
خالد إسماعيل يقدّم معكوس السيرة الهلالية في رواية "أبو القمصان"
تقوم رواية "أبو القمصان"، للكاتب المصري خالد إسماعيل، الصادرة حديثاً عن دار "الأدهم" في القاهرة، على تقنية السرد الذاتي، بصوت بطلها "سعيد أبو القمصان"، الذي قرر أن يكتب سيرة عائلته المنحدرة من سلالة من العبيد، من داخل السجن الذي يقضي فيه عقوبة عن جريمة قتله باحثة في الفولكلور ذي الجذور الأفريقية في جنوب مصر. هو قتلها انتقاماً "لاستعبادها" إياه، ففيما كانت توهمه بأنها مغرمة به، ظلت لسنوات عديدة تستغله في إنجاز البحوث الميدانية والنظرية التي حصلت بمقتضاها على درجتي الماجستير والدكتوراه. وهنا يقدم خالد إسماعيل سيرة معكوسة، إذا جاز التعبير للسيرة الهلالية التي مجّدت أبا زيد الهلالي الذي كان أسود البشرة، لكنه كان مقدَّراً في قبيلته لانحداره من نسل يتوارث السيادة جيلا بعد جيل، سواء من ناحية والده رزق بن نايل أم أمه خضرة الشريفة، فيما ظل رفيق دربه "أبو القمصان" يورّث العبودية لنسله، إلى أن اتخذت شكلاً جديداً مثَّله "سعيد أبو القمصان" بانسحاقه أمام "يونس الهلالي" و"دينا الصياد"، المنحدرين من أصول تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة.
لن يعرف القارئ أن "سعيد أبو القمصان"، يسرد سيرته مع تلك الصورة من العبودية، التي هي امتداد لصورة قديمة جرى إلغاؤها رسمياً في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، إلا في بداية الفصل الخامس المعنون بـ "يونس الهلالي". تتألف الرواية من ستة فصول يتصدر كل منها اسم إحدى الشخصيات التي يتحدث عنها "سعيد أبو القمصان"، وهي جميعاً تنتمي إلى عائلته باستثناء الشخصيتين الأخيرتين، "يونس الهلالي" و"ناهد الصياد".
رسائل اليائسين
والراوي هنا يتوجه إلى مروي عليه مجهول، لكنه يفسح مساحة فصل كامل لرسالة كتبها عمه "فرج أبو قمصان" وهو في جبال اليمن ضمن قوات مصرية ذهبت إلى هذا البلد في عام 1963لنصرة ثورة عبد الله السلال التي أعلنت الحكم الجمهوري وألغت حكم الأئمة. رسالة "فرج" هذه عثر عليها "سعيد" في صندوق يخص جدته لأبيه واسمها "مراسيلة"، ويبدو أنها كانت بين ما سلَّمته لها السلطات عقب استشهاد ابنها ودفنه في صنعاء. وهي موجَّهة إلى الإمام الشافعي (767 – 820م)، ويبدو أن "فرج" كان ينوي وضعها في مقصورة ضريح هذا الإمام في القاهرة، على عادة كثيرين من البسطاء والتي خضعت لدراسة أنجزها عالم الاجتماع سيد عويس وصدرت عام 1965 في كتاب. هو فعل ذلك طلباً لعدل إلهي، بعدما ضج من ظلم الأحياء.
لم يندم "سعيد أبو القمصان" على قتله "ناهد الصياد"، لكنه ندم على أنه لم يقتل معها صديقه "يونس الهلالي" الذي خانه معها. وهو عبر هذه الكتابة الأقرب إلى الحكي الشفاهي، سعى إلى قتل أبيه معنوياً، "المنافق الملعون الحقير، يعبد القرش ويموت في سبيل الجنيه ويتقرَّب إلى كل صاحب سلطة ويتباهى بالخنوع. جعلني خرقة بالية". فرّ "سعيد" من قهر أبيه له ولأمه، ليرتمي في أحضان قاهر آخر هو "يونس الهلالي"، لمدة عشر سنوات بدأت من تعارفهما طالبين في كلية الآداب في جامعة القاهرة: "كان بارعاً في الكذب. عشتُ معه مكسور الجناح، أطيعه ولا أعصى له أمراً، كنتُ مسلوب الإرادة ومغيّب الوعي، ولم تكن هناك رغبة من جانبي في قطع علاقتي معه، فأنا لا أعرف ملجأ غيره" (ص 107).
أسطرة الواقع
تزخر الرواية بالشفاهية على طريقة السير الشعبية، كما تزخر بالميل إلى أسطرة وقائع على نحو يخالف التأريخ الرسمي، ومن ذلك ما نقله "سعيد" عن أقارب له بخصوص عصابة الأربعة "ريا وسكينة وحسب الله وعبد العال"، من أن قتلة النساء هؤلاء بغرض الاستيلاء على حليهن الذهبية، هم أصلاً من الصعيد، وكانوا يحاربون الإنكليز على طريقتهم، فالنسوة المقتولات كن بغايا وزبائنهن كانوا من جنود الاحتلال في مدينة الإسكندرية في عشرينيات القرن الماضي، "لكن الحكومة الخاينة بتاعتنا لفقت لهم التهمة وقالت انهم بيقتلوا النسوان عشان الدهب والفلوس" (ص 41). أما حكاية "شفيقة ومتولي"، فتدل من وجهة نظر "يونس الهلالي" خريج كلية الآداب، إلى شهامة ذلك الشاب الذي قتل شقيقته بعدما مرَّغت شرف العائلة في الوحل، كما تدل على نخوة القاضي الذي تعاطف معه ورأى أنه لا يستحق السجن سوى لستة أشهر، لإزعاج السلطات، وليس لقيامه بالقتل. وهنا يتماهى "سعيد" مع "متولي"، لكنه عوقب بالسجن المؤبد على جريمة قتله "ناهد الصياد"، التي لم يندم عليها، كما لم يندم "متولي" على قتل "شفيقة" بل تفاخر به استناداً إلى عادات تمجد الثأر.
وهكذا مضت حياة "سعيد أبو القمصان" في قهر متصل، فأبوه أورثه البشرة السوداء ما جعله عرضة طوال الوقت للتنمّر، كما أورثه لقباً ممهوراً بخاتم العبودية وفق "السيرة الهلالية" التي لا تزال تحظى بشعبية كاسحة في جنوب مصر وشمالها على حد سواء. كان "يونس" المولود في المحيط الجغرافي نفسه (محافظة سوهاج في صعيد مصر) يحتفي به ظاهرياً ويداعبه بأنه "حبة سمراء"، لكنه مداعبة تطوي في الحقيقة على معايرته بأنه من نسل العبيد الذين لطالما استعبدتهم أسرته، في الماضي والحاضر. يتولى "سعيد أبو القمصان" السرد، من البداية إلى النهاية، عن معاناته وعائلته من التنمر بسبب لون البشرة، حتى بعد أن فروا من الصعيد إلى القاهرة. كان الأطفال كلما رأوا والده الشيخ الأزهري عائداً من عمله يهتفون: "يا جوهر يا مجنون، يا عبد يا زربون"؛ "وكنتُ أراه في الشارع خانعاً يكاد يبوس أيدي من يلقاهم من الجيران" (ص 8).
تعاسة متصلة
لم تكن أمه من ذوات البشرة الداكنة، لكنها كانت من عائلة تتخذ من إصلاح الأحذية البالية حرفة، فكان ينظر إليها على أنها من طبقة منبوذة، ويقال لمن يعمل بها "جزماتي" أو "صرماتي". وهكذا تضاعفت معاناة "سعيد"، الذي كانت حياته سلسلة متصلة من التعاسة. في طفولته كان يعاني من تنمر طفل آخر يدعى "حموكشة": "أول مرة ضربني فيها نهب مني خمسة قروش – مصروفي – وعيَّرني بسواد وجه أبي". هذا المتنمر كانت أمه بائعة جرجير وكان أبوه من الغجر، سمكري يصلح بوابير الكاز والحنفيات وأقفال الأبواب، وفي أيام الأعياد كان يعمل في سن السكاكين والمقصّات. جدة السارد لوالده تدعى "مراسيلة"، "كانت سوداء مثل أبي"... "حزنتُ لما علمت أن أقارب والدي يخدمون عائلة خويلد وهم من العربان القادمين من بلاد المغرب العربي".
كان يرغب في أن يلتحق بكلية الحقوق ليصبح وكيل نيابة، لكن والده أصر على أن يلتحق بكلية الآداب، لأن المضمون في حالته هو أن يعمل معلماً في مدرسة، وليس الالتحاق بسلك النيابة والقضاء، بالنظر إلى أصله المتواضع اجتماعياً. أما عمه "فرج" فكان يطمح إلى أن يلتحق بكلية الطب، لكنه لم يتمكن من اجتياز الثانوية العامة، فعمل في مكتبة، ما أتاح له قراءة الكثير من الكتب، قبل أن يلطمه زبون وينعته بالعبد: فيتساءل في ألم: "لماذا خلقني الله أسود اللون؟" (ص 56)، وبعد تطوعه في الجيش، استمرت معاناته من سوء معاملة رؤسائه له، الذين كانوا ينادونه: "يا غراب البين" تحقيراً له.
...

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الجزائرية
منذ 15 ساعات
- الشرق الجزائرية
طلاق مصوّر بين فنان ومؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي
نشر الممثل حسين مقدم فيديو عبر حسابه على «انستغرام»، وهو برفقة زوجته إيمان نور الدين. وأعلن مقدم ونور الدين أنّهما اتّخذا قراراً بالإنفصال عن بعضهما. وتوجّه حسين لإيمان قائلا: «لوين رايحين هلق؟»، لتُجيبه «رايحين نطلق». وفي الفيديو، ظهر الثنائيّ برفقة شيخ، وقالت له إيمان «مولانا جربنا الزواج ما مشي الحال، هلق منجرب الطلاق». وقال مقدم في نهاية الفيديو: «تمّ الطلاق بين الطرفين برضا وقناعة كاملة من كلا الجانبين، دون أيّ خلاف، ونسأل الله التوفيق لكلّ منا في قادم الايام». وتجدر الإشارة إلى أنّ حسين وإيمان عمدا قبل فترة إلى حذف الصور التي تجمعهما، ليُعلنا اليوم عن إنفصلاهما رسميّاً.

القناة الثالثة والعشرون
منذ 15 ساعات
- القناة الثالثة والعشرون
بالفيديو : مع صيحات "الله أكبر".. محتجون يمنعون حفلا غنائيا في إدلب ويحطمون معداته
شهدت مدينة سرمدا في ريف إدلب مشهدا غريبا لاقتحام صالة أفراح وتحطيم معداتها. وفي التفاصيل، أقدمت مجموعة أشخاص على اقتحام صالة أفراح كان سيحييها المطرب محمد الشيخ' وحطمت الأثاث وسط صرخات 'الله أكبر'، دون ورود معلومات عن خسائر بشرية أو احتكاك بين المواطنين. هذا المشهد أثار جدلا واسعا بين المتابعين، وتساءل البعض عن الدوافع وراء هذا التصرف، وتباينت ردود الأفعال بين من اعتبره تعبيرا عن الغضب، وبين من رأى فيه تصرفا غير مبرر، تكمن وراءه دوافع دينية. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


الميادين
منذ 19 ساعات
- الميادين
تركيا تصدر أوامر اعتقال جديدة بحق عشرات العسكريين لضلوعهم في انقلاب 2016
أصدر الادعاء العام في تركيا، اليوم الجمعة، أوامر اعتقال بحق 63 عسكرياً في الخدمة الفعلية بسبب ارتباطهم بجماعة متهمة بمحاولة انقلاب في عام 2016. وقال مكتب مدعي عام إسطنبول إن من بين المشتبه بهم "4 ضباط برتبة كولونيل، ينتمون إلى الجيش والبحرية وسلاح الجو والدرك". 9 نيسان 2 تموز 2024 وأسفرت المداهمات التي تم تنفيذها في وقت مبكر من صباح اليوم الجمعة، في جميع أنحاء تركيا عن اعتقال 56 مشتبهاً بهم من أصل 63 جندياً في الخدمة الفعلية صدرت بحقهم أوامر توقيف. وتقول السلطات التركية إن "المعتقلين مرتبطون بفتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب الفاشل عام 2016". الأحزاب التركية في مواجهة التحولات السياسية.. كيف تنعكس على مستقبل التوازنات؟مدير مكتب #الميادين في #تركيا، عمر كايد، في #المشهدية @kayed_omar وتتهم السلطات التركية غولن الذي توفي العام الماضي، في الولايات المتحدة، بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، وبأنه يترأس "منظمة إرهابية"، وتعهدت تركيا بملاحقة أتباع غولن.