
البديل الحوثي للبنان...
يشبه الحوثيّون مُلاكماً كلّما عزم على توجيه ضربة إلى خصمه انهالت عليه ضربات الخصم المُهلكة. لكنّه، على رغم انكسار أنفه وانقلاع عينه وهطول الدم منه مدراراً، ظلّ يأبى النزول عن الحلبة.
سلوكٌ كهذا يحيطه الممانعون بكلّ التمجيد والإكبار. فبقاء الحوثيّين على الحلبة بالشروط الموصوفة أعلاه إنّما هو، في عرفهم، شرف وكرامة ودفاع عن غزّة وتضامن مع فلسطين. أمّا الإنجازات الفعليّة التي تكافئ تضحية الحوثيّين ببلدهم وشعبهم فلا تتعدّى إطلاق صاروخ غالباً ما يُعتَرَض، أو دفع إسرائيليّين إلى إطلاق صفّارات إنذار، أو إنزالهم مدّة ساعة إلى الملجأ، أو في الحدّ الأقصى، تهديد الملاحة الدوليّة... طبعاً «من أجل فلسطين»! لكنّ النتائج، في الأحوال جميعاً، غير مهمّة قياساً بالسعي والمبادرة والنيّة.
وفي كلّ يوم يطالعنا وجهٌ من وجوه «حزب الله» ولفيفه الممانع يأخذ على الدولة اللبنانيّة تقاعُسها عن المسؤوليّة ورضوخها للاحتلال. وغالباً ما يترافق هذا التشهير مع تشهير آخر بكلّ تعويل على السياسة والديبلوماسيّة في مواجهة الإسرائيليّين. لكنْ لمّا كان الحزب نفسه يئنّ تحت وطأة هزيمة عسكريّة موجعة، فيما الجيش اللبنانيّ غير مؤهّل لمواجهات من هذا الصنف، ولمّا كان المجتمع اللبنانيّ بأكثريّته الكبرى عازفاً عن الحروب، غير مقتنع بجدواها، بات البديل الحوثيّ للبنان هو بالضبط ما يقترحه هؤلاء المشهّرون. هكذا لا يبقى سوى الاستهانة بحياة أبناء شعبهم فيما يمضي «التضامن» مع غزّة وفلسطين بلا أيّ تأثير على معاناة الغزيّين وعموم الفلسطينيّين. فوق هذا، يعاد اختراع لبنان بلداً نافراً في محيطه وفي العالم، تماماً كما هي حال الرقعة اليمنيّة التي يحكمها الحوثيّون على نحو غرائبيّ.
والحوثيّة تعني، في ما تعنيه، اشتقاق المجد البطوليّ المزعوم من العجز والتصدّع اللذين أنتجهما انشقاق البلد وحربه الأهليّة وتجويع سكّانه، وبالتالي استمداد القوّة، أو ما يتراءى أنّه قوّةٌ، من ضعف يستحيل التستّر عليه وكتمانه. فالميل الحربيّ ذو البعد الانتحاريّ هو ما تلده الحال البائسة لنظام لا تُبقيه على قيد الحياة إلاّ الحرب. فإذا قضت عليه تلك الحرب يكون قد أتمّ واجبه بأن سقط شهيداً على نحو يُصوَّرُ موتاً بطوليّاً.
وربّما كان في الأمر بُعد ضامر آخر هو الدفاع عن عالم وماضٍ باتا مستحيلين، هما، في هذه الحالة، الإمامة الحميديّة التي أطاحها انقلاب عسكريّ في 1962 واستمات الحوثيّون دفاعاً عنها.
وفي الدفاع عن عالم وماضٍ ميّتين كان الروائيّ اليابانيّ يوكيو ميشيما قد أنهى حياته في 1970 عبر موت بطوليّ وطقسيّ دفعه إليه ولاؤه لليابان القديمة التي «لوّثها» التحديث والتغريب. فعلى رأس أربعة انتحاريّين مثله نفّذ عمليّة انقلابيّة توهّم أنّها تعيد بلاده إلى ماضيها المقدّس. فحين فشلت تجربةٌ لم يكن مقدّراً لها إلاّ أن تفشل، ألقى خطبة عصماء وقطّع أحشاءه.
كذلك كان الانتحار الجماعيّ الذي حلّ بـ»معبد الشعب» في جونزتاون بغويانا عام 1978. فهناك أريدَ تطبيق تعاليم فرقة دينيّة مهووسة، ودُفع ذاك التطبيق حتّى نهاياته القصوى. يومذاك تعدّى رقم الضحايا الـ900 شخص، كانت نسبة معتبرة منهم أطفالاً سُمّموا «إرضاءً لله».
ووفق صور خرافيّة كهذه عن العالم، تنحسر أهميّة التمسّك بالحياة، والسعي وراء نموذج أفضل من نماذجها. فالوحش أو الشرّ لنا بالمرصاد، لا تردعه سياسة ولا ديبلوماسيّة ولا شيء آخر نفعله. هكذا لا يبقى لنا إلاّ أن نصرخ: طاب الموت، تماماً كما صرخ الحوثيّون ويصرخون.
وفي موازاة العدّ العكسيّ نحو موت موصوف بالبطوليّة، يحوّل الحوثيّون الرقعة الجغرافيّة التي يسيطرون عليها إلى أضحية على مذبح النظام الإيرانيّ بوصفه الطوطم الأعلى الذي يطيب الموت دفاعاً عن مصالحه. هكذا يغدو البديل الحوثيّ للبنان واللبنانيّين أقرب إلى دعوة للإقبال على الموت كرمى لمصالح الدولة الإيرانيّة ولعدد من الحسابات المجنونة الأخرى. وكان «حزب الله»، إبّان قوّته، مؤسّس هذه المدرسة التي ورث الحوثيّون تعاليمها حتّى باتوا السبّاقين في سباق الممانعين العرب إلى موت مجّانيّ.
على أنّ اقتراح البديل الحوثيّ، مع ما يرافقه من عنف وفقر وتضحيات، يستدعي إشاعة وعي ذُعريّ (alarmist) يقنعنا بأنّنا فعلاً أمام خطر وجوديّ داهم يستحيل اجتنابه. هكذا يُستبدل مبدأ السببيّة، وارتباط كلّ حدثٍ يحدثُ بسبب ما، بجوهر متأصّل يقيم في عدوّ لا بدّ أن يهاجمنا ويغزونا، أكان ذلك بعد «حرب إسناد» أو من دونها.
والحال أنّ للتفكير الخرافيّ هذا أصولاً دفعتها الحرب الأخيرة نحو محطّة أشدّ احتداماً ودراميّة وخطورة. ذاك أنّ اللبنانيّين عُرضت عليهم، في عقود سابقة، نماذج طُلب منهم أن يقتدوا بها. هكذا اقترح البعثيّون عليهم نموذجي سوريّا والعراق البعثيّين، واقترح الشيوعيّون نماذج كانت تنتشر ما بين اليمن الجنوبيّ وبلغاريا وكوريا الشماليّة، وبالطبع مكث النموذج الإيرانيّ الخمينيّ نموذجاً أمثل يلوّح به الخمينيّون...
ولربّما كان الفارق بين البديل الحوثيّ والبدائل السابقة أنّ الموت، هذه المرّة، أضمن وأسرع بلا قياس.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 40 دقائق
- العربية
المبعوث الأميركي لسوريا يعلق على فتوى.. "خطوة عظيمة"
"خطوة عظيمة " بتلك العبارة علق المبعوث الأميركي، توماس برّاك على اصدار مجلس الإفتاء الأعلى السوري بياناً حرم فيه القتل خارج إطار القانون. Great first steps for a new Syrian Government on the move towards a new Syria. — Ambassador Tom Barrack (@USAMBTurkiye) June 6, 2025 وأوضح براك في تغريدة على حسابه في منصة إكس أمس الجمعة أنها خطوة مهمة من الحكومة نحو بناء سوريا الجديدة. جرائم الشرف والثأر أتى ذلك، بعدما أصدر المجلس الأعلى للإفتاء فتوى مهمة تُحرّم جميع أشكال القتل خارج نطاق القضاء، بما في ذلك ما يُسمى بجرائم الشرف، والانتقام القبلي أو الثأر. كما شدد المجلس على أن هذه الأفعال غير مسموح بها، وأن العدالة يجب أن تُطبّق من قِبل الدولة وحدها، في إطار القانون الرسمي والمؤسسات القضائية. وتشكل تلك الخطوة رفضا مباشرا للفوضى التي ازدهرت خلال سنوات الحرب الأهلية في البلاد، حيث غالبًا ما تم التسامح مع أنظمة العدالة الموازية. كما تشي بأن السلطات السورية الجديدة نزعت أي شرعية أو تساهل عن عمليات القتل التي تجري خارج إطار القضاء بأي مبررات كانت "جريمة شرف أو ثأر أو غيره". لاسيما أن البلاد التي خرجت من سنوات مريرية من الاقتتال وطويلة من القتال، حفرت في قلوب العديد من السوريين قهراً وشعورا بالظلم واللاعدالة.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
إسرائيل تلوّح بضغط أكبر على لبنان
لوّحت إسرائيل، أمس بضربات أكبر على لبنان إذا لم يُنزع سلاح «حزب الله»، غداة غارات على ضاحية بيروت الجنوبية وُصفت بأنها كانت الأعنف منذ وقف إطلاق النار في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وبدأ سكان ضاحية بيروت، أمس، حصر خسائرهم بعد ليلة عصيبة من الغارات برّرتها إسرائيل باستهداف مواقع مزعومة يُصنّع فيها «حزب الله» مسيّرات. وصعّد وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في بيان الجمعة، الضغط على لبنان لنزع سلاح الحزب، قائلاً: «لن يكون هناك هدوء في بيروت، ولا نظام ولا استقرار في لبنان من دون أمن دولة إسرائيل». وأضاف: «إذا لم تفعلوا ما هو مطلوب فسنواصل التحرك وبقوة كبيرة».وفي موقف لافت، حذّر الجيش اللبناني من تجميد تعاونه مع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية مع إسرائيل.


العربية
منذ ساعة واحدة
- العربية
إيران تندد بقرار منع السفر الأميركي وتصفه بالعنصري
استنكرت طهران ما وصفته بـ "النزعة العنصرية" لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على خلفية قرارها منع سفر رعايا 12 دولة، من بينها إيران، إلى الولايات المتحدة. وقال مدير شؤون الايرانيين في الخارج علي رضا هاشمي رجا اليوم السبت إن القرار الأميركي "دليل واضح على هيمنة النزعة التفوقية والعنصرية على صانعي السياسات الأميركيين". "عداوة عميقة" كما اعتبر أن قرا المنع وفرض قيود على دخول رعايا سبع دول أخرى "يؤشر الى العداوة العميقة لصانعي السياسات الأميركيين حيال الشعب الإيراني "، وفق ما نقلت وكالة فرانس برس. وكان الرئيس الأميركي وقع الأربعاء إعلانا يحظر دخول رعايا 12 دولة إلى الولايات المتحدة، سيدخل حيز التنفيذ في التاسع من يونيو الحالي، قائلا إن هذه الخطوة ضرورية لحماية البلاد من "الإرهابيين الأجانب" والتهديدات الأمنية الأخرى. وفرض القرار حظرا كامل على دخول رعايا من أفغانستان، ميانمار، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، إريتريا، هايتي، إيران، ليبيا، الصومال، السودان، زاليمن. فيما علق دخول المهاجرين والأشخاص الذين يحملون التأشيرات المؤقتة التالية من بوروندي، كوبا، لاوس، سيراليون، توجو، تركمانستان، فنزويلا. يذكر أن هذه ليست المرة الأولى، فخلال ولايته الأولى، فرض ترامب حظرا على المسافرين من سبع دول ذات أغلبية مسلمة، وهي السياسة التي خضعت لعدة تنقيحات قبل أن تؤيدها المحكمة العليا عام 2018.