logo
وزراء الاجتماع

وزراء الاجتماع

جريدة الرؤيةمنذ 3 أيام
د. صالح بن ناصر القاسمي
بعض اللقاءات التي تجمعك مع بعض القامات الفكرية، وما يدور في تلك اللقاءات من نقاشات، تجعلك تقف أمام مشاهد قلَّ أنْ تلاحظها بتلك الصورة، لولا احتكاكك بتلك العقول، التي حباها الله بميزة القراءة الناقدة المتفحصة والمتأنية قبل إطلاق تصوراتها المبنية على اقتناع بأفكارها تجاه القضايا المجتمعية.
ولا شك أن تلك التصورات لم تكن ناتجة فقط عن عملية القراءة والمطالعة، بل هي نتيجة امتلاك عقلية نقية حباها الله بميزات استثنائية، تجعلها تفرز تصورات قابلة للفهم وهي أقرب للواقع، بحيث تمكن المتلقي من فهمها وتقبلها بصورة سهلة وبسيطة.
نعم، كم هي ذات فائدة مثل تلك اللقاءات وما ينتج عنها من تنوير للعقول، واكتساب المعرفة التي ربما كانت أفضل من اكتسابها بطرق أخرى، وذلك لسهولة وبساطة التلقي، ولوجود تلك الكاريزما التي لديها القدرة على التأثير والإلهام.
وفي أحد تلك اللقاءات دار النقاش حول ما الذي يجعل بعض الشخصيات تتمتع بمزايا وصفات إيجابية، وسمات أخلاقية، تميزهم عن الآخرين، بل تجعلهم محطة ومهوى لجذب قلوب واستحسان كل من يعرفهم ويخالطهم، ويحرص على اللقاء بهم، بل ويلجأ إليهم متى ما ضاقت بهم الأحوال.
والسؤال المطروح: هل للبيئة تأثير في تكوين تلك الشخصيات؟ أم أن للجينات الوراثية تأثيرا في ذلك؟ وإذا كان للبيئة تأثير فلماذا لا تتشابه الشخصيات في المحيط الواحد؟
أسئلة جديرة بالتفكر -لا شك في ذلك- فمن المعلوم أن البيئة المحيطة ذات تأثير مباشر على تكوين شخصية الإنسان، ونعني هنا: البيئة بمعناها الطبيعي؛ أي الحياة على الشواطئ، والصحاري، والجبال، هذه البيئات التي تنعكس بشكل مباشر على شخصيات الناس التي تقطنها. ناهيك عن المؤثرات الأخرى مثل التعليم والثقافة العامة للمجتمعات في تلك البيئات.
ما يعنينا هنا هو التأكيد على أن البيئة لها انعكاس مباشر على شخصية الإنسان، وذلك التأثير يظهر أثره على تصرفات وتعاملات الإنسان بحسب كل بيئة، مثل صفات الكرم، والأمانة، والتسامح، وتقبل الآخر، والصبر، وغيرها من الصفات، ولا شك أيضًا أن هناك صفات تُعد سلبية بحسب تقييم وتقدير المتعامل مع تلك الشخصيات.
ومن خلال ذلك المعترك البيئي المادي، والموروث الثقافي والأخلاقي، تبرز على الساحات تلك النماذج من الشخصيات الإنسانية المميزة النادرة، وهو ما جعل أحد المحاورين يطلق عليها -وزراء الاجتماع- وهو مصطلح، وبحسب ما يتضح، أنه من إبداعات ذلك العقل الرائع، وهو في الحقيقة مصطلح استوقفني وشدني ووجدتني أخط هذه الأسطر لنتناوله ولو بشيء من التوضيح.
ببساطة شديدة.. فإنَّ شخصيات وزراء الاجتماع هي تلك الشخصيات التي تتمتع بدماثة الأخلاق، وطيبة النفس، والكرم، والصبر، ونقاء الفطرة، وحسن العشرة، بالإضافة إلى امتلاك بشاشة الوجه، وطلاقة اللسان.
مثل هذه الشخصيات، تجدها دائمًا حريصة كل الحرص على التواصل المجتمعي في المناسبات بشكل عام، مع حرصها على التواصل الفردي بشكل خاص، هذا التواصل الخالي من المصلحة الشخصية، والنفاق المجتمعي- كما يُطلق عليه- عند البعض.
وغالبًا ما تكون هذه الشخصيات محورية في مجتمعها، وتمثل محل جذب إليها دون تكلف أو حتى تعمد الجذب، وإنما هي فطرة وسجية لديها. وغالبًا ما تكون مثل هذه الشخصيات تتمتع بصفة الكرم والبساطة.
هناك جانب آخر مضيء لهذه الشخصية، إنه جانب التسامح غير المتكلف مع الآخر، فهو لا يتوقف كثيرًا عند الأخطاء والزلات، فتجده يعاشر من أخطأ في حقه وكأن شيئًا لم يحدث، فيلاقيه بوجه طلق ويبدأه بالسلام والتحية، بل أحيانًا يبالغ في إكرام من أخطأ في حقه.
وقد روى لي صاحب مصطلح "وزراء الاجتماع" عن قصة حدثت عند أصحاب إحدى تلك الشخصيات؛ حيث تنامى إلى مسمعه أن أحد الأشخاص تكلم في شخصه كلامًا مسيئًا، وما هي إلا أيام معدودة حتى وجه له دعوة لزيارته في منزله وكأن شيئًا لم يحدث بينهما، إنها الشجاعة الأخلاقية في أبهى صورها، والنفس النقية التي لا تعرف الحقد والضغينة.
إنهم حقًا وزراء اجتماعيون بطبيعتهم، بثقلهم الأخلاقي، ولكون هذه المناصب -وزراء الاجتماع- من يتولاها هم أناس قليلون؛ فإنهم حقًا يستحقون هذه المناصب عن جدارة واستحقاق، فليس من السهولة في هذا الوقت المتسارع الأحداث، المليء بالآفات النفسية والأخلاقية، أن نجد مثل هؤلاء بكل سهولة، ومع هذا لا يخلو منهم مجتمع، تجدهم مثل النور الذي يُستضاء به في العتمة.
ولعل أجمل ما يميز هؤلاء، أن وجودهم في المجتمع يشبه وجود الجذور العميقة للشجرة، تلك الجذور التي قد لا نراها، ولكنها تحفظ الشجرة من السقوط في وجه الرياح، وتغذيها بالماء حين تجف الأرض. إنهم يربطون الماضي بالحاضر، ويحافظون على الخيط الرفيع الذي يمنع القلوب من التباعد، ويصونون حرارة العلاقات الإنسانية وسط برودة الحياة المادية المتسارعة. وحين يرحلون، نشعر وكأن جزءًا من ملامح المجتمع قد غاب، لا لكونهم أشخاصًا عاديين، بل لأنهم كانوا يمثلون صمامات الأمان التي تهدئ النفوس، وتعيد التوازن حين تميل الكفة إلى الصخب أو الخصام.
ألا يخطر على بالنا ونحن نتحدث عن مثل تلك الشخصيات آباؤنا وأجدادنا الذين كانوا على قدرٍ عالٍ من التسامح، وعلى مرتبةٍ رفيعة من الحكمة، ومكانةٍ مرموقة لم يكونوا يبحثون عنها؛ وإنما فرضت حضورها في المجتمع، وحظيت بما حظيت من احترامٍ وتقديرٍ في أوساط فئات المجتمع.
والسؤال هنا: هل سيأتي زمن تختفي فيه مثل هذه الشخصيات من مجتمعاتنا؟ أم أن بيت الطين لا يخلو من الطحين؟ بحسب المثل السائر.
إنَّ الخطوة الأولى التي ينبغي علينا الاهتمام بها، لكي نحافظ على وجود مثل هذه الشخصيات في مجتمعنا، بل وزيادة عددها، لإيماننا بأن هذه الشخصيات هي ميزان التوازن لمجتمعنا، أن نكرس اهتمامنا بغرس مبادئنا وقيمنا الأخلاقية في الناشئة، سواء في مدارسنا، وجامعاتنا، ومجالسنا العامة والخاصة، فمجتمعنا له تلك النكهة الخاصة به، والسمت الذي يشعرك بالاطمئنان والأمان.
ونأمل أن يُصبح جميع أفراد مجتمعنا وزراء اجتماعيون؛ فليس ذلك على الله بعزيز.
فبقدر ما تشرق الشمس فتمنح الأرض دفئها، يشرق هؤلاء في قلوبنا فيمنحونها سكينة وسلامًا، وبقدر ما يروي الغيم الحقول بالماء، يروون الأرواح بحسن الخلق وجميل العشرة، فإذا غابوا، بقي عبيرهم في الأفق شاهدًا أن النبل لا يزول، وأن الخير مهما تراجع، لا ينطفئ نوره أبدًا.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تكريم 100 دارس في ختام أنشطة مدرسة أبي الشعثاء لتعليم القرآن بصور
تكريم 100 دارس في ختام أنشطة مدرسة أبي الشعثاء لتعليم القرآن بصور

عمان اليومية

timeمنذ 3 ساعات

  • عمان اليومية

تكريم 100 دارس في ختام أنشطة مدرسة أبي الشعثاء لتعليم القرآن بصور

تكريم 100 دارس في ختام أنشطة مدرسة أبي الشعثاء لتعليم القرآن بصور كرمت مدرسة أبي الشعثاء لتعليم القرآن الكريم ونشر علومه 100 دارس من منتسبي برنامجها الصيفي، وذلك في الحفل الختامي للأنشطة الصيفية الذي رعاه الشيخ عبدالملك بن مهنا الهنائي نائب والي صور بنيابة طيوي. وشمل التكريم دارسين من مختلف الولايات، بعد برنامج استمر لمدة شهر ونصف الشهر بتنظيم من إدارة الأوقاف والشؤون الدينية بمحافظة جنوب الشرقية. وألقى الدكتور سعود بن ساعد الحبسي مدير المدرسة كلمة رحب فيها براعي الحفل، مثمنًا الجهود والمبادرات في دعم أنشطة المدرسة، وموجهًا الشكر لأولياء الأمور على حثهم أبناءهم ومتابعتهم في حفظ كتاب الله. وفي ختام الحفل، قام راعي المناسبة بتكريم الطلبة الحاصلين على المراكز الأولى والمشاركين في مختلف المستويات.

رسالة نور إلى قلبك
رسالة نور إلى قلبك

جريدة الرؤية

timeمنذ 2 أيام

  • جريدة الرؤية

رسالة نور إلى قلبك

وداد الإسطنبولي أفكّر، ويطول بي التفكير أحيانًا في عثرات صغيرة قد لا تُذكر أبدًا إذا جلسنا مع أنفسنا بهدوء، وفكّرنا بها من عدّة زوايا لا من زاوية واحدة فقط. حينها نتيح فرصة إيجابية تشرح الصدر، وتبهج القلب، وتنير الدرب، فنجد متّسعًا للابتسام، ونتذكّر قول القائد والمقتدى به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "التمس لأخيك سبعين عذرًا". أليس جديرًا بنا أن نتساءل: لماذا قال سبعين، ولم يقل عذرًا واحدًا أو اثنين أو عشرة؟ فلماذا لا نحاول، مع شرارة بسيطة، أن نخمد رمادها قبل أن تتطاير، وأن نبعِد أثرها، حتى وإن كان صغيرًا، وربما كان خطأ غير مقصود، أو كلمة خرجت هفوة، أو إيماءة فُهمت على غير معناها؟ لِمَ لا نبحث عن الإيجابيات الأخرى التي قد جمعتنا يومًا بكلمة طيبة، أو بيد حانية، أو بلقاء انعقد على خير، أو حتى بمشكلة جعلتنا نتكاتف لحلها؟ حين تتزاحم الهموم، يُغلق باب النور عن رؤية الجمال في الآخرين، ويقسُو القلب على الاطمئنان لأخيه الإنسان. ويأتي الجارح والمارّ، فلا يزيدون الأمر إلا سوءًا، ويتركون أثرًا كأثر اليد التي تضغط على الجرح دون أن تبسطها برفق لتهدئ الألم. نحن لسنا في زمن العتمة، وإن تراكمت علينا الهموم، وأرهقتنا الحياة، وأحاطتنا الظروف. حاولوا أن تطمئنوا، وإن كنتم في وسط ضجيج القلق، وآمنوا بأن بعد كل ضيق فرجًا، وأن الإقبال على الحياة بروح الأمل يجعل كل شيء بخير. فلا ترتدِ ثوبًا لا يليق بك، فيجمّد قلبك عن الشعور. وتذكّر أن هناك من يبحثون في الليل عن الأمان، وفي النهار عن الاطمئنان، وقلوبهم مثقلة بالكسر. ونحن أيضًا، رغم عيشنا العظيم، أحوج ما نكون إلى ابتسامة تفتح الصدر، وإلى تبادل الخير؛ فمجرّد تبادل السلبيات لا يخلّف سوى نتائج وخيمة، أوّلها أن نصبح أسرى لظروفنا. أتقنوا فنّ التعامل، ولا تبخلوا به، فهو مفتاح لحياة أجمل لك ولغيرك.

"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت"
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت"

جريدة الرؤية

timeمنذ 2 أيام

  • جريدة الرؤية

"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت"

خالد بن سعد الشنفري بداية أرجو أن تشفع لي أكثر من 60 عامًا عشتها وعايشت فيها مجتمعي وثلاثة أجيال عاصرتها من أجيال هذا المجتمع خلال حياتي، أن أهمس في أذن شبابنا ببعض من تجاربي المتواضعة وملاحظاتي، علَّهم منها يستفيدون وهذه هي سنن الحياة نتناقلها جيلًا بعد جيل، لن أتجاوز هنا محورين رئيسين اثنين؛ هما: الجوامع والمساجد، وقاعات المناسبات والأفراح. المسجد كان محور حياتنا في الماضي ولازال والحمد لله ولكن مع الفارق، ومع أنَّ الفارق قد يكون خيرا إلا أنه علينا أن ننظر له انطلاقًا مما قبله لأنه في النهاية بناء عليه، أما البدع والابتداع؛ فممقوتة دينيا وأخلاقيا إلا في المبتكرات والاكتشافات العلمية، أما حياتنا الاجتماعية فهي تجارب تُبنى على بعض. كانت الصورة التي انغرست في أذهاننا منذ الصغر أن الصفوف الأولى في المساجد سواءً للصلاة أو في مناسبات عقود النكاح أو العزاء شبه مُحرمة علينا، ليس ونحن الأصغر سناً وشباباً فقط؛ بل وحتى عندما أصبحنا رجالا متزوجين ولدينا أبناء، كانت وجوه كبارنا في الحي أو المنطقة مرتبطة في أذهاننا بالصفوف الأولى؛ سواء من تربع منهم واستند بظهره على الحائط الغربي للمسجد أو قابله في الصفوف الأولى التي تليه، لقد كانوا قدوتنا في كل شيء، منهم نستمد حتى أسلوبهم في النظرات والحركات والكلمات ونتعلم ونتأدب من ذلك، لذلك كانت تنتقل بيننا من جيل إلى جيل بدون تخطيط مسبق أو جهد يذكر من أي طرف، إنما هي الفطرة الأخلاقية السمحة لمجتمعنا والتي كانت واضحة ومنحتنا السكينة والمودة والرحمة والمحبة بيننا كمجتمع يحترم صغيره كبيره ويعطف كبيره على صغيره. من الظواهر المحمودة اليوم في شبابنا أننا أصبحنا نراهم بكثافة في عزاءاتنا، أما في الأفراح والأعراس فحدِّث في ذلك ولا حرج وهو أمر طبيعي؛ فالعريس من سنه وهو إما قريب أو جار أو زميل دراسة أو عمل ومشاركته له حق وواجب. أمام هذا التغيير وقد أصبح شبابنا في هذا الوقت مشاركا بكثافة مشاركة محمودة وملحوظة في هاتين المناسبتين المهمتين، فحياتنا لم تكن كذلك بهذه الصورة فيما سبق وهذا أمر له أسبابه يفهمها أكثر المختصون في علم الاجتماع والعلوم النفسية الاجتماعية. أوصي شبابنا الخلوق الحيي أن يراعوا إفساح المجال للكبار؛ سواء في الجوامع أو المجالس لتكتمل صورتنا الطيبة عنهم مع حميد خصالهم خصوصا أن الشباب وهم يتمتعون بكامل طاقتهم الجسدية والبدنية بعكس الأكبر سنًا، الذي حتى الجسد لم يعد يعينه ولا يسمح له السن والوقار أن ينافسه من هو في سن ابنه على مقعد أمامي، ولن أطيل هنا أكثر من ذلك، فثقتي في شبابنا كبيرة بأنهم قد فهموا ما أرمي إليه إنما هو من باب التذكير فقد تغيب عنا أشياء في ظل هذا التغير السريع في أنماط حياتنا التي فرضت علينا فرضا ونمشيها خطا مضطرين لكي نعيش ومن كتبت عليه خطى مشاها. ختامًا.. أترحم على أمير الشعراء وأمير الأخلاق أحمد شوقي، وأخص بالذكر هنا وبالمناسبة شابًا دمثًا خلوقًا من أبنائنا نراه يتنقل في مناسباتنا كالنحلة ليمسك بيد رجل كبير ليُجلسه في مجلس يليق به؛ فشكرًا لابننا البار عمار بن عبد الله محمد عامر الشنفري، وهذا ليس بغريب عليه فقد استمده من أبٍ فاضل ومن جده لأمه رجل الكرم والمواجيب سعادة الشيخ سالم بن عوفيت الشنفري حفظه الله وأطال بعمره، وأتمنى على شبابنا الاقتداء به وهم كُثر والحمد لله.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store