
موقع تركي: القبة الفولاذية باتت ضرورة ملحة لتركيا
تناول كاتب تركي ضرورة حيازة تركيا منظومة دفاع جوي شاملة على غرار " القبة الحديدية" الإسرائيلية، مشيرا إلى أن التحولات في طبيعة الحروب الحديثة تجعل من هذا المطلب ضرورة إستراتيجية لا ترفا عسكريا.
في مقال له بموقع "آيدنليك" التركي، استهل الكاتب أوغور غوفن حديثه بالإشارة إلى أن السماء الزرقاء التي كانت يوما رمزا للسلام، قد تحولت اليوم إلى مسرح للتهديدات المتنامية.
ويرى أن الصراعات الأخيرة، كالحرب الروسية الأوكرانية، والمواجهات بين الهند و باكستان ، والتصعيد الأخير بين إيران و إسرائيل ، قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن حروب القرن الـ21 لم تعد تقتصر على الاشتباكات البرية، بل امتدت لتشمل المجال الجوي، حيث أصبحت الصواريخ والمسيرات والصواريخ الجوالة، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، قادرة على إحداث دمار هائل.
ويخلص غوفن إلى أن هذه التطورات تفرض على الدول حتمية البحث عن أنظمة دفاعية متطورة لحماية أثمن أصولها: مواطنيها، وبنيتها التحتية الحيوية، وقواعدها العسكرية.
ما القبة الفولاذية؟
يوضح الكاتب أن "القبة الفولاذية" هي بالأساس سلسلة متكاملة من التقنيات التي تعمل كنظام دفاع جوي، وتتألف من محطات رادار متقدمة، ومراكز للقيادة والسيطرة، وبطاريات صواريخ، وصواريخ اعتراضية.
والهدف الجوهري من هذه المنظومة هو اعتراض وتدمير التهديدات قصيرة ومتوسطة المدى في الجو قبل وصولها إلى أهدافها، وبالتالي تحييد الأضرار على الأرض بشكل كامل، لا سيما حماية التجمعات السكانية المدنية ومحطات الطاقة والقواعد العسكرية والبنى التحتية الحساسة.
ويشير الكاتب إلى أن تركيا، التي خطت خطوات عملاقة في تطوير صناعتها الدفاعية خلال السنوات الأخيرة، تمتلك من الناحية النظرية القدرة على بناء منظومة "قبة فولاذية" محلية ووطنية بالكامل.
تحديات جغرافية ومالية هائلة
واستدرك الكاتب بأن المهمة ليست بالسهلة على الإطلاق، إذ تواجه المشروع تحديات كبرى، أولها الواقع الجغرافي. فبينما أثبتت "القبة الحديدية" فعاليتها في حماية مساحة جغرافية صغيرة ومحدودة مثل إسرائيل، فإن نشر نظام مماثل على امتداد الجغرافيا الشاسعة لتركيا يفرض تحديات لوجيستية وتشغيلية ضخمة.
فالحدود التركية الممتدة من الشرق إلى الغرب تتطلب توسيع نطاق تغطية النظام بشكل هائل، فضلا عن ضرورة أن تكون المنظومة ديناميكية وقابلة للتكيف مع أنواع التهديدات المختلفة، فبينما تسود تهديدات الصواريخ والمدفعية على الحدود الشرقية والجنوبية، يبرز تهديد المسيرات في المناطق الغربية.
أما التحدي الآخر، بحسب الكاتب، فهو التكلفة الباهظة للمنظومة، ففي حين تتراوح تكلفة الصاروخ الاعتراضي البسيط في "القبة الحديدية" بين 80 ألفا و100 ألف دولار، فإن تكلفة الصواريخ الاعتراضية الأكثر تطورا والمخصصة لمواجهة الصواريخ الباليستية تصل إلى نحو 4 ملايين دولار للصاروخ الواحد.
ويتطلب اعتراض صاروخ معاد واحد إطلاق 3 إلى 4 صواريخ دفاعية في بعض الأحيان. وبالنظر إلى حاجة بلد بمساحة تركيا إلى مخزون لا يقل عن ألف صاروخ من هذا النوع كحد أدنى، فإن تكلفة الصواريخ وحدها قد تبلغ مليارات الدولارات.
وإذا أضيفت إلى ذلك تكاليف المنشآت والرادارات والبنى التحتية الأخرى، فإننا نتحدث عن مشروع تتجاوز تكلفته مئات المليارات من الدولارات.
ويرى الكاتب أن هذا الواقع يفرض على تركيا تطوير حلول أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية. وهنا، قد تكمن الميزة التنافسية الأكبر لتركيا في قدرتها على تطوير أنظمة اعتراضية منخفضة التكلفة ومدعومة بالذكاء الاصطناعي بالتعاون مع شركاتها التكنولوجية المحلية.
ويقترح في هذا السياق طرح بدائل مبتكرة على الطاولة، مثل أنظمة الدفاع الجوي القائمة على الليزر، أو تقنيات المدفع الكهرومغناطيسي (Railgun)، أو معترضات المسيّرات الكهروميكانيكية.
قوة الردع والبعد الإستراتيجي
ويبين غوفن المزايا الإستراتيجية "للقبة الفولاذية"، حيث لا يقتصر دورها على الدفاع النشط فحسب، بل تمثل أيضا رسالة ردع قوية، وتستعرض للعالم مدى عزم تركيا الدفاعي وكفاءتها التكنولوجية.
ويرى الكاتب أن تركيا، بموقعها الذي يربط بين الشرق الأوسط والقوقاز والبحر الأسود، وبصفتها عضوا في حلف (الناتو)، يمكنها تعزيز مكانتها في الدبلوماسية العسكرية عبر امتلاك نظام دفاعي قادر ليس فقط على حماية مواطنيها، بل أيضا حماية أصول ومصالح حلفائها في المنطقة.
فإنتاج تركيا لمنظومتها الخاصة بنجاح سيفتح أمامها فرصا جديدة داخل الحلف على صعيد تبادل التكنولوجيا ولعب أدوار قيادية، رغم أن المنظومة قد تصبح معطلة إن نشب نزاع بين تركيا ودولة أخرى عضو في الحلف.
ويختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن "القبة الفولاذية" هي ضرورة حتمية لتركيا، وأن الرصيد التكنولوجي والإنجازات في الصناعات الدفاعية والموقع الإستراتيجي توفر بالفعل بنية تحتية قوية لتحقيق هذا الهدف.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
ماذا يعرف الإنترنت عنّا؟
مَر الإنترنت بمراحل عدة، حتى وصل إلى ما نعرفه عنه اليوم، إذ بدأ غريبا لا يستخدمه إلا قلّة من المهمشين ومهووسي التقنية، حتى أصبح اليوم ضرورة وأساسا من أساسيات الحياة، وفق تقارير عدة صادرة من الأمم المتحدة والهيئات العالمية. ولا يمكن القول بأي حال من الأحوال، إن الإنترنت هو ثوب أبيض لا دنس فيه، إذ شابه العديد من النقاط السوداء في تاريخه، وربما كان أكثرها سوادا هو جمع المعلومات عن مستخدميه وتسجيلها من أجل مشاركتها مَن يدفع أكثر. يستطيع الإنترنت تخزين كل البيانات التي يمكنك أن تتخيلها أو لا تتخيلها عن حياة المستخدم الذي يعتمد عليه، لذلك يمكن الإجابة عن سؤال، ماذا يعرف الإنترنت عنك؟ بشكل مختصر للغاية، فالإنترنت يعرف كل شيء عنك، بما فيها أشياء قد لا تعرفها نفسك، ولكن كيف هذا؟ لماذا يجمع الإنترنت هذه البيانات؟ قبل الحديث عن آلية جمع الإنترنت البيانات، يجب أن نعرف لماذا تجمع هذه البيانات، ومن يقوم بجمعها، فرغم أنها تجمع من الإنترنت، إلا أن دوره لا يتعدى مجرد أداة نقل وجمع للبيانات والوصول إلى المستخدمين في مختلف بقاع العالم. لذا فإن من يقوم بجمع هذه البيانات في العادة تكون الشركات الكبيرة أو شركات البيانات العميقة، وهي شركات تعمل في تجارة البيانات أساسا، إما في جمعها وتحليلها أو بيع نتائجها للشركات الأخرى حتى يتم استخدامها في التسويق وأشياء أخرى. ومع انتشار مثل هذه الشركات التي تعمل في جمع البيانات وتحليلها، ظهر مفهوم جديد وهو "البيانات العميقة" (Big data)، وهو مفهوم يشير إلى البيانات كبيرة الحجم التي يتم جمعها من المستخدمين عبر الإنترنت، ومن أجل دراسة هذه البيانات وتحليلها، ظهر علم البيانات وأصبح رائجا. وتستخدم هذه البيانات في كثير من الأشياء، بدءا من تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي العامة والمخصصة لمختلف القطاعات، وحتى الترويج وتصميم المنتجات وبناء الحملات الإعلانية المخصصة للشركات كبيرة الحجم التي تستطيع تحمل تكلفة دراسة وتحليل هذه البيانات، وذلك من أجل تعزيز مبيعاتها وتحسين نتائجها. كما تعتبر هذه البيانات التي تجمع عبر الإنترنت السلعة الأهم في العصر الحالي، إذ تدفع الشركات مليارات الدولارات للوصول إليها وتحليلها تحليلا كاملا عبر خبرائها، وتعتبر مقولة، إن لم تجد سلعة فاعرف أنك أنت السلعة منطبقة تماما على عالم الإنترنت الذي يبدو مجانيا في ظاهره. ما البيانات التي تجمعها الشركات عبر الإنترنت؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بشكل مبسط، إذ إن الشركات تجمع كل البيانات التي يمكن الوصول إليها من الإنترنت مباشرة، سواء كانت هذه البيانات مفيدة في أعين عامة الشعب أم لا، فكل البيانات مفيدة في يد الشركات الصحيحة ويمكن بيعها بمقابل ملائم. وللإجابة بشكل مفصل، فإن الإنترنت يجمع بعض البيانات الأساسية مثل: البيانات الشخصية الأساسية، مثل الاسم والبريد الإلكتروني ورقم الهاتف ومحل الإقامة والجنسية واللغة المستخدمة. بيانات أكثر تقدما، مثل عنوان الإقامة بدقة والفئة العمرية والانتماءات السياسية والاجتماعية والدينية وحتى الجنسية في بعض الأحيان. البيانات ذات الطبيعة الخاصة، وهي بيانات تكون مفيدة لمجموعة من الشركات بعينها، مثل نوع الجهاز أو الهاتف المستخدم لتصفح الإنترنت وسرعة الإنترنت ومزود الخدمة والتفضيلات الشخصية والمواقع التي تقوم بزيارتها بكثرة. بيانات ذات طبيعة تحليلية، ويشير هذا المفهوم إلى البيانات التي يمكن تحليلها بشكل واضح والحصول على معلومات مفيدة منها، مثل مدة بقائك في المواقع المختلفة وطريقة استخدامك لهذه المواقع وتفضيلاتك الشخصية وحتى المواقع التي تقوم بالشراء منها وآليات الدفع فيها. بيانات التجسس والتتبع، وهي بيانات تجمع بغرض التجسس ومطاردة المجرمين، وهي تجمع بمعرفة هيئات الحكومية القانونية أو الهجمات السيبرانية. وتجمع هذه البيانات من جهات متعددة وليست جهة واحدة، ففي البداية، يوجد المكان الذي تحدث فيه هذه البيانات، مثل المواقع التي تقوم بزيارتها ومنصات التواصل الاجتماعي، ويعرف هذا باسم التتبع وجمع البيانات من شركات الطرف الأول، ويوجد أيضا الجمع والتتبع من شركات الطرف الثالث، وهي أدوات خارجية يتم تثبيتها في المواقع لتتمكن من تتبع المستخدمين الذين يصلون إلى هذه المواقع. ولا يقتصر أمر البيانات المجموعة على المواقع التي تقوم باستخدامها وزيارتها، بل يمتد أيضا إلى شركات الهواتف المحمولة والحواسيب، إذ تجمع بيانات استخدامك لأجهزتها خاصة من أجل تحليل هذه البيانات وحل المشكلات المتعلقة بها. كيف تجمع هذه البيانات؟ هناك طرقٌ عدة لجمع مثل هذه البيانات، بدءا من استخدام أدوات التتبع الخارجية والداخلية، مثل ملفات الارتباط والذاكرة العشوائية التي تعرف باسم "كوكيز" (Cookies) أو حتى بإدخال البيانات مباشرة داخل المواقع والتطبيقات المختلفة. ولكن في جميع الحالات، تقوم جميع الجهات التي تجمع البيانات بسؤالك مباشرة عن موقفك من جمع البيانات، وتجبرك بشكل ما على الموافقة على جمع بياناتك حتى تتمكن من الاستفادة من خدمات هذا الموقع أو الأداة. هل يمكنني إيقاف جمع هذه البيانات؟ الإجابة المختصرة عن هذا السؤال هي نعم، يمكنك إيقاف جمع البيانات تماما ومنع المواقع والأدوات الخارجية من تتبع استخدامك للإنترنت، وربما كان ما فعله إدوارد سنودن الخبير السيبراني مثالا حيا على ذلك. ولكن يأتي هذا التوقف على حساب خسارة الخدمات التي تقدمها لك المواقع والابتعاد عن الإنترنت تماما، إذ يحتاج الإنترنت والمواقع المختلفة لجمع البيانات عن المستخدمين حتى يعملوا جيدا. ولا يعني هذا غياب الطرق التي تقلل من البيانات المجموعة، وذلك سواء كان باستخدام أدوات الاتصال الآمن أو تطبيقات "في بي إن" أو متصفحات الإنترنت المظلم مثل "تور" (Tor) وغيره. وتجدر الإشارة هنا إلى أن وضع التخفي للمتصفحات المعتادة مثل "كروم" لا يخفي كثيرا من البيانات والمعلومات التي تتم بجلسات التصفح منه. 4 خطوات سهلة لحماية البيانات عبر الإنترنت توجد العديد من الطرق المتقدمة والاحترافية لحماية البيانات الخاصة بالمستخدمين عبر الإنترنت، ولكنّ كثيرا منها يتطلب خبرة تقنية، ولا يعني غياب الطرق سهلة التطبيق والاستخدام لحماية البيانات عبر الإنترنت، وفي ما يلي 4 خطوات سهلة لحماية البيانات عبر الإنترنت. 1- الاعتماد على تطبيقات "في بي إن" وشبكات الاتصال الآمنة تمثل تطبيقات "في بي إن" وشبكات الاتصال الآمنة خيارا مثاليا لتأمين الاتصال بشبكات الإنترنت والحماية من المتطفلين على الأقل، الذين يمكن لهم التنصت واختراق شبكات الاتصال بالإنترنت، كما يمكن الاعتماد على أجهزة الاتصال الآمنة، سواء كانت موجهات إنترنت "راوتر" (Router) رائدة أم حتى أجهزة تأمين متخصصة. ويمكن أيضا شراء عناوين الإنترنت الوهمية من أجل حماية عنوان "آي بي" الأساسي للمستخدم، وهي خطوة احترافية تطلب القدرة على تثبيت التطبيقات اللازمة لها. 2- استخدام عناوين البريد الإلكتروني الوهمية في بعض الأحيان تطلب المواقع عناوين بريد إلكتروني من أجل توفير خدماتها، وقد لا يرغب المستخدم في مشاركة بياناته الحقيقية وعنوان البريد الإلكتروني الحقيقي له. لذلك ولدت فكرة عناوين البريد الإلكتروني الوهمية والمواقع المسؤولة عن توليدها، وهي مواقع تعمل على منحك عناوين بريد إلكتروني وهمية جاهزة للاستخدام، وهو عنوان يقوم بحذف الرسائل التي تصله مباشرةً ولا يمكن تتبعه لصاحب العنوان الأساسي. وتوجد العديد من الخدمات المختلفة التي توفر هذه الميزة، منهم اشتراك " آبل" الذي يفعل خاصية "هايد ماي إيميل" (Hide My Email) وموقع "مؤقت" العربي لتوليد عناوين البريد الإلكتروني الوهمية. 3- استخدام متصفحات الإنترنت الآمنة توجد العديد من متصفحات الإنترنت المتاحة حاليا والتي تعد أكثر أمنًا من غيرها، وفي مقدمتها يأتي متصفح "بريف" (Brave) ويليه متصفح " داك داك غو" (Duck Duck Go). ويمكن أيضا التوجه إلى المتصفحات الاحترافية والتي تعزز الخصوصية مثل "تور" المخصص لتصفح مواقع الإنترنت المظلم، ولكن من الواجب التحذير من مثل هذه المتصفحات المخصصة للمواقع " دارك ويب" (Dark Web)، كونها تمثل خطرا على الحاسوب عموما. 4- استخدام الخدمات ذات الخصوصية المعززة انتشرت أخيرا مجموعة من البدائل للخدمات الشهيرة تسعى إلى الحفاظ على خصوصية المستخدمين وتأمينهم قدر الإمكان، ومنها محرك بحث "داك داك غو" الذي يعزز الخصوصية، وكذلك خدمة البريد الإلكتروني المقدمة من المنصة نفسها.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
موقع تركي: القبة الفولاذية باتت ضرورة ملحة لتركيا
تناول كاتب تركي ضرورة حيازة تركيا منظومة دفاع جوي شاملة على غرار " القبة الحديدية" الإسرائيلية، مشيرا إلى أن التحولات في طبيعة الحروب الحديثة تجعل من هذا المطلب ضرورة إستراتيجية لا ترفا عسكريا. في مقال له بموقع "آيدنليك" التركي، استهل الكاتب أوغور غوفن حديثه بالإشارة إلى أن السماء الزرقاء التي كانت يوما رمزا للسلام، قد تحولت اليوم إلى مسرح للتهديدات المتنامية. ويرى أن الصراعات الأخيرة، كالحرب الروسية الأوكرانية، والمواجهات بين الهند و باكستان ، والتصعيد الأخير بين إيران و إسرائيل ، قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن حروب القرن الـ21 لم تعد تقتصر على الاشتباكات البرية، بل امتدت لتشمل المجال الجوي، حيث أصبحت الصواريخ والمسيرات والصواريخ الجوالة، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، قادرة على إحداث دمار هائل. ويخلص غوفن إلى أن هذه التطورات تفرض على الدول حتمية البحث عن أنظمة دفاعية متطورة لحماية أثمن أصولها: مواطنيها، وبنيتها التحتية الحيوية، وقواعدها العسكرية. ما القبة الفولاذية؟ يوضح الكاتب أن "القبة الفولاذية" هي بالأساس سلسلة متكاملة من التقنيات التي تعمل كنظام دفاع جوي، وتتألف من محطات رادار متقدمة، ومراكز للقيادة والسيطرة، وبطاريات صواريخ، وصواريخ اعتراضية. والهدف الجوهري من هذه المنظومة هو اعتراض وتدمير التهديدات قصيرة ومتوسطة المدى في الجو قبل وصولها إلى أهدافها، وبالتالي تحييد الأضرار على الأرض بشكل كامل، لا سيما حماية التجمعات السكانية المدنية ومحطات الطاقة والقواعد العسكرية والبنى التحتية الحساسة. ويشير الكاتب إلى أن تركيا، التي خطت خطوات عملاقة في تطوير صناعتها الدفاعية خلال السنوات الأخيرة، تمتلك من الناحية النظرية القدرة على بناء منظومة "قبة فولاذية" محلية ووطنية بالكامل. تحديات جغرافية ومالية هائلة واستدرك الكاتب بأن المهمة ليست بالسهلة على الإطلاق، إذ تواجه المشروع تحديات كبرى، أولها الواقع الجغرافي. فبينما أثبتت "القبة الحديدية" فعاليتها في حماية مساحة جغرافية صغيرة ومحدودة مثل إسرائيل، فإن نشر نظام مماثل على امتداد الجغرافيا الشاسعة لتركيا يفرض تحديات لوجيستية وتشغيلية ضخمة. فالحدود التركية الممتدة من الشرق إلى الغرب تتطلب توسيع نطاق تغطية النظام بشكل هائل، فضلا عن ضرورة أن تكون المنظومة ديناميكية وقابلة للتكيف مع أنواع التهديدات المختلفة، فبينما تسود تهديدات الصواريخ والمدفعية على الحدود الشرقية والجنوبية، يبرز تهديد المسيرات في المناطق الغربية. أما التحدي الآخر، بحسب الكاتب، فهو التكلفة الباهظة للمنظومة، ففي حين تتراوح تكلفة الصاروخ الاعتراضي البسيط في "القبة الحديدية" بين 80 ألفا و100 ألف دولار، فإن تكلفة الصواريخ الاعتراضية الأكثر تطورا والمخصصة لمواجهة الصواريخ الباليستية تصل إلى نحو 4 ملايين دولار للصاروخ الواحد. ويتطلب اعتراض صاروخ معاد واحد إطلاق 3 إلى 4 صواريخ دفاعية في بعض الأحيان. وبالنظر إلى حاجة بلد بمساحة تركيا إلى مخزون لا يقل عن ألف صاروخ من هذا النوع كحد أدنى، فإن تكلفة الصواريخ وحدها قد تبلغ مليارات الدولارات. وإذا أضيفت إلى ذلك تكاليف المنشآت والرادارات والبنى التحتية الأخرى، فإننا نتحدث عن مشروع تتجاوز تكلفته مئات المليارات من الدولارات. ويرى الكاتب أن هذا الواقع يفرض على تركيا تطوير حلول أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية. وهنا، قد تكمن الميزة التنافسية الأكبر لتركيا في قدرتها على تطوير أنظمة اعتراضية منخفضة التكلفة ومدعومة بالذكاء الاصطناعي بالتعاون مع شركاتها التكنولوجية المحلية. ويقترح في هذا السياق طرح بدائل مبتكرة على الطاولة، مثل أنظمة الدفاع الجوي القائمة على الليزر، أو تقنيات المدفع الكهرومغناطيسي (Railgun)، أو معترضات المسيّرات الكهروميكانيكية. قوة الردع والبعد الإستراتيجي ويبين غوفن المزايا الإستراتيجية "للقبة الفولاذية"، حيث لا يقتصر دورها على الدفاع النشط فحسب، بل تمثل أيضا رسالة ردع قوية، وتستعرض للعالم مدى عزم تركيا الدفاعي وكفاءتها التكنولوجية. ويرى الكاتب أن تركيا، بموقعها الذي يربط بين الشرق الأوسط والقوقاز والبحر الأسود، وبصفتها عضوا في حلف (الناتو)، يمكنها تعزيز مكانتها في الدبلوماسية العسكرية عبر امتلاك نظام دفاعي قادر ليس فقط على حماية مواطنيها، بل أيضا حماية أصول ومصالح حلفائها في المنطقة. فإنتاج تركيا لمنظومتها الخاصة بنجاح سيفتح أمامها فرصا جديدة داخل الحلف على صعيد تبادل التكنولوجيا ولعب أدوار قيادية، رغم أن المنظومة قد تصبح معطلة إن نشب نزاع بين تركيا ودولة أخرى عضو في الحلف. ويختتم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن "القبة الفولاذية" هي ضرورة حتمية لتركيا، وأن الرصيد التكنولوجي والإنجازات في الصناعات الدفاعية والموقع الإستراتيجي توفر بالفعل بنية تحتية قوية لتحقيق هذا الهدف.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
البروفيسور عبد الغفور الهدوي: الاستشراق ينساب في صمت عبر الخوارزميات
يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أهم الاختراعات في العصر الحديث، إذ لم يعد فكرة خيالية، بل أصبح واقعا يدخل في تفاصيل حياتنا اليومية، ومن هنا جاء الحوار مع البروفيسور الهندي عبد الغفور الهدوي كوناتودي، حول ورقته "الاستشراق والثورة الرقمية"، التي قدمها في مؤتمر الاستشراق الدولي بالدوحة، والمنعقد في الفترة بين 24 و28 أبريل/نيسان 2025. والتي أثارت العديد من الأسئلة. وكوناتودي، ولد عام (1989)، في بونمالا، مقاطعة مالابورم، ولاية كيرالا، الهند. يحمل دكتوراه في علم اللغة العربية، وشهادة ما قبل الدكتوراه في علم العروض العربي، من مركز الدراسات العربية والأفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي، الهند، وحامل شهادة الماجستير في اللغة الإنجليزية وآدابها، جامعة أنديرا غاندي الوطنية المفتوحة، الهند (2016)، وشهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية مع المرتبة الأولى، جامعة دار الهدى الإسلامية، كيرالا، الهند (2010)، أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بكلية الجامعة الحكومية التابعة لجامعة كيرالا بالهند. يقول الهدوي "عندما دخلنا العصر الرقمي، أعاد الاستشراق تشكيل نفسه بأدوات رقمية جديدة". ويضيف "فالاستشراق الرقمي هو في الحقيقة امتداد حديث للاستشراق الكلاسيكي"، ويبين في حديثه للجزيرة نت أن "الأفكار الاستشراقية في هذه الأيام لا تنحصر في كتب الرحالة أو مقالات الباحثين، بل صارت تنساب في صمت من خلال الخوارزميات، ومحركات البحث، وأنظمة التوصية، وحتى في النصوص التي تنتجها تطبيقات الذكاء الاصطناعي". مؤكدا على أن نماذج الذكاء الاصطناعي "لا شك أنها تعيد إنتاج الصور النمطية التي طالما رسخها المستشرقون عن الإسلام والعرب"، فإلى الحوار: الاستشراق الرقمي، ماذا عن هذا المصطلح؟ إعلان الاستشراق لطالما استخدم الوسائل الإعلامية والمعرفية المتاحة في كل عصر لبناء صور معينة عن الشرق. وعندما دخلنا العصر الرقمي، أعاد الاستشراق تشكيل نفسه بأدوات رقمية جديدة. فالاستشراق الرقمي هو في الحقيقة امتداد حديث للاستشراق الكلاسيكي، لأن الأفكار الاستشراقية في هذه الأيام لا تنحصر في كتب الرحالة أو مقالات الباحثين، بل صارت تنساب في صمت من خلال الخوارزميات، ومحركات البحث، وأنظمة التوصية، وحتى في النصوص التي تنتجها تطبيقات الذكاء الاصطناعي. فالصور النمطية القديمة التي أشاعها الغرب عن الشرق قد استعارت في هذه الأيام لغات التقنية، فباتت تستعاد دون وعي منا عبر شاشاتنا اليومية ومنصاتنا الرقمية. كيف يتم تمثيل الإسلام والعرب في أبرز نماذج الذكاء الاصطناعي الغربية والشرقية؟ نماذج الذكاء الاصطناعي إن هي إلا مرايا تعكس ما تغذى به من بيانات. وهذه البيانات عندما تأتي من فضاءات رقمية تهيمن عليها سرديات غربية، لا شك أنها تعيد إنتاج الصور النمطية التي طالما رسخها المستشرقون عن الإسلام والعرب. لذا نلمس في النماذج الغربية مثل "شات جي بي تي"، "غوغل جيميني" و"جروك"، وغيرها ميلا إلى تصوير الإسلام من منظور ضيق، يربطه بالعنف أو التطرف، وتعريف الهوية العربية ضمن سياقات النفط والصراعات والتقاليد الجامدة. أما في النماذج الشرقية، فنجدها تقدم سرديات تصور المجتمعات العربية كصور تراثية ساكنة، أو كيانات بعيدة عن الحداثة، وغير فاعلة في المشهد العالمي المعاصر. تظهر التصورات النمطية التي رسخها الاستشراق الكلاسيكي في مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي بطرق متباينة، إذ تتلون بحسب السياق الثقافي والتقني الذي نشأت فيه كل منظومة. ففي حالة "شات جي بي تي"، باعتباره وليد بيئة أميركية ليبرالية، نلحظ ميلا إلى إعادة إنتاج سرديات مألوفة في الغرب، لا سيما تلك التي تضع الإسلام في ارتباط دائم مع قضايا العنف أو حقوق المرأة أو الحريات، حتى وإن غلفت هذه الطروحات بخطاب معتدل يخضع لتوازنات السياسة الثقافية السائدة. بالمقابل، يبدو "ديب سيك"، النموذج الصيني، أكثر تحفظا. فهو يعكس توجه دولة مركزية تتوجس كثيرا من قضايا الهوية والدين، فيقدم تمثيلا مختزلا ومسطحا للعرب والمسلمين، خاصة حين يتعلق الأمر بالشأن الداخلي المرتبط بالأقليات الدينية. أصبح الذكاء الاصطناعي يشكل ركيزة أساسية في مختلف المجالات العلمية والصناعية، ما أبرز إسهامات الذكاء الصناعي؟ يمثل نمو الذكاء الاصطناعي وانتشاره ثورة كبرى في تاريخ التقنية الحديثة. قد أسهمت هذه الثورة في إعادة تعريف علاقة الإنسان بالتقنية، حيث طورت أنظمة ذكية قادرة على التفاعل واتخاذ قرارات معقدة في ميادين مختلفة مثل الطب والتعليم والاقتصاد والأمن. ففي مجال الطب مثلا، يستخدم الذكاء الاصطناعي في التشخيص الدقيق، والتنبؤ بالأمراض، وتسريع اكتشاف الأدوية. وفي قطاع التعليم، يتيح بيئات تعلم تفاعلية تتكيف مع احتياجات المتعلمين. أما في القطاع الصناعي، قد تغير منطق الإنتاج بفضل الأتمتة الذكية، والصيانة التنبؤية، والتصميم القائم على المحاكاة. وحتى المركبات ذاتية القيادة التي كانت مجرد حلم، أصبحت اليوم جزءا من واقع تقني يومي. وحقا، هذه ثورة صامتة تعيد تعريف علاقتنا بالمعرفة والعمل والزمن. الذكاء الاصطناعي هو مظلة واسعة تضم عدة فروع متخصصة. من أبرز هذه الفروع "التعلم الآلي"، وهو الذي يمنح الأنظمة قدرة على تحليل البيانات والتعلم منها من دون تدخل بشري مباشر. إلى جانبه، ترد "معالجة اللغة الطبيعية"، التي تمكن الحواسيب من فهم النصوص والكلام والتفاعل مع الإنسان، كما يظهر في تطبيقات الترجمة والمساعدات الرقمية. أما "الرؤية الحاسوبية"، فهي تكسب الآلة القدرة على تحليل الصور والفيديوهات، وتستخدم في مجالات الأمن والطب والصناعة. ومن فروعها أيضا "الروبوتات الذكية"، التي تدخل اليوم مجالات دقيقة كالجراحة والرعاية والخدمات. ولكن الأكثر حضورا من فروع الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية هو "الذكاء الاصطناعي التوليدي"، الذي نراه في النماذج القادرة على إنتاج نصوص وصور وموسيقى وحتى رموز برمجية جديدة. الإشكاليات الأخلاقية والفلسفية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي ليست طارئة عليه، بل تنبع من صميم بنيته. فحين تبدأ الآلة في تقليد العقل البشري، تنشأ أسئلة ملحة، مثل: من يملك سلطة القرار؟ ومن يحاسب حين تخطئ الخوارزميات في قراراتها؟ ومن منظور فلسفي، يعيد ذلك إحياء سؤال قديم: هل يمكن للمنطق الرياضي أن ينتج حسا أخلاقيا أو قيما إنسانية؟ وبحسب تقارير حقوقية وأخبار دولية، يشتبه في توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي في عمليات عسكرية تستهدف مناطق مدنية، كما في استخدام إسرائيل لهذه الأنظمة في قطاع غزة لقتل آلاف الأطفال والمدنيين الأبرياء. كل ذلك يثبت أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقدم تكنولوجي، بل اختبار أخلاقي عميق لقدرتنا على إبقاء "الإنسان" في قلب كل قرار. برأيكم هل هناك تحيز بالنسبة للذكاء الاصطناعي؟ نعم! إن التحيز في الذكاء الاصطناعي قضية شائكة تتطلب اهتماما عاجلا. تبدأ قصة التحيز فيه من البيانات. فالبيانات -كما نعرف- هي المادة الخام التي تبنى عليها نماذج الذكاء الاصطناعي. فإذا كانت مشبعة بتمييزات قائمة في الواقع -على أساس العرق أو الدين أو النوع أو الوضع الطبقي- فمن الطبيعي أن تعيد الخوارزميات إنتاج تلك الاختلالات في أجوبتها. وهذه المسألة لا تتوقف عند البيانات، بل إن الخوارزميات نفسها قد تصمم أحيانا وفق أهداف تجارية وسياسية، أو بمنطق تقني يهمل الأسئلة الأخلاقية والإنسانية. وكذلك، إن خلفية المطورين وقيمهم وتصوراتهم للعالم يمكن أن تتسرب إلى مخرجات الذكاء الاصطناعي، بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي أي الميادين يتجلى ذلك التحيز؟ يتجلى هذا التحيز في شتى الميادين. وقد أجريت دراسات عديدة حول تحيزات الذكاء الاصطناعي وأنواعها وميادينها وأسبابها. فعلى سبيل المثال، هناك دراسات تثبت وجود تحيز في خوارزميات تقييم السلوك الإجرامي ضد الأشخاص ذوي الأصول الأفريقية. وقد أشارت تقارير أخرى موثوقة إلى تحيز في نظم توظيف قائمة على خوارزميات، حيث استبعدت النساء تلقائيا من وظائف معينة، بناء على بيانات تاريخية متحيزة. وبعض الأخبار تقر بخطأ تقنيات التعرف على الوجوه في التعرف على الوجوه ذات البشرة الداكنة. فهذه الأمثلة وغيرها أدلة واضحة على أن التحيز في الذكاء الاصطناعي ليس مجرد خلل تقني، بل إشكالية أخلاقية ومجتمعية تستوجب تدخلا عاجلا وممنهجا لضمان عدم تكريس الظلم باسم التقدم التكنولوجي. معالجة التحيز في الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون مشروعا أخلاقيا وثقافيا. وينبغي أن تبدأ هذه المهمة منذ اختيار بيانات للتدريب، إذ لا بد من تنويع المصادر، وتجنب المصادر المنحازة لثقافة أو رؤية واحدة، وضمان تمثيل عادل لمختلف الفئات والهويات. تستخدم اليوم تقنيات تعرف بـ"إزالة الانحياز"، وذلك عبر خوارزميات تعيد وزن البيانات لتقليل تأثير التحيزات المتوارثة. لكن الأهم من ذلك كله هو إشراك الخبراء من خلفيات متعددة -ثقافية، وجندرية، وعرقية- في مراحل التصميم والتدريب والتقويم. وكذلك، يجب أن توضع محليا ودوليا أطر تشريعية ومعايير أخلاقية لضمان الشفافية والعدالة. فالتحيز لا يمحى بالكامل، لكنه يراقب ويكشف ويصحح متى توافر الوعي والمسؤولية. ماذا عن "شات جي بي تي" و" ديب سيك" كتطبيقات في الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ "شات جي بي تي" و"ديب سيك" يمثلان جيلا متقدما من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، إذ لا يكتفيان بتحليل البيانات، بل يشاركان في إنتاج المحتوى: نصوصا، وصورا ومقاطع صوتية وغير ذلك من المحتوى التوليدي. "شات جي بي تي"، بوصفه نتاجا لبيئة غربية مفتوحة، يمتاز بتنوع استخداماته من التعليم والصحافة، إلى البرمجة وصياغة النصوص، ويظهر قدرة مدهشة على التفاعل اللغوي وفهم السياقات. لكنه، كغيره، يبقى محكوما بنوعية البيانات التي بني عليها. أما "ديب سيك"، الذي ينتمي إلى سياق صيني، فيأتي أكثر تحفظا وانضباطا. وهو غالبا محكوم بسياسات المحتوى في الصين، الأمر الذي ينعكس على طبيعة استجاباته. برأيكم هل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما فيها "شات جي بي تي"، و"ديب سيك"، لا تعمل في فراغ معرفي أو سياسي؟ بالتأكيد، إن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي ليست كيانات محايدة تنتج المعرفة من الفراغ، بل هي نتاج بيئات ثقافية ورؤى سياسية وبنى معرفية طورت فيها. ف"شات جي بي تي"، على سبيل المثال، تطور في بيئة ليبرالية ذات حرية تعبير عالية نسبيا، لكنه يبقى محكوما بمعايير الشركات الأميركية وقيمها، ويتجنب موضوعات حساسة أو مثيرة للجدل بحسب سياسات الاستخدام. أما "ديب سيك"، المنتج الصيني، فهو أكثر خضوعا للرقابة، ويعبر عن رؤية الصين فيما يسمح بطرحه وما يحظر تداوله. فهذه النماذج تتغذى على محتوى مشبع بالتوجهات المهيمنة في بيئتها، وتعيد إنتاجها بلغة تقنية منمقة تخفي أحيانا طبيعتها الموجهة. ماذا عن تحيزات "شات جي بي تي" و "ديب سيك"، عندما يتعلق الأمر بالعرب والإسلام؟ رغم الجهود التي تبذلها الشركات المطورة لنماذج الذكاء الاصطناعي، مثل "شات جي بي تي" و"ديب سيك"، للحد من التحيزات، لا تزال آثار الاستشراق الرقمي حاضرة في تصويرها للعرب والإسلام. فإجابات هذه النماذج تبدو محايدة في ظاهرها، لكنها في العمق تعكس ميراثا معرفيا مشبعا بصور نمطية. والذي لاحظته خلال تفاعلي مع هذه النماذج أنها تجيب بشكل محايد إذا ما طرحنا الأسئلة عن المسائل الحساسة عن العرب والإسلام بشكل مباشر. فعلى سبيل المثال، إذا سألناها "هل يدعم الإسلام الإرهاب؟"، أم "هل الأمم العربية متخلفة؟" تأتي الإجابة بالنفي الصريح. ولكن حينما نسأل عن تلك المسائل بشكل غير مباشر، يبدو التحيز الصريح في أجوبتها. مثلا، إذا طلبنا منها اقتراح أسماء لشخصية إرهابية خيالية في قصة نكتبها، نراها تقترح أسماء ذات طابع عربي أو إسلامي. وكذا، إذا طلبنا منها كتابة قصة بعنوان "المرأة العربية"، فهي تنتج قصصا تتكرر فيها صورة المرأة العربية البائسة المقهورة تحت وطأة تقاليد متخلفة. فالخوارزميات، مهما بدت ذكية، لا تنجو من ظل البيانات التي صممت بها. أنا لا أعتقد أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تستخدم اليوم "عمدا" لترويج الصور النمطية عن العرب والإسلام. بيد أن التحيزات والصور النمطية التي تظهر في مخرجاتها، فغالبا ما يكون مصدرها الأرشيف الرقمي الضخم الذي تهيمن عليه سرديات غربية مليئة بالاختزال والتشويه والتعميم. إعلان ومع ذلك، لا يمكننا إنكار أن هذه التطبيقات تمثل أدوات قوية، قادرة على إشاعة الخزعبلات الاستشراقية بصورة مؤثرة، إذا استخدمت عن قصد لهذا الغرض من قبل قوى أو جهات مهيمنة. ولذا، إن تعاملنا مع هذه النماذج لا ينبغي أن يكون استهلاكيا فقط، بل نقديا وواعيا، يستوجب رقابة معرفية وأخلاقية، وسعيا متواصلا لبناء أرشيف رقمي بديل، يعكس صوت الأمة والدين، ويبرز تعددية السياقات الإسلامية والعربية. وبهذه الطريقة فقط يمكننا الحد من أثر الاستشراق الرقمي، واستعادة شيء من التوازن في صناعة المعنى داخل الفضاءات التكنولوجية.