المسرح وإشكالية التواصل!
منذ بدايات المسرح العالمي وبعد أن خرج من عباءة الدين في عصر النهضة، أصبح يعالج مشكلاته الاجتماعية والسياسية، حيث شعر القائمون عليه بحالة من النقص أو عدم الاكتمال.
هذا الشعور هو الذي دفعهم نحو التجديد والابتكار، فهناك حالة دفينة، بشيء يحرك الأحاسيس والوجدان، فانتفاء القدر الإغريقي في كتابات الكلاسيكيين الجدد جعلهم يبحثون عن قوى أخرى تحرك الأحداث والشخصيات، حيث كانت أفكار مسرحياتهم مستمدة من آلهة وأبطال الأساطير الإغريقية، ولكن الصراع أخذ فيها بعداً آخر فيما بعد، فأصبح بين العاطفة والواجب بدلاً من التصارع البشرى مع الآلهة. ومثلما حاول كتاب اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد الإيحاء بأن هناك قوى مسيطرة تنظم حركة الصراع وأسموها القوة القدرية أو (الأنا نكى)، حاول الكلاسيكيون الجدد الإيحاء بها أيضاً، ولكن بشيء من العدالة الشعرية، وجعلوا مصير البشر متعلق بخطاياهم مثلما نرى في كتابات (جان راسين 1639-1699) و(بيير كورني 1606-1684)، كما أن هذه الفترة شهدت تغييرات جوهرية استمد منها العالم روح التجديد والابتكار، فنرى "كورني" في مسرحية "السيد" يضرب بالقواعد الكلاسيكية عرض الحائط ليثير الرأي العام في ذلك الوقت ويحدث ضجة فكرية حتى عرض الأمر على الأكاديمية الفرنسية لتفصل في الخصومة، فألف المجمع اللغوي لجنة برئاسة الأديب الفرنسي "شابلان" لتقد يم تقرير مفصل عن مسرحية "السيد" أدانت فيه "كورني" بما أسموه الشطحات الفكرية والتمرد، الأمر الذي دعا "كورني" لكتابة بعض المقالات دفاعاً عن مسرحيته ويفند فيها رأي الأكاديمية.
ولقد أصبحت هذه المقالات وهذا التقرير أحد أبرع المراجع النقدية؛ والذي يثير التساؤل: ما الذي أوحى إلى "كورني" بالخروج عن هذه القواعد الكلاسيكية؟ إنه ذلك الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال!
ثم يتلوه تساؤل آخر، وهو ما الذي يدفع كاتباً مثل برانديللو أن يحاول جذب المتفرج إلى داخل الواقع من خلال التقاطع مع بعض مستويات الحقيقة، ويصبح المتفرج جزءاً من تكعيبية الطرح الفكري؟
إنه يجعل المتفرج جزءاً من الواقع المسرحي المعاش في لعبة المسرح داخل المسرحية، ذلك لأن "لويجي برانديللو 1867-1936"، لم يعد يشعر بذلك الدفء الذي يتواصل من خلاله مع الجمهور!
وبعيداً عن الخواء الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، نجد بر يخت يقدم لنا المذهب الملحمي الذي يسعي إلى دمج المرسل والمتلقي في حالة وجدانية واحدة، أو في حالة تفاعل جمعي، إنهم جميعاً يشعرون بهذا الإحساس بعدم الاكتمال الذي حاول كل رجال المسرح الغربي البحث عنه ومحاولة الوصول إلى حله.
ومن هنا شهد القرن العشرين محاولات عديدة لجعل المتفرج جزءاً إيجابياً في العرض المسرحي، وذلك لأغراض متعددة، وكانت معظم تلك المحاولات تقليداً لهذا التكنيك التكعيبي – أي تكنيك يحطم الحاجز الوهمي بين العمل الفني وواقعه المباشر دون أن تكون ترجمة لفلسفة التكعيبية.
ولقد حاول الكاتب الألماني بر يخت استثارة فكر المتفرج عن طريق تقنيات المسرح الملحمي الذي ألغي فيه عنصر التعاطف مع الشخصيات المسرحية أي التركيز على العقل، مما يشعرناً بتجاهله للوجدان إلا أن الملكات الوجدانية كالعواطف والمشاعر والانفعالات فرضت نفسها على هذا المسرح، فالملكات المعرفية كالذكاء والأحاسيس تضافرت مع الإرادة والحوافز والغرائز!
فالسكولاسيون -وهم فلاسفة العصور الوسطى- ليس لديهم تصنيف منفصل للظواهر الوجدانية، لأنهم يعتبرونها مجرد تحويرات للنشاطات المعرفية والنشاطات المثيرة، فعلى سبيل المثال لاحظوا بعض الخطر (المعرفي) فحاولوا تجنبه؛ أثناء الإدراك وكافحوا حتى لا نصبح متأثرين بالخوف. فتجربة مثل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) التي قدم فيها فلسفة أسلوب المدرسة التكعيبية، ويحاول أن يحطم التصور الفوتوغرافي للواقع ويعمل فيه فكره ليكشف لنا مستوياته المتعددة وعلاقاته المتشابكة، مؤكداً فكرة نسبية كل شيء، وفكرة استحالة المعني المطلق لأي شيء، فقدمها في صورة كوميديا تثير مشاعر الضحك كما تعمل على صدم المشاهد في واقعه مما يجعله يتعاطف وينفعل.
وفي محاولات (الفريد جاري) في البعد عن عرض الأفكار والقضايا الجادة لهدف تفريغ جميع الأفكار والقضايا من جديتها وإظهار عبثيتها، كان يرى عالم ما وراء الطبيعة كعالم مجهول من الظواهر العارضة، التي تفتقر إلى منطق ساخر من كل الفلسفات الميتافزيقية، وتأثر فيها إلى حد كبير بالرمزيين ولكنه يتميز عن الرمزيين بافتقاده للمعنى الكلي خلف ظواهر الطبيعة أي الإيمان بوجود عالم روحي!، "إنك عندما تقص قصة مفهومة فإنك تلقي عبئاً على العقل المتلقي وتفسد الذاكرة، ولكنك عندما تقص قصة لا تخضع لقواعد المنطق المألوفة فإنك تعطي العقل والذاكرة فرصة للتفكير الخلاق".
وهو رأي يدحض فلسفة الباتافيزيقا من حيث بعدها عن هذا العالم الروحي، لأنها تقدم ما لا يخضع لقواعد المنطق وبالتالي فإنها تعمل على إثارة فكر المتلقي.
ولقد انتفع (يوجين يونسكو 1909-1994) بالكثير من عناصر (السريالية) وإن كان يدين بالفضل ل(ألفريد جاري 1873-1907) والباتافيزيقين، فنجده يقول "إنني أؤمن بأن الفنان لا بد أن يمتلك خليطاً من التلقائية والدوافع اللاواعية وقدرة على الوصول إلى رؤية واضحة لا تخاف أي شيء، فيسمح الفنان لطوفان اللاوعي للانطلاق، ولكن بعد ذلك يأتي دور الفحص والتنظيم والفهم والاختيار لتحقيق العمل الفني الناجح. إنه يخاطب الملكات المعرفية والغرائزية الحسية محاولاً إعادة صياغة الواقع كما حاول الرمزيون أمثال (موريس ميترلنك 1862-1949) الإيحاء بتوقف وتعطيل الحركة الخارجية ونقل الحدث إلى الداخل إلى الوجدان كما في مسرحياته (الدخيل أو ولياس أو العميان).
لقد جاءت كل محاولات المسرح المعاصر من مسرح العبث، والغضب، والمسرح الحي، للتأكيد على أن النفس البشرية حياة كامنة وثريه مليئة بالمتناقضات ومخاطبة اللاوعي الإنساني الجماعي والتركيز عليه بدلاً من اللاوعي الفردي ورغبتها في التواصل، ولذا لجؤوا إلى التاريخ والعالم السحري والأسطورة وبكل أشكال التراث لتحدث هذه الحالة من التواصل!

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ يوم واحد
- العربية
المسـرح وإشكاليـة التواصـل!
لقد جاءت كل محاولات المسرح المعاصر من مسرح العبث، والغضب، والمسرح الحي، للتأكيد على أن النفس البشرية حياة كامنة وثرية مليئة بالمتناقضات ومخاطبة اللاوعي الإنساني الجماعي والتركيز عليه بدلاً من اللاوعي الفردي ورغبتها في التواصل.. منذ بدايات المسرح العالمي وبعد أن خرج من عباءة الدين في عصر النهضة، أصبح يعالج مشكلاته الاجتماعية والسياسية، حيث شعر القائمون عليه بحالة من النقص أو عدم الاكتمال. هذا الشعور هو الذي دفعهم نحو التجديد والابتكار، فهناك حالة دفينة، بشيء يحرك الأحاسيس والوجدان، فانتفاء القدر الإغريقي في كتابات الكلاسيكيين الجدد جعلهم يبحثون عن قوى أخرى تحرك الأحداث والشخصيات، حيث كانت أفكار مسرحياتهم مستمدة من آلهة وأبطال الأساطير الإغريقية، ولكن الصراع أخذ فيها بعداً آخر فيما بعد، فأصبح بين العاطفة والواجب بدلاً من التصارع البشرى مع الآلهة. ومثلما حاول كتاب اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد الإيحاء بأن هناك قوى مسيطرة تنظم حركة الصراع وأسموها القوة القدرية أو (الأنا نكى)، حاول الكلاسيكيون الجدد الإيحاء بها أيضاً، ولكن بشيء من العدالة الشعرية، وجعلوا مصير البشر متعلق بخطاياهم مثلما نرى في كتابات (جان راسين 1639-1699) و(بيير كورني 1606-1684)، كما أن هذه الفترة شهدت تغييرات جوهرية استمد منها العالم روح التجديد والابتكار، فنرى "كورني" في مسرحية "السيد" يضرب بالقواعد الكلاسيكية عرض الحائط ليثير الرأي العام في ذلك الوقت ويحدث ضجة فكرية حتى عرض الأمر على الأكاديمية الفرنسية لتفصل في الخصومة، فألف المجمع اللغوي لجنة برئاسة الأديب الفرنسي "شابلان" لتقد يم تقرير مفصل عن مسرحية "السيد" أدانت فيه "كورني" بما أسموه الشطحات الفكرية والتمرد، الأمر الذي دعا "كورني" لكتابة بعض المقالات دفاعاً عن مسرحيته ويفند فيها رأي الأكاديمية. ولقد أصبحت هذه المقالات وهذا التقرير أحد أبرع المراجع النقدية؛ والذي يثير التساؤل: ما الذي أوحى إلى "كورني" بالخروج عن هذه القواعد الكلاسيكية؟ إنه ذلك الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال! ثم يتلوه تساؤل آخر، وهو ما الذي يدفع كاتباً مثل برانديللو أن يحاول جذب المتفرج إلى داخل الواقع من خلال التقاطع مع بعض مستويات الحقيقة، ويصبح المتفرج جزءاً من تكعيبية الطرح الفكري؟ إنه يجعل المتفرج جزءاً من الواقع المسرحي المعاش في لعبة المسرح داخل المسرحية، ذلك لأن "لويجي برانديللو 1867-1936"، لم يعد يشعر بذلك الدفء الذي يتواصل من خلاله مع الجمهور! وبعيداً عن الخواء الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، نجد بر يخت يقدم لنا المذهب الملحمي الذي يسعي إلى دمج المرسل والمتلقي في حالة وجدانية واحدة، أو في حالة تفاعل جمعي، إنهم جميعاً يشعرون بهذا الإحساس بعدم الاكتمال الذي حاول كل رجال المسرح الغربي البحث عنه ومحاولة الوصول إلى حله. ومن هنا شهد القرن العشرين محاولات عديدة لجعل المتفرج جزءاً إيجابياً في العرض المسرحي، وذلك لأغراض متعددة، وكانت معظم تلك المحاولات تقليداً لهذا التكنيك التكعيبي – أي تكنيك يحطم الحاجز الوهمي بين العمل الفني وواقعه المباشر دون أن تكون ترجمة لفلسفة التكعيبية. ولقد حاول الكاتب الألماني بر يخت استثارة فكر المتفرج عن طريق تقنيات المسرح الملحمي الذي ألغي فيه عنصر التعاطف مع الشخصيات المسرحية أي التركيز على العقل، مما يشعرناً بتجاهله للوجدان إلا أن الملكات الوجدانية كالعواطف والمشاعر والانفعالات فرضت نفسها على هذا المسرح، فالملكات المعرفية كالذكاء والأحاسيس تضافرت مع الإرادة والحوافز والغرائز! فالسكولاسيون -وهم فلاسفة العصور الوسطى- ليس لديهم تصنيف منفصل للظواهر الوجدانية، لأنهم يعتبرونها مجرد تحويرات للنشاطات المعرفية والنشاطات المثيرة، فعلى سبيل المثال لاحظوا بعض الخطر (المعرفي) فحاولوا تجنبه؛ أثناء الإدراك وكافحوا حتى لا نصبح متأثرين بالخوف. فتجربة مثل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) التي قدم فيها فلسفة أسلوب المدرسة التكعيبية، ويحاول أن يحطم التصور الفوتوغرافي للواقع ويعمل فيه فكره ليكشف لنا مستوياته المتعددة وعلاقاته المتشابكة، مؤكداً فكرة نسبية كل شيء، وفكرة استحالة المعني المطلق لأي شيء، فقدمها في صورة كوميديا تثير مشاعر الضحك كما تعمل على صدم المشاهد في واقعه مما يجعله يتعاطف وينفعل. وفي محاولات (الفريد جاري) في البعد عن عرض الأفكار والقضايا الجادة لهدف تفريغ جميع الأفكار والقضايا من جديتها وإظهار عبثيتها، كان يرى عالم ما وراء الطبيعة كعالم مجهول من الظواهر العارضة، التي تفتقر إلى منطق ساخر من كل الفلسفات الميتافزيقية، وتأثر فيها إلى حد كبير بالرمزيين ولكنه يتميز عن الرمزيين بافتقاده للمعنى الكلي خلف ظواهر الطبيعة أي الإيمان بوجود عالم روحي!، "إنك عندما تقص قصة مفهومة فإنك تلقي عبئاً على العقل المتلقي وتفسد الذاكرة، ولكنك عندما تقص قصة لا تخضع لقواعد المنطق المألوفة فإنك تعطي العقل والذاكرة فرصة للتفكير الخلاق". وهو رأي يدحض فلسفة الباتافيزيقا من حيث بعدها عن هذا العالم الروحي، لأنها تقدم ما لا يخضع لقواعد المنطق وبالتالي فإنها تعمل على إثارة فكر المتلقي. ولقد انتفع (يوجين يونسكو 1909-1994) بالكثير من عناصر (السريالية) وإن كان يدين بالفضل لـ(ألفريد جاري 1873-1907) والباتافيزيقين، فنجده يقول "إنني أؤمن بأن الفنان لا بد أن يمتلك خليطاً من التلقائية والدوافع اللاواعية وقدرة على الوصول إلى رؤية واضحة لا تخاف أي شيء، فيسمح الفنان لطوفان اللاوعي للانطلاق، ولكن بعد ذلك يأتي دور الفحص والتنظيم والفهم والاختيار لتحقيق العمل الفني الناجح. إنه يخاطب الملكات المعرفية والغرائزية الحسية محاولاً إعادة صياغة الواقع كما حاول الرمزيون أمثال (موريس ميترلنك 1862-1949) الإيحاء بتوقف وتعطيل الحركة الخارجية ونقل الحدث إلى الداخل إلى الوجدان كما في مسرحياته (الدخيل أو ولياس أو العميان). لقد جاءت كل محاولات المسرح المعاصر من مسرح العبث، والغضب، والمسرح الحي، للتأكيد على أن النفس البشرية حياة كامنة وثريه مليئة بالمتناقضات ومخاطبة اللاوعي الإنساني الجماعي والتركيز عليه بدلاً من اللاوعي الفردي ورغبتها في التواصل، ولذا لجؤوا إلى التاريخ والعالم السحري والأسطورة وبكل أشكال التراث لتحدث هذه الحالة من التواصل!

سعورس
منذ 2 أيام
- سعورس
المسرح وإشكالية التواصل!
منذ بدايات المسرح العالمي وبعد أن خرج من عباءة الدين في عصر النهضة، أصبح يعالج مشكلاته الاجتماعية والسياسية، حيث شعر القائمون عليه بحالة من النقص أو عدم الاكتمال. هذا الشعور هو الذي دفعهم نحو التجديد والابتكار، فهناك حالة دفينة، بشيء يحرك الأحاسيس والوجدان، فانتفاء القدر الإغريقي في كتابات الكلاسيكيين الجدد جعلهم يبحثون عن قوى أخرى تحرك الأحداث والشخصيات، حيث كانت أفكار مسرحياتهم مستمدة من آلهة وأبطال الأساطير الإغريقية، ولكن الصراع أخذ فيها بعداً آخر فيما بعد، فأصبح بين العاطفة والواجب بدلاً من التصارع البشرى مع الآلهة. ومثلما حاول كتاب اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد الإيحاء بأن هناك قوى مسيطرة تنظم حركة الصراع وأسموها القوة القدرية أو (الأنا نكى)، حاول الكلاسيكيون الجدد الإيحاء بها أيضاً، ولكن بشيء من العدالة الشعرية، وجعلوا مصير البشر متعلق بخطاياهم مثلما نرى في كتابات (جان راسين 1639-1699) و(بيير كورني 1606-1684)، كما أن هذه الفترة شهدت تغييرات جوهرية استمد منها العالم روح التجديد والابتكار، فنرى "كورني" في مسرحية "السيد" يضرب بالقواعد الكلاسيكية عرض الحائط ليثير الرأي العام في ذلك الوقت ويحدث ضجة فكرية حتى عرض الأمر على الأكاديمية الفرنسية لتفصل في الخصومة، فألف المجمع اللغوي لجنة برئاسة الأديب الفرنسي "شابلان" لتقد يم تقرير مفصل عن مسرحية "السيد" أدانت فيه "كورني" بما أسموه الشطحات الفكرية والتمرد، الأمر الذي دعا "كورني" لكتابة بعض المقالات دفاعاً عن مسرحيته ويفند فيها رأي الأكاديمية. ولقد أصبحت هذه المقالات وهذا التقرير أحد أبرع المراجع النقدية؛ والذي يثير التساؤل: ما الذي أوحى إلى "كورني" بالخروج عن هذه القواعد الكلاسيكية؟ إنه ذلك الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال! ثم يتلوه تساؤل آخر، وهو ما الذي يدفع كاتباً مثل برانديللو أن يحاول جذب المتفرج إلى داخل الواقع من خلال التقاطع مع بعض مستويات الحقيقة، ويصبح المتفرج جزءاً من تكعيبية الطرح الفكري؟ إنه يجعل المتفرج جزءاً من الواقع المسرحي المعاش في لعبة المسرح داخل المسرحية، ذلك لأن "لويجي برانديللو 1867-1936"، لم يعد يشعر بذلك الدفء الذي يتواصل من خلاله مع الجمهور! وبعيداً عن الخواء الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، نجد بر يخت يقدم لنا المذهب الملحمي الذي يسعي إلى دمج المرسل والمتلقي في حالة وجدانية واحدة، أو في حالة تفاعل جمعي، إنهم جميعاً يشعرون بهذا الإحساس بعدم الاكتمال الذي حاول كل رجال المسرح الغربي البحث عنه ومحاولة الوصول إلى حله. ومن هنا شهد القرن العشرين محاولات عديدة لجعل المتفرج جزءاً إيجابياً في العرض المسرحي، وذلك لأغراض متعددة، وكانت معظم تلك المحاولات تقليداً لهذا التكنيك التكعيبي – أي تكنيك يحطم الحاجز الوهمي بين العمل الفني وواقعه المباشر دون أن تكون ترجمة لفلسفة التكعيبية. ولقد حاول الكاتب الألماني بر يخت استثارة فكر المتفرج عن طريق تقنيات المسرح الملحمي الذي ألغي فيه عنصر التعاطف مع الشخصيات المسرحية أي التركيز على العقل، مما يشعرناً بتجاهله للوجدان إلا أن الملكات الوجدانية كالعواطف والمشاعر والانفعالات فرضت نفسها على هذا المسرح، فالملكات المعرفية كالذكاء والأحاسيس تضافرت مع الإرادة والحوافز والغرائز! فالسكولاسيون -وهم فلاسفة العصور الوسطى- ليس لديهم تصنيف منفصل للظواهر الوجدانية، لأنهم يعتبرونها مجرد تحويرات للنشاطات المعرفية والنشاطات المثيرة، فعلى سبيل المثال لاحظوا بعض الخطر (المعرفي) فحاولوا تجنبه؛ أثناء الإدراك وكافحوا حتى لا نصبح متأثرين بالخوف. فتجربة مثل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) التي قدم فيها فلسفة أسلوب المدرسة التكعيبية، ويحاول أن يحطم التصور الفوتوغرافي للواقع ويعمل فيه فكره ليكشف لنا مستوياته المتعددة وعلاقاته المتشابكة، مؤكداً فكرة نسبية كل شيء، وفكرة استحالة المعني المطلق لأي شيء، فقدمها في صورة كوميديا تثير مشاعر الضحك كما تعمل على صدم المشاهد في واقعه مما يجعله يتعاطف وينفعل. وفي محاولات (الفريد جاري) في البعد عن عرض الأفكار والقضايا الجادة لهدف تفريغ جميع الأفكار والقضايا من جديتها وإظهار عبثيتها، كان يرى عالم ما وراء الطبيعة كعالم مجهول من الظواهر العارضة، التي تفتقر إلى منطق ساخر من كل الفلسفات الميتافزيقية، وتأثر فيها إلى حد كبير بالرمزيين ولكنه يتميز عن الرمزيين بافتقاده للمعنى الكلي خلف ظواهر الطبيعة أي الإيمان بوجود عالم روحي!، "إنك عندما تقص قصة مفهومة فإنك تلقي عبئاً على العقل المتلقي وتفسد الذاكرة، ولكنك عندما تقص قصة لا تخضع لقواعد المنطق المألوفة فإنك تعطي العقل والذاكرة فرصة للتفكير الخلاق". وهو رأي يدحض فلسفة الباتافيزيقا من حيث بعدها عن هذا العالم الروحي، لأنها تقدم ما لا يخضع لقواعد المنطق وبالتالي فإنها تعمل على إثارة فكر المتلقي. ولقد انتفع (يوجين يونسكو 1909-1994) بالكثير من عناصر (السريالية) وإن كان يدين بالفضل ل(ألفريد جاري 1873-1907) والباتافيزيقين، فنجده يقول "إنني أؤمن بأن الفنان لا بد أن يمتلك خليطاً من التلقائية والدوافع اللاواعية وقدرة على الوصول إلى رؤية واضحة لا تخاف أي شيء، فيسمح الفنان لطوفان اللاوعي للانطلاق، ولكن بعد ذلك يأتي دور الفحص والتنظيم والفهم والاختيار لتحقيق العمل الفني الناجح. إنه يخاطب الملكات المعرفية والغرائزية الحسية محاولاً إعادة صياغة الواقع كما حاول الرمزيون أمثال (موريس ميترلنك 1862-1949) الإيحاء بتوقف وتعطيل الحركة الخارجية ونقل الحدث إلى الداخل إلى الوجدان كما في مسرحياته (الدخيل أو ولياس أو العميان). لقد جاءت كل محاولات المسرح المعاصر من مسرح العبث، والغضب، والمسرح الحي، للتأكيد على أن النفس البشرية حياة كامنة وثريه مليئة بالمتناقضات ومخاطبة اللاوعي الإنساني الجماعي والتركيز عليه بدلاً من اللاوعي الفردي ورغبتها في التواصل، ولذا لجؤوا إلى التاريخ والعالم السحري والأسطورة وبكل أشكال التراث لتحدث هذه الحالة من التواصل!

سعورس
منذ 4 أيام
- سعورس
السفر عبر كابينة التعليق
إلى والدي.. الذي آمن بي معلقاً.. حفظك الله. "لا تثريب عليك"؛ فقد كنتَ تودّ لي شيئاً آخر، بينما أردتُ أنا أن أكون معلّقًا.. أطال الله عمرك. ها قد انتهى أول موسم لي كمعلّق، صادحًا بصوتي عبر الشاشة، معبّرًا وواصفًا بما يحلو لي من الكلمات، أقتبس من هذا الكتاب، وأقتنص تلك المعلومة... يا لها من تجربة! كل الشكر لوالدَيّ على دعائهما الدائم لي، فلولاه، بعد فضل الله، لما تحقق شيء. وكل الشكر لجميع المسؤولين في قنوات أبوظبي الرياضية، وعلى رأسهم: الأستاذ يعقوب السعدي، والدكتور عدنان الحمادي، والأستاذ عمران محمد، والدكتور محمد البلوشي... ليس من السهل أبدًا أن تراهن على شبّان في مقتبل العمر (في مجال التعليق) ليظهروا على شاشة بحجم أبوظبي الرياضية، تلك التي لها ثقلها في الساحة، وقاعدتها الجماهيرية العريضة، وتاريخها الكبير في الإعلام الرياضي. يكفي أن تقول: "البريميرليغ عاش أبهى عصوره هنا!" وليس سهلًا كذلك أن تجعل الظهور الأول لهؤلاء الفتية عبر دوريّ بحجم الدوري الإيطالي؛ فأنصار هذا الدوري ذائقتهم صعبة، ومزاجهم كمزاج عجوزٍ تسعيني لا يقبل إلا بالكمال... لأنه اعتاد عليه. جمهور لا يتسامح مع الخطأ، ولا يُدخل جنة كرة القدم إلا المخضرمين فقط؛ ففي الكالتشيو لا مكان للمتطفلين. أنا سعيد بما قدمت، برفقة زملائي المعلّقين؛ فقد حرصنا على تقديم صورة تليق بالقناة أولًا، وبثقة المسؤولين ثانيًا، وبمحبي الكالتشيو ثالثًا، وبأنفسنا رابعًا. وما هذا إلا "غيضٌ من فيض"– أقولها واثقًا. أرى نفسي بعد انتهاء الموسم، وأسأل: ماذا تعلّمت؟ وفيمَ تغيّرت؟ شتّان بين تحضيري السابق للمباريات وتحضيري الآن! أستطيع القول بثقة: إنني أعلم اليوم أن المخرج سيضع الصورة على المدرب سبع مرات ، لذا يجب عليّ أن أحضّر سبع معلومات مختلفة لأُثري بها المشاهد... لقد تعلّمت الكثير، وما زلت أتعلم. أتذكر كلمات المعلق المصري الكبير بلال علام: "علّق لنفسك أولًا واستمتع، لكي تُمتِع". وكلمات الأستاذ الكبير عامر عبدالله: "سل الله القبول دائمًا، فإن أتى، فكل شيء بخير". وحديث المعلق القدير حازم عبدالسلام بنبرته الساخرة: "كابتن، هي مباراة مش معادلة كيميائية... سَهّلها تِسهل!" يا لها من عصارة خبرة! كانت رحلة ثرية أضافت لنا الكثير من المهارات، ولا شيء يطوّر المعلّق أكثر من الممارسة. تعمّقنا في إيطاليا ، وسافرنا إليها من كابينة التعليق. لمسنا الخيوط المتشابكة هناك بين الرياضة والفن والسياسة والاقتصاد؛ فكل ما في هذا الدوري يجبرك على ذلك، لا يمكنك أن تُحضّر لمباراة لاتسيو دون النظر في علاقة النسر بالتاريخ؛ فقد كانت الجيوش الرومانية تحمل النسر رايةً لها في المعارك، دالّة به على القوة. ويأتي دور المعلّق هنا في إيجاد الرابط، واختيار الوقت المناسب لإلقاء المعلومة، وتبسيطها للمشاهد قدر الإمكان. ما أجمل التعليق! وما أحلاه حين يكون عن إيطاليا! ولا يمكنك أن تذهب إلى جنوى –أحد أهم موانئ إيطاليا– دون الوقوف عند ملعب لويجي فيراريس، الذي سُمي بهذا الاسم تكريمًا للّاعب لويجي فيراريس، الذي مثّل نادي جنوى ومات في الحرب العالمية الثانية. سُمي الملعب تخليدًا لاسمه، بل إن بعض الروايات تقول إنه نال وسام الشجاعة، ودُفن الوسام تحت أرضية الملعب! لا انفكاك عن السياسة والتاريخ في إيطاليا ، حتى في ملاعبها. كثيرة هي المشاهد، ولو أردتُ حصرها لملأت الصحف، ولجفّت الأقلام. كانت رحلة ممتعة في إيطاليا ، وها نحن نغادر كبائن التعليق مع نهاية الموسم. أحببتُ إيطاليا ، ويمكنني الآن العودة إليها والتجوال في شوارعها دون الحاجة إلى "Google Maps"! هل تريدني أن أصف لك أين يقع بيت أنطونيو كونتي؟ *معلق قنوات في قنوات أبوظبي أحمد الخير