logo
مريضةٌ أنا بالمَقتَلة

مريضةٌ أنا بالمَقتَلة

المدن٢٢-٠٤-٢٠٢٥

كان شهرًا بشعًا وغرائبيًا، ذلك الشهر الذي بدت فيه الحياة غامرةً هجينةً وتنغلق عليّ، في تناقض مع كرامات نيسان على البشر والطبيعة. سُمِّي بشهر Aperire في اللاتينيّة، أيّ "الشيء المتفتّح"، في إشارة إلى تفتح الأزهار والنبات. نيسان أوجّ الربيع وذروةَ اختمار الحياة بمباهجها وملذّاتها وشبقها المتجدّد وجانبها المشرق. بالنسبة إليّ، لم يكن الربيع هكذا.
إذن، لم يكن نيسان وحده بشعًا وغرائبيًا، بل كان الربيع ذاته كذلك، إذ استمرت فيه المقتلة. لا أعرف صراحةً ما الذي يجعل من المقتلة المتنقلة حولي، من سوريا إلى غزّة ولبنان وربّما أيضًا أفريقيا وأوكرانيا وغيرها، ذلك الأثر فيّ، تلك الوطأة العظيمة. لكن فكرة الموت المجّانيّ المباغت تثير في نفسي غثيانًا مستمرًّا. لا أرى شيئاً آخر في الصحف والتلفزيون وفي شاشة هاتفي: عناوين وصور جاحظة تحدّق بي هنا، وأنا أمشي في الشارع، وأنا أُحاول النوم عند ساعات الصباح الأولى، وأنا أعمل.
لم تكن لي علاقة قطّ بهذه المقتلة، غير أني لم أكُفّ عن التساؤل حول شعور المرء محترقًا حتى آخر شعرة في جسده، أو نازفًا في الطريق العامّ، أو متبخّرًا بصاروخ (أكتب وصوت الطيران الحربيّ في أذنيّ وفوق المبنى).
أساسًا، كانت بيروت في هذا الربيع كريهةً بما يكفي، أو ربّما أردتُها أن تكون كذلك. فما أن تنقضي ساعات الصباح الأولى—الّتي اتّقصد مؤخرًا النوم بعدها—حتى تتلاشى عذوبة الصبح الرائق، لتتحول المدينة المنتفخة بسكّانها ومصائبها إلى حفلةٍ ماجنة من التلوث السّمعيّ والاحتشاد والضجيج العشوائيّ الغامر. لكلّ من فيها ما يقوله وما يفعله في هذه المدينة "الموقوفة"، إلاّ أنا. ليس لديّ ما أقوله أو أفعله، أكتفي بامتصاص هذه الضجّة، بالتعفّن عند حافة المدينة، بتجشّم عناء البقاء، بالتحديق في وجه سوداويّتي المفرطة، كما تغمر عينا أمٍّ وجه طفلها.
واصلتُ، رغم ذلك، متابعة الأخبار، فهي عملي، حتّى باتت لا تبارح مخيّلتي. وعندما هممت بالكتابة ووصلت إلى هذا الحدّ، انتبهت بغتةٍ إلى مرور شهرين على مجزرة السّاحل السّوريّ، لكني أعيشها كأنّها حدثت توًا.
***
قالت له: "فشرت"، وهو يطأ بقدمه رأس ابنها المقتول. "فشرت" أخرى في وجه قاتلٍ آخر، "فشرت" رهيبة أخرى تتطاير من جمرة سوريا، "فشرت" فيها من السّعة ما يكفي لابتلاع العالم كلّه. نقطة أخرى في سيلٍ غزير من الدمّ والكلمات الذي يسحق هذا المشرق، هذا العالم العتيق: قافلةٌ سائبة، سيزيفيّة، من اللامعنى، من اللامعقول، من الكلمات السّائلة تحت سماءٍ لم تَرَ جديدًا منذ وقف الإنسان على قدميه للمرة الأولى، تحت سماءٍ لا نتوقّع منها جديدًا.
وجه القاتل الغضوب بلا سببٍ مُقنع، كلّما اقتربت منه الأم الثكلى، شتَمها، وخوَّنها وأبناء جلدتها القتلى. جاء صوته قاسياً كالقصدير وبلا أي عاطفة. يسألها مزدريًّا "هول ولادك؟"، يقترب من الجثّة التي بموازاة حذائه، مديرًا عدسة الكاميرا نحوها، مؤكّدًا فعله، غير مُتنصّلٍ منه، بلا أي حياء، فخورًا بشرّه بفجورٍ عنيد، بدناءةِ الجائعِ للدمّ حدّ التخمة، ببشاعةِ كلّ القتَلة منذ الإنسان الأوّل، والذين لا مُسوِّغ يجعل من فعلهم أقلّ حقارةً، أقلّ دمويّة.
لا وجه لكنان وسهيل ومحمد. لم أرَ وجوههم، لم أعرف من مات أوّلًا، ومَن شاهد مَن يموت أوّلًا. دقيقةٌ إلّا قليلًا هي مدّة الفيديو، لقطةٌ جامدة، لم أرَ فيها سوى جثثٍ لفظت أحشاءها خارجًا إلى عراء الشارع. وأمٌّ مفجوعة، بقلبها المفتوح إلى العراء، وهو ينزف دمًا وكلماتٍ تتلألأ بالدموع.
هكذا تأتي المذبحة، مروّعة، فادحةً، جهنميّة، غير شاعريّة. هكذا تأتي كقَدَرٍ لئيم، كقَدَرٍ فوق قَدَر، كأكداسٍ من الأقدار البشعة.
لم تفارق صورةُ أمّ أيمن ذاكرتي؛ لا أعلم لماذا هي بالذات. لا تشبه أمّي أو جدتي، ولا تربطني بها أي صلة، لكنها بقيت في الجزء الخلفيّ من رأسي، هنا وهناك، كأني أحمل جثث أولادها معي أينما وليت وجهي.
***
أدركت أنني لستُ على ما يرام في هذا الربيع.
أوّلًا، لأن فكرة هذا الموت المجّانيّ استحوذت عليّ، أنا الّتي لم تحظَ بقدرٍ وافٍ من العاطفة تجاه الموت قط. وثانيًا، بشرتي الشاحبة أساسًا ازدادت شحوبًا، وأغلى مساحيق التجميل لم تتمكن من تغطية هذا الترسّب العميق وهذه الهالة المصفرّة التي تلفّني. وثالثًا، عندما انتبهت إلى أني لازمتُ فراشي أسبوعًا كاملًا أو أكثر، لا أنهض سوى للاستحمام عرضيًا أو لإعداد القهوة. حتى الحانة التي أقصدها يوميًا، قاطعتُها، ولا أظنّ الروّاد انتبهوا لغيابي. كلٌّ في مصيبته. رابعًا، لأني شعرتُ بالسوء تجاه ما اشتريتُه مطلع هذا الشهر من فساتين زاهية الألوان وباهظة الثمن، وتركتها هناك، أراها تتدلى في خزانتي. إذا كان من شيء ينطق بالذنب، فكان ذلك الفستان الموشى بزهورٍ صفراء وأخرى برسيمونيّة، أبلغ ناطقٍ بذنبي. وأخيرًا، هذا الشعور بالوهن في عظامي وأسفل رأسي، وفي حلقي وعينيّ ويديّ وقلبي (ليس بطريقة شاعريّة). هذا الوهن الذي يربضُ بكل أذرعه فوق جسدي.
أعمل وأنام وأشعر بالوهن. يحلو لي أن أشبّه نفسي بحشرة كافكا، لكن هل ينقصني أيضًا أن أكون عينةً في متحف الكوابيس البشريّة؟
***
كان حريّاً بي أن أكون في أزهى فترات حياتي: صبيةٌ عشرينية صحافيّة، إلا أن كلّ النجاحات الصغيرة الّتي حصدتها بسعادة بالغة، استحالت عدمًا. لست أدري مَن أو ما أريد أن أكون.
أفكر في ذلك وأنا أنتظر نتائج فحوص الدمّ في بهو المستشفى الكئيب، حتّى قاطعني وجه الطبيب الشاب، وعيناه الشمعيتان مغلفتان بإنهاك وعتب وصدمة: "شو صاير عليك يا بنت؟" سألني بصوتٍ خفيض ليؤكد أنّ فحوصاتي سيئة، وأنّ الوهن هذا بسبب نقصٍ حادّ أو ارتفاعٍ حادّ في دمي من كلّ شيء. "ربما سكريّ، ربما شيءٌ في الغدد؛ تابعي فوراً مع طبيب مختصّ ولا تهملي نفسك وخذي الدواء"، قال بصرامة.
"شو صاير عليّ؟"، فعلًا "شو صاير عليّ؟" كيف أقول لهذا الوجه الشاب إنّ الحياة عاملتني بلطفٍ حتّى اللحظة، إلّا أن العالم ينهار حولي طوال الوقت؟ لم أُقتل في مجزرة، لكن المنفضة المملوءة أعقاب السّجائر بجانب سريري ستقتلني يومًا. كيف أقول له أنّي عندما أحسّ بهذا الوهن العظيم، أشعر براحةٍ بالغة، وأنّ شيئاً بداخلي يتلذّذ بعذاباتي المستمرة، كأني بعذابيّ الشخصيّ أُخفّف عن الشاب المسحوق على الأرض تحت قدم قاتله، موته.
حتمًا سيصفني الطبيب بالعتّه أو بالحساسيّة المفرطة حدّ الابتذال، وأنا شخصيّاً قد أوافقه. لكن هذا السّيناريو لن يحصل، لأنّي لم أتعلم كيف أواجه، وأعلم أنّي سأغرق في نوبة بكاءٍ عميق ويختنق صوتي، ولن أعرف كيف أُعبّر عن هذا السّأم المتربّص بي، كما السكريّ.
***
أبحلق بعينين واسعتين في الشاشة أمامي عندما هممتُ بالكتابة، خطر لي أني قد أتمكن من كتابة نصٍّ جيّدٍ ممتع مُجدٍ، فوجدتني أكتب عن الفراغ الذي يطمرني. والحال كذلك: أنّي أحاول جاهدةً ابتداع نصٍّ آخر، أمام بحرٍ من النصوص، لهو مُؤرِّقٌ أيّما أرق. وهذا الكومبيوتر أمامي يتذبذب بشاشته الزرقاء، غير مكترثٍ بهذا المخاض الشاقّ لنصٍّ جديد. لجوجٌ ومُلِحٌّ.
الآن، كيف أكتب عن شيءٍ مُجدٍ بلغةٍ وأسلوبٍ شيّق؟ أيّها الكومبيوتر الشاخص أمامي، أيُّ كلماتٍ جديدة؟ أيُّ ثيمةٍ غير مستهلكة؟ أيُّ كلماتٍ مُؤجَّلة تصلح؟ أتضرّع للسماء كي تتدخّل. أفتح صفحةً بيضاء، أكتب إنشاءً، في دوائر كبيرة وأخرى صغيرة، كأنّي أُنجز شيئًا بالكتابة أو بالتضرّع.
أعلم أنّ ذلك سيمضي، أو قد يعيش معي. هذا الفراغ أقصد. أو بالأحرى ما عدت أعرف شيئاً.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بعد شطب سلاف فواخرجي.. نقابة الفنانين في سوريا تسحب عضوية 4 فنانين من بينهم مطرب شهير
بعد شطب سلاف فواخرجي.. نقابة الفنانين في سوريا تسحب عضوية 4 فنانين من بينهم مطرب شهير

الديار

timeمنذ يوم واحد

  • الديار

بعد شطب سلاف فواخرجي.. نقابة الفنانين في سوريا تسحب عضوية 4 فنانين من بينهم مطرب شهير

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب أكدت نقابة الفنانين السوريين شطب عضوية 4 فنانين من جدول النقابة، استنادًا إلى قرار مجلس الفرع رقم 61. وجاء في البيان أن الأعضاء الذين تم شطب عضويتهم هم: أمل حويجة وميس حرب ونور مهنا ومحمد آل رشي. وأشار بيان نقابة الفنانين في سوريا إلى أن القرار بشطب عضوية 4 فنانين من جدول النقابة اتُخذ وفق المادة 40 من النظام الداخلي للنقابة والمادة 58 من القانون رقم 40 لعام 2019، بعد موافقة الجهات المعنية. وعللت النقابة القرار بصدور تصرفات من الأعضاء المذكورين لا تتماشى مع قيم ومبادئ العمل النقابي، وذلك بناءً على ما ورد في محضر الاستجواب المنعقد يوم الإثنين الماضي. ويُعتبر الفنان السوري نور مهنا من أبرز الفنانين الذين ساهموا في إحياء القدود الحلبية والأغاني الكلاسيكية. واشتهر بإعادة تقديم أغنية وحشتني لسعاد محمد، إلى جانب أعماله المميزة مثل ولا مرة كنا سوى من ألحان ملحم بركات، وأغنيات أخرى تركت بصمة بأسلوبه الكلاسيكي الفريد. وكانت نقابة الفنانين السوريين أصدرت في نيسان الماضي قرارًا بشطب قيد الفنانة سلاف فواخرجي من سجلاتها، وذلك بعد سلسلة من التصريحات المثيرة للجدل التي أدلت بها في الآونة الأخيرة، عبّرت فيها عن دعمها العلني للرئيس السوري السابق بشار الأسد. (العين الإخبارية)

تريبل اتش يصف أزمته الصحية الخطيرة بـ"الهدية" خلال مقابلة مؤثرة
تريبل اتش يصف أزمته الصحية الخطيرة بـ"الهدية" خلال مقابلة مؤثرة

Elsport

timeمنذ 6 أيام

  • Elsport

تريبل اتش يصف أزمته الصحية الخطيرة بـ"الهدية" خلال مقابلة مؤثرة

ظهر أسطورة WWE بول ليفاسك، المعروف باسم تريبل اتش، في مقابلة مؤثرة مع زوجته ​ستيفاني ماكمان​، حيث تحدّث بتأثر بالغ عن أزمته الصحية الخطيرة التي كادت تودي بحياته قبل أربع سنوات بسبب التهاب رئوي فيروسي ومشكلة جينية في القلب. وخلال اللقاء الذي عُرض ضمن برنامج "أماكن ستيفاني" على شبكة ESPN، وصف ليفاسك تلك التجربة بأنها كانت "هدية"، موضحًا: "في طريقة غريبة ومؤلمة، هذه المحنة جعلتني أرى الحياة من منظور مختلف". وأضاف: "يمكن أن تمضي في حياتك وأنت منشغل بكل شيء، ثم فجأة تدرك أن كل شيء يمكن أن يتوقف في لحظة". وقد حمل معه قطعة معدنية محفورة بعبارة Memento Mori، أي "قد تموت في أي لحظة"، كرمز دائم لتذكيره بقيمة كل يوم. وأشارت ستيفاني، التي تأثرت هي الأخرى، أنها لم تسمعه يعبر عن مشاعره بهذه الطريقة من قبل. اضطر تريبل اتش إلى إعلان اعتزاله النهائي من المصارعة بعد خضوعه لعملية زرع جهاز مزيل للرجفان في صدره، وهو الآن يواصل عمله في WWE كمدير تنفيذي للمحتوى، مشرفًا على العروض الإبداعية في راو وسماكداون. وقد تم تكريمه خلال احتفالات راسلمانيا 41 في نيسان الماضي بدخوله قاعة المشاهير بحضور أسرته وأصدقائه وزملائه، حيث قال: "أن أعيش تلك اللحظة وسط أشخاص رأيتهم يكبرون وينجحون، كان شعورًا لا يوصف".

مريضةٌ أنا بالمَقتَلة
مريضةٌ أنا بالمَقتَلة

المدن

time٢٢-٠٤-٢٠٢٥

  • المدن

مريضةٌ أنا بالمَقتَلة

كان شهرًا بشعًا وغرائبيًا، ذلك الشهر الذي بدت فيه الحياة غامرةً هجينةً وتنغلق عليّ، في تناقض مع كرامات نيسان على البشر والطبيعة. سُمِّي بشهر Aperire في اللاتينيّة، أيّ "الشيء المتفتّح"، في إشارة إلى تفتح الأزهار والنبات. نيسان أوجّ الربيع وذروةَ اختمار الحياة بمباهجها وملذّاتها وشبقها المتجدّد وجانبها المشرق. بالنسبة إليّ، لم يكن الربيع هكذا. إذن، لم يكن نيسان وحده بشعًا وغرائبيًا، بل كان الربيع ذاته كذلك، إذ استمرت فيه المقتلة. لا أعرف صراحةً ما الذي يجعل من المقتلة المتنقلة حولي، من سوريا إلى غزّة ولبنان وربّما أيضًا أفريقيا وأوكرانيا وغيرها، ذلك الأثر فيّ، تلك الوطأة العظيمة. لكن فكرة الموت المجّانيّ المباغت تثير في نفسي غثيانًا مستمرًّا. لا أرى شيئاً آخر في الصحف والتلفزيون وفي شاشة هاتفي: عناوين وصور جاحظة تحدّق بي هنا، وأنا أمشي في الشارع، وأنا أُحاول النوم عند ساعات الصباح الأولى، وأنا أعمل. لم تكن لي علاقة قطّ بهذه المقتلة، غير أني لم أكُفّ عن التساؤل حول شعور المرء محترقًا حتى آخر شعرة في جسده، أو نازفًا في الطريق العامّ، أو متبخّرًا بصاروخ (أكتب وصوت الطيران الحربيّ في أذنيّ وفوق المبنى). أساسًا، كانت بيروت في هذا الربيع كريهةً بما يكفي، أو ربّما أردتُها أن تكون كذلك. فما أن تنقضي ساعات الصباح الأولى—الّتي اتّقصد مؤخرًا النوم بعدها—حتى تتلاشى عذوبة الصبح الرائق، لتتحول المدينة المنتفخة بسكّانها ومصائبها إلى حفلةٍ ماجنة من التلوث السّمعيّ والاحتشاد والضجيج العشوائيّ الغامر. لكلّ من فيها ما يقوله وما يفعله في هذه المدينة "الموقوفة"، إلاّ أنا. ليس لديّ ما أقوله أو أفعله، أكتفي بامتصاص هذه الضجّة، بالتعفّن عند حافة المدينة، بتجشّم عناء البقاء، بالتحديق في وجه سوداويّتي المفرطة، كما تغمر عينا أمٍّ وجه طفلها. واصلتُ، رغم ذلك، متابعة الأخبار، فهي عملي، حتّى باتت لا تبارح مخيّلتي. وعندما هممت بالكتابة ووصلت إلى هذا الحدّ، انتبهت بغتةٍ إلى مرور شهرين على مجزرة السّاحل السّوريّ، لكني أعيشها كأنّها حدثت توًا. *** قالت له: "فشرت"، وهو يطأ بقدمه رأس ابنها المقتول. "فشرت" أخرى في وجه قاتلٍ آخر، "فشرت" رهيبة أخرى تتطاير من جمرة سوريا، "فشرت" فيها من السّعة ما يكفي لابتلاع العالم كلّه. نقطة أخرى في سيلٍ غزير من الدمّ والكلمات الذي يسحق هذا المشرق، هذا العالم العتيق: قافلةٌ سائبة، سيزيفيّة، من اللامعنى، من اللامعقول، من الكلمات السّائلة تحت سماءٍ لم تَرَ جديدًا منذ وقف الإنسان على قدميه للمرة الأولى، تحت سماءٍ لا نتوقّع منها جديدًا. وجه القاتل الغضوب بلا سببٍ مُقنع، كلّما اقتربت منه الأم الثكلى، شتَمها، وخوَّنها وأبناء جلدتها القتلى. جاء صوته قاسياً كالقصدير وبلا أي عاطفة. يسألها مزدريًّا "هول ولادك؟"، يقترب من الجثّة التي بموازاة حذائه، مديرًا عدسة الكاميرا نحوها، مؤكّدًا فعله، غير مُتنصّلٍ منه، بلا أي حياء، فخورًا بشرّه بفجورٍ عنيد، بدناءةِ الجائعِ للدمّ حدّ التخمة، ببشاعةِ كلّ القتَلة منذ الإنسان الأوّل، والذين لا مُسوِّغ يجعل من فعلهم أقلّ حقارةً، أقلّ دمويّة. لا وجه لكنان وسهيل ومحمد. لم أرَ وجوههم، لم أعرف من مات أوّلًا، ومَن شاهد مَن يموت أوّلًا. دقيقةٌ إلّا قليلًا هي مدّة الفيديو، لقطةٌ جامدة، لم أرَ فيها سوى جثثٍ لفظت أحشاءها خارجًا إلى عراء الشارع. وأمٌّ مفجوعة، بقلبها المفتوح إلى العراء، وهو ينزف دمًا وكلماتٍ تتلألأ بالدموع. هكذا تأتي المذبحة، مروّعة، فادحةً، جهنميّة، غير شاعريّة. هكذا تأتي كقَدَرٍ لئيم، كقَدَرٍ فوق قَدَر، كأكداسٍ من الأقدار البشعة. لم تفارق صورةُ أمّ أيمن ذاكرتي؛ لا أعلم لماذا هي بالذات. لا تشبه أمّي أو جدتي، ولا تربطني بها أي صلة، لكنها بقيت في الجزء الخلفيّ من رأسي، هنا وهناك، كأني أحمل جثث أولادها معي أينما وليت وجهي. *** أدركت أنني لستُ على ما يرام في هذا الربيع. أوّلًا، لأن فكرة هذا الموت المجّانيّ استحوذت عليّ، أنا الّتي لم تحظَ بقدرٍ وافٍ من العاطفة تجاه الموت قط. وثانيًا، بشرتي الشاحبة أساسًا ازدادت شحوبًا، وأغلى مساحيق التجميل لم تتمكن من تغطية هذا الترسّب العميق وهذه الهالة المصفرّة التي تلفّني. وثالثًا، عندما انتبهت إلى أني لازمتُ فراشي أسبوعًا كاملًا أو أكثر، لا أنهض سوى للاستحمام عرضيًا أو لإعداد القهوة. حتى الحانة التي أقصدها يوميًا، قاطعتُها، ولا أظنّ الروّاد انتبهوا لغيابي. كلٌّ في مصيبته. رابعًا، لأني شعرتُ بالسوء تجاه ما اشتريتُه مطلع هذا الشهر من فساتين زاهية الألوان وباهظة الثمن، وتركتها هناك، أراها تتدلى في خزانتي. إذا كان من شيء ينطق بالذنب، فكان ذلك الفستان الموشى بزهورٍ صفراء وأخرى برسيمونيّة، أبلغ ناطقٍ بذنبي. وأخيرًا، هذا الشعور بالوهن في عظامي وأسفل رأسي، وفي حلقي وعينيّ ويديّ وقلبي (ليس بطريقة شاعريّة). هذا الوهن الذي يربضُ بكل أذرعه فوق جسدي. أعمل وأنام وأشعر بالوهن. يحلو لي أن أشبّه نفسي بحشرة كافكا، لكن هل ينقصني أيضًا أن أكون عينةً في متحف الكوابيس البشريّة؟ *** كان حريّاً بي أن أكون في أزهى فترات حياتي: صبيةٌ عشرينية صحافيّة، إلا أن كلّ النجاحات الصغيرة الّتي حصدتها بسعادة بالغة، استحالت عدمًا. لست أدري مَن أو ما أريد أن أكون. أفكر في ذلك وأنا أنتظر نتائج فحوص الدمّ في بهو المستشفى الكئيب، حتّى قاطعني وجه الطبيب الشاب، وعيناه الشمعيتان مغلفتان بإنهاك وعتب وصدمة: "شو صاير عليك يا بنت؟" سألني بصوتٍ خفيض ليؤكد أنّ فحوصاتي سيئة، وأنّ الوهن هذا بسبب نقصٍ حادّ أو ارتفاعٍ حادّ في دمي من كلّ شيء. "ربما سكريّ، ربما شيءٌ في الغدد؛ تابعي فوراً مع طبيب مختصّ ولا تهملي نفسك وخذي الدواء"، قال بصرامة. "شو صاير عليّ؟"، فعلًا "شو صاير عليّ؟" كيف أقول لهذا الوجه الشاب إنّ الحياة عاملتني بلطفٍ حتّى اللحظة، إلّا أن العالم ينهار حولي طوال الوقت؟ لم أُقتل في مجزرة، لكن المنفضة المملوءة أعقاب السّجائر بجانب سريري ستقتلني يومًا. كيف أقول له أنّي عندما أحسّ بهذا الوهن العظيم، أشعر براحةٍ بالغة، وأنّ شيئاً بداخلي يتلذّذ بعذاباتي المستمرة، كأني بعذابيّ الشخصيّ أُخفّف عن الشاب المسحوق على الأرض تحت قدم قاتله، موته. حتمًا سيصفني الطبيب بالعتّه أو بالحساسيّة المفرطة حدّ الابتذال، وأنا شخصيّاً قد أوافقه. لكن هذا السّيناريو لن يحصل، لأنّي لم أتعلم كيف أواجه، وأعلم أنّي سأغرق في نوبة بكاءٍ عميق ويختنق صوتي، ولن أعرف كيف أُعبّر عن هذا السّأم المتربّص بي، كما السكريّ. *** أبحلق بعينين واسعتين في الشاشة أمامي عندما هممتُ بالكتابة، خطر لي أني قد أتمكن من كتابة نصٍّ جيّدٍ ممتع مُجدٍ، فوجدتني أكتب عن الفراغ الذي يطمرني. والحال كذلك: أنّي أحاول جاهدةً ابتداع نصٍّ آخر، أمام بحرٍ من النصوص، لهو مُؤرِّقٌ أيّما أرق. وهذا الكومبيوتر أمامي يتذبذب بشاشته الزرقاء، غير مكترثٍ بهذا المخاض الشاقّ لنصٍّ جديد. لجوجٌ ومُلِحٌّ. الآن، كيف أكتب عن شيءٍ مُجدٍ بلغةٍ وأسلوبٍ شيّق؟ أيّها الكومبيوتر الشاخص أمامي، أيُّ كلماتٍ جديدة؟ أيُّ ثيمةٍ غير مستهلكة؟ أيُّ كلماتٍ مُؤجَّلة تصلح؟ أتضرّع للسماء كي تتدخّل. أفتح صفحةً بيضاء، أكتب إنشاءً، في دوائر كبيرة وأخرى صغيرة، كأنّي أُنجز شيئًا بالكتابة أو بالتضرّع. أعلم أنّ ذلك سيمضي، أو قد يعيش معي. هذا الفراغ أقصد. أو بالأحرى ما عدت أعرف شيئاً.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store