logo
فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

الشرق الأوسط١٤-٠٤-٢٠٢٥

في روايتها «بيت الجاز» تولي الكاتبة والروائية المصرية نورا ناجي اهتماماً بإيجاد فضاء مكاني مُهمش يتسع لطرح تساؤلات محورية حول الموت المجاني، ومواجهة الواقع المرفوض، فيما يبدو السقوط وكأنه «رحلة» طويلة مُمتدة في حياة البشر، لا تنتهي بلحظة الارتطام بالأرض، أو الوقوف على الحافة، والنظر إلى الهاوية من منظور أبعد من كل التصورات عن الخوف من المجهول، بل يبدو الأمر أكثر واقعية من الواقع نفسه.
صدرت الرواية أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، وفيها يتفرع السرد إلى ثلاثة فصول ومسارات رئيسية، تمثل معاً «ضفيرة» العمل: (الكاتبة - الرِواية - الحقيقة)، تنهض على خلفية جريمة إلقاء طفل حديث الولادة من شبَّاك مستشفى في مدينة طنطا المصرية، بما يُلقي بظلاله على بطلات الرواية الرئيسيات؛ «رضوى» الكاتبة التي تبحث عن سلام مفقود، و«يمنى» الطبيبة التي تواجه واقعاً مُركباً، و«مرمر» الطفلة التي سُلبت منها طفولتها قسراً قبل أوانها.
وعبر 202 صفحة، تربط الرواية بين قصص بطلاتها عبر تقنية من التوازي بين ما هو واقع ومُتخيّل، والمساحات المهمشة والضائعة بينهما، تمهد الكاتبة لذلك على لسان «رضوى» بطلة الرواية: «ظلّت هذه الأقصوصة من صفحة الحوادث ماثلة أمام عينيّ رضوى بطلة الرواية ثلاثة عشر عاماً. تحفز الحادثة المروعة فتخوض رحلة تنقيب عن قصة أم هذا الطفل وملابسات تلك الفاجعة، لتُفجر تلك القصة (المُختبئة) آلاماً شخصية مطمورة داخلها، وتقودها إلى رحلة كتابة يتحوّل فيها الواقع إلى واقع آخر مُتخيّل، في تخليق سردي يبدو أقرب لخروج رواية من (رحِم) رواية أخرى».
تقمص روائي
أيضاً يبدو «الرحِم» أحد مفاتيح الاقتراب من العالم النفسي للرواية، بداية من توظيفه كمجاز لفكرة المهد الأول أو «البيت» الذي يشهد على مناخات طفولة غائمة وسنوات نشأة مُعقدة لبطلات الرواية الثلاث بطرق مختلفة، وصولاً لصورته المادية حيث تقترب الرواية من مأساوية واقع الإجهاض، بما يحمله من لحظات انكسار مضنية لا تتجاوزها النساء بسهولة، ولعل المشهد الرئيسي الصادم لسقوط جنين من شباك مستشفى جامعي على رأس رجل، يظل شبحاً يُلاحق بطلة الرواية «رضوى»، التي بدا لها هذا الحادث أعمق من مجرد «مادة» روائية جذابة، حيث يُعيد تعريفها على عالمها المُظلم وهي تتقمص مشاعر بطلاتها اللاتي استلهمتهن من تتبع هذا الحادث، فتقترب من تلك المشاعر التي كانت تتحاشاها بتناسيها عمداً، بما يلقي الضوء على «الكتابة» بوصفها فعل تحرير وتطهير، وكذلك فعل مُكاشفة مرأوي، حيث تبدو الكاتبة وكأنها مُتورطة في مأساة شخصيات روايتها، وكأنها جزء من تركيبة زمنها الروائي الذي تخلقه، دون أن تتخذ مسافة آمنة من عالمها الموحش.
تُسيّج نورا ناجي عالم روايتها بمحيط منطقة «بيت الجاز» بروائحه النفاذة، يعززها مجاورته للمقابر، ومستشفى «الجذام» القديمة، وهي بؤرة لا تكف عن بث مشاعر عارمة من الانقباض على مدار العمل: «بين الفقر والمرض والجلود الذائبة أو المتغضنة أو المجذومين الصامتين، في الشوارع المتربة والنساء اللاتي يرتدين السواد، وعربات الكارو وأكوام القمامة والشجر المصفر على جانبي الطريق»، هكذا تلقي الرواية بظلالها على العالم الذي تخرج منه «يمنى» الطبيبة التي تعمل بالنهار في مستشفى الجذام، وفي عيادة تجميل بالليزر ليلاً، لتبدو حياتها سلسلة من التناقض والانفصال، والبطلة الثانية «مرمر» ابنة «بيت الجاز»، التي ما إن تفتّح جسدها من مكمن الطفولة إلى عتبات الأنوثة حتى تلفها دوائر من الحيرة، فتبدو البطلتان وكأنهما تشاطران معاً رحلتهما صوب «السقوط»، الذي دعم السرد تقديمه بصورة فنية وكأنهما ظِل لامرأة واحدة حتى في مآلات مصيرهما، إنه السقوط الذي كانت تتقمصه بطلة الرواية «رضوى» خلال كتابتها لقصة بطلتيها: «كلما أغمضت عينيها ترى العالم يهوى. ليست هي من تسقط في رؤاها المُتخيلة، بل العالم من حولها».
أزمنة مشتركة
تتبنى الرواية منظوراً يُوسّع من تأمل الحكاية وعدم إغلاقها على بطلاتها، بما يجعل فعل الكتابة نفسه شريكاً في فهم الدراما النفسية والاجتماعية وراء هذا الحادث: «الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية، عن الجذر المُتخفي داخل الأرض، عن القسوة التي أدت للفعل، عن البطن التي لفظت، واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يُغلّف العالم مثل غلالة رقيقة. شر البشر يدفعها للتعاطف، الشر يخفي كل اليأس».
ويتسلل من خلال صوت «رضوى» خيط خفي يصل بين أصوات الكاتبات عبر أزمنة وعوالم مختلفة، كأنه تحية روائية لتلك الآصرة النِسوية، فالبطلة تتلمس على امتداد حياتها طيف الكاتبة «رضوى عاشور»، وتُلّمِح إلى «فيرجينيا وولف» التي تتحدث عنها بلسان حفيدة صارت «تملك غرفة تخصها للكتابة» بعد سنوات طويلة من الكفاح، وتسرد «قائمة الخسارات» المُشتركة لدى الكاتبات، وذلك الجانب المُعتم في حياتهن حيث «الكتابة هي الألم»، فتصفها بأنها: «حُمى راسكولنيكوف بعد قتله للمرابية العجوز، وهي دموع السيد أحمد عبد الجواد بعد موت ابنه، وهي خوف شهرزاد كل ليلة، وهي السماء التي تحتوي قمرين».

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عائلة أمريكية تصدم بجثمان غريب في تابوت فقيدهم
عائلة أمريكية تصدم بجثمان غريب في تابوت فقيدهم

رواتب السعودية

timeمنذ 2 أيام

  • رواتب السعودية

عائلة أمريكية تصدم بجثمان غريب في تابوت فقيدهم

نشر في: 21 مايو، 2025 - بواسطة: خالد العلي أثارت عائلة أمريكية جدلاً واسعاً في وسائل الإعلام، بعدما تفاجأ ذوو الراحل بوجود جثمان رجل غريب داخل التابوت، يرتدي ملابس الفقيد. وكانت عائلة المتوفي أوتيس أتكينسون رفعت دعوى قضائية ضد دار »هاريسون..روس« للجنائز في منطقة كومبتون بولاية كاليفورنيا، متهمةً إياها بالخلط بين جثة فقيدهم وجثة شخص آخر. يُذكر أن الحادث وقع عندما حضرت العائلة إلى صالة عرض الجثامين التابعة للمؤسسة الجنائزية لتوديع أتكينسون، لكن المفاجأة كانت بانتظارهم: الجثمان داخل التابوت لم يكن للفقيد، بل لرجل غريب تماماً، رغم أنه كان يرتدي بدلة أتكينسون الخاصة. واضطرت العائلة إلى الانتظار قرابة ثلاث ساعات حتى جرى استبدال الجثمان، ما حرمهم من لحظات الوداع الأخيرة، وترك في نفوسهم أثرًا نفسيًا بالغًا. الرجاء تلخيص المقال التالى الى 50 كلمة فقط أثارت عائلة أمريكية جدلاً واسعاً في وسائل الإعلام، بعدما تفاجأ ذوو الراحل بوجود جثمان رجل غريب داخل التابوت، يرتدي ملابس الفقيد. وكانت عائلة المتوفي أوتيس أتكينسون رفعت دعوى قضائية ضد دار »هاريسون..روس« للجنائز في منطقة كومبتون بولاية كاليفورنيا، متهمةً إياها بالخلط بين جثة فقيدهم وجثة شخص آخر. يُذكر أن الحادث وقع عندما حضرت العائلة إلى صالة عرض الجثامين التابعة للمؤسسة الجنائزية لتوديع أتكينسون، لكن المفاجأة كانت بانتظارهم: الجثمان داخل التابوت لم يكن للفقيد، بل لرجل غريب تماماً، رغم أنه كان يرتدي بدلة أتكينسون الخاصة. واضطرت العائلة إلى الانتظار قرابة ثلاث ساعات حتى جرى استبدال الجثمان، ما حرمهم من لحظات الوداع الأخيرة، وترك في نفوسهم أثرًا نفسيًا بالغًا. المصدر: صدى

«فتيات الكروشيه»... قصص عن الوحدة بعيون أنثوية
«فتيات الكروشيه»... قصص عن الوحدة بعيون أنثوية

الشرق الأوسط

timeمنذ 7 أيام

  • الشرق الأوسط

«فتيات الكروشيه»... قصص عن الوحدة بعيون أنثوية

تبدو العين الأنثوية مهيمنة في رصد التفاصيل الحياتية الصغيرة والتقاط أوجاع الروح المسكوت عنها في المجموعة القصصية «فتيات الكروشيه»، الصادرة عن دار «الشروق» للكاتبة المصرية جيلان الشمسي. تتجلى الشخصيات في هذه المجموعة باعتبارها كائنات غير تقليدية، تغوص في فكرة الفقد والبحث عن الذات ودائرية الحياة والعودة. بعضها يقف على الحافة، فيما تعود شخصيات أخرى من الموت ليجد القارئ نفسه يشاهد شخصاً يتحول إلى آخر عاش قبل مئات السنين أو آخر يلتقي بذاته في آخر الرحلة. هنا يصبح من العادي أن يرى القارئ ملكة فرنسا الشهيرة التي عاشت في القرن الثامن عشر ماري أنطوانيت تطل عليه من شرفة قصرها، أو أن يجد نفسه داخل فندق يعود بالزمن إلى الوراء أو شاهداً على «باص» يختفي في الضباب. وبينما تحاول بعض الشخصيات التآلف مع محيطها، يحاول البعض الآخر الهرب منه. تشكل المؤلفة كل قصة عبر فسيفساء من التفاصيل الصغيرة المدهشة التي تمزج الواقع بحس فانتازي في ظل حضور قوي لأجواء الوحدة والضجر ومفارقات الأقدار، على نحو تتفتح معه بداخل ذهن القارئ تساؤلات عديدة تأخذه نحو آفاق واسعة التأويل. يشار إلى أن جيلان الشمسي تخرجت في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية عام 2008، وحصلت على بكالوريوس الفلسفة من جامعة لندن عام 2016، صدر لها رواية «الطائفة» ومجموعتان قصصيتان: «يوماً ما سأكون شمساً» و«كأن تنقصه الحكاية» التي فازت بجائزة «ساويرس» الأدبية. ومن أجواء المجموعة نقرأ: «لأيام نجلس أنا وزوجي أمام الضابط في القسم مع أولياء الأمور الآخرين الذين لم يعد أولادهم، ولم يتم حتى إيجاد أي أثر للأتوبيس نفسه، ولا للسائق ولا للمشرفة المبتسمة دائماً بعينيها الواسعتين وشعرها المصبوغ. جميع الهواتف التي يملكها المدرسون وطلبة الثانوي الذين يستقلونه اختفت إشارتها فجأة، ولم يعد من المتاح الاتصال بهم. بمرور الشهور، بدأ باقي الأهالي في التوقف عن البحث والذهاب للسؤال في القسم أو المدرسة. لا أحد يواصل تلك الحركة المكوكية مثلي سوى سيدة أراها أمام القسم كل يوم، وأعرف جيداً ابنتها التي كانت تجلس دوماً في الصف الأخير. تخبرني بصوت خافت دون أي دمعة أن بعض جيرانها أخبروها أن الأتوبيس يومها دخل بالفعل شارعهم الضيق، لكنه فجأة ووسط الضباب الذي كان يملأ السماء صعد لأعلى كأنه يرتقي درجات السلم، وسرعان ما اختفى في الغيمة البيضاء. أنظر نحوها بعينين فارغتين، لم تكن تبدو كأنها تهذي أو تخبرني بشيء لا معقول. نظرات عينيها الواثقة يومها لا تفارقني. لم أذهب بعدها مجدداً للقسم».

"بيت الجاز" رواية تصخب بأحداث دامية
"بيت الجاز" رواية تصخب بأحداث دامية

Independent عربية

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • Independent عربية

"بيت الجاز" رواية تصخب بأحداث دامية

تتجول نورا ناجي بين مآسي بطلات روايتها "بيت الجاز" (دار الشروق - القاهرة)، لكنها لا تمنح أياً منهن صوت السرد، وإنما تمنحه لراوٍ عليم خارجي، لتحقق عبر صوته نوعاً من العدالة السردية بينهن، وتتيح في الوقت نفسه وحدة النص عبر توحيد نغمة السرد، من دون التقيد بمقتضى الحال. وإضافة إلى ما حققته ناجي عبر هذا الأسلوب من موضوعية، فإنها تحررت من ذاتية الشخوص، التي ربما قادت إلى تبرير الزلات وتجميل الخطايا. وتمكنت من توجيه إدانة أكثر شمولاً واتساعاً لمجتمع اعتاد مواراة عاره بالتكتم والصمت. ولم يتضح تقاطع الواقع والخيال عبر انطلاق السرد من حادثة حقيقية، أو عبر بروز الحقيقة كعنوان لكثير من فصول الرواية فحسب، ولكن هذا التقاطع بين الحقيقي والمتخيل، بدا على نحو أكبر مع اعتماد الكاتبة أسلوب الميتا سرد، أو الرواية داخل رواية، فكانت الكاتبة "رضوى"، واحدة من شخصيات النسيج، والمنوطة في الوقت نفسه بالكتابة ونسج الأحداث. وعبر هذه التقنية، التي تعبر عن وعي الكتابة بذاتها، كسر الجدار بين النص والقارئ، فبات مشاركاً في لعبة السرد. تناظر السقوط الرواية المصرية (دار الشروق) خالفت الكاتبة الزمن الحقيقي للحادثة، واختارت لها "يناير 2011" لتُزامن بين سقوط المولود من النافذة سقوط الشباب الثوار قتلى في الميادين، وبذا أبرزت منذ بداية رحلتها، قسوة العالم الذي يزهق الحيوات بغير اكتراث. وشرعت في سد الفجوات، واستكمال الأجزاء الغائبة من الحكاية، فالأم التي دان المجتمع فعلتها في الواقع، لم تكن في الرواية سوى ضحية أخرى، فهي طفلة صغيرة "مرمر"، لم تتجاوز الـ13 من عمرها. تعيش في بيت الجاز، بين عائلة تمثل طبقة من المهمشين، الذين يعانون الفقر في زمن لم يعد فيه "الجاز" سلعة رائجة. يعتدي العم الأعزب والعاطل عن العمل على ابنة أخيه، فتحمل "مرمر" من دون أن تعي ما حدث لها. وتلجأ العائلة التي تفشل في إجهاض الطفلة، إلى توليدها في حمام المستشفى الجامعي، ثم إلقاء المولود من النافذة. هذا السقوط لم يكن من نصيب الطفل وحده، ولم تتجرعه الأم المغتصبة وحدها، إذ تشاركته البطلتان الأخريان، وخلف كل سقوط نسجت الكاتبة أسباباً وأحداثاً، كشفت من خلالها سوءات المجتمع، وما يعتريه من قسوة، وعطب: "الكتابة أقسى من الحياة. في الحياة سيسقط الطفل من الشباك، وسيلتقطه رجل ما، وسينجو، سيجد من يرعاه. الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية. عن القسوة التي أدت إلى الفعل، عن البطن التي لفظت واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يلف العالم. الشر يخفي كل اليأس" ص 28. أبعاد سيكولوجية عمدت الكاتبة في رحلتها إلى بلوغ الطبقات الأعمق من النفس الإنسانية والغوص في متاهاتها المعتمة، المكتظة بالتوتر، والقلق، والهشاشة، والاضطراب. وجسدت رغبتها المحمومة في الخلاص، التي إما تتولد عن أزمة أو تخلقها، فكان ما شهدته "يمنى" في طفولتها من اعتداء جنسي على "مرمر"، ثم مشاهدتها للفتاة وهي تشعل النار في جسدها، سبباً في اضطراباتها النفسية والجنسية وما ألم بها من انحراف سلوكي، سيكوباتية وافتقار للأمومة والعاطفة، وكذلك الشعور العميق بالذنب، الذي دفع بها في النهاية للسقوط في براثن الخطيئة: "منذ رأت جسم زيزو فوق مرمر عبر شباك البيت وهي تشعر بشيء ما يأكلها من الداخل. شيء ملح يدفعها لفعل أمور لا تفهمها ولا تدري حتى بأنها تفعلها" ص40. أما الحقيقة التي أعلنتها أم رضوى لابنتها، بأنها طفلة متبناة، ومعاملتها كحيوان أليف، من دون صرامة تقتضيها التربية أحياناً، فخلقت لديها شعوراً بالاغتراب واللاانتماء، في حين لجأت أم يمنى للإنكار، كمحاولة للتواؤم مع انتهاك زوجها لجسدها، بالضرب، وهي مشاهد أسهمت بدورها، في زيادة الاضطراب النفسي، الذي لازم ابنتها في كل مراحل حياتها. وقد مررت الكاتبة عبر كل ما أودعته النص من ظلال نفسية، رؤية حول الأثر الخطر للطفولة، في تشكيل حياة الإنسان. نورا ناجي (صفحة الكاتبة - فيسبوك) واتساقاً مع الحضور القوي للبعد السيكولوجي داخل السرد، لجأت ناجي إلى بعض التقنيات السردية، مثل المونولوغ الداخلي، الذي ورد بضمير الخطاب "أنت"، ليعكس تشظي الشخوص، وصراعاتها الداخلية، إضافة إلى تقنيات الانزياح الزمني، إذ جمعت في أسلوب السرد بين التذكر، والتدفق الأفقي، والمفارقات الزمنية: "ستسير مرمر بين أمها وعمتها، بسرعة حتى لا يوقفهن أمين شرطة متجول ويسألهن عن سبب وجودهن في الشارع مساءً على رغم حظر التجوال. ستبتلع ريقها لتسقي السحلية داخلها، السحلية التي تقول أمها إنها طفل ينمو في بطنها، وأن الأوان قد فات لفعل أي شيء" ص44. وأسفر هذا التنوع والانزياح الزمني، عن خلخلة الزمن الخطي للسرد، وعزز حال القلق، وفقدان السيطرة التي تعيشها الشخوص. اتساقاً مع محاولتها الوصول إلى الطبقات الأعمق من النفس، وظفت الكاتبة تقنيات الوصف، لا لتصوير المكان والشخوص وحسب، وإنما لتجسيد الحالة الشعورية لبطلاتها، فنقلت حال الهزيمة والفراغ الذي خلفه مشهد احتراق "مرمر" لدى يمنى، القلق والضغط الذي تسببه الكتابة، والفقد والخواء الذي يتركه الموت عندما يأخذ الأحباء. وفضلاً عما أتاحته من سمات بصرية، عمدت لاستنفار حواس أخرى، مثل الشم، والسمع، عبر استدعاء رائحة الجاز، الروث، الهواء المترب. وكذلك أصوات الصراخ، والضجيج، والسباب. واستفادت من طاقاتها الرمزية، في تمرير دلالات تحيل إلى الطبقات الاجتماعية، التي تنتمي إليها الشخوص، ولا سيما الطبقة المهمشة. ثيمة القسوة بدت القسوة ثيمة رئيسة عبر كل القضايا، التي رصدتها الكاتبة، وكان من بينها قضايا وثيقة الصلة بالمرأة، إذ رصدت ما تتعرض له من تحرش واغتصاب، عنف، وتهميش، وقهر، واضطهاد: "على صفحات (فيسبوك) تعليقات متبوعة بوجوه صفراء تضحك حد البكاء، يسخرون فيها من امرأة فازت بجائزة لأنها لا ترتدي الحجاب، ويسبون فيها أخرى لأنها تحمل ملامح ذكورية، أو تمارس رياضة عنيفة، تعليقات تشجع شاباً قتل أخته، أو رجلاً ضرب فتاة في الشارع، أو شاباً ذبح طالبة أمام الجامعة، لأنها رفضت الارتباط به" ص 155. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) كذلك تطرقت إلى قضايا شائكة أخرى مثل الإجهاض، والأقنعة الاجتماعية الزائفة، والتفاوت الطبقي، والفقر، والأدوية المغشوشة، وحوادث الطرق، واستشراء الجريمة والفساد، وسلبية المجتمع في التعامل مع الجرائم والمجرمين، وسطحيته في التعامل مع البشر: "الناس لا يحترمون سوى الجمال ولو كان غلافاً لروح مشوهة، يحتقرون القبح ولو كان غطاء لأجمل روح في العالم" ص90. وعبر شخصية الكاتبة "رضوى"، طرحت ناجي كثيراً من قضايا الكتابة والإبداع، مثل إحباطات الكاتب، والمقارنات، والحروب المستمرة في أوساط المثقفين، والاتهامات الكاذبة، إضافة إلى الآثار الجانبية للكتابة، التي تحرم الكاتبة من أن تحب، وأن تحيا حياة عادية، في مجتمع موسوم بالذكورية المتجذرة. وإمعاناً في إبراز قسوة العالم، استدعت الكاتبة مشاهد من غزة، لأطفال ميتين، ومستشفيات محترقة، وطفلة محاصرة بين الجثث، تتوسل نجدتها، لكنها لا تحصل إلا على الموت. حاولت الكاتبة تشكيل كولاج أدبي، عبر التناص مع أعمال أدبية مهمة، مثل رواية "المسخ" لكافكا، "الغريب" لألبير كامو، ومع شعر محمود درويش. وبدا تضافر ما استدعته من هذه الأعمال، مع ما مررته من معارف، ولا سيما عن مرض الجذام، ومرض السكري، في إنتاج المعنى، وتكثيف الدلالة، التي دائماً ما تحيل إلى قسوة العالم ووحشيته. وعبر ما فجرته من قضايا، رصدت صوراً من التناقضات، تجمع بين الحاضر والماضي، والجمال والقبح، والرقة والقسوة، والراحة والألم، والسعادة والحزن، والخير والشر. ومررت رؤى حول مسؤولية ذلك التناقض عن تحقيق توازن الكون. كما رصدت أنماطاً من التحول، أثمرت اندثار تجارة الجاز، وتلاشي بعض الحرف والورش، وتغير سمات الشوارع والمدن، نتيجة التوسع العمراني. وإضافة إلى التحولات المادية، رصدت تحول مشاعر الشخوص، مثل تحول شعور "رضوى" من الإثارة إلى الملل، مع تكرر رحلاتها عبر القطار، وتحول "يمنى" من الشعور بالذنب إلى التصالح مع ذاتها، وكذلك تحول الأحلام، والأعمار إلى الشيخوخة، ثم إلى الزوال. التقطت الكاتبة بعض أوجه التماثل بين بطلة روايتها "مرمر"، وأبطال الأفلام، وأيضاً أبطال الواقع، مثل "بوعزيزي" مفجر الثورة التونسية، والجندي الأميركي الذي أحرق نفسه، اعتراضاً على قتل الأطفال في غزة، فجميعهم اختاروا النار وسيلة للاحتجاج، والتعبير عن الغضب. وكانت النار ذاتها ومشاهد الاحتراق، مدخلاً سلكته الكاتبة، لتمرير أسئلتها الوجودية، حول معنى الحياة، ماهية الموت، وأسئلة المصير، التي يثيرها قدر، يختار للبعض الهامش، بينما يرفل آخرون في النعيم. وقد هيمن الموت كسمة ما بعد حداثية على السرد، سواء في صورته الطبيعية أو المجازية، حاملاً رؤى فلسفية، حول هشاشة الوجود الإنساني، وحتمية الفناء، وإن لم ينفِ تعطش الإنسان للأمل، ورغبته في الاستمرار.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store