logo
سعيد فريحة... من تحت الصفر إلى ذروة النجاح

سعيد فريحة... من تحت الصفر إلى ذروة النجاح

العربي الجديدمنذ 8 ساعات

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
كان سعيد فريحة يُكنّى بأبي عصام، نسبة إلى اسم ابنه البكر، وكانت مسيرة حياته تُختصر بكلمة "العصامية". تيتّم في الطفولة وتعملق في الكهولة. تزوج أبوه أمين فريحة بفتاة دمشقية، وبعد وفاتها المبكرة، اقترن بآنسة حموية أنجبت سعيداً وإخوته، واستقر ابن بلدة رأس المتن في بيروت، ثم اضطره الفقر سنة 1912 للهجرة إلى البرازيل على أمل الفرج فيستدعي العائلة، لكن نشوب الحرب العالمية الأولى قضى على الأمل. وفي مذكراته روى سعيد فريحة: "وبدأت والدتي تكافح ضد الجوع، جوعها وجوع أطفالها الأربعة، فكانت تأتي من برج حمود إلى بيروت لتهرِّب الخبز وتوزّعه علينا، ناشفاً أو مبلّلاً بالدموع. وكنت أنا في السابعة، أرافقها في رحلات التهريب".
ضاقت سبل العيش فقررت الأم أن تصحب أولادها إلى حماة حيث أسرتها. انطلقوا سيراً على الأقدام، وتعرّضوا لغدر في بلدة تلكلخ بسورية. داهمهم راعٍ بغية سرقة ما يحملونه من زاد، وربّما من مال، فتصدّت له الأم فقتلها وقتل شقيق سعيد الأصغر. لم يصل إلى حماة سوى نصف العائلة بقيادة الطفل سعيد ابن العاشرة. انقطعت أخبار الوالد المهاجر، لعلّه كتب رسائل لم تصل أو لم تجد من يتسلّمها، لعله مات. (لاحقاً عرفت الأسرة أن الوالد مات في طريق العودة بحراً سنة 1927 ودُفن بالإسكندرية). وبكلمات سعيد فريحة: "خرجت من ويلات الحرب صبياً يتيماً بلا أبوين، ونحيلاً هزيلاً بلا عافية، وأكثر من ذلك أميّاً جاهلاً بلا علم"، لم يلتحق بالمدرسة سوى عامَين، ولم يبقَ في ذاكرته إلّا حروف الأبجدية وبضع كلمات.
أمسكت الحياة عنه عطاياها، ولم ينعم سوى برعاية من أهل أمه. ولم يكونوا ميسورين، فمارس جميع الأعمال الممكنة وطلب من كلّ متعلّم صادفه أن يساعده في تحسين ملكة القراءة. إن الذي ينشأ في بيئة حرمان مماثلة، يغدو من المهمّشين أو يعاشر المنحرفين، لكن الطفل سعيد فريحة امتلك ذكاء فطرياً حاداً، ورغبة عنيدة في الصمود وفي قَهْر القهر، جعلته يدوس على المصاعب، الواحدة تلو الأخرى. انبثق من تحت الصفر، فارتقى سلّم النجاح درجةً درجة، وبلغ الذروة عندما أصبح مالك كبرى دور الصحافة في لبنان.
قصة حياة سعيد فريحة أشبه بشريط سينمائي بمشاهد جياشة، وحكايا غنية بالعِبَر. مأساة تخفّفت حدتها بمرور السنوات، وبعد الدموع ارتسمت الابتسامات احتفاءً بالنهاية السعيدة.
كانت حلب محطة رئيسية في مسيرته. قصدها سنة 1928 وهو في الثالثة والعشرين، ليعمل في صالون حلاقة للسيدات. كان قد تعلّم المهنة عند خليل، أخيه من أبيه. استوطن غرفة صغيرة، وعكف بعد عودته من العمل على القراءة، وكان قد طوّر قدراته، وأصبح يقرأ الصحف والكتب ذات الأسلوب السلس، يقرأها في ضوء مصباح الشارع توفيراً لاستهلاك الكهرباء، وقرر أن يغدو صحافياً يكتب على غرار الذين يقرأ كتاباتهم.
اتصل بشكري كنيدر صاحب جريدة التقدم، وأخذ يرسل له المقالات. قال كنيدر إنها كانت حافلة بالأخطاء النحوية والإملائية لكنها ذات فكرة مبتكرة وصياغة طريفة، فتشجّع ونشرها. وأضاف ممتدحاً موهبة الصحافي الجديد "له في إيراد الأنباء وروايتها، طريقة فيها الشيء الكثير من التفنن والطرافة، وقد يقع على الخبر التافه فيرشّ عليه فلفلاً وقرنفلاً ويقدمه إلى القراء فيجدون فيه من المتعة والفكاهة ما يضاهي أجلّ الأخبار وأهمّها". والأهم ما قاله عنه أنّه كان يتعلم من الخطأ بعدما يعرف الصواب، ولم يكرّر الخطأ مرتين! وهذا مثال على جمال أسلوبه من مقالة ترجع إلى السنوات الأولى وكانت بعنوان "جولة صحفية في سيارة عرجاء". كتب: "تبعد بلدة إدلب عن حلب مسافة ساعة في السيارة، هذا إذا كانت سيارة ابنة حلال، أما إذا كانت مثل التي ركبناها، فلا تعجب إذا رأيت شروق الشمس ثلاث مرات أثناء الطريق".
كشفت مقالات "التقدم" أن سعيد فريحة أحرز تقدّماً في الكتابة الصحافية، جعله يستغني تماماً عن مهنة الحلاقة. راسل جريدة القبس الدمشقية لصاحبها
نجيب الريّس
(أبو رياض) وصحيفة الراصد اللبنانية وكان الأديب وديع عقل ناشرها ورئيس تحريرها، وجريدة صوت الأحرار البيروتية التي أصدرها سعيد صبّاغة وخليل كسيب. وأصبح اسمه معروفاً في الأوساط الصحافية في بلاد الشام، وكانت "صوت الأحرار" تنشر مطالع مقالاته في صفحتها الأولى مرفقة بعبارة "لمراسلنا الحلبي الأستاذ سعيد فريحة"، في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين كان لقب "الأستاذ" يرافق اسمه.
بعد عشر سنوات من الإقامة في حلب، عاد إلى بيروت سنة 1938. كان المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك قد أغراه بالعودة وأخبره أن الياس حرفوش يتهيأ لإصدار جريدة الحديث، يومية سياسية، وبالفعل أصبح سعيد فريحة في عداد محرّريها، كما كتب بعض المقالات لجريدة الصحافي التائه، وكانت ملائمة لذائقة صاحبها إسكندر الرياشي، المتمادي في السخرية في كتاباته كما في حياته. لكن الرياشي كان فوضوياً في إدارة شؤونه المالية، يستعذب الأخذ وينفر من العطاء. وحين قصد سعيد فريحة مكتب الجريدة لقبض مستحقاته، راوغه الرياشي بوساطة معاونه الإداري الذي انتحى بسعيد جانباً، وأخبره أن الأستاذ إسكندر بدأ يتعب وهو يبحث عن رئيس تحرير للصحيفة، وبخبث سأله هامساً "هل أنت مستعد لتولّي المهمة؟". طبعاً ردّ الصحافي الشاب بالإيجاب، فسمع العبارة التقليدية "أبشر خيراً".
لم تتحقق البشرى من هذه الطريق، لكن سعيد فريحة البارع في انتزاع انتصاراته بيديه، جعل الحلم حقيقة، وصار رئيس تحرير مجلة الصياد، التي أصدرها سنة 1943 بالتزامن مع استقلال لبنان. مجلة تشبه صاحبها في مضمونها وفي أسلوب تحريرها. ملتزمة باستقلال البلاد، وكان
رياض الصلح
داعماً لها بحماسة. مجلة ساخرة في الكلمة وفي الصورة، إذ زيّنها سعيد فريحة بالرسوم الكاريكاتورية بريشة الفنان خليل الأشقر الذي كان يوقّع باسمه الأول خليل. وكان سعيد فريحة لا يبخل على الرسام بالأفكار. ومن أبرزها صورة تمثّل جندياً فرنسياً من المستعمرات يدوس بقدمه العارية السوداء على المستنيرين من أبناء البلاد ويقول "انا جئت أُمَدّنكم". كادت الصورة هذه أن تكلّفه السجن، لكن هنري فرعون، وزير الخارجية آنذاك، حال دون ذلك، وعندما فاحت روائح الفساد في عهد الشيخ بشارة الخوري، شنّت "الصياد" حملات صحافية طاولت "السلطان سليم"، أخ الرئيس، وحين تقرّر اعتقاله اختبأ بمنزل رياض الصلح.
أخذ سعيد فريحة ينشر مقالة في كل عدد من "الصياد" مستوحاة من ذكرياته وأحداث حياته، هي أشبه باليوميات التي لا تخلو من مرارة ممزوجة بالسخرية، وجعل عنوانها "من جعبتي". مقالات وصفها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري بقوله "إنها فن الإيهام اللذيذ بين البراءة والإثم. أسلوبها يعتمد الكتابة الحاذقة، بها الوخز الذي يجرح ولا يريق الدماء"، وقال عنها سعيد فريحة "إنها قطعة من قلبي ووجداني، وجزء من حياتي وكياني. إنها حقيقتي وواقعي ومرآة نفسي في نواحي انطلاقها وتحررها من المظاهر الكاذبة"، وذاعت شهرة "الجعبة" في لبنان والبلاد العربية قاطبة، بل أسعفت صاحبها مالياً يوم لم يكن يملك ليرة واحدة. من عائداتها بدأ بناء صرح "دار الصياد" عام 1954، وكانت المجلة تصدر قبل ذلك من مكتب صغير في بناية قريبة من ساحة الشهداء. روى سعيد فريحة قائلاً: أصدرنا كتاباً بعنوان "الجعبة"، وأرسلت مئة "جعبة" إلى مئة صديق، وجمعنا مئة ألف ليرة وعمّرنا بها "دار الصياد".
نجوم وفن
التحديثات الحية
فريد شوقي: ملك الترسو، وحش الشاشة، الرجل الطيب
شجّع نجاح "الصياد" سعيد فريحة فأصدر سنة 1956 مجلة الشبكة، فنيّة أسبوعية. قال إنها صدرت "تؤنس وحدة شقيقتها البكر وتقاسمها الدار الشامخة، وهي مجلة الفن والمجتمع والجمال". في سنواتها الأولى لقيت "الشبكة" إقبالاً شديداً من القراء، ومع السنوات بلغ توزيعها أرقاماً قياسية. وفي سنة 1959 أصدر سعيد فريحة جريدة الأنوار، فأضافت الدار صحيفة يومية سياسية إلى مجلاتها، تحدّدت سياسة "الأنوار" بأنها مؤيدة لنهج الرئيس فؤاد شهاب لبنانياً، ومناصرة للرئيس المصري جمال عبد الناصر عربيّاً.
وفي السنة التالية أسس فرقة "الأنوار" للفنون الشعبية، وكان عرضها الأول من بطولة وديع الصافي، وفيه غنّى قصيدة يونس الابن "لبنان يا قطعة سما". استُقبلت عروض هذه الفرقة بترحاب في لبنان والعواصم العربية، ومدن عدّة في الاغتراب.
حين عرفت سعيد فريحة، كان عميد صرح إعلامي مرموق، صحافياً بارزاً من أعمدة الصحافة اللبنانية. في "دار الصياد" عمل كثيرون ممّن صاروا أعلاماً، كهشام أبو ظهر وطلال سلمان وسليم اللوزي ونبيل خوري وياسر هواري، وظل متواضعاً وقال: "سلّم الصحافة لا ينتهي، كلّما تسلقنا درجات ارتفعت درجات، وصار همّنا أن نتّقي السقوط لا أن نبلغ القمة".
سيرته الأولى عرفتها مما كُتب عنه، ومن بعض ما سمعته منه مباشرة. تقرّبت منه يؤنسني حديثه وتطربني حكاياته وذكرياته وتعليقاته الساخرة، كان يمضي النهار في دنيا الصحافة، وفي الليل يقصد المسارح والمقاهي، رفيقه في السهر جورج إبراهيم الخوري رئيس تحرير "الشبكة"، وحين راقبته عن كثب أدركت أن سلوكه الحاضر ذو صلة وثيقة بالماضي في السنوات الصعاب.
يحنّ على صغار المجتمع والفقراء، كريمٌ معهم وسَخِيّ العطاء. وفي سنة 1973 أنشأ "مؤسسة سعيد وحسيبة فريحة وأولادهما للخدمات الاجتماعية". كنت ألاحظ، حين يدعوني إلى مطعم، كرم ضيافته وأريحية الإكراميات التي يغدقها على العاملين. ومرة زرته في فندق بالقاهرة، ورأيت بجانبه على الطاولة رزمة من الأوراق النقدية يوزعها كحبّات الملبّس على كل من يؤدي له خدمة مهما كانت بسيطة. كان مدخناً شرهاً، لا يتحرك إلّا مزوّداً بمجموعة من علب السجائر. لكنه لا يدخن سيجارة كاملة، بل يسحب منها نفثتين ويطفئُها.
كان صديقاً لأهل السياسة وأهل الفن. ولم يفُتْه عرض مسرحية جديدة للكوميدي شوشو، وكنا نلتقيه أنا والنجم بعد العرض في مقهى، نسمع رأيه وتوجيهاته. ولا أنسى أنه زوّدني أحياناً بتعليقات ساخرة، ضمّنتُها شاكراً حوارات مسرحياتي.
السخرية التي ولدت معه ولازمته العمر كله وصاغ بها مقالاته، مارسها بعفوية في حياته اليومية. أذكر مرّة أنه كان يلعب الورق مع أصدقاء، وخلفه جلس متفرّج أصابه بالنحس فكان الخاسر الوحيد، فاقترح الأصدقاء تمديد وقت اللعب على أمل أن يربح الأستاذ، فالتفت إلى المتفرج وسأله "ناوي تمدّد؟".
وكان الوفاء من أبرز شيم سعيد فريحة. ممنوع على المحرّرين في مطبوعات الدار كافة أن يُسيئوا بكلمة إلى الذين أحبّهم: رياض الصلح وجمال عبد الناصر وفؤاد شهاب، والمطربة صباح صديقة العمر. وكان صديقاً للأخوَين علي ومصطفى أمين. أخبرني علي أمين "حين اعتُقِل مصطفى، ظلّ اثنان على وفاء، وتوسّطا لدى الرئيس المصري هما أم كلثوم وسعيد فريحة". وأخبر فريحة الريّس أنه سيستعين بخبرات علي أمين في "دار الصياد"، فوافق بشرط ألّا يهاجم النظام.
في 11 مارس/ آذار 1978 توفي بنوبة قلبية خلال زيارة إلى دمشق، عن 73 عاماً. استهلّ سعيد فريحة الحياةَ حزيناً قلقاً، وبدءاً من منتصفها أصبحَ سعيداً فَرِحاً.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

سعيد فريحة... من تحت الصفر إلى ذروة النجاح
سعيد فريحة... من تحت الصفر إلى ذروة النجاح

العربي الجديد

timeمنذ 8 ساعات

  • العربي الجديد

سعيد فريحة... من تحت الصفر إلى ذروة النجاح

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم كان سعيد فريحة يُكنّى بأبي عصام، نسبة إلى اسم ابنه البكر، وكانت مسيرة حياته تُختصر بكلمة "العصامية". تيتّم في الطفولة وتعملق في الكهولة. تزوج أبوه أمين فريحة بفتاة دمشقية، وبعد وفاتها المبكرة، اقترن بآنسة حموية أنجبت سعيداً وإخوته، واستقر ابن بلدة رأس المتن في بيروت، ثم اضطره الفقر سنة 1912 للهجرة إلى البرازيل على أمل الفرج فيستدعي العائلة، لكن نشوب الحرب العالمية الأولى قضى على الأمل. وفي مذكراته روى سعيد فريحة: "وبدأت والدتي تكافح ضد الجوع، جوعها وجوع أطفالها الأربعة، فكانت تأتي من برج حمود إلى بيروت لتهرِّب الخبز وتوزّعه علينا، ناشفاً أو مبلّلاً بالدموع. وكنت أنا في السابعة، أرافقها في رحلات التهريب". ضاقت سبل العيش فقررت الأم أن تصحب أولادها إلى حماة حيث أسرتها. انطلقوا سيراً على الأقدام، وتعرّضوا لغدر في بلدة تلكلخ بسورية. داهمهم راعٍ بغية سرقة ما يحملونه من زاد، وربّما من مال، فتصدّت له الأم فقتلها وقتل شقيق سعيد الأصغر. لم يصل إلى حماة سوى نصف العائلة بقيادة الطفل سعيد ابن العاشرة. انقطعت أخبار الوالد المهاجر، لعلّه كتب رسائل لم تصل أو لم تجد من يتسلّمها، لعله مات. (لاحقاً عرفت الأسرة أن الوالد مات في طريق العودة بحراً سنة 1927 ودُفن بالإسكندرية). وبكلمات سعيد فريحة: "خرجت من ويلات الحرب صبياً يتيماً بلا أبوين، ونحيلاً هزيلاً بلا عافية، وأكثر من ذلك أميّاً جاهلاً بلا علم"، لم يلتحق بالمدرسة سوى عامَين، ولم يبقَ في ذاكرته إلّا حروف الأبجدية وبضع كلمات. أمسكت الحياة عنه عطاياها، ولم ينعم سوى برعاية من أهل أمه. ولم يكونوا ميسورين، فمارس جميع الأعمال الممكنة وطلب من كلّ متعلّم صادفه أن يساعده في تحسين ملكة القراءة. إن الذي ينشأ في بيئة حرمان مماثلة، يغدو من المهمّشين أو يعاشر المنحرفين، لكن الطفل سعيد فريحة امتلك ذكاء فطرياً حاداً، ورغبة عنيدة في الصمود وفي قَهْر القهر، جعلته يدوس على المصاعب، الواحدة تلو الأخرى. انبثق من تحت الصفر، فارتقى سلّم النجاح درجةً درجة، وبلغ الذروة عندما أصبح مالك كبرى دور الصحافة في لبنان. قصة حياة سعيد فريحة أشبه بشريط سينمائي بمشاهد جياشة، وحكايا غنية بالعِبَر. مأساة تخفّفت حدتها بمرور السنوات، وبعد الدموع ارتسمت الابتسامات احتفاءً بالنهاية السعيدة. كانت حلب محطة رئيسية في مسيرته. قصدها سنة 1928 وهو في الثالثة والعشرين، ليعمل في صالون حلاقة للسيدات. كان قد تعلّم المهنة عند خليل، أخيه من أبيه. استوطن غرفة صغيرة، وعكف بعد عودته من العمل على القراءة، وكان قد طوّر قدراته، وأصبح يقرأ الصحف والكتب ذات الأسلوب السلس، يقرأها في ضوء مصباح الشارع توفيراً لاستهلاك الكهرباء، وقرر أن يغدو صحافياً يكتب على غرار الذين يقرأ كتاباتهم. اتصل بشكري كنيدر صاحب جريدة التقدم، وأخذ يرسل له المقالات. قال كنيدر إنها كانت حافلة بالأخطاء النحوية والإملائية لكنها ذات فكرة مبتكرة وصياغة طريفة، فتشجّع ونشرها. وأضاف ممتدحاً موهبة الصحافي الجديد "له في إيراد الأنباء وروايتها، طريقة فيها الشيء الكثير من التفنن والطرافة، وقد يقع على الخبر التافه فيرشّ عليه فلفلاً وقرنفلاً ويقدمه إلى القراء فيجدون فيه من المتعة والفكاهة ما يضاهي أجلّ الأخبار وأهمّها". والأهم ما قاله عنه أنّه كان يتعلم من الخطأ بعدما يعرف الصواب، ولم يكرّر الخطأ مرتين! وهذا مثال على جمال أسلوبه من مقالة ترجع إلى السنوات الأولى وكانت بعنوان "جولة صحفية في سيارة عرجاء". كتب: "تبعد بلدة إدلب عن حلب مسافة ساعة في السيارة، هذا إذا كانت سيارة ابنة حلال، أما إذا كانت مثل التي ركبناها، فلا تعجب إذا رأيت شروق الشمس ثلاث مرات أثناء الطريق". كشفت مقالات "التقدم" أن سعيد فريحة أحرز تقدّماً في الكتابة الصحافية، جعله يستغني تماماً عن مهنة الحلاقة. راسل جريدة القبس الدمشقية لصاحبها نجيب الريّس (أبو رياض) وصحيفة الراصد اللبنانية وكان الأديب وديع عقل ناشرها ورئيس تحريرها، وجريدة صوت الأحرار البيروتية التي أصدرها سعيد صبّاغة وخليل كسيب. وأصبح اسمه معروفاً في الأوساط الصحافية في بلاد الشام، وكانت "صوت الأحرار" تنشر مطالع مقالاته في صفحتها الأولى مرفقة بعبارة "لمراسلنا الحلبي الأستاذ سعيد فريحة"، في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين كان لقب "الأستاذ" يرافق اسمه. بعد عشر سنوات من الإقامة في حلب، عاد إلى بيروت سنة 1938. كان المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك قد أغراه بالعودة وأخبره أن الياس حرفوش يتهيأ لإصدار جريدة الحديث، يومية سياسية، وبالفعل أصبح سعيد فريحة في عداد محرّريها، كما كتب بعض المقالات لجريدة الصحافي التائه، وكانت ملائمة لذائقة صاحبها إسكندر الرياشي، المتمادي في السخرية في كتاباته كما في حياته. لكن الرياشي كان فوضوياً في إدارة شؤونه المالية، يستعذب الأخذ وينفر من العطاء. وحين قصد سعيد فريحة مكتب الجريدة لقبض مستحقاته، راوغه الرياشي بوساطة معاونه الإداري الذي انتحى بسعيد جانباً، وأخبره أن الأستاذ إسكندر بدأ يتعب وهو يبحث عن رئيس تحرير للصحيفة، وبخبث سأله هامساً "هل أنت مستعد لتولّي المهمة؟". طبعاً ردّ الصحافي الشاب بالإيجاب، فسمع العبارة التقليدية "أبشر خيراً". لم تتحقق البشرى من هذه الطريق، لكن سعيد فريحة البارع في انتزاع انتصاراته بيديه، جعل الحلم حقيقة، وصار رئيس تحرير مجلة الصياد، التي أصدرها سنة 1943 بالتزامن مع استقلال لبنان. مجلة تشبه صاحبها في مضمونها وفي أسلوب تحريرها. ملتزمة باستقلال البلاد، وكان رياض الصلح داعماً لها بحماسة. مجلة ساخرة في الكلمة وفي الصورة، إذ زيّنها سعيد فريحة بالرسوم الكاريكاتورية بريشة الفنان خليل الأشقر الذي كان يوقّع باسمه الأول خليل. وكان سعيد فريحة لا يبخل على الرسام بالأفكار. ومن أبرزها صورة تمثّل جندياً فرنسياً من المستعمرات يدوس بقدمه العارية السوداء على المستنيرين من أبناء البلاد ويقول "انا جئت أُمَدّنكم". كادت الصورة هذه أن تكلّفه السجن، لكن هنري فرعون، وزير الخارجية آنذاك، حال دون ذلك، وعندما فاحت روائح الفساد في عهد الشيخ بشارة الخوري، شنّت "الصياد" حملات صحافية طاولت "السلطان سليم"، أخ الرئيس، وحين تقرّر اعتقاله اختبأ بمنزل رياض الصلح. أخذ سعيد فريحة ينشر مقالة في كل عدد من "الصياد" مستوحاة من ذكرياته وأحداث حياته، هي أشبه باليوميات التي لا تخلو من مرارة ممزوجة بالسخرية، وجعل عنوانها "من جعبتي". مقالات وصفها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري بقوله "إنها فن الإيهام اللذيذ بين البراءة والإثم. أسلوبها يعتمد الكتابة الحاذقة، بها الوخز الذي يجرح ولا يريق الدماء"، وقال عنها سعيد فريحة "إنها قطعة من قلبي ووجداني، وجزء من حياتي وكياني. إنها حقيقتي وواقعي ومرآة نفسي في نواحي انطلاقها وتحررها من المظاهر الكاذبة"، وذاعت شهرة "الجعبة" في لبنان والبلاد العربية قاطبة، بل أسعفت صاحبها مالياً يوم لم يكن يملك ليرة واحدة. من عائداتها بدأ بناء صرح "دار الصياد" عام 1954، وكانت المجلة تصدر قبل ذلك من مكتب صغير في بناية قريبة من ساحة الشهداء. روى سعيد فريحة قائلاً: أصدرنا كتاباً بعنوان "الجعبة"، وأرسلت مئة "جعبة" إلى مئة صديق، وجمعنا مئة ألف ليرة وعمّرنا بها "دار الصياد". نجوم وفن التحديثات الحية فريد شوقي: ملك الترسو، وحش الشاشة، الرجل الطيب شجّع نجاح "الصياد" سعيد فريحة فأصدر سنة 1956 مجلة الشبكة، فنيّة أسبوعية. قال إنها صدرت "تؤنس وحدة شقيقتها البكر وتقاسمها الدار الشامخة، وهي مجلة الفن والمجتمع والجمال". في سنواتها الأولى لقيت "الشبكة" إقبالاً شديداً من القراء، ومع السنوات بلغ توزيعها أرقاماً قياسية. وفي سنة 1959 أصدر سعيد فريحة جريدة الأنوار، فأضافت الدار صحيفة يومية سياسية إلى مجلاتها، تحدّدت سياسة "الأنوار" بأنها مؤيدة لنهج الرئيس فؤاد شهاب لبنانياً، ومناصرة للرئيس المصري جمال عبد الناصر عربيّاً. وفي السنة التالية أسس فرقة "الأنوار" للفنون الشعبية، وكان عرضها الأول من بطولة وديع الصافي، وفيه غنّى قصيدة يونس الابن "لبنان يا قطعة سما". استُقبلت عروض هذه الفرقة بترحاب في لبنان والعواصم العربية، ومدن عدّة في الاغتراب. حين عرفت سعيد فريحة، كان عميد صرح إعلامي مرموق، صحافياً بارزاً من أعمدة الصحافة اللبنانية. في "دار الصياد" عمل كثيرون ممّن صاروا أعلاماً، كهشام أبو ظهر وطلال سلمان وسليم اللوزي ونبيل خوري وياسر هواري، وظل متواضعاً وقال: "سلّم الصحافة لا ينتهي، كلّما تسلقنا درجات ارتفعت درجات، وصار همّنا أن نتّقي السقوط لا أن نبلغ القمة". سيرته الأولى عرفتها مما كُتب عنه، ومن بعض ما سمعته منه مباشرة. تقرّبت منه يؤنسني حديثه وتطربني حكاياته وذكرياته وتعليقاته الساخرة، كان يمضي النهار في دنيا الصحافة، وفي الليل يقصد المسارح والمقاهي، رفيقه في السهر جورج إبراهيم الخوري رئيس تحرير "الشبكة"، وحين راقبته عن كثب أدركت أن سلوكه الحاضر ذو صلة وثيقة بالماضي في السنوات الصعاب. يحنّ على صغار المجتمع والفقراء، كريمٌ معهم وسَخِيّ العطاء. وفي سنة 1973 أنشأ "مؤسسة سعيد وحسيبة فريحة وأولادهما للخدمات الاجتماعية". كنت ألاحظ، حين يدعوني إلى مطعم، كرم ضيافته وأريحية الإكراميات التي يغدقها على العاملين. ومرة زرته في فندق بالقاهرة، ورأيت بجانبه على الطاولة رزمة من الأوراق النقدية يوزعها كحبّات الملبّس على كل من يؤدي له خدمة مهما كانت بسيطة. كان مدخناً شرهاً، لا يتحرك إلّا مزوّداً بمجموعة من علب السجائر. لكنه لا يدخن سيجارة كاملة، بل يسحب منها نفثتين ويطفئُها. كان صديقاً لأهل السياسة وأهل الفن. ولم يفُتْه عرض مسرحية جديدة للكوميدي شوشو، وكنا نلتقيه أنا والنجم بعد العرض في مقهى، نسمع رأيه وتوجيهاته. ولا أنسى أنه زوّدني أحياناً بتعليقات ساخرة، ضمّنتُها شاكراً حوارات مسرحياتي. السخرية التي ولدت معه ولازمته العمر كله وصاغ بها مقالاته، مارسها بعفوية في حياته اليومية. أذكر مرّة أنه كان يلعب الورق مع أصدقاء، وخلفه جلس متفرّج أصابه بالنحس فكان الخاسر الوحيد، فاقترح الأصدقاء تمديد وقت اللعب على أمل أن يربح الأستاذ، فالتفت إلى المتفرج وسأله "ناوي تمدّد؟". وكان الوفاء من أبرز شيم سعيد فريحة. ممنوع على المحرّرين في مطبوعات الدار كافة أن يُسيئوا بكلمة إلى الذين أحبّهم: رياض الصلح وجمال عبد الناصر وفؤاد شهاب، والمطربة صباح صديقة العمر. وكان صديقاً للأخوَين علي ومصطفى أمين. أخبرني علي أمين "حين اعتُقِل مصطفى، ظلّ اثنان على وفاء، وتوسّطا لدى الرئيس المصري هما أم كلثوم وسعيد فريحة". وأخبر فريحة الريّس أنه سيستعين بخبرات علي أمين في "دار الصياد"، فوافق بشرط ألّا يهاجم النظام. في 11 مارس/ آذار 1978 توفي بنوبة قلبية خلال زيارة إلى دمشق، عن 73 عاماً. استهلّ سعيد فريحة الحياةَ حزيناً قلقاً، وبدءاً من منتصفها أصبحَ سعيداً فَرِحاً.

رحيل عصمت داوستاشي.. الفن أداةً للتمرد
رحيل عصمت داوستاشي.. الفن أداةً للتمرد

العربي الجديد

timeمنذ 4 أيام

  • العربي الجديد

رحيل عصمت داوستاشي.. الفن أداةً للتمرد

رحل صباح اليوم الثلاثاء الفنان المصري عصمت داوستاشي (1943 – 2025)، تاركاً وراءه إرثاً فنياً متنوعاً يمزج بين التشكيل والتأمل الصوفي، وبين السخرية المريرة والمعالجات الجمالية، وعُرف براهب الإسكندرية وعميد فنانيها، جمع بين التمرد والعزلة، وبين الحنين إلى الماضي ورفضٍ لواقع معاصر مليءٍ بالتناقضات. في بداياته، عُرف داوستاشي باسم عصمت عبد الحليم، لكنه قرر عام 1971 تغيير اسمه إلى عصمت داوستاشي، مستنداً إلى اسم عائلته، معلناً بذلك تحولاً جذرياً في مسيرته الفنية. لم تكن هذه الخطوة مجرد تغييرٍ للاسم، بل كانت إعلاناً عن ميلاد فنان جديد يحمل رؤيةً مختلفة للفن والحياة. وبدأ مسيرته الفنية بعمل تشكيلات تجريدية، مستفيداً من خبرته في التصوير الفوتوغرافي وتقنيات الكولاج (القص واللصق)، قبل أن ينتقل إلى الرسم بأسلوبٍ جديد يميل إلى السريالية، وربما إلى الدادائية أيضاً. كانت لوحاته مشحونة بالرموز والعناصر، وبألوان قوية تتخذ أشكال تلافيف وأربطة، ثم ما لبث أن تحول إلى نوع من التصوف الفني، لكنه بقي فناناً كثير التحول والتغيّر، يجمع بين التقنيات المختلفة ويوظفها في أعماله التي كانت دوماً ناقدة للواقع الاجتماعي والسياسي. كانت لوحاته مشحونة بالرموز والعناصر، وبألوان قوية تتخذ أشكال تلافيف وأربطة تميز داوستاشي بروح التمرد منذ بداياته، إذ رفض الاستمرار في مرسم الفنان السكندري سيف وانلي، وهو أحد أبرز رواد الفن في الإسكندرية، لأنه شعر بأن سيطرة ذلك الفنان على تلاميذه تحولهم إلى نسخ مكررة منه. أراد الراحل أن يكون صوتاً خاصاً ومختلفاً. هذا التمرد استمر معه حتى بعد التحاقه بكلية الفنون الجميلة، حيث كان يحطم ويمزق أعماله بعد إنهائها وتقييمها من قبل الأساتذة، لأنها في نظره لم تكن نابعة من داخله، بل كانت تؤدى بتكليف، وليست إفرازاً حراً لقريحته. في وقت لاحق، اعترف داوستاشي بأنه ربما كان مخطئاً في بعض مواقفه تلك، لكنها تبقى شهادة على رفضه للتقليد والتبعية. إحدى أكثر المحطات تأثيراً في تجربة داوستاشي الفنية كانت "المستنير دادا"، وهو كيان فني صوفي ابتكره الفنان في عام 1977. شكّل المستنير دادا علامة فارقة وثيمة جوهرية تحمل في طياتها ملامح الفنان وميوله الروحية والفكرية. ارتبط هذا المفهوم ارتباطاً وثيقاً بجذور الفنان التي تعود إلى جزيرة كريت، حيث يشير في سيرته الذاتية إلى صلة قرابة تجمع عائلته بإحدى الطوائف الصوفية التي آثرت العزلة والانزواء بعيداً عن صخب المدن. من أعمال داوستاشي (صفحة الفنان الراحل على فيسبوك) أولئك المتصوفة الذين تأملهم داوستاشي في شبابه، ظل يتساءل عن حالهم إن عادوا يوماً إلى الناس: هل يمكنهم التكيّف؟ وكيف سيكون شكل حضورهم؟ من هذه الأسئلة وُلِدت فكرة "المستنير دادا" لتتجسد في لوحات تنبض بالرمز والأسطورة، يطلّ من خلالها هذا الكيان مرتدياً البياض، ومحاطاً بهالة من الغموض والتجلي. أما كلمة "دادا"، فهي تعني "المعلّم" في اللغة السواحلية، ويمكن أيضاً تأويلها ضمن سياق يتقاطع مع حركة "الدادائية" التي نشأت كصرخة فنية احتجاجية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، اعتراضاً على عبثية الواقع ووحشيته. وهو ما يتقاطع بدوره مع فلسفة داوستاشي الفنية، التي لجأت إلى الخيال والتحرر وسيلةً للهروب من الواقع الصادم. في عام 1968، انتقل داوستاشي إلى القاهرة للعمل بالتلفزيون المصري، حاملاً أحلاماً كبيرة بالعمل في السينما، التي رأى فيها "الوعاء الذي يمكنه من خلاله أن يجمع شتات اهتماماته المتشعبة في الرسم والتصوير والكتابة بأشكالها، لكن تجربة القاهرة لم تدم سوى ستة أشهر، عاد بعدها إلى مدينته الحبيبة. في تلك الفترة، ظهرت المآذن في رسوماته، وبدأ في تكثيف العناصر الفنية، مستخدماً تقنيات القص واللصق لأول مرة. ومع ذلك، لم يتحمل داوستاشي القاهرة، كما قال: "لم أتحمل القاهرة، ولا أتحملها حتى الآن، لكنني أزورها من حين لآخر فهي مصدر إلهام رائع". وطوال حياته ابتكر مجموعة من العلامات الرمزية التي تكررت في أعماله، أبرزها "الكف" و"السهم". قدم الكف لأول مرة في عام 1973 في سلسلة من اللوحات المرسومة بالأحبار، ثم أعاد صياغة بعضها بالألوان الزيتية. الكفّ لدى داوستاشي هو رمز ثنائي يحمل معاني القوة والعطاء والحنو والرحمة، ولكنه أيضاً يحمل إشارات إلى التضرع والاختلاف بين البشر. أما السهم، فقد رسمه في تشكيلات زخرفية متنوعة، حاملاً دلالات القتل والإرشاد، ومستوحى من الميثولوجيا الرومانية، حيث كان السهم أداة كيوبيد لإصابة القلوب بالحب. آداب التحديثات الحية قصور الثقافة المصرية.. لماذا تتكرر الشائعات عن إغلاقها؟

جولييت بينوش وتدجين الإبادة
جولييت بينوش وتدجين الإبادة

العربي الجديد

timeمنذ 5 أيام

  • العربي الجديد

جولييت بينوش وتدجين الإبادة

أعادت النّجمة الفرنسية جولييت بينوش، في كلمتها في افتتاح مهرجان كان، تذكيرنا بنموذج التعاطف المنقوص الذي يفصلُ الضّحية من سياقها، لتنفرد بالمشهد مع تغييب المجرم، الذي لولاه لما كانت الضحيةُ ضحيةً. معاذ الله! ( في هذه المواقف) أن تكون إسرائيل دولة مجرمة يستحقّ قادتها جميعهم المحاكمة على جرائم الحرب التي ارتكبوها. فتحضر الطفلة هند رجب والمصوّرة الشابة فاطمة حسّونة مع كلماتهما الأخيرة، على ألسنة نجوم ونجمات سينما، في تعاطف مؤثّر لكن من دون تنديد. الغزّاويون ضحايا؟... نعم. الإبادة حقيقة؟... نعم. تتعرض غزّة لهجوم وحشي؟... نعم. لكن من خلفَ ذلك كلّه، لا يهمّ. هكذا يحدث التعاطف مع أطفال فلسطينيين أُزهقت أرواحهم البريئة، وهكذا تتضامن شخصيات عالمية مع صحافيين اغتيلوا. لكن، من دون التطرّق إلى السياق، إلى القاتل. تدجين الإبادة هذا أقلّ ما يوصف به هذا السلوك. فعندما تقصّ الضحية من المشهد، وتسحبها خارجاً، تحرمها من الحقّ في الإنصاف حتى بعد الموت، كأنّ موتها حدث عشوائي، كما قد يقصّ أحدهم ضحية من الحرب العالمية الأولى أو الثانية، من لائحة ضحايا حرب ضخمة بين دول كبيرة، في سياق الحديث عن آثار الحرب. ولو أن المجرم الأكبر في هذه من وجهة النظر الغربيّة هو هتلر وحده لا غير. لكنّ الحرب على غزّة حربٌ من طرف واحد، على منطقة محاصرة ممنوعة من كلّ شيء. كيف تنتقي ضحية منها لتخصّها بالتعاطف؟... لو على الأطفال، فهم بعشرات الآلاف، لو على النساء فهنّ أيضاً كذلك، لو على الصحافيين فهم بالمئات. لا نقص في مخزون الضحايا، ويصعب الإلمام بظروف استشهادهم، لكنّ القاتل واحد ومعروف اسمه وفصله. وبالتالي، هو أدعى إلى الذكر، والإشارة إليه بإصبع واحدة تكفي لخلق الأثر المطلوب. ربّما لو حدث هذا في بداية الحرب لكان مقدّراً. لكن الآن، هناك شيء أخطر يحدث في هذه اللحظة بالذات، وهو التجويع الكامل. وحين كنّا نظنّ أنه ما من شيء أكثر هولاً من القتل المجنون، جاء هذا الحصار ليقتل ما تبقّى، ولهذا هو أدعى للحديث عنه الآن لإيقافه. الموت جوعاً أسوأ من الموت بالقصف. على الأقلّ هذا الأخير يحدث في لحظة، بينما موت الجائع بطيء وطويل الأمد، في رحلة عذاب مهولة. فكيف إذا كان طفلاً؟ بالطبع، يحدُث هذا مع سكوت دول عربية تغضّ الطرف، وتواصل عقد الاتفاقيات مع الكيان المجرم، أمر مخزٍ، ودرجة انحطاط لم تحدث قط في تاريخ المنطقة العربية. حتى في أحط مراحلها، وفي فترات الاستعمار. مع ذلك، كان هناك موقف وسعي إلى إدانة المجرم. هذا الانخراط العربي كلّه في حلّ أزمة سورية، وهي أزمة عاش معها السوريون الأهوال (لا شكّ)، لكن ماذا عن أهوال غزّة، هل من مُنخرِط؟ وهل من دولة "شجاعة"، أو من دولة تقول إنها ذات ثقل دولي وتمنح مئات المليارات من أجل أرواح غالية ونفسية تبقّت في غزّة. عودة إلى الشخصيات المتعاطفة مع غزّة، بعضها وقف بالحرف ضدّ إسرائيل مع غزّة، وهي شخصيات كان لها موقف معاكس في الفترة ما بعد 7 أكتوبر (2023)، مثل النجمة نتالي بورمان الأميركية الإسرائيلية التي رفضت أخيراً جائزةً إسرائيليةً لهذا السبب. لكن في السياق العام، عندما يريد المتعاطف أن يكسب الطرفَين، فهو يختار قصّةً مؤثّرةً يرويها وينجو من انتقاد المجرم، في موقف غريب يمسك فيه بيد القاتل والمقتول. مع أن أول ردّة فعل إنساني بعد حدوث جريمة، هو البحث عن القاتل، وتحويل مشاعر الحزن إلى سعي حثيث لمعاقبة المجرم. هذا الفعل الوحيد الطبيعي، أمّا اللجوء إلى الالتفاف على الجريمة فهو أمر لا يقلّ بؤساً. الضحية لا تحتاج إلى تعاطف مجزّأ، بل إلى إنقاذها إذا أمكن ذلك، أو منع تكرار الجريمة، التي لا تنفكّ تتكرّر كلّ لحظة. المثال الذي ضربته عشرات من الأسماء الكبيرة في السينما العالمية بإدانتها "صمت" العالم الثقافي في مواجهة الحرب في غزّة، وذلك في مقال رأي نُشر عشيّة افتتاح مهرجان كان السينمائي، خير نموذج للموقف الكامل الذي لا يلعب على الحبلَين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store