#أحدث الأخبار مع #حارقالدستورمنذ 17 ساعاتترفيهالدستورالحج بين المقاصد الربانية والممارسات المعاصرة: حين يتجمّل الطقس وتتوارى الروحاقتراب موسم الحج، تتجدد المشاهد السنوية التي تجمع ملايين المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها. تفيض الشوارع البيضاء بالأجساد، وتصدح الألسنة بالتلبية، وتعلو الكاميرات فوق الأكتاف. في الصورة، يبدو كل شيء على ما يرام؛ أمة موحّدة في الحركة، متناسقة في الزي، متراصّة في الطريق إلى الله. لكن، حين نحفر تحت السطح قليلًا، يبرز سؤال حارق: هل هذه الجموع حجّت فعلًا، أم فقط أدّت شعائر؟ هل تلبّينا من القلب؟ الحج، كما أراده الله، كان رحلة في الاتجاهين: إلى البيت الحرام، وإلى الداخل. كان المراد أن يغتسل القلب كما يغتسل الجسد، وأن يعود الحاج كما وُلدته أمه، لا من حيث الخطايا فقط، بل من حيث الصفاء، والبساطة، والخضوع. غير أن ما نراه اليوم يقول غير ذلك. المقاصد السامية تاهت وسط الزحام. كأن شيئًا من روعة المناسك قد تسرّب من بين الأصابع، وكأنّ أرواحًا كثيرة حجّت، لكنها لم تتحرّك. فريضة الحج شُرعت لتزرع في المسلم التوحيد الخالص، لتذكّره بهشاشته، لتسوّي بينه وبين سائر الخلق. هناك، في الإحرام، تتساوى الألقاب وتذوب الفوارق، فلا يبقى سوى إنسان مجرّد يقف أمام الله في عرفة، بكل ما يحمله من ضعف، وذنب، وأمل في الغفران. لكن ماذا ترى اليوم؟ الحج الذي يُفترض أن يكون مؤتمرًا للوحدة، بات أحيانًا ساحة للفرقة. تنقسم المجموعات وفق الجنسيات، وتُرفع الأعلام، ويصبح النداء الذي كان: «أمة واحدة» مجرّد لافتة معلّقة على جدار، خلفه قلوب لا تزال متعصبة، متنافرة، متباعدة. ثم إن الجهل بالمقاصد جعل كثيرًا من الحجاج يُمارسون الحج كمهمة روحية سريعة. يُطوف، يسعى، يرمي الجمار، لكن لا يتوقف ليسأل: ماذا يعني أن أطوف؟ لمَ أسعى؟ ما الذي أرجم؟ الفعل يُؤدى بإتقان جسدي، لكن الوعي غائب، والنية مشوشة، والتأمل ضائع في زحمة الواجبات الميكانيكية. هكذا، يتحول الحج من فرصة للتغيير، إلى محطة لا تترك أثرًا، من عبادة بحجم السماء إلى طقس بحجم التقويم، يُمارَس ثم يُنسى. وهذا هو مكمن الخطر: أن نفقد روح الشعيرة بينما نحافظ على شكلها. أن نعود من مكة دون أن نغادر أنفسنا، أن نقف بعرفة دون أن نعرف أنفسنا، أن نرجم الجمرات دون أن نرجم ما هو أحقّ بالهدم في داخلنا. إن الحج، حين يُفرغ من مقاصده، يصبح مرآة لواقع الأمة نفسها. أمة تتقن الطقوس وتضيّع المعنى، تجتمع على الصلاة وتتنازع في الأرض، تحجّ إلى الله ثم تعود إلى شهواتها كما هي، دون تحوّل أو مراجعة. فهل نحن بحاجة إلى تطوير الخدمات؟ نعم. لكننا بحاجة قبل ذلك إلى تجديد النية، وإعادة وصل الحاج بالله. نحتاج إلى خطاب لا يكتفي بشرح عدد الأشواط، بل يفسّر لماذا نسير أصلًا. نحتاج إلى أنسنة المناسك، وإعادة ضخ الحياة في شعائر اختنقت تحت طبقات من العادة، والترف، والاستعراض. الحج الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور، بل بمدى التحول. لا يُحتفل به عند العودة، بل يُثبت فيك عندما تعود فلا تعود كما كنت. في النهاية، يبقى الحج، كما الإسلام كله، دعوة لا لأداء العبادة فحسب، بل للعيش بها وبعدها. فمن لم يتغير في الحج، لم يحج. ومن لم يلقَ الله بقلب سليم، فقد سار طويلًا، لكنه لم يصل. فهل نعيد للحج روحه؟
الدستورمنذ 17 ساعاتترفيهالدستورالحج بين المقاصد الربانية والممارسات المعاصرة: حين يتجمّل الطقس وتتوارى الروحاقتراب موسم الحج، تتجدد المشاهد السنوية التي تجمع ملايين المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها. تفيض الشوارع البيضاء بالأجساد، وتصدح الألسنة بالتلبية، وتعلو الكاميرات فوق الأكتاف. في الصورة، يبدو كل شيء على ما يرام؛ أمة موحّدة في الحركة، متناسقة في الزي، متراصّة في الطريق إلى الله. لكن، حين نحفر تحت السطح قليلًا، يبرز سؤال حارق: هل هذه الجموع حجّت فعلًا، أم فقط أدّت شعائر؟ هل تلبّينا من القلب؟ الحج، كما أراده الله، كان رحلة في الاتجاهين: إلى البيت الحرام، وإلى الداخل. كان المراد أن يغتسل القلب كما يغتسل الجسد، وأن يعود الحاج كما وُلدته أمه، لا من حيث الخطايا فقط، بل من حيث الصفاء، والبساطة، والخضوع. غير أن ما نراه اليوم يقول غير ذلك. المقاصد السامية تاهت وسط الزحام. كأن شيئًا من روعة المناسك قد تسرّب من بين الأصابع، وكأنّ أرواحًا كثيرة حجّت، لكنها لم تتحرّك. فريضة الحج شُرعت لتزرع في المسلم التوحيد الخالص، لتذكّره بهشاشته، لتسوّي بينه وبين سائر الخلق. هناك، في الإحرام، تتساوى الألقاب وتذوب الفوارق، فلا يبقى سوى إنسان مجرّد يقف أمام الله في عرفة، بكل ما يحمله من ضعف، وذنب، وأمل في الغفران. لكن ماذا ترى اليوم؟ الحج الذي يُفترض أن يكون مؤتمرًا للوحدة، بات أحيانًا ساحة للفرقة. تنقسم المجموعات وفق الجنسيات، وتُرفع الأعلام، ويصبح النداء الذي كان: «أمة واحدة» مجرّد لافتة معلّقة على جدار، خلفه قلوب لا تزال متعصبة، متنافرة، متباعدة. ثم إن الجهل بالمقاصد جعل كثيرًا من الحجاج يُمارسون الحج كمهمة روحية سريعة. يُطوف، يسعى، يرمي الجمار، لكن لا يتوقف ليسأل: ماذا يعني أن أطوف؟ لمَ أسعى؟ ما الذي أرجم؟ الفعل يُؤدى بإتقان جسدي، لكن الوعي غائب، والنية مشوشة، والتأمل ضائع في زحمة الواجبات الميكانيكية. هكذا، يتحول الحج من فرصة للتغيير، إلى محطة لا تترك أثرًا، من عبادة بحجم السماء إلى طقس بحجم التقويم، يُمارَس ثم يُنسى. وهذا هو مكمن الخطر: أن نفقد روح الشعيرة بينما نحافظ على شكلها. أن نعود من مكة دون أن نغادر أنفسنا، أن نقف بعرفة دون أن نعرف أنفسنا، أن نرجم الجمرات دون أن نرجم ما هو أحقّ بالهدم في داخلنا. إن الحج، حين يُفرغ من مقاصده، يصبح مرآة لواقع الأمة نفسها. أمة تتقن الطقوس وتضيّع المعنى، تجتمع على الصلاة وتتنازع في الأرض، تحجّ إلى الله ثم تعود إلى شهواتها كما هي، دون تحوّل أو مراجعة. فهل نحن بحاجة إلى تطوير الخدمات؟ نعم. لكننا بحاجة قبل ذلك إلى تجديد النية، وإعادة وصل الحاج بالله. نحتاج إلى خطاب لا يكتفي بشرح عدد الأشواط، بل يفسّر لماذا نسير أصلًا. نحتاج إلى أنسنة المناسك، وإعادة ضخ الحياة في شعائر اختنقت تحت طبقات من العادة، والترف، والاستعراض. الحج الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور، بل بمدى التحول. لا يُحتفل به عند العودة، بل يُثبت فيك عندما تعود فلا تعود كما كنت. في النهاية، يبقى الحج، كما الإسلام كله، دعوة لا لأداء العبادة فحسب، بل للعيش بها وبعدها. فمن لم يتغير في الحج، لم يحج. ومن لم يلقَ الله بقلب سليم، فقد سار طويلًا، لكنه لم يصل. فهل نعيد للحج روحه؟