الحج بين المقاصد الربانية والممارسات المعاصرة: حين يتجمّل الطقس وتتوارى الروح
اقتراب موسم الحج، تتجدد المشاهد السنوية التي تجمع ملايين المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها. تفيض الشوارع البيضاء بالأجساد، وتصدح الألسنة بالتلبية، وتعلو الكاميرات فوق الأكتاف. في الصورة، يبدو كل شيء على ما يرام؛ أمة موحّدة في الحركة، متناسقة في الزي، متراصّة في الطريق إلى الله.
لكن، حين نحفر تحت السطح قليلًا، يبرز سؤال حارق: هل هذه الجموع حجّت فعلًا، أم فقط أدّت شعائر؟ هل تلبّينا من القلب؟
الحج، كما أراده الله، كان رحلة في الاتجاهين: إلى البيت الحرام، وإلى الداخل. كان المراد أن يغتسل القلب كما يغتسل الجسد، وأن يعود الحاج كما وُلدته أمه، لا من حيث الخطايا فقط، بل من حيث الصفاء، والبساطة، والخضوع.
غير أن ما نراه اليوم يقول غير ذلك. المقاصد السامية تاهت وسط الزحام. كأن شيئًا من روعة المناسك قد تسرّب من بين الأصابع، وكأنّ أرواحًا كثيرة حجّت، لكنها لم تتحرّك.
فريضة الحج شُرعت لتزرع في المسلم التوحيد الخالص، لتذكّره بهشاشته، لتسوّي بينه وبين سائر الخلق. هناك، في الإحرام، تتساوى الألقاب وتذوب الفوارق، فلا يبقى سوى إنسان مجرّد يقف أمام الله في عرفة، بكل ما يحمله من ضعف، وذنب، وأمل في الغفران.
لكن ماذا ترى اليوم؟
الحج الذي يُفترض أن يكون مؤتمرًا للوحدة، بات أحيانًا ساحة للفرقة. تنقسم المجموعات وفق الجنسيات، وتُرفع الأعلام، ويصبح النداء الذي كان: «أمة واحدة» مجرّد لافتة معلّقة على جدار، خلفه قلوب لا تزال متعصبة، متنافرة، متباعدة.
ثم إن الجهل بالمقاصد جعل كثيرًا من الحجاج يُمارسون الحج كمهمة روحية سريعة. يُطوف، يسعى، يرمي الجمار، لكن لا يتوقف ليسأل: ماذا يعني أن أطوف؟ لمَ أسعى؟ ما الذي أرجم؟ الفعل يُؤدى بإتقان جسدي، لكن الوعي غائب، والنية مشوشة، والتأمل ضائع في زحمة الواجبات الميكانيكية.
هكذا، يتحول الحج من فرصة للتغيير، إلى محطة لا تترك أثرًا، من عبادة بحجم السماء إلى طقس بحجم التقويم، يُمارَس ثم يُنسى.
وهذا هو مكمن الخطر: أن نفقد روح الشعيرة بينما نحافظ على شكلها. أن نعود من مكة دون أن نغادر أنفسنا، أن نقف بعرفة دون أن نعرف أنفسنا، أن نرجم الجمرات دون أن نرجم ما هو أحقّ بالهدم في داخلنا.
إن الحج، حين يُفرغ من مقاصده، يصبح مرآة لواقع الأمة نفسها. أمة تتقن الطقوس وتضيّع المعنى، تجتمع على الصلاة وتتنازع في الأرض، تحجّ إلى الله ثم تعود إلى شهواتها كما هي، دون تحوّل أو مراجعة.
فهل نحن بحاجة إلى تطوير الخدمات؟ نعم.
لكننا بحاجة قبل ذلك إلى تجديد النية، وإعادة وصل الحاج بالله.
نحتاج إلى خطاب لا يكتفي بشرح عدد الأشواط، بل يفسّر لماذا نسير أصلًا. نحتاج إلى أنسنة المناسك، وإعادة ضخ الحياة في شعائر اختنقت تحت طبقات من العادة، والترف، والاستعراض.
الحج الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور، بل بمدى التحول. لا يُحتفل به عند العودة، بل يُثبت فيك عندما تعود فلا تعود كما كنت.
في النهاية، يبقى الحج، كما الإسلام كله، دعوة لا لأداء العبادة فحسب، بل للعيش بها وبعدها. فمن لم يتغير في الحج، لم يحج. ومن لم يلقَ الله بقلب سليم، فقد سار طويلًا، لكنه لم يصل.
فهل نعيد للحج روحه؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

السوسنة
منذ ساعة واحدة
- السوسنة
أليساندرو يخطب بالعربية
وقفَ الشَّابُّ الإيطالي على المنصة أمامَ مكبر الصَّوت. ألقى خطاباً ترحيبياً باللغة العربية جديراً بحسدِ أفضل الخطباء. لم يخطئْ في كلمة. لم يتلكَّأْ في جملة. لم يحرّف خاءً أو ضاداً أو عيناً. نطقها كلَّها كمَا يَجِبُ. وكانتْ قلوبُ المستمعين من الروائيين والشعراء والأكاديميين تنبضُ فرحاً.أليساندرو فوتيا طالب في سنتِه الرابعةِ في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو. والمناسبةُ هي الحفلُ الموسيقي الذي أقيم ضمنَ مهرجان اللغة والثقافة العربية. إنَّها الدورةُ الثامنةُ من هذا الملتقى الذي تساهم في استمراره «هيئةُ الشارقة للكتاب». وموضوعُ الدورةِ «اللسان المهاجر».دُعيتُ لندوةٍ عنوانُها «الإقامةُ في لغةِ الآخر». وجدتُ هذا الطالبَ يستقبلني في المطار ويقدّم نفسَه لي باسم إسكندر. أدهشني حديثُه السَّلِسُ بالعربيَّةِ الفُصحَى وزادَ من دهشتي سؤالُه عن اللهجات التي أفهمها. ففي لغتِنا مروحةٌ واسعةٌ من عشرات اللهجاتِ المحكيَّةِ، من طنجةَ إلى حضرَموتَ. اكتشفتُ أنَّ الشَّابَّ الإيطاليَّ النَّابهَ يجيدُ التَّمييزَ بينَ اللهجةِ المصريَّةِ وبينَ الشاميَّةِ، ويستطيعُ التحادثَ بهما.لن أتحدَّثَ هنا عن فرقةِ الكورال بقيادةِ هاني جرجي التي نقلتنا في مُركَّبٍ عذبٍ ما بين فيروزَ ومنير بشير وعمر خيرت وفريد الأطرش وشادية و«إن راح منك يا عين... هيروح من قلبي فين». تلك حكايةٌ تحتاجُ وقفة خاصة. لكن من الواجب تقديم التحية للمشرفين على معهد الثقافة واللغة العربية في ميلانو. يقوده الدكتور وائل فاروق. ما الذي جاء بهذا الشابِ المصري المسلم للتدريس في جامعة كاثوليكية تعلق الصلبان في قاعاتها؟الجواب نقرأه فيما كتبه فاروق مؤخراً بمناسبة رحيلِ صديقه وأستاذه العلامة كريستيان فان نسبن. وهو راهب هولندي درس الفلسفة َالإسلامية في جامعة عين شمس قبل نصف قرن وقدَّم أطروحةَ دكتوراه في السوربون حول «مفهوم سننِ الله في تفسير القرآن الكريم». كانَ صديقاً مقرباً لعدد من أساتذة الأزهر، يدخل بيوتَهم ويأكلون على مائدته. كانَ يتقاسم مرتَّبَه مع عدد من الأسر المتعففة.كانَ الهولنديُّ كريستيان فان نسبن العضوَ الأجنبيَّ الوحيدَ في الجمعيةِ الفلسفيّة المصريّة، وفي المجلسِ الأعلى للثقافة. وعندما دُعي، عام 2002، للتَّدريس في السوربون، طَلبَ من زميلِه المصري أن يحلَّ مكانَه في الكُليَّةِ القبطية الكاثوليكية للعلوم الدينية. ومن هناك انتقل البروفسور وائل فاروق إلى ميلانو وجامعة القلب الأقدس.لم يكن أليساندرو وحدَه من شارك في الغناءِ ونشر في يوميات المؤتمر بهجة إضافية. كانَ بصحبة فريق من زملائه طلاب العربية وطالباتها. شابات وشبان كالورد، تطوَّعوا لمرافقة الضيوف والترجمة لهم وتسهيل تنقلاتهم في أروقة تاريخية لصرح عريق شيَّده مهندسٌ شهير قبل قرون. مبانٍ وحدائق يتنفس التاريخ في حجارة مبانيها، تردَّدت في قاعتها الكبرى قبل أيام أصوات تنشد: «طلعَ البدرُ علينا». متحف مفتوح تسمع فيه زقزقةَ اختلاط العربيةِ بالإيطالية. كم يبدو العالمُ مختلفاً حين يتفاهمُ ويَشْطُبُ التَّطرُّفَ من قاموسِه.


جفرا نيوز
منذ ساعة واحدة
- جفرا نيوز
بحضور أصحاب المعالي و رجال الدولة .. الشيخ يقيم حفل زفاف نجله أحمد (صور)
جفرا نيوز - تصوير جمال فخيده أقام سعادة النائب السابق الدكتور زكريا الشيخ مساء يوم أمس حفل زفاف نجله أحمد بحضور لفيف من أصحاب السعادة و العطوفة و شيوخ و وجهاء من العشائر الأردنية في فندق الرويال عمان. حيث حضر عدد غفي من أصحاب المعالي و السعادة و العطوفة و شيوخ و وجهاء العشائر الأردنية و الزملاء الصحفيين و الإعلاميين . أسرة جفرا نيوز و إذاعة ميلودي ممثلة برئيس مجلس إدارة الأستاذ نضال الفراعنه تتقدم بأسمى آيات الهنئة و التبريكات للعائلتين؛ سائلين المولى عز وجل أن يجعل الأفراح و السعادة حليفة العائلتين ان شاء الله .

الدستور
منذ 4 ساعات
- الدستور
الدستور تستذكر احتفالات 1946 بالمناسبة
عمان - محمود كريشان تشير المعلومات الى ان الاحتفال بعيد الاستقلال الذي جرى سنة 1946 يعد من اعظم الاحتفالات التي اقيمت؛ إذ اقيمت الزينات والدبكات واقواس النصر، وقدمت وفود الى عمان من مختلف مناطق امارة شرقي الأردن، ومن بعض الدول العربية الشقيقة للمشاركة بذلك ولتقديم التهنئة للملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين طيب الله ثراه، إذ اقامت بلدية عمان سنة 1946 حفلة بمناسبة الاستقلال في سينما البترا برعاية الملك عبدالله الاول، وافتتحت الحفلة بنشيد الشباب ، والقى رئيس البلدية كمال الجيوسي كلمة بالمناسبة ، وتخلل الحفل فقرات موسيقية ورقصات شركسية ، ثم اختتم الاحتفال بكلمة القاها جلالة الملك المؤسس عبدالله الأول. وقد أوردت الدكتورة حنان ملكاوي في كتابها «عمان دراسة تاريخية» حول عيد الاستقلال: كانت الحكومة قد اعدت الترتيبات اللازمة لإقامة الوفود التي حضرت للمشاركة في احتفالات الامارة بالاستقلال سنة 1946، اذ حجزت فندق فيلادلفيا وطلبت من بعض الشيوخ والوجهاء في مدينة عمان من امثال: مثقال باشا الفايز وواصف باشا البشارات واسماعيل بك البلبيسي وصبري الطباع اعداد بيوتهم (الشبيهة بالقصور) لاستقبال الوافدين ايضاً.. اذ كانت مدينة عمان آنذاك تفتقر الى الفنادق الكبيرة والمباني المناسبة لاقامة واستيعاب تلك الوفود. وورد في كتاب «سيرة مدينة» لمؤلفه الراحل عبدالرحمن منيف: ان فرحة اهالي عمان بالاستقلال الوطني سنة 1946 كانت كبيرة وقد وصفها قائلا: كانت وجوه الناس وتصرفاتهم اقرب الى وجوه براءة الاطفال وتصرفاتهم؛ اذ يضحكون وبعض الاحيان يبكون.. وقال الذين ذهبوا الى الرصيفة وربما ماركا انهم لم يروا في حياتهم وليمة مثل تلك التي اقيمت هناك سواء بعدد الخراف التي ذبحت او الاهازيج التي ظلت تردد في جنبات الوادي.. وقالوا ان رصاصاً غزيرا اطلق في ذلك اليوم وان فرحة الاهالي واحتفالاتهم المتنوعة بالاستقلال انما هي تعبير اكيد وصادق في رغبة الشعب ووعيهم باهمية التخلص من الانتداب البريطاني. الى ذلك.. جاء في كتاب «محطة عمان» لمؤلفه الطبيب العماني العريق الدكتور موفق خزنة كاتبي ان احداث مفرحة حدثت في المحطة/ ماركا في الاربعينيات ومنها مثلاً ما يلي: حفل تتويج الأمير عبدالله الأول ابن الحسين ملكاً على الأردن باسم ملك المملكة الأردنية الهاشمية، وكانت الحفلة في ماركا حيث اقيم عرض عسكري كبير، وكان الملك المؤسس عبدالله الاول طيب الله ثراه يقف في سيارة بيضاء مكشوفة أظنها باقية الى الآن، ويقف بجانبه الأمير عبدالاله الوصي على عرش العراق، وكان الحفل في موقع المطار المدني الحالي. ويضيف كاتبي: ولما كانت المحطة الطريق الوحيد الى ماركا فقد ازدحمت المحطة بالناس الآتين من كل صوب وانتشر الباعة المتجولون ووضع سكان حارة المعانية واصحاب الدكاكين جرار الماء الباردة لتسقي العطشى من الناس العائدين من مشاهدة الاحتفال.. وكنت أنا واهلي ممن ذهبوا الى مكان الاحتفال، ولما كنت طفلاً واحمل كاميرا تصوير خاصة لي فقد سمحوا لي ان ادخل واقترب من السيارة الملكية، وهكذا وقفت بجانب السيارة والتقطت بعض الصور التي ما زلت احتفظ بها الى الآن للملك والأمير .. وكنت وقتها افاخر بها زملائي في المدرسة. وفي هذا المجال، يقول فؤاد البخاري في كتابه «عمان ذاكرة الزمن الجميل» : كانت عمان على موعد مع الاحتفالات الاكثر بهجة وروعة، وذلك حين احتفلت باستقلال الاردن يوم 25 أيار عام 1946 فكانت مشاركة الناس كثيفة.. وقد تبارى تجار العاصمة يومها جميعاً في تزيين المدينة الفتية، حتى بدت في ابهى حلى ترتديها منذ نشوء الامارة.. وكان في مقدمة الافراح والاحتفالات تلك العراضات الشامية المعروفة وحلقات الدبكة والاهازيج الشعبية المؤثرة في القلوب والارواح. في غضون ذلك يقول المسؤول في جمعية الفيحاء الخيرية وأحد وجهاء وتجار عمان القديمة مازن عبدالرزاق الشربجي، ان كبار تجار شوام عمان كانوا يقومون باقامة اقواس النصر امام متاجرهم وهي مزينة برايات الاردن وصور جلالة الملك، وكانت فرقة موسيقات القوات المسلحة الاردنية تجوب شوارع قاع المدينة وهي تقدم مقطوعات موسيقية وطنية وكانت كواكب الخيول التي يمتطيها فرسان من الجيش العربي تسير في وسط البلد وسط حشود شعبية كبيرة. من جانبه قال مجدي الحمصي من شوام عمان ويعمل «تاجر» قهوة في شارع الرضا ان تجار عمان وكبار الوجهاء كانوا يقومون بعمل اقواس النصر على امتداد شوارع وسط البلد وقد زينت بالاعلام الاردنية وصور جلالة الملك، بالاضافة لقيام المدارس ومن ضمنها مدارس الاقصى بترتيب مسيرة سيارات مزينة يشرف عليها مدير المدارس المرحوم الشاعر والمربي الفاضل يوسف العظم، حيث تجوب المسيرة مناطق عمان كاملة وتلقي الاناشيد الوطنية بهذه المناسبة السعيدة.