
البابا... غاسلُ أقدامِ الكادحين
«البابا»... ليس مجرد لقبٍ كنسىٍّ، بل نداءٌ يشى بالحُنوِّ والرأفة والملاذ والسند، والصلاة من أجل جميع المأزومين والضعفاء فى هذا العالم، دون تمييز أو إقصاء، فجميعهم «إنسان». فلسفة لقب «البابا»،
بـ«ال» التعريف، هى لا محدودية الزمان والمكان؛ أى لا تُحدّه جغرافيا، ولا تحبسه عقيدةٌ. لأن الأبوةَ لا تسألُ عن الهُوية، بل تحتضن «الإنسانَ» لكونه إنسانًا. فإذا سُمّى رجلٌ «البابا»، توجَّب عليه
أن يكون ملاذًا ومِظلّة، ويَدًا تمسحُ الدمع، وقلبًا يسع الجميع، بلا تفرقة. وإن كانت السُّلطةُ فى الأرض تُخيفُ، فإن سلطةَ «البابا» تُطمئن، لأنها تستمد قوتها من الضعفاء، وتُشكّلُ مجدَها من التواضع.
لكل هذا كان للبابا «فرنسيس»، رحمه الله، نصيبٌ كامل من لقبه. فهو الأبُ الذى يحنو على الخاطى، والذى يوجّه ويُقوِّم، والذى يرأفُ بالضعيف والمكلوم.
لهذا أكتبُ اليومَ لأرثى «البابا فرنسيس» الذى تشرفتُ بلقائه فى مصر الطيبة وربَّتَ على رأس ابنى المتوحّد «عمر» داعيًا له بالشفاء. لم يقل: لماذا أدعو لمسلم ابن مسلمة وأنا رأسُ كنيسة عالمية؟! لم يقل: أولئك مصريون وأنا أرجنتينى إيطالى فاتيكانى؛ فما شأنى بهم؟! لم يفكّر فى شىء غير أنه أمام أمٍّ حزينة على صبىٍّ لا يقدر على مواجهة هذا العالم القاسى وحيدًا، فصلّى من أجله.
رحماتُ الله عليكَ أيها الأب الطيب الذى مشى على الأرضِ هَوْنًا خفيفًا، لا يحملُ إلا نورَ المحبةِ وصلواتِ المساكين، وقال للعالم «سلامًا». الرجل الذى طأطأ رأسَهُ أمامَ الجوعى والمعوزين، وأشرق وجهُهُ بِشرًا حين صافحَ المرضى والعميان والغرباء. الأبُ الجميل الذى أحبَّ الناسَ كما هم، لا كما يُرادُ لهم أن يكونوا، ونادى بالسلامِ فى زمنٍ قاسٍ يتغذى على الجدران والأسلاك والدماء.
منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة، لم يتردد البابا «فرنسيس» لحظةً فى استخدام كلمته كسلاح رحمةٍ ماضٍ فى وجه سفاح أعمى. ندَّد مرارًا بكل حسم باستهداف المدنيين والأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس. وقف فى ساحة القديس بطرس وهتف: «كفى! أوقفوا هذه الحرب! لا مبرر لقتل الأبرياء.
كل طفل يُقتل هو هزيمةٌ للإنسانية». قال هذا بنصوع ودون مواربة فى وقت جنّب فيه كثيرون من زعماء العالم الغربى استخدام كلمة «غزة»، أو الإشارة المباشرة للضحايا من أبنائها! كان البابا «فرنسيس» يسمى الأشياء
بأسمائها دون حسابات ولا موازنات ولا مجاملات. وكان يصلى كل يوم من أجل الفلسطينيين، والضحايا فى جميع أرجاء الأرض، ويُذكّر العالمَ الغافلَ بأن «العدالة لا تعرفُ الانتقائية، وأن الضميرَ لا يخضعُ للتسييس».
ومثلما كان من أوائل مَن نددوا بالعدوان الصهيونى على «غزة»، كانت مأساةُ «فلسطين» حاضرةً فى آخر كلمات قالها قبل رحيله عن عالمنا: «يجب وقف إطلاق النار فورًا، وإطلاق سراح الرهائن، وتقديم المساعدة لشعب فلسطين الذى يتضوّر جوعًا ويتوق إلى مستقبل يسوده السلام».
كان البابا «فرنسيس» رجلَ «لقاء». أى أنه يُجيد بناء الجسور بين الناس، لا الجدران والحواجز. يسعى للحوار، ويؤمن بأن التفاهم هو السبيل إلى السلام، مهما كانت الاختلافات الدينية أو الثقافية
أو السياسية. لم يعش البابا «فرنسيس» فى برجه العاجى كزعيم روحى ورمز عالمى ورقم صعب فى سلطة العالم، بل كان يجول يصافحُ الكادحين، ويجالس المهمَّشين، ويتحدث إلى الناس من منبر «الإنسانية»
قبل العقيدة؛ إيمانه بأن كل إنسان يستحق أن يُسمَع. ظلَّ يسعى لخلق مساحات تلاقٍ بين الأديان، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الكنيسة والعالم بأسره بكل ما يحمل من هموم ومشاكل وعنصريات وحروب.
زار العراق عام 2021 حاملًا رسالة سلام لأرض أنهكتها الحروب والطائفية. التقى بالمرجع السيستانى فى النجف، وزار الموصل التى دمّرها تنظيم داعش، ووقف وسط الخراب وهتف: «الأخوّة أقوى من القتل». وعام 2019 وقّع مع شيخ الأزهر الشريف «وثيقة الأخوّة الإنسانية» فى أبوظبى، فحواها: «أن كل البشر إخوة، وأن الأديان يجب أن تكون جُسورًا لا حواجزَ».
وهو الذى دافع عن اللاجئين والمهاجرين العرب، ودعا إلى فتح الأبواب لا إغلاقها. وحين زار جزيرة ليسبوس اليونانية، عام 2016، لتسليط الضوء على معاناة اللاجئين فى مخيم «موريا»، عاد إلى الفاتيكان مصطحبًا عائلات لاجئة على متن
طائرته الخاصة. وفى «خميس العهد» من كل عام، كان البابا «فرنسيس» يكسر الصورة التقليدية لجلال المنصب الرفيع يخرج من أبهاء الفاتيكان إلى هوامش المجتمع يغسل أقدام الفقراء واللاجئين المسلمين، مثلما فعل السيد المسيح مع تلامذته.
برحيل قداسة البابا «فرنسيس»، تُطوى صفحة مشرقة فى تاريخ العالم. فقد كان أكثر من قائد دينى للكنيسة الكاثوليكية؛ كان ضميرًا حيًّا للإنسانية، وصوتًا جسورًا للرحمة والعدالة فى عالم تهيمنُ عليه الانقساماتُ والمصالح. فلنطلب جميعًا له السلام الأبدى والرحمة، مثلما عاش حياته يطلبهما لنا جميعًا دون تمييز.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجمهورية
منذ 36 دقائق
- الجمهورية
وزير الأوقاف ينعى القارئ الشيخ السيد سعيد
وقال، "نودع حبة فريدة من سبحة كبار القراء ، ملأ القلوب والأسماع بتلاوته العطرة، وصوته الذي لن يُنسى نسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يرحمه رحمة واسعة، ويجعل القرآن شفيعًا له يوم القيامة.. إلى روحٍ وريحان وربٍ راضٍ غير غضبان". وتقدم الأزهري بخالص العزاء والمواساة إلى أسرة القارئ الراحل، ومحبيه، ويدعو الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويرزقه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وأن يجعل ما قرأ وما رتل في ميزان حسناته، وأن يكتب له بكل حرف قرأه من كتاب الله نورًا وزخرًا، وأن يجزيه خير الجزاء على ما شنف به آذان مستمعيه، في كل أرجاء العالم الإسلامي، وما لمس به قلوبهم، بحسن تلاوته، وخشوع قراءته، فقد كان -رحمه الله- مدرسة خاصة في الصوت والأداء والخشوع، داعيا المولى سبحانه كذلك أن يلهم أهله وذويه، ومحبيه في العالم الإسلامي أجمع الصبر والسلوان.


بوابة الأهرام
منذ 44 دقائق
- بوابة الأهرام
وزير الأوقاف ينعى القارئ الشيخ السيد سعيد
نعى الدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف سلطان القراء فضيلة القارئ الشيخ السيد سعيد. موضوعات مقترحة وقال، "نودع حبة فريدة من سبحة كبار القراء، ملأ القلوب والأسماع بتلاوته العطرة، وصوته الذي لن يُنسى نسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يرحمه رحمة واسعة، ويجعل القرآن شفيعًا له يوم القيامة.. إلى روحٍ وريحان وربٍ راضٍ غير غضبان". وتقدم الأزهري بخالص العزاء والمواساة إلى أسرة القارئ الراحل، ومحبيه، ويدعو الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويرزقه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وأن يجعل ما قرأ وما رتل في ميزان حسناته، وأن يكتب له بكل حرف قرأه من كتاب الله نورًا وزخرًا، وأن يجزيه خير الجزاء على ما شنف به آذان مستمعيه، في كل أرجاء العالم الإسلامي، وما لمس به قلوبهم، بحسن تلاوته، وخشوع قراءته، فقد كان -رحمه الله- مدرسة خاصة في الصوت والأداء والخشوع، داعيا المولى سبحانه كذلك أن يلهم أهله وذويه، ومحبيه في العالم الإسلامي أجمع الصبر والسلوان.


أخبار مصر
منذ ساعة واحدة
- أخبار مصر
شرح مناسك الحج بالترتيب بطريقة مبسطة .. من الإحرام إلى الطواف .. فيديو
شرح مناسك الحج بالترتيب بطريقة مبسطة .. من الإحرام إلى الطواف .. فيديو مناسك الحج وواجباته فهي من أهم الأمور التي على الحاج أن يتعلمها وأن يعرف مناسك الحج بالترتيب وخطوة خطوة، وتتفرع مناسك الحج إلى أركان، وواجبات، وسُنَن، ومُستحَبات؛ أما أركان الحج فلا يجوز التجاوز عنها أبدًا، ولا يقوم شيءٌ مقامها، بينما يصح الحج إن تُرِكت الواجبات بسبب عُذرٍ ما، على أن يُجبَر تَركها بالفِدية، ولا يترتّب شيءٌ على الحاجّ بسبب ترك السُّنَن، وإن أتى بها فإنّ حجّه يكون تامًّا، وأجره كاملًا، وفيها اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم.أركان الحجاتّفق جمهور العلماء من الشافعيّة،…..لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر 'إقرأ على الموقع الرسمي' أدناه