logo
دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى

دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى

جريدة الاياممنذ 14 ساعات

أعرف هاني من عصر ما قبل الفيسبوك، من زمن حرائق ماسنجر الهوت ميل والمدونات الشخصية حيث التواصل بالثرثرة والغموض والتخفي الحلو وغياب البيانات ومطاردة الصديقات، وممارسة ألذ أنواع الانتقام العاطفي والتشفي (البلوك)، كان اسم هاني يتردد على ألسنة الصديقات بحماسة وإثارة، أضفته على الماسنجر لأعرف هذا الساحر، أو لاستكشف ما يميزه ويجعله حديث الألسنة.
لم أحدثه مطلقاً، وظل ضوؤه الأخضر في مدار مراقبتي، أحترق بنجوميته وأموت بظلامي، فيما بعد، بعد انفجار العالم بالفيسبوك والواتس أب والتويتر، والإيميل، صار هاني صديقي، التقيته في معارض الكتب محاطاً بالمحبين، اكتشفت فيه مثقفاً كبيراً بدم خفيف ودماثة وطيبة قلب كبيرة، شتمت الصديقات اللواتي أعطينني عنه صورة خارجية سطحية عنوانها (كيتشي) صريح: شاعر المرأة اللطيف، قرأت لهاني نصوصه بتركيز، بعيداً عن تقييمات الذائبات، فوجدت فيه عمقاً كبيراً، بالنسبة لي كان شاعر الهشاشة الإنسانية الجميلة، صوره الشعرية لا أثر (لكيتش) فيها، ممتلئة بأفكار وصور تزعزع ولا تستقر، تشكك ولا تهنئ.. هذه دردشة مع هاني:
• نديم، كل هذا الحب من الناس.. ما مصدره ولماذا وكيف؟ هل أنت ملاك؟
- يا لهذا السؤال في بداية الحوار، إنه يجعلني أذهب معك حيث أردت.
أتعلم؟ عشت حياة قاسية عكس ما يبدو ربما، خبرت كافة المآسي، وخاصة الموت، موت أهلي وأعز أصحابي بمتتالية يصعب تصديقها، هذا كفيل بأن تفهم أن العمر أقصر من أي شرّ.
لدي شروري بالتأكيد، لست ملاكاً أبداً. إنما أفعل كل شيء إلا أن أوذي أحداً أو أضرّ به.. أخاف على ما بنيته داخلي من قيم، هذا أهم لدي من أي إنسان خانني أو خذلني، أكتفي بالابتعاد وإن ذهبت لا أعود. هذا أقسى ما لدي. الحياة قصيرة وحربي المستمرة داخلي تشغلني عن العراك مع الآخرين.
• قصيدتك لذيذة وطعمها كطعم فطيرة التفاح، وأنت ذكي بما فيه الكفاية لتعرف أن الطعم الحلو لا يكفي. ثمة حريق تدسه داخل الفطيرة، ما مفهومك لخلود وتأثير الشعر على الناس؟
- أنا لدي موقف مع التعالي بكل أشكاله، التعالي البشري، والجمالي في الزي والزخرف والحياة، وبطبيعة الحال، لا أحب التعالي اللغوي على الإطلاق، ابتذال البلاغات وفرد المعاجم وهدر الفرائد والموارد اللغوية أمام السامعين، ثمة جانب مزيف في هذا.
من وجهة نظري، على الشعر أن يكون عبقرياً يفكك قنبلة اللغة العنقودية تلك ويطيّرها فراشات بين أيدي الطيبين والحزانى، أشعر الشعراء عندي من لا يلبس كامل عدته البلاغية ويظهر إلى الناس، من تتلامع أثواب نبوغه في خزائنه ولكن يلبس جلاليب التردد!
أشعر الشعراء بالنسبة لي من يخاطب الناس بلسانهم دون أن يتخلى عن هيبة البلاغة. البلاغة التي يصفها ابن المقفع بأنها لفظ إذا سمعه الجاهل، ظنّ أنه يحسن قول مثله!
ولا بد لي من الإشارة، إلى أنني متذوق رفيع للقصائد الذهنية والفلسفية والتي تطرح أسئلة وجودية كبرى، ولكن لا أحب كتابتها أو لا أجيدها ربما، فهي لا تشبهني بساطة ولا لغة.
• أنت سوري. بما فيه الكفاية لكنك فلسطيني جداً باستمرار، كيف تعرفت على الألم الفلسطيني الكبير، أو لمسك الجرح الفلسطيني.. متى وكيف؟
- أنا من أبٍ سوري، ومن أم فلسطينية، هذا يفسر الأمر ربما، وقد وصفت تلك العلاقة العجائبية في نصٍ لي، أقول فيه: وكنتُ ثاني اثنين/ إذ أنا في الغار، أنينٌ في مواجهة أنين/ نصفٌ سوريٌ ونصفٌ من فلسطين/ كنت أضحكُ وأبكي، لم تبض حمامةٌ، ولا عشّشت عنكبوت/ فقط، كان الثاني يمسحُ شعرَ الأولِ كيتيم ويهمس له: "لا تحزن.. إن الله معنا".
لدي خالٌ اسمه مصطفى، وهو جنرال سابق، كان يصرّ دوماً على ذكر فلسطين ولو كان الحديث عن هونولولو، هذا التشبّث باللهجة والأرض، هذا التواطؤ الضمني في دار جدي على الحديث باللكنة الفلسطينية وذكر النكبة والنكسة والحروب والعمليات الفدائية، أقحمتني قسراً في القضية بعيداً عن البعد الجيني.
• أغار من تدفق المعجبين حولك يا هاني كيف تصنف المعجبين؟ هل تصدقهم؟ عما يبحثون فيك؟
- أخاف حقاً من مصطلح "معجبين"! من حسن حظي أنني أول عمري عملت بالقرب من المثقفين الكبار، ورأيت في الكثير منهم بأم عيني التي سيأكلها الدود، أمراضهم ونرجسيتهم وزيفهم، ومن قرفي هذا كقارئ قبل أن أصبح كاتباً، حرصت على أن أكون كما أنا بـ"عجري وبجري"، لا أخدع ولا أقدم شخصاً غيري في نصوصي، هذا أنا، من يضحك رغم حزنه، ويردّ بكل محبة وصدق على الجميع رغم هذا الكم المهول من الأعمال، وذلك بوصفهم أصدقاء لا معجبين. بيننا تبادل روحي ونفعي إن شئت. أنا بحاجة لهم وهم بحاجة لي. هكذا أعيش وهكذا أنا بطبعي.
أصادف الكثير ممن يقرؤون لي بالمطارات والمطاعم وغير ذلك، ونصبح أصدقاء حقيقيين على الفور، إذ إنه يعرف أنني أحب القهوة ومونيكا بيلوتشي وعمر سليمان والمتنبي والنساء الجميلات والنكتة الذكية. لا مسافة بيننا سوى الشاشة.. وقطعناها.
• من هو الشاعر الفلسطيني الأول الذي أحرق سهولك وجمد الدم في عروقك طرباً وجمالاً؟
- الجواب كلاسيكي جداً، محمود درويش طبعاً، ذلك الشاعر الأسطوري الذي فتح الباب على مصراعيه لتعلقي بالأدب الفلسطيني، لاحقاً غسان كنفاني وتوفيق زياد وسميح القاسم، إلا أنني وبصدق أحب هذا الجيل المعاصر أكثر وتعرفهم اسماً اسما، فجيل اليوم أكثر تعباً وصدقاً ولا منافع له حزبية أو غيرها.
• متى ستزور فلسطين يا هاني ونقرأ معاً على شاطئ عكا؟ هل تتخيل هذه الأمسية حدثني عنها. ماذا حدث بالضبط فيها؟
- ارتعدت مرتين في حياتي، واحدة منها وأنا أقف جنوب لبنان وأرى سهوب فلسطين وأشم هواءها المحمّل برائحة الزعتر البرّي، بكيت بمرارة طفلٍ وقهر رجلٍ لا يقوى على التقدم خطوتين باتجاه بلاده المنهوبة.
في عملي كرئيس تحرير لمجلة طيران، زرت ثلثي العالم، وما زالت حرقتي فلسطين.
سأزور أولاً حيفا، كرمى لأمي، وإن جئت عكّا، سأقبل المدافع كلها وأقبل السور، ونشرب قهوة في المدينة القديمة قبل الأمسية، أنا وأنت مع أصحابنا الكثر هناك، ثم سأقرأ من كل قلبي.. من كل كل قلبي.
• نصوصك حرة مبتهجة تركض بين الحقول كالأطفال. عم تبحث نصوصك يا صديقي؟
- صدقني أنني أكتب وحسب، لا أفكر تماماً بأي اتجاه ستذهب تلك النصوص، ولا من سيقرؤها، ولا ماذا سيقولون عنها، وحالما أفكر بالمكان والزمان والأشخاص، أفشل فشلاً ذريعاً.
أنا أكتب وحسب، مرة شعراً عمودياً، مرة تفعيلة، مرة نثراً، ومرة من كل هذا غير آبه لا بالمناهج ولا بالنقد.
هذا أنا أكتب ما يشبه أناشيد الرعاة، مرة تسوقني ومرة أسوقها، مرة إلى الغدران والماء السلسبيل، ومرة إلى الظمأ والهلاك، ومرة أفشل وأخرى أنجح.
إنما ربما، أقول ربما، أبحث عن نفسي من خلال لغتي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى
دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى

جريدة الايام

timeمنذ 14 ساعات

  • جريدة الايام

دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى

أعرف هاني من عصر ما قبل الفيسبوك، من زمن حرائق ماسنجر الهوت ميل والمدونات الشخصية حيث التواصل بالثرثرة والغموض والتخفي الحلو وغياب البيانات ومطاردة الصديقات، وممارسة ألذ أنواع الانتقام العاطفي والتشفي (البلوك)، كان اسم هاني يتردد على ألسنة الصديقات بحماسة وإثارة، أضفته على الماسنجر لأعرف هذا الساحر، أو لاستكشف ما يميزه ويجعله حديث الألسنة. لم أحدثه مطلقاً، وظل ضوؤه الأخضر في مدار مراقبتي، أحترق بنجوميته وأموت بظلامي، فيما بعد، بعد انفجار العالم بالفيسبوك والواتس أب والتويتر، والإيميل، صار هاني صديقي، التقيته في معارض الكتب محاطاً بالمحبين، اكتشفت فيه مثقفاً كبيراً بدم خفيف ودماثة وطيبة قلب كبيرة، شتمت الصديقات اللواتي أعطينني عنه صورة خارجية سطحية عنوانها (كيتشي) صريح: شاعر المرأة اللطيف، قرأت لهاني نصوصه بتركيز، بعيداً عن تقييمات الذائبات، فوجدت فيه عمقاً كبيراً، بالنسبة لي كان شاعر الهشاشة الإنسانية الجميلة، صوره الشعرية لا أثر (لكيتش) فيها، ممتلئة بأفكار وصور تزعزع ولا تستقر، تشكك ولا تهنئ.. هذه دردشة مع هاني: • نديم، كل هذا الحب من الناس.. ما مصدره ولماذا وكيف؟ هل أنت ملاك؟ - يا لهذا السؤال في بداية الحوار، إنه يجعلني أذهب معك حيث أردت. أتعلم؟ عشت حياة قاسية عكس ما يبدو ربما، خبرت كافة المآسي، وخاصة الموت، موت أهلي وأعز أصحابي بمتتالية يصعب تصديقها، هذا كفيل بأن تفهم أن العمر أقصر من أي شرّ. لدي شروري بالتأكيد، لست ملاكاً أبداً. إنما أفعل كل شيء إلا أن أوذي أحداً أو أضرّ به.. أخاف على ما بنيته داخلي من قيم، هذا أهم لدي من أي إنسان خانني أو خذلني، أكتفي بالابتعاد وإن ذهبت لا أعود. هذا أقسى ما لدي. الحياة قصيرة وحربي المستمرة داخلي تشغلني عن العراك مع الآخرين. • قصيدتك لذيذة وطعمها كطعم فطيرة التفاح، وأنت ذكي بما فيه الكفاية لتعرف أن الطعم الحلو لا يكفي. ثمة حريق تدسه داخل الفطيرة، ما مفهومك لخلود وتأثير الشعر على الناس؟ - أنا لدي موقف مع التعالي بكل أشكاله، التعالي البشري، والجمالي في الزي والزخرف والحياة، وبطبيعة الحال، لا أحب التعالي اللغوي على الإطلاق، ابتذال البلاغات وفرد المعاجم وهدر الفرائد والموارد اللغوية أمام السامعين، ثمة جانب مزيف في هذا. من وجهة نظري، على الشعر أن يكون عبقرياً يفكك قنبلة اللغة العنقودية تلك ويطيّرها فراشات بين أيدي الطيبين والحزانى، أشعر الشعراء عندي من لا يلبس كامل عدته البلاغية ويظهر إلى الناس، من تتلامع أثواب نبوغه في خزائنه ولكن يلبس جلاليب التردد! أشعر الشعراء بالنسبة لي من يخاطب الناس بلسانهم دون أن يتخلى عن هيبة البلاغة. البلاغة التي يصفها ابن المقفع بأنها لفظ إذا سمعه الجاهل، ظنّ أنه يحسن قول مثله! ولا بد لي من الإشارة، إلى أنني متذوق رفيع للقصائد الذهنية والفلسفية والتي تطرح أسئلة وجودية كبرى، ولكن لا أحب كتابتها أو لا أجيدها ربما، فهي لا تشبهني بساطة ولا لغة. • أنت سوري. بما فيه الكفاية لكنك فلسطيني جداً باستمرار، كيف تعرفت على الألم الفلسطيني الكبير، أو لمسك الجرح الفلسطيني.. متى وكيف؟ - أنا من أبٍ سوري، ومن أم فلسطينية، هذا يفسر الأمر ربما، وقد وصفت تلك العلاقة العجائبية في نصٍ لي، أقول فيه: وكنتُ ثاني اثنين/ إذ أنا في الغار، أنينٌ في مواجهة أنين/ نصفٌ سوريٌ ونصفٌ من فلسطين/ كنت أضحكُ وأبكي، لم تبض حمامةٌ، ولا عشّشت عنكبوت/ فقط، كان الثاني يمسحُ شعرَ الأولِ كيتيم ويهمس له: "لا تحزن.. إن الله معنا". لدي خالٌ اسمه مصطفى، وهو جنرال سابق، كان يصرّ دوماً على ذكر فلسطين ولو كان الحديث عن هونولولو، هذا التشبّث باللهجة والأرض، هذا التواطؤ الضمني في دار جدي على الحديث باللكنة الفلسطينية وذكر النكبة والنكسة والحروب والعمليات الفدائية، أقحمتني قسراً في القضية بعيداً عن البعد الجيني. • أغار من تدفق المعجبين حولك يا هاني كيف تصنف المعجبين؟ هل تصدقهم؟ عما يبحثون فيك؟ - أخاف حقاً من مصطلح "معجبين"! من حسن حظي أنني أول عمري عملت بالقرب من المثقفين الكبار، ورأيت في الكثير منهم بأم عيني التي سيأكلها الدود، أمراضهم ونرجسيتهم وزيفهم، ومن قرفي هذا كقارئ قبل أن أصبح كاتباً، حرصت على أن أكون كما أنا بـ"عجري وبجري"، لا أخدع ولا أقدم شخصاً غيري في نصوصي، هذا أنا، من يضحك رغم حزنه، ويردّ بكل محبة وصدق على الجميع رغم هذا الكم المهول من الأعمال، وذلك بوصفهم أصدقاء لا معجبين. بيننا تبادل روحي ونفعي إن شئت. أنا بحاجة لهم وهم بحاجة لي. هكذا أعيش وهكذا أنا بطبعي. أصادف الكثير ممن يقرؤون لي بالمطارات والمطاعم وغير ذلك، ونصبح أصدقاء حقيقيين على الفور، إذ إنه يعرف أنني أحب القهوة ومونيكا بيلوتشي وعمر سليمان والمتنبي والنساء الجميلات والنكتة الذكية. لا مسافة بيننا سوى الشاشة.. وقطعناها. • من هو الشاعر الفلسطيني الأول الذي أحرق سهولك وجمد الدم في عروقك طرباً وجمالاً؟ - الجواب كلاسيكي جداً، محمود درويش طبعاً، ذلك الشاعر الأسطوري الذي فتح الباب على مصراعيه لتعلقي بالأدب الفلسطيني، لاحقاً غسان كنفاني وتوفيق زياد وسميح القاسم، إلا أنني وبصدق أحب هذا الجيل المعاصر أكثر وتعرفهم اسماً اسما، فجيل اليوم أكثر تعباً وصدقاً ولا منافع له حزبية أو غيرها. • متى ستزور فلسطين يا هاني ونقرأ معاً على شاطئ عكا؟ هل تتخيل هذه الأمسية حدثني عنها. ماذا حدث بالضبط فيها؟ - ارتعدت مرتين في حياتي، واحدة منها وأنا أقف جنوب لبنان وأرى سهوب فلسطين وأشم هواءها المحمّل برائحة الزعتر البرّي، بكيت بمرارة طفلٍ وقهر رجلٍ لا يقوى على التقدم خطوتين باتجاه بلاده المنهوبة. في عملي كرئيس تحرير لمجلة طيران، زرت ثلثي العالم، وما زالت حرقتي فلسطين. سأزور أولاً حيفا، كرمى لأمي، وإن جئت عكّا، سأقبل المدافع كلها وأقبل السور، ونشرب قهوة في المدينة القديمة قبل الأمسية، أنا وأنت مع أصحابنا الكثر هناك، ثم سأقرأ من كل قلبي.. من كل كل قلبي. • نصوصك حرة مبتهجة تركض بين الحقول كالأطفال. عم تبحث نصوصك يا صديقي؟ - صدقني أنني أكتب وحسب، لا أفكر تماماً بأي اتجاه ستذهب تلك النصوص، ولا من سيقرؤها، ولا ماذا سيقولون عنها، وحالما أفكر بالمكان والزمان والأشخاص، أفشل فشلاً ذريعاً. أنا أكتب وحسب، مرة شعراً عمودياً، مرة تفعيلة، مرة نثراً، ومرة من كل هذا غير آبه لا بالمناهج ولا بالنقد. هذا أنا أكتب ما يشبه أناشيد الرعاة، مرة تسوقني ومرة أسوقها، مرة إلى الغدران والماء السلسبيل، ومرة إلى الظمأ والهلاك، ومرة أفشل وأخرى أنجح. إنما ربما، أقول ربما، أبحث عن نفسي من خلال لغتي.

الشوكولاتة وبحّارة
الشوكولاتة وبحّارة

جريدة الايام

timeمنذ 20 ساعات

  • جريدة الايام

الشوكولاتة وبحّارة

كيف سأشرحُ موتَك الكثير يا سليم؟ فأنت لستَ قصيدة عموديّة في منهاجٍ مدرسي، ولستَ مسألة رياضيّة، ولستَ طقساً مضطرباً سببه حَوَلٌ مفاجئٌ في الفصول، أنت عائلة يا صديق، كيف إذاً سأشرحُ موتَ عائلة يا سليم؟، لا أمتلكُ – واللهِ – رفاهيةَ هذا الشرح: أن أقول شيئاً عنك وعن سلوى ومصطفى وليلى ولمى وجمانة، تمهل تمهل هل قلتُ «جُمانة!!1»؟ يا الله… جُمانة، جُمانة، جُمانة، جُمانة! حسناً، سأبدأ من جُمانة. جُمانة التي من اثنين وعشرين عاماً من المطر، من عصافير في اللغة، ورد من الأمنيات، ومن نهرٍ من الشوكولاتة؛ جُمانة التي من أبيها، من غزّة، من فلسطين.. قبل خمسةَ عشرَ عاماً، وفي رام الله، على هامش معرض كتاب، كنتُ أجلس مع سليم – أو لأكن واقعياً: كنتُ أجلس في صوت سليم – وهو يحكي عن ابنته جُمانة. كان صوته من الاتساع والحماسة والحيوية بحيث يمكن أن أجلس فيه متربعاً على أريكة، وأن تجلسَ في صوت صديقٍ يحكي بحرارةٍ عن ابنته ذاتِ السبعة أعوام، فهذا يعني أنك تجلسُ في عين الزمن: "- هل تعرف يا زياد أن جُمانة عبقرية في الرسم؟ ترفع البحر ليصير سماءً، وتُسقط السماء لتصبح بحراً. هل تتخيّل المشهد يا زياد؟ هذا المشهدُ من اختراع ابنتي جُمانة. جُمانة حياتي يا زياد… حياتي، حياتي. هل تعرف ماذا تقول معلّمةُ اللغة العربيّة عن جُمانة يا صديقي؟ تقول إن بنات الشعراء قصائد، وإنها فخورة لأنها تُعلّم قصيدة من قصائد غزّة. هل تعرف ماذا تُحبّ جُمانة، يا صديقي؟ تُحبّ الله وغزة والمطرَ وآذنة مدرستها أم أيوب، ومحمود درويش، وصديقتها نسرين والقواربَ، وكُتب أبيها، والشوكولاتة.. هل تعرف بماذا تحلمُ جُمانة، يا صديقي؟ أن تصبح جِنّيّةً ترشدُ بحّارةَ غزّة الفقراءَ إلى بقع السمك الكثير، تحفظُ جُمانة أسماءَ البحّارة الفقراء، وتعرفهم شَهقةً شَهقة، وسُعالاً سُعالاً، وتميّزهم من خطواتهم وظلالهم وأصواتهم وقواربهم النحيلة، ونعاسهم وخوفهم وتعبهم وأفواههم قليلة الأسنان..". على هامشِ معرض كتابٍ قبل خمسةَ عشرَ عاماً في رام الله، جلستُ مع سليم النفّار: كان سليم جبلاً ضخماً من النار وكتلة عالية من القطن. كلما كتب سليم قصيدة شَبَّ فينا وفيه حريق، نَهض سؤال، والتَمعت عينا طفل. سمّيتُه «شاعر الطفولة والحرائق»، حافظ التوازن العبقريّ بين جبل النار داخله الضخم وكتلة القطن العالية.. سيغادر سليم رام الله عائداً إلى بيته في غزّة، مُحمَّلاً بقوالب شوكولاتة إلى جُمانة، هدية من «عمّها زوزو»، كما تُخاطبني. ستصل الشوكولاتة إلى جُمانة، ستتصل بي وتشكرني بصوتها الذي يشبه صوت غزّة. ولا تسألوني عن صوت غزّة؛ قلتُ لكم إنني عاجز عن الشرح.. ستستمرُّ قوالب الشوكولاتة في رحلاتها السنويّة مع كلّ معرضِ كتابٍ يحدث في رام الله عبر قلب سليم سيستمرُّ قلبُ «عمّو زوزو» في الفرح، لأن طفلة من غزّة تفرح هناك، لأن بحارة فقراء سيفرحون هناك، ولأن بنات البحارة سيفرحن هناك، ستكبر جُمانة كلَّ عام، لكن الشوكولاتة لن تكبر، ستظلّ الطفلةَ الصديقةَ لجُمانة، ثابتةَ المذاق، كاملةَ الاستعداد للذوبان السعيد في قلب أجملِ طفلاتِ غزّة.. ستواصل جِنّيّةُ غزّة الغامضة – كلَّ عام – وهي تطلُّ في فجر القطاع من شرفتها على الشاطئ، إرشادَ بحّارة غزّة الفقراء قليلي السمك والأسنان، إلى مناطق السمك الكثير، وستواصل طفلةٌ اسمها «ميار»، ابنة والدها البحّار الفقير أسعد، رواية قصة السماء التي تمطر شوكولاتة لذيذة، وقصة السمك الكثير الذي يلمع فجأةً على الشاطئ في ما يشبه تدخّلاً إلهياً رحيماً أو حظاً غريباً.. لم تتوقّف رحلاتُ الشوكولاتة من رام الله إلى غزّة؛ صار عمرُ جُمانة اثنين وعشرين قالبَ شوكولاتة. في معرض الكتاب الأخير، صيفَ 2023، وفي فندق «بيوتي إن» – حيث ينزل سليم طيلة أيام المعرض – جلستُ معه في آخرِ ليلةٍ له قبل أن يغادر إلى عصر الإبادة هناك. ستّ ساعاتٍ من الحديث مع سليم: دخّن فيها نصفَ مليون سيجارة، وغيّر جلسته على كرسيه ألفَ مرّة، وحكى لي بالتفصيل الذابح قصةَ استشهاد والده في لبنان، تحشرج صوتُه فيها آلاف المرّات، مُقسماً – بشرف مجلة «الكرمل»، حيث مكتب محمود درويش أمامه تماماً في مبنى مؤسسة «السكاكيني» – أن يواصل النضالَ بأشعاره إلى أن تعود البلادُ إلى بلادها. وحكى قصةَ انتقاله من تنظيمٍ إلى آخر بحثاً عن «الصدق المُطبِق»، كما قال، لكنه لم يجدْ هذا الصدق المثالي في أي تنظيم؛ لكمَ سليم الحائطَ أثناء هذه الحكاية آلافَ اللكمات، فوجد نفسَه أخيراً في حِضن تنظيمٍ قاده إليه صديقٌ لوالده الشهيد، قائلاً هنا أفضلُ الموجودين، فكن هنا، وانعم بدفء صغير ما يا سليم)». أولَ الحرب، اتصلتُ بسليم وجُمانة، قائلاً لهما: «ستصل الشوكولاتة كما كلّ عام، فلا تقلقا». سمعتُ ضحكةَ الجِنّيّة من غرفةٍ مجاورة، وشممتُ دخانَ سيجارة سليم ورائحةَ الكفتة بالطحينيّة، الأكلة التي تعشقها جُمانة. ثم فجأةً سمعتُ انفجاراً ضخماً قريباً.. بعد أسبوع، سأسمع عن قتل لعمارةٍ سكنيةٍ وسط غزّة، وسأعرف أن سليم وعائلته كلها، وشقيقه وعائلته كلها، قد دُفِنوا تحت العمارة.. بعد أسبوع، سأجد بالصدفة في هاتفي رسائل غير مقروءة من سليم. من هاتفه سأقرأ الرسالةَ الأخيرة، وهي الأهمّ: «عزيزي زياد، نحاول الاتصال بك. جُمانة كتبت قصيدة عنوانها "شوكولاتة وبحّارة"، وهي تريد قراءتها لك على الهاتف». بعد أشهر طويلة من قتل غزة أفكر في طفل ووالده يمران شاحبين مترنحين أمام عمارة سليم المنهارة، يقفان أمام البقايا يقتربان، يمدان أيديهما بحثاً عن كسرة ماء أو فتات خبز أو بقايا قاع علبة فول قفزت من شرفة بيت صار على الأرض. - يابا شامم ريحة شوكولاتة. - آه والله، وأنا كمان، وهي نفس نوع الشوكولاتة اللي كنا أنا وأصحابي الصيادين نتفاجأ فيها على الشط لما كنت أصيد سمك.

نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني يوقع اتفاقية ثقافية مع مؤسسة الإبداع الدولية الفلسطيني في محافظة نابلس ويطلق كتابا ويقيم فعالية شعرية
نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني يوقع اتفاقية ثقافية مع مؤسسة الإبداع الدولية الفلسطيني في محافظة نابلس ويطلق كتابا ويقيم فعالية شعرية

شبكة أنباء شفا

timeمنذ 3 أيام

  • شبكة أنباء شفا

نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني يوقع اتفاقية ثقافية مع مؤسسة الإبداع الدولية الفلسطيني في محافظة نابلس ويطلق كتابا ويقيم فعالية شعرية

شفا – عقد نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني اليوم في جمعية مركز أوتار للإبداع الفني والثقافي في مدينة نابلس أصبوحة شعرية تخللها كلمة لمؤسسة الإبداع قدمتها القائدة التربوية د. فاطمة عواد. وجاء خلال كلمتها ترحيب بالحضور المثقف، وقدمت تحايا الدكتور عدنان أبو ناصر للمبدعين الفلسطينيين، وتطرقت لنشاطات المؤسسة المختلفة في فلسطين. وكما ألقى الدكتور عباس مجاهد رئيس نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني كلمة النادي . كما تم إطلاق كتاب ' امرأة مصابة بالحمى ' للكاتبة نور الجمّال ، وقراءة نقدية من د. مريم أبو بكر، بحضور العلامة الكبير د. محمد جواد النوري ، الذي قدم إضاءة عظيمة في علم اللسانيات والصوتيات . وكما أحيا الشعراء موسى أبو غليون و د. سيما الصيرفي وأ. معالي بشارات وم. إيهاب مشاقي والشاب سماحة حسون أصبوحة شعرية لاقت استحسان الجمهور وأدار الفعالية وقدمها م. رشاد العرب، ومثل مكتب وزارة الثقافة في نابلس الأدبية سهام السايح. وشارك من النادي عضو مجلس الإدارة الفنانة رجاء أبو فرحة، ومديرة فريق أقلام تطوعية المربية رولا الحداد، ورجل الأعمال عادل مجاهد. وقالت الكاتبة نور الجمّال ، أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لأسرة نادي أحباب اللغة العربية، وللدكتور عباس مجاهد على دعمه وتشجيعه الدائم. كما أخص بالشكر مؤسسة الإبداع الفلسطيني الدولي، ومركز أوتار للإبداع الفني، على إتاحة هذه الفرصة الثمينة. وأضافت ، كل الشكر والتقدير أيضاً للدكتورة منى أبو حمدية والدكتورة مريم أبو بكر، على دعمهما وكلماتهما الراقية، التي لامست قلبي وأسعدتني كثيراً. وشكرا للشاعر المبدع ولكلماته الجميلة عني رشاد العرب. وقالت الكاتبة نور الجمّال ، ولا يسعني إلا أن أعبّر عن اعتزازي بلقائي بأهل الخليل الكرام، الذين شرفوني بحضورهم إلى نابلس، وكان لكلماتهم الصادقة والمليئة بالمحبة أثر كبير في نفسي. أتمنى أن تجمعني بهم لحظات ودقائق أكثر، لأن قلوبهم النقية تستحق البقاء بقربها. وأشادت الكاتبة نور الجمّال بهذه المناسبة بالقول ، لقد كان من دواعي فخري أن أشارك في هذه المناسبة الجميلة، التي شهدت إطلاق كتابي الأول ' امرأة مصابة بالحُمّى ' ، و كانت تجربة مميزة ملأها الفرح، وتشرفت فيها بمعرفة نخبة من المبدعين والمحبين للغة والإبداع ، ولنا لقاءات أخرى إن شاء الله .

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store