logo
ما الذي تحتاجه الإدارة السورية للتقدم؟ 3 مسارات حاسمة

ما الذي تحتاجه الإدارة السورية للتقدم؟ 3 مسارات حاسمة

الجزيرةمنذ 3 أيام

بعد أن استعرضنا في الجزء الأول من هذا المقال الأُطر العامة لرؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان بشأن العدالة الانتقالية في سوريا، بما في ذلك الخلفية التاريخية والسياسية، وركائز العدالة الانتقالية الأربعة، وهي: المحاسبة، الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، نتناول في هذا الجزء الثاني بتفصيل أوسع ما تبقى من محاور هذه الرؤية.
نسلّط الضوء في هذا الجزء المتطلبات العملية لإصلاح مؤسسات الدولة، ونبحث في أهمية الدعم والتعاون الدولي، والتحديات المحتملة التي قد تواجه هذا المسار الحيوي نحو بناء سوريا الجديدة القائمة على العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.
يُشكل إصلاح المؤسسات الركن الرابع والأساسي للعدالة الانتقالية في سوريا، وهو ضمان أساسي لعدم تكرار الانتهاكات مستقبلًا. خلال عقود حكم نظام الأسد، تحولت مؤسسات الدولة الرئيسة، لا سيما القضائية والأمنية والعسكرية، من أدوات لخدمة المواطنين إلى وسائل للقمع وانتهاك الحقوق. لذا، فإن إعادة بناء هذه المؤسسات على أسس سليمة تُعد شرطًا لازمًا لاستعادة ثقة المواطنين بالدولة، وتحقيق الاستقرار المستدام.
يُعتبر إصلاح السلطة القضائيّة حجر الأساس في مسار العدالة الانتقالية، ويتطلب إعادة هيكلة شاملة تبدأ بتحرير مجلس القضاء الأعلى من هيمنة السلطة التنفيذية، عبر فصل رئاسة المجلس عن المنصب الرئاسي، وإنشاء هيئة قضائية مستقلة تتمتع بصلاحيات كاملة في إدارة شؤون القضاء.
يتطلب ذلك إعادة صياغة قانون السلطة القضائية لحظر تدخل أي جهة تنفيذية في شؤون القضاء، وضمان الاستقلال المالي والإداري للجهاز القضائي، وتفعيل دور المحكمة الدستورية العليا. كما يجب إلغاء المحاكم الاستثنائية التي استُخدمت كأدوات للقمع، وإدماج اختصاصاتها في القضاء العادي، مع ضمان تطبيق معايير المحاكمة العادلة، وتعزيز حقوق الدفاع، وتطوير آليات الاستئناف والتمييز والرقابة القضائية على تنفيذ الأحكام.
ولضمان نزاهة القضاة وكفاءتهم، يجب وضع معايير موضوعية للتعيين والترقية تستند إلى الجدارة، وتحسين الأوضاع المادية للقضاة وموظفي المحاكم، وتعزيز برامج التدريب المستمر ورقمنة العمل القضائي. وينبغي تفعيل دور نقابة المحامين وجمعيات القضاة المستقلة، والتعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لتقديم تقارير دورية عن حالة القضاء وتدريب الكوادر ومراقبة المحاكمات.
تتطلب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحولًا جذريًا في بنيتها وفلسفتها، إذ أوجد النظام السابق أجهزة أمنية متعددة ومتداخلة الصلاحيات خضعت مباشرة لرئيس الجمهورية وتورطت في انتهاكات جسيمة. يجب أولًا تقليص عدد الأجهزة الأمنية الموازية ودمج الأجهزة ذات المهام المتشابهة، وحل التشكيلات غير الرسمية، ووضع قوانين واضحة تحدد صلاحيات كل جهاز وتضمن خضوعه للمساءلة.
من الضروري إلغاء الصلاحيات القضائية للأجهزة الأمنية، وتفكيك شبكات المخبرين، وإنشاء هيئة رقابة مدنية مستقلة، وتعزيز دور البرلمان في الإشراف على أدائها. كما يجب تغيير العقيدة الأمنية بحيث تستند إلى حماية أمن الدولة والمواطنين لا النظام الحاكم، وإلغاء ثقافة العداء للمواطنين، وتطوير برامج تدريب مستمرة على حقوق الإنسان والمهارات التقنية.
وينبغي تجريم كافة أشكال التعذيب والانتهاكات، وإنشاء قنوات مستقلة للتحقيق في شكاوى المواطنين. وفيما يتعلق بالتوظيف، يجب اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة في اختيار القيادات الأمنية، بعيدًا عن الولاءات السياسية أو الطائفية، مع تحسين الرواتب والمزايا للحد من الفساد.
يشكل دمج الفصائل المسلحة وبناء جيش وطني موحد تحديًا كبيرًا أمام الاستقرار وإعادة بناء الدولة. يجب وضع إطار سياسي وقانوني شامل يتضمن تشريعات واضحة لإعادة الهيكلة ودمج الفصائل وفق معايير مهنية، مع استبعاد المتورطين في جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة، وضمان شمولية العملية من خلال قبول الأفراد غير المتورطين من كافة الأطراف.
ويتطلب الأمر إنشاء لجنة تقييم مستقلة لتدقيق السجلات وقاعدة بيانات مركزية للفصائل المسلحة وأفرادها، مع برامج لتسوية أوضاع العناصر غير المتورطين بانتهاكات جسيمة. وينبغي تطوير برامج للتسريح وإعادة الإدماج المدني تشمل التدريب المهني، وفرص العمل، والدعم النفسي، والاجتماعي.
كما يجب إعادة توزيع القوى البشرية بشكل عادل على المناطق، وتحقيق الحياد في التشكيل العسكري، مع تعزيز الوعي بحقوق الإنسان وتحديث المناهج العسكرية وتوحيد معايير التدريب. ومن الضروري إعادة تنظيم القيادات العسكرية لتمثل جميع مكونات الشعب السوري، وإنشاء آليات شفافة للترقيات، وترسيخ ثقافة الوحدة الوطنية، مع ضبط حيازة السلاح وتدمير الأسلحة المحظورة دوليًا. لضمان الرقابة والمساءلة، يجب إنشاء هيئة رقابة مستقلة ومحاكم عسكرية مختصة وتقييم دوري للإصلاحات، مع الاستفادة من المساعدة الفنية الدولية.
يتطلب نجاح إصلاح المؤسسات تعزيز الشفافية والمساءلة على كافّة المستويات، وذلك عبر تطوير منظومة متكاملة تشمل؛ إنشاء هيئات رقابية مستقلة لكل مؤسسة، تفعيل دور البرلمان في الرقابة على أداء المؤسسات العامة، وضع مدونات سلوك ملزمة للعاملين في القطاعات الحساسة، تطوير قوانين تحمي المبلغين عن الفساد والانتهاكات، وإنشاء آليات فعالة للشكاوى مع ضمان سرعة معالجتها.
كما ينبغي إلزام المؤسسات الرسمية بنشر تقارير دورية عن أدائها ومصروفاتها، وإتاحة المعلومات للعموم وفق قانون حرية الوصول للمعلومات، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني والإعلام في الرقابة على مؤسسات الدولة. إضافة إلى ذلك، يجب تطوير نظم تقييم أداء موضوعية ودورية للمسؤولين والموظفين، وربط التعيينات والترقيات بالكفاءة والنزاهة، والاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز الشفافية والحدّ من الفساد. وعلى المستوى الثقافي، ينبغي نشر ثقافة مجتمعية تؤمن بدور الرقابة المدنية وتشجع المواطنين على المساهمة في محاسبة المؤسسات، مع تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية المتخصصة في الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.
إعلان
يلعب الدعم والتعاون الدولي دورًا محوريًا في تعزيز مسار العدالة الانتقالية في سوريا، حيث يوفر المساعدات التقنية، والدعم المالي، والآليات القانونية التي تضمن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة. يساهم هذا التعاون في دعم الضحايا وإعادة بناء المؤسسات وفق أسس عادلة، كما يمثل ضرورة ملحة نظرًا لتعقيد الحالة السورية وحجم الانتهاكات غير المسبوق وضعف الموارد المحلية. إضافة إلى ذلك، يضمن التنسيق الدولي تنفيذ آليات العدالة الانتقالية بفاعلية، ويعزز الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويساعد في بناء قدرات المؤسسات الوطنية، مما يسهم في تحقيق مصالحة وطنية مستدامة تعيد الاستقرار إلى البلاد.
تشكل الآليات الدولية المتخصصة ركائز أساسية لدعم مسار العدالة الانتقالية في سوريا. تبرز من بينها الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016، والمكلفة بجمع الأدلة على الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي في سوريا وتحليلها وحفظها.
يمكن للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية التعاون معها من خلال تبادل الوثائق والبيانات، والاستفادة من ملفات القضايا التي أعدتها لدعم عمل المحكمة الخاصة المقترحة. كما يوفر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) دعمًا فنيًا لبناء قدرات الفاعلين المحليين، مع إمكانية الاستفادة من خبراته في وضع أطر العدالة الانتقالية التي تركز على حقوق الضحايا.
أما اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا (COI)، التي أُنشئت في 2011، فتقدم توثيقًا وتحليلًا مستقلًا للانتهاكات، يمكن أن يدعم عمل لجان الحقيقة والمحكمة الخاصة. وتضطلع المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP)، التي أُنشئت في 2023، بمعالجة قضية المفقودين في سوريا وتقديم الدعم لأسرهم، من خلال إنشاء قاعدة بيانات شاملة بالتعاون مع اللجان المحلية.
تقدم المنظمات الحقوقية الدولية دعمًا قيمًا لجهود العدالة الانتقالية في سوريا. فقد وثقت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش (HRW) ومنظمة العفو الدولية، انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا على مدار سنوات النزاع، مما يوفر أرشيفًا غنيًا يمكن استخدامه كأدلة لدعم عمل لجان الحقيقة والمحكمة الخاصة.
كما يمكن لهذه المنظمات مراقبة عمل هيئة العدالة الانتقالية، وتقديم النصح والتدريب لضمان التزامها بالمعايير الدولية. ومن جهتها، تتمتع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) بخبرة واسعة في التعامل مع قضايا المفقودين والمقابر الجماعية في سياقات معقدة، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في توسيع جهود جمع البيانات عن المفقودين، والمساهمة في الكشف عن مصيرهم باستخدام تقنيات متطورة كتحليل الحمض النووي، وتقديم الدعم النفسي لأسرهم.
يعتبر التعاون القضائي الدولي ضروريًا لتحقيق العدالة الشاملة، خاصة مع فرار العديد من المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة خارج سوريا.
تشمل آليات هذا التعاون؛ تبادل المعلومات والأدلة مع المحاكم الدولية والأجنبية التي تنظر في قضايا تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، الاستفادة من الولاية القضائية العالمية التي تتيح للدول محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن مكان ارتكابها، التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف لتسليم المطلوبين، وتدريب الكوادر القضائية المحلية على معايير المحاكمات الدولية.
لضمان فاعلية هذا التعاون، يجب إنشاء وحدة متخصصة ضمن هيئة العدالة الانتقالية للتنسيق مع الآليات الدولية، والعمل على بناء قاعدة بيانات مشتركة للانتهاكات والمتهمين، والمشاركة في شبكات التعاون الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب.
يواجه مسار العدالة الانتقالية في سوريا تحديات متعددة الأبعاد تتطلب إستراتيجيات شاملة لمواجهتها. على المستوى السياسي والأمني، تبرز صعوبة تحقيق توافق وطني حول آليات العدالة الانتقالية في ظل الاستقطاب السياسي الحاد. كما يشكل استمرار وجود جهات مسلحة متعددة الولاءات تحديًا كبيرًا للاستقرار وتنفيذ برامج العدالة، إذ قد تقاوم هذه الجهات جهود المحاسبة الجنائية خوفًا من المساءلة.
وتُعتبر مقاومة بقايا أجهزة النظام السابق وأنصاره عائقًا أمام الإصلاح المؤسسي، خاصة في القطاعات الأمنية والقضائية. إضافة إلى ذلك، تمثل التدخلات الإقليمية والدولية المتضاربة عقبة أمام إحراز تقدم في مسار العدالة، حيث تسعى قوى خارجية لتأمين مصالحها على حساب استقلالية القرار السوري.
لمواجهة هذه التحديات، يمكن اعتماد إستراتيجيات تشمل؛ تعزيز الحوار الوطني الشامل، بناء الإجماع حول أولويات العدالة الانتقالية، تطبيق خطة متكاملة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، بناء تحالفات دولية داعمة للعدالة الانتقالية، وتفعيل آليات الحماية للضحايا والشهود.
على الصعيد الاقتصادي والمالي، تعاني سوريا من انهيار اقتصادي شامل وبنية تحتية متهالكة، مما يحدّ من الموارد المتاحة لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية. تتطلب عمليات التوثيق، المحاكمات، برامج التعويض، وإعادة الإعمار موارد مالية ضخمة قد تفوق قدرة الدولة. وتواجه سوريا صعوبة في تحديد أولويات الإنفاق بين متطلبات العدالة الانتقالية والاحتياجات الأساسية العاجلة للسكان.
كما تشكل العقوبات الدولية والقيود المفروضة على التحويلات المالية عقبات أمام تمويل مشاريع العدالة الانتقالية. لمعالجة هذه التحديات، يقترح إنشاء صندوق دولي لدعم برامج العدالة الانتقالية، إعطاء الأولوية للمشاريع ذات الأثر المزدوج في التعافي الاقتصادي وتحقيق العدالة، البحث عن مصادر تمويل بديلة كاسترداد الأصول المنهوبة ومصادرة أموال المتورطين في انتهاكات، وتطوير شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني لدعم برامج إعادة التأهيل وإعادة الدمج.
يشكل انعدام الثقة والانقسامات المجتمعية تحديًا جوهريًا أمام العدالة الانتقالية، حيث أدت سنوات النزاع إلى تعميق الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية، مما يعقد عملية المصالحة. وقد أدى فقدان الثقة بمؤسسات الدولة، خاصة الأمنية والقضائية، إلى صعوبة تقبل المواطنين أي إصلاحات تقودها هذه المؤسسات.
كما قد تسبب التباينات في فهم مفهوم العدالة بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري صراعات حول أولويات ومسارات العدالة الانتقالية. ويساهم انتشار ثقافة الانتقام والثأر الفردي في عرقلة مساعي العدالة المؤسساتية، كما يتضح من ارتفاع وتيرة العمليات الانتقامية الفردية منذ سقوط النظام.
وتُعد التأثيرات النفسية لصدمات الحرب والانتهاكات عائقًا أمام الانخراط في مسارات المصالحة. لمواجهة هذه التحديات، تُقترح إستراتيجيات منها: تصميم حملات توعية شاملة حول أهمية العدالة الانتقالية كنهج بديل عن الانتقام، ضمان تمثيل جميع المكونات المجتمعية في مؤسسات العدالة الانتقالية، تعزيز الشفافية في جميع مراحل العملية، دعم المبادرات المجتمعية للمصالحة، وتطوير برامج التعافي النفسي والاجتماعي للضحايا والمتضررين.
لتجاوز التحديات المذكورة، يمكن اعتماد إستراتيجيات متكاملة تشمل؛ تبني نهج تدريجي ومرحلي في تطبيق العدالة الانتقالية، مع التركيز في المرحلة الأولى على تلبية احتياجات الضحايا الأكثر تضررًا وبناء الثقة؛ وضع خطة وطنية شاملة للعدالة الانتقالية بمشاركة جميع الأطراف المعنية، تحدد الأهداف والآليات والأطر الزمنية؛ تعزيز الملكية الوطنية لمسار العدالة الانتقالية مع الاستفادة من الخبرات الدولية، حيث يلعب السوريون الدور الرئيسي مع دعم وإشراف دولي؛ تطوير نظام مراقبة وتقييم فعال لرصد التقدم في تنفيذ برامج العدالة الانتقالية وإجراء التعديلات اللازمة؛ وبناء قدرات المؤسسات الوطنية والمجتمع المدني في مجال العدالة الانتقالية من خلال برامج تدريبية متخصصة.
إضافة إلى ذلك، يمكن استخلاص الدروس من تجارب الدول التي مرت بظروف مشابهة، مع مراعاة خصوصية السياق السوري، وإتاحة مساحات آمنة للحوار والنقاش حول قضايا العدالة الانتقالية بين مختلف مكونات المجتمع. ويبقى الدعم الدولي ركيزة أساسية، مع ضرورة تنسيق الجهود وتوحيد الرؤى بين الجهات الداعمة، وتخصيص موارد كافية لضمان استدامة برامج العدالة الانتقالية.
تمثل العدالة الانتقالية ضرورة وطنية لسوريا التي تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي بعد سقوط نظام استبدادي استمر لأكثر من نصف قرن. إنها ليست ترفًا أو خيارًا، بل هي شرط أساسي لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة التي خلّفت ملايين الضحايا والنازحين، وأحدثت دمارًا هائلًا في البنية المادية والاجتماعية للبلاد.
تكمن أهمية العدالة الانتقالية في كونها النهج الأكثر فاعلية للتعافي الشامل من آثار النزاع، وإرساء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. فعبر أركانها الأربعة – المحاسبة الجنائية، الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر والتعويض، وإصلاح المؤسسات – يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في تفكيك بنى الاستبداد والقمع، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، ومنع تكرار الانتهاكات، وتحقيق المصالحة الوطنية التي تمهد الطريق نحو الاستقرار المستدام.
إن نجاح مسار العدالة الانتقالية يتطلب التزامًا جماعيًا من جميع الأطراف المعنية بتحقيق عدالة غير انتقامية، تركز على الإصلاح والتعافي بدلًا من الانتقام والثأر. يجب إدراك أن العدالة الانتقالية ليست وسيلة للتشفي من الخصوم، بل هي إطار متكامل يهدف إلى معالجة جذور النزاع وترميم النسيج الاجتماعي. هذا يستلزم نهجًا متوازنًا يجمع بين المحاسبة الضرورية للمسؤولين الرئيسين عن الانتهاكات من جهة، وتوفير فرص المصالحة والإدماج للأفراد الأقل تورطًا من جهة أخرى.
كما يتطلب الأمر مشاركة واسعة من الضحايا، المجتمع المدني، المؤسسات الوطنية، والمجتمع الدولي، في بناء رؤية مشتركة للعدالة تراعي احتياجات جميع السوريين وتطلعاتهم. فالعدالة الانتقالية ليست مسارًا يفرضه طرف على آخر، بل عملية تشاركية تستند إلى الحوار المفتوح والشفافية والشمولية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية السياق السوري وتعقيداته.
إن الرؤية التي تقدمها الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية تمثل خارطة طريق نحو سوريا المستقبل: الوطن القائم على العدالة والكرامة وسيادة القانون. هذه سوريا الجديدة التي يتطلع إليها السوريون على اختلاف مشاربهم، دولة يعيش فيها المواطنون بكرامة وأمان، تصان حقوقهم وحرياتهم، وتُحترم خياراتهم.
سوريا التي تتجاوز ماضي الاستبداد والقمع لتبني مستقبلًا يقوم على المواطنة المتساوية، المشاركة السياسية، والتعددية الثقافية. ومع أن الطريق إلى سوريا هذه طويل وشاق ومليء بالتحديات، فإن وجود إرادة وطنية صلبة وإصرار على المضي قدمًا في مسار العدالة الانتقالية يجعل هذا الهدف قابلًا للتحقيق.
وفي نهاية المطاف، فإن العدالة الانتقالية ليست نهاية المسار، بل بداية عملية تحول طويلة نحو استعادة سوريا التي يستحقها أبناؤها: سوريا العدالة، والديمقراطية، والتنمية، والسلام.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب ونتنياهو.. هل عمقت زيارة الخليج الشرخ بين الحليفين؟
ترامب ونتنياهو.. هل عمقت زيارة الخليج الشرخ بين الحليفين؟

الجزيرة

timeمنذ 35 دقائق

  • الجزيرة

ترامب ونتنياهو.. هل عمقت زيارة الخليج الشرخ بين الحليفين؟

عززت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى دول الخليج سلوكا أميركيا جديدا ظهرت ملامحه مؤخرا في توجهات ترامب وإدارته بفصل الارتباط بين الحسابات الأميركية والإسرائيلية. وانحصرت زيارة ترامب إلى منطقة الشرق الأوسط في السعودية و قطر و الإمارات ، ولم تشمل إسرائيل ، كما اكتفى بعقد صفقات اقتصادية مع السعودية دون أن يضع التطبيع بين السعودية وإسرائيل شرطا لها، كما كان من قبل. وانتهت زيارته بالموافقة على رفع العقوبات الأميركية عن سوريا استجابة لطلب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، رغم أن إسرائيل ترى في القيادة السورية الجديدة عقبة أمام إقامة كيان درزي يكون حزاما يحجز بينها وبقية الإقليم السوري بقيادة الرئيس أحمد الشرع. وبالتزامن مع ذلك، أرسل ترامب مبعوثه للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف إلى إسرائيل ليشارك في مسيرة لعائلات الأسرى احتجاجا على سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي تعطي الأولوية لمواصلة القتال بدلا من المفاوضات لإطلاق سراح من تبقى من الأسرى، دون إغفال نجاح المفاوضات الأميركية برعاية قطرية مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من أجل إطلاق سراح الجندي الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر. وحول التوجه الأميركي الجديد نشر مركز الجزيرة للدراسات تعليقا للباحث الحواس ورقة بعنوان " التباعد المتزايد: الخليج يعمق الشرخ الأميركي الإسرائيلي" سلط فيها الضوء على ملامح التباعد الأميركي الإسرائيلي ودلالاته. الاقتصاد أولا بدأت مؤشرات التوجه الأميركي الجديد عندما أعلن ترامب -خلال لقائه مع نتنياهو في البيت الأبيض- عن دعمه للنفوذ التركي في سوريا، والشروع في مفاوضات مع إيران حول المشروع النووي. هذا الفصل بين الحسابات الأميركية والحسابات الإسرائيلية هو الفارق بين عهدة ترامب الأولى والثانية. وضع ترامب إسرائيل في مركز رؤيته للشرق الأوسط في عهدته الأولى، وصمم مشروع اتفاقيات أبراهام على أساس الخوف الذي تشترك فيه إسرائيل والسعودية من إيران ، ومصلحتهما في التعاون للتصدي للخطر الإيراني. لكن منظوره في عهدته الثانية يستند أساسا إلى إنهاض الاقتصاد الأميركي بجلب الاستثمارات للشركات الأميركية، وإحياء القطاعات التي قضت عليها السوق المفتوحة، لكن غياب إستراتيجية ناجعة يحول دون تحقيق ذلك في وقت وجيز. لكن زيارته لدول خليجية وفرت له المخرج من هذا المأزق، فقد تعهدت السعودية باستثمار 600 مليار دولار وقد تصل تريليون دولار، ومثلها الإمارات باستثمار 1.4 تريليون دولار، إلى جانب قطر باستثمار نحو 1.2 تريليون دولار. العقبة الإسرائيلية وتقف إسرائيل عقبة أمام هذا التشكيل الإقليمي الجديد، فهي تريد أن تواصل ضرب سوريا ومنع وحدتها ونهوضها، وهو ما يتعارض مع التوافق الإستراتيجي الجديد المدعوم أميركيا بدعم القيادة السورية الجديدة وعزل حزب الله اللبناني عن إيران، وجعل سوريا سدا للنفوذ الإيراني في العراق وقد تتحول إلى ضاغط عليه. وقد يتسع التباعد الأميركي الإسرائيلي في ملفات المنطقة، وقد يمتد داخل إسرائيل لينشئ قطبين، أحدهما حريص على الاصطفاف مع الولايات المتحدة والآخر يريد الاستغناء عنها، بما ينعكس على استقطابات أخرى مثل مكانة اليمين اليهودي المتطرف في الدولة الإسرائيلية والمستوطنات وغيرها، ويعيد تشكيل توازنات المشهد الإسرائيلي.

الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا
الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا

إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية. ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟ في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه. إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته في كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها. فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام. إن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة. الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة. تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث. هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية. وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان. فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم. وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار. التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد هذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة. هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش. من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له. ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور. فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد. كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟! الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة. كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام. ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم. من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية. أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء. لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة. من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store