراج ريبيكا زلوتوفسكي. وكان لخطوات جعفر بناهي (64 عاما) وفريقه على السجادة الحمراء رمزية كبيرة، نظراً لكون المخرج أحد ألمع الأسماء في السينما الإيرانية. إذ اعتاد السينمائي المعروف خصوصاً بفيلمي "تاكسي طهران" و"ثلاثة وجوه"، رؤية أعماله تفوز بجوائز في أكبر المهرجانات، لكنه قلّما كان يطلّ أمام الجمهور على السجادة الحمراء. ومنذ إدانته في عام 2010 بتهمة "الدعاية ضد النظام"، لم يتمكن من حضور أي من هذه الأحداث السينمائية الدولية. ولا أحد يعلم المصير الذي تخبئه له السلطات في طهران بعد عرض فيلمه الروائي الـ11، والذي يهاجمها بشكل مباشر وينتقد الإجراءات التعسفية المرتكبة من قوات الأمن. تحدي السلطة الإيرانية في مهرجان كان وقال بناهي في مقابلة مع وكالة فرانس برس: "الأهم هو أن الفيلم قد أُنتج. لم أُفكر في ما قد يحدث بعد ذلك. أشعر بأني حيّ ما دمت أصنع أفلاماً. إن لم أصنع أفلاماً، فلن يُهمني ما يحدث لي بعد الآن". وفي دورة العام الماضي، اختار مخرج إيراني آخر هو محمد رسولوف المنفى، فوصل سراً إلى مهرجان كان السينمائي لتقديم فيلمه "بذرة التين المقدس" الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة، من دون أن يعود مجدداً إلى طهران. وعلى غرار رسولوف، اختار بناهي العمل في الخفاء. وفي تحد للقانون الإيراني، ظهرت ممثلات عديدات في أعماله بشعر مكشوف، كما حدث أخيرا في فيلم "كعكتي المفضلة" للمخرجين مريم مقدم وبهتاش صناعيها اللذين اختير عملهما للمشاركة في مهرجان برلين العام الماضي، ثم حُكم عليهما بالسجن مع وقف التنفيذ في إيران بتهمة "الدعاية ضد النظام والترويج للفحشاء". ويروي فيلم التشويق "مجرد حادث" قصة رجل اختطفه سجناء سابقون، لاقتناعهم بأنه كان يعذّبهم في السجن. ويقدّم الفيلم أيضاً فرصة للتأمل في مبدأ العدالة والانتقام في مواجهة التعسف. وبهذا الفيلم، يصبح بناهي الذي سُجن مرتين في بلاده، مرشحاً قوياً لنيل جائزة السعفة الذهبية التي تمنحها لجنة التحكيم برئاسة جولييت بينوش، السبت المقبل. وكانت الممثلة الفرنسية المعروفة بالتزامها من الداعمين الدائمين للمخرج الإيراني. بدوره، يقدم مواطنه سعيد روستايي، الخميس، في "كان" فيلم "المرأة والطفل". علماً أن آخر ظهور له في المهرجان جاء عبر فيلم "ليلى وإخوتها" في عام 2022، والذي أدى للحكم عليه بالسجن ستة أشهر في إيران. سينما ودراما التحديثات الحية الأخوان ناصر يرويان قصة غزة في مهرجان كان السينمائي أول فيلم من إخراج سكارليت جوهانسون بعدما قدمت الممثلة كريستين ستيوارت أول فيلم لها بصفتها مخرجة "ذا كرونولوجي أوف ووتر" في قسم نظرة ما هذا العام، كانت سكارليت جوهانسون ثاني نجمة هوليوودية تعرض أول فيلم من إخراجها في مهرجان كان السينمائي. أمام صالة ممتلئة بالكامل، حضرت جوهانسون عرض فيلمها "إليانور ذا غرايت"، في ما وصفته بأنه "حلم أصبح حقيقة" بحسب مجلة فاراييتي المتخصصة. ويروي فيلم الممثلة البالغة 40 عاماً، والتي عُرفت خصوصا بمشاركتها في "لوست إن ترانسلايشن" و"ماتش بوينت"، قصة إليانور مورغينشتاين (تؤدي دورها جون سكويب) التي تعود في سن 94 عاماً إلى نيويورك من أجل بداية جديدة بعد عقود أمضتها في فلوريدا. وقالت سكارليت جوهانسون: "إنه فيلم عن الصداقة والحزن والتسامح. وأعتقد أن هذه كلها مواضيع نحتاجها خصوصاً (...) إنه فيلم أجده تاريخياً لكنه حديث جداً أيضاً". أما الفيلم الآخر في المسابقة الرسمية، "فوري"، فهو مقتبس عن قصة الكاتبة الإيطالية غولياردا سابينزا التي سُجنت بتهمة السرقة عام 1980. ويسجل هذا الفيلم الروائي من إخراج ماريو مارتونه وبطولة فاليريا غولينو، عودة المخرج الإيطالي البالغ 65 عاماً إلى سباق السعفة الذهبية، بعد فيلمي "نوستالجيا" عام 2022 و"لاموريه موليستو" عام 1995. وخارج المسابقة الرسمية، شاهد رواد المهرجان فيلم الإثارة النفسي الجديد لريبيكا زلوتوفسكي من بطولة جودي فوستر، إلى جانب فيرجيني إيفيرا ودانييل أوتوي. (فرانس برس)


القدس العربي
منذ 4 أيام
- القدس العربي
المخرج الإيراني جعفر بناهي يعود إلى مهرجان كان بعد 15 عامًا
كان: تحضر الممثلة سكارليت جوهانسون مهرجان كان السينمائي للمرة الأولى كمخرجة، في حين يواكب المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي عرض أحد أفلامه، في أول ظهور له في مهرجان سينمائي منذ 15 عامًا. ويُعد عرض فيلم 'إليانور ذا غريت' Eleanor the Great، الذي تولّت الممثلة الأمريكية إخراجه، أحد أكثر الأحداث المنتظرة في مهرجان كان. وسكارليت جوهانسون هي ثاني نجمة هوليوودية تعرض فيلمًا أول لها ضمن قسم 'نظرة ما' هذا العام، بعد كريستن ستيوارت مع فيلم 'ذا كرونولوجي أوف ووتر' The Chronology of Water. ويتناول فيلم جوهانسون، التي تُعد من الممثلات الأعلى أجرًا في السينما الأمريكية، قصة إليانور مورغينستين (تؤدي دورها جون سكويب)، التي تعود في الرابعة والتسعين من عمرها للعيش في نيويورك، لتبدأ حياة جديدة بعد عقود قضتها في فلوريدا. وقال المخرج ويس أندرسون، الذي شاركت جوهانسون في ثلاثة من أفلامه، بينها 'ذا فينيشيان سكيِم' The Phoenician Scheme، المنافس على جائزة السعفة الذهبية هذا العام: 'شاهدتُ فيلمها وأحببته'. وتابع مازحًا: 'سكارليت تصنع الأفلام منذ فترة أطول مني ربما. إنها أصغر مني بنحو عشرين عامًا، لكنني أعتقد أنها أخرجت فيلمًا للمرة الأولى عندما كانت في التاسعة'. غياب طويل من بين اللحظات المنتظرة في مهرجان كان أيضًا، مرور جعفر بناهي على السجادة الحمراء. تمكن المخرج الحائز جوائز كثيرة، والذي قضى سبعة أشهر مسجونًا في إيران عامي 2022 و2023، من مغادرة طهران مع فريقه للذهاب إلى كان، حيث سيواكب عرض فيلم 'حادثة بسيطة' (تصادف ساده)، الذي صُوّر بشكل سري ومن دون أي تمويل إيراني، ولم تتسرّب عنه سوى معلومات محدودة جدًا. ولم يشارك بناهي في أي مهرجان دولي منذ 15 عامًا، حين بدأت مشاكله القضائية في بلاده، والتي حرمته لفترة طويلة من جواز سفره، وبالتالي من حرية السفر. خلال هذه الفترة، حصل مخرج فيلم 'تاكسي طهران'، الفائز بجائزة الدب الذهبي في برلين عام 2015، وفيلم 'ثلاثة وجوه'، الفائز بجائزة أفضل سيناريو في كان عام 2018، على جائزة خاصة من لجنة التحكيم في البندقية عام 2022 عن فيلم 'الدببة غير موجودة'. وكانت السلطات الإيرانية قد استدعت، خلال الأسبوع الفائت، أربعة من أفراد طاقم الفيلم لاستجوابهم، وفق ما أفاد مقرّبون من المخرج لوكالة فرانس برس. حُكم على جعفر بناهي بالسجن ست سنوات في العام 2010 بتهمة 'الدعاية ضد النظام'، مع منعه من إخراج الأفلام أو مغادرة البلاد لمدة 20 عامًا. وقد أُعيد له أخيرًا جواز سفره، واستعاد حقه في السفر في نيسان/ أبريل 2023، فسافر إلى فرنسا حيث تعيش ابنته. وسيُعرض أيضًا فيلم 'فيوري' Fuori، الذي يتناول قصة الكاتبة الإيطالية غولياردا سابيينزا، التي سُجنت عام 1980 بتهمة السرقة. ويمثل هذا الفيلم، الذي أخرجه ماريو مارتونه، وتؤدي بطولته فاليريا غولينو، عودةً للمخرج الإيطالي البالغ 65 عامًا إلى المسابقة الرسمية لمهرجان كان، بعد حضوره للمرة الأولى المهرجان السينمائي الفرنسي عام 2022 مع فيلم 'نوستالجيا' Nostalgia. (أ ف ب)


العربي الجديد
منذ 6 أيام
- العربي الجديد
سندريلا الصين
أكثر ما يشدّ الناس في الحكايات حكاية قديمة قدم البشرية، وأشهر صيغها تلك التي عرفناها باسم حكاية "سندريلا". لا أعرف إن كانت شعبيتها أتت من الأمل الذي تبثّه في قلوب الفقراء والمظلومين في أن تواتيهم رياح الحظ مثلها فتغيّر أقدارهم، أو من الفرح بانتصار العدالة "المحتوم" في النهاية على الأشرار كما في نصر سندريلا على زوجة أبيها وأختيها. لكن الثابت أنّ جوهر هذه الحكاية يسلب لبّ الناس في كلّ مكان وزمان، فترسخ عميقاً في النفوس تلك الأمثولة التي تنتهي بنصر للجميلة الفقيرة، يهبط عليها عن طريق المصادفة فينقلها إلى الغنى الذي تستحقه من خلال الزواج بالأمير الذي التقته مصادفة. حكاية سندريلا عابرة للبلدان والشعوب. ولكلّ بلد وزمن حكاية سندريلا خاصة به. مثلًا في مصر السبعينيات، كتب سمير عبد العظيم وأخرج هنري بركات الصيغة المصرية للحكاية في فيلم "أفواه وأرانب" بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين. طبعاً كانت هناك قضايا ثانوية مطروحة في الفيلم كما في موضوع تحديد النسل، لكن الطاغي كان قصة "نعمت" الفقيرة التي استطاعت في النهاية بطيبتها، وإخلاصها لربّ عملها وعملها، الزواج بهذا الأخير، أي "الأمير" محمود ياسين. وعلى الرفّ نفسه، أُغرم المشاهدون بسعاد حسني وحسين فهمي في فيلم "خللي بالك من زوزو"، فأطلقوا، بعدها، على الممثلة التي قامت بدور ابنة راقصة وطالبة جامعية تحاول الخروج من ظروفها الاجتماعية بجهدها، وبمساعدة الحب الذي ألقى "الأمير" حسين فهمي في طريقها، لقب ... "سندريلا". الفيلم كان لا يزال يحمل، كما سابقه، بعض أحلام المرحلة الناصرية في المساواة الطبقية والعدالة الاجتماعية، لكنه في النهاية كان يروّج خلاصاً فردياً، وحكايةً استثنائية يحلم كلّ إنسان أن تَحدث له. حكاية سندريلا عابرة للبلدان والشعوب. ولكلّ بلد وزمن، حكاية سندريلا خاصة به والخلاص الفردي، كما في الحلم الأميركي، هو حكاية الرأسمالية بامتياز. خلاص لفرد بتوسّل قدراته الشخصية، مستعيناً كما في حكاية سندريلا بقدر من الحظ والمثابرة. لكن الثابت في جميع الصيغ التي قرأتها أو شاهدتها لهذه الحكاية، الإلحاح على فكرة الصبر والتحمّل والتجمّل بالأخلاق العالية والسعي الفردي. لا تحارب سندريلا ظلم زوجة أبيها ولا تنمّر أختيها عليها، ولا تخطّط لتحسين حياتها. كلّ ما تفعله هو الابتسام والطاعة والتحمّل بانتظار الفرج، وهو قد أتى في النهاية على فرس أبيض وحملها معه على أجنحة الحبّ إلى القصر من مرقدها فوق رماد المدفأة. يا لتفاهة الأمثولة. أو بالأحرى يا لخطورتها. راودتني تلك الأفكار وأنا أراجع كتاباً بدا لي بدايةً أنه لا يمتّ بصلة إلى ما كنت أتحدّث عنه هنا. كتاب، سيصدر قريباً، يروي في أحد فصوله قصة تشبه الحكايات، عن انتصار بلاد ضخمة، هي الصين، تكاد تكون قارة وحدها، على الفقر المدقع بعد نضال لما يقارب القرن من الزمن. لم يكن موضوع الكتاب عن ذلك، لكنه أتى على ذكر الموضوع مستعيناً بالأرقام. كنت أقرأ وشيء من الحذر والتشكيك يساورني حول الوقائع التي كان يسردها. فما رسخ في أذهاننا خصوصًا عن الصين أو الاتحاد السوفييتي أو أي صيغة غير رأسمالية للتحرّر كان نتيجة رواج بروباغندا مضادة من أعدائها الطبيعيين ومبالغة من أصحاب القصة في آن. لكن تعمّقي في الأرقام والوقائع التاريخية جعلني شيئاً فشيئاً أغادر التشكيك من دون أن أغادر الحذر. تقول الأرقام إنّ نصيب الفرد من الناتج المحلي الصيني في العام 2023 وصل إلى 12614 دولاراً أميركياً سنوياً بعد أن كان 82 دولاراً أميركياً فقط العام 1978. قرن فقط، استغرقته الصين لنهوض أمّة المليار والنصف، من البحث عن فتات القوت تحت خط الفقر المدقع، إلى السباحة في الفضاء والتفوق التكنولوجي والاكتفاء الذاتي والسيادة الحقيقية "أما مؤشر الفقر (يضيف الكاتب أدهم السيد) فما يجب أن نعرفه أولاً، أنه سنة 1978 كانت أكثرية الشعب الصيني تعيش في فقر مدقع، نتيجة لما يصفه الصينيون بـ"قرن الإذلال" الذي تعرّضت له البلاد بعد حرب الأفيون" التي شنتها بريطانيا والقوى العظمى منذ نهاية القرن التاسع عشر على الصين، وتعاظم نهب الامبراطوريات التي كانت مسيطرة على مقدرات البلاد ومواردها وابتلاء الصينيين بآفة الأفيون". يتابع الباحث أدهم السيد في كتابه "أفيون وحرير": "ففي تلك السنة (1978) كانت ما نسبته 88% من الصينيين تعيش في فقر مدقع، أي حوالي 721 مليون مواطن صيني، أما في العام 2021 فأُعلِنَ تحقيق هدف المئوية الأولى للحكومة الصينية، أي القضاء على الفقر المدقع في الصين". ويضيف الكاتب أن "الأمم المتحدة وصفت هذا الإنجاز بأنه "غير مسبوق في تاريخ البشرية". وقال الأمين العام السابق بان كي مون، إنّ ما حققته الصين في هذا المجال هو "أكبر مساهمة عالمية في مجال القضاء على الفقر المدقع". علينا فقط تخيّل الرقم: أكثر من 800 مليون إنسان تمّ تخليصهم من الفقر المدقع. هذا فعلاً إنجازٌ للبشرية. قد تكون هناك الكثير من الآثار الجانبية لهذه الحكاية كما سيقول من لا يحبون الصين ولا يرمقون صعودها بعين الرضى أو نحن أيضاً، وقد يسوق آخرون انتقادات كثيرة، قد تكون محقّة، لهذه التجربة، كما أنّه قد تكون هناك الكثير من المبالغات في تجميل القصة، ولو أني أعتقد أنّ الحقائق أكثر في هذه الحكاية. حكاية أجمل من زميلتها الغربية، لأنها ليست قصة نجاة فردية، بل جماعية، ليس عن طريق المصادفة، بل بطرق ووصفات واضحة وتجارب شاقة لها إيجابياتها كما لها سلبياتها، لكن نتائجها جلية. الصين اليوم تبدو بعيدة لمسافات ضوئية عن الصين التي كانت بداية القرن الماضي، أو نهاية القرن الذي قبله. تلك البلاد التي كانت أسيرة الأفيون والتشرذم والفقر الذي يفوق الوصف. قرن فقط استغرقته الصين لنهوض أمّة المليار والنصف، من البحث عن فتات القوت تحت خط الفقر المدقع، إلى السباحة في الفضاء والتفوّق التكنولوجي والاكتفاء الذاتي والسيادة الحقيقية. في هذه الحكاية المذهلة ما هو مفرح حقاً أنّ الصين بأسرها هي السندريلا.