رمضان.. تقاليد متجددة أم "تسليع" متجدد؟
لماذا يتقبل الناس تغيير نمط حياتهم اليومية في شهر رمضان؟ هذا السؤال الذي ظل يراودني لسنوات طويلة لم أجد له إجابة شافية ومرضية، كثيرا ما قلت لنفسي: ربما لأنه مناسبة تمتد إلى شهر كامل، وكنت أذكر عبارة مصطفى صادق الرافعي "مدرسة الثلاثين يوما" التي يصف بها شهر رمضان المبارك على أنه شهر كل يوم فيه يعلمنا درسا جديدا وعميقا. إلا أن قدرة الناس على التكيف مع أسلوب جديد، ربما أكثر انتظاما لدى البعض من باقي السنة وأعمق في العلاقات الاجتماعية والتواصل مع من لم نتواصل معهم خلال العام، تثير كثير من التساؤلات "الأثنوغرافية" العميقة التي تتطلب كثير من الرصد. رمضان يخلق فرصة التواصل لمدة ثلاثين يوما وليس بضعة أيام كما هي المناسبات الأخرى وهذه المدة كافية لخلق ثقافة خاصة يمكن أن نسميها "الثقافة الرمضانية". القدرة على التكيف تجلب معها القدرة على صناعة التقاليد، فذاكرة رمضان ممتلئة بكثير من التقاليد، ومن يريد أن يعرف "كيف تخترع التقاليد" عليه دراسة الطقوس والممارسات الاجتماعية المرتبطة برمضان في كافة أنحاء العالم، وليس فقط في الدول الإسلامية، وسوف يجد كما هائلا من التقاليد التي نشأت واستمرت لسنوات طويلة ثم اندثرت وظهرت تقاليد جديدة بعدها.
السؤال الآخر الذي كان يلح علي هو: لماذا تحول شهر رمضان إلى مناسبة تزدهر فيها تجارة كل شيء، من تجارة الطعام والشراب إلى الترفيه، وكان هذا السؤال هو الدافع الأكبر لفهم "التكيّف الذي يخلق تقاليد جديدة"، إذ إن التقاليد تولد مع ممارسة "الطقوس" التي تتكرر كل عام في مناسبة محددة وتتراكم التقاليد الجديدة من خلال التكرار والتطوير، وغالبا ما يصاحب هذه الطقوس "ثقافة استهلاكية" توازن بين الثقافة الجمعية التي تمارس من خلالها الطقوس وبين الثقافة الفردية التي تجعل من كل فرد يحاول أن يعبر عن شخصيته وقدراته المادية ومكانته الاجتماعية من خلال درجة "الاستهلاك" المادي للسلع التي تطورت لتلبي الطقوس والتقاليد الرمضانية في كل مجتمع. في الواقع أن "التقاليد" المُخترعة للتعبير عن الطقوس الرمضانية هي المحرك الأساس لثقافة الاستهلاك في شهر رمضان، وهذه التقاليد لها جوانب مرتبطة بالممارسات الاجتماعية الجمعية ومحركها الأساس "الوجاهة الاجتماعية" التي تجعل كثيرا من القادرين ماديا يوظفون شهر رمضان للتعبير عن قدرتهم ومكانتهم، ومن الطبيعي أن تقوم الطبقات الاجتماعية الأقل قدرة بتقليد الطبقات الأعلى بدرجات أقل في الاستهلاك والبذخ.
لن أقول إن شهر رمضان المبارك تحول شيئا فشيئا إلى ظاهرة استهلاكية، فحتى مع مظاهر الاستهلاك الطاغية تولد مظاهر اجتماعية وثقافية مبهرة ولافتة للنظر، فمثلا موائد الإفطار الجماعية تمثل ظاهرة "ثقافية" بامتياز وتساهم في خلق مفهوم "لتعارفوا" الذي حث عليه القرآن الكريم. فليس من العدل أن ننظر لمظاهر الاستهلاك على أنها مظاهر "سلبية" على الإطلاق، إذ إن صناعة المجتمع التكافلي تتطلب أحيانا مظاهر جمعية تصاحبها مظاهر استهلاكية مثل موائد الإفطار الجماعية. ومع ذلك يمكن أن نقول إن ثقافة الاستهلاك التي أصبحت ترتبط برمضان أكثر فأكثر تناقض المبادئ التي يريد رمضان أن يعلمنا إياها وتختلف في العمق مع "مدرسة الرافعي"، فالصيام هو نوع من اختبار القدرة على الجوع والعطش بهدف الشعور بالآخر، الذي لا يملك المال والعمل على مساعدته والتخفيف عنه، وليس التباهي عليه وإظهار عجزه. مفهوم "لتعارفوا" الرمضاني لم يكن في السابق موائد رمضانية ممتدة بل نظام اجتماعي تكافلي، وهذا الخلط بين ابراز مظاهر الثراء وبين التكافل الاجتماعي يشير إلى ولادة "تقاليد" مترددة وغير واضحة، ربما تحتاجها حياتنا المعاصرة وقد تتغير أو تأخذ أشكالا جديدة في المستقبل.
اللافت للنظر أن رمضان وتقاليده المتجددة والمظاهر الاحتفالية التي صنعتها تلك التقاليد لم تخلق عمارة وأمكنة خاصة بها. وهذا هو التساؤل الثالث، فالعيد يميزه مصليات العيد التي تعتبر جزءا أساسيا من المكون الحضري للمدينة، والمدن التي لا يوجد بها مصليات للعيد تتحول ساحتها العامة إلى مكان للصلاة، لكن رمضان الذي يمتد لمدة شهر لم يؤثر على الفضاء الحضري للمدينة ولم يصبح جزءا من تصميم المسكن ولم تتطور مبان خاصة به يمكن أن نقول عنها إنها "عمارة رمضانية". ربما لأن رمضان يمثل "الثقافة غير المادية" ويصعب التعبير عنه ماديا إلا من خلال مظاهر "الاحتفال" لكن هذه المظاهر الاحتفالية لم تتحول إلى مظاهر مكانية واضحة رغم مرور 1400 عام على هذه المناسبة.
كل مناسبة تكرارية هي مجال واسع لابتكار التقاليد المتجددة، وبالتأكيد أن التقاليد التي تخلقها المناسبة مرتبطة بعمق بجوهرها الوظيفي، فلا توجد مناسبة ليس لها وظيفة مستقرة خصوصا عندما تكون مناسبة دينية وتمثل ركنا من أركان الإسلام. تتطور التقاليد وتتجدد حول هذا الجوهر الوظيفي المستقر وتأخذ أشكالا ومظاهر مختلفة عبر الزمن حسب المناخ الاجتماعي والاقتصادي والتقني، لكنها تظل مرتبطة بالوظيفة المستقرة ولا تخرج عنها. يمكن اعتبار التقاليد التي لا تنتهي تعبيرا متجددا عن رمضان.. هذا يجعلني أقول -مع بعض الحذر-: إن المظاهر الاستهلاكية وثقافة التسليع التي صارت تصاحب رمضان هي "تقاليد مؤقتة" تأتي وتروح وقد تتبدل هذه المظاهر في المستقل وتأخذ صورا مختلفة. لكن رمضان في جوهره "ظاهرة دينية/ ثقافية" وليس مادية، فلم تتطور حوله أمكنة خاصة به، وحتى لو تطورت مظاهر استهلاكية مادية حوله فهي مظاهر مؤقتة ليس إلا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الحدث
منذ 6 ساعات
- الحدث
تدشين مبادرة 'السلسلة الذهبية' لإثراء تجربة ضيوف الرحمن في الحج
دشَّنت رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام ممثلة بوكالة المكتبات والبحث العلمي مبادرة 'السلسلة الذهبية في تقريب العلوم الشرعية'؛ لإثراء تجربة ضيوف الرحمن في موسم حج عام 1446هـ. وتتضمن السلسلة موادًا علمية، تُلبي احتياجات القاصدين من الحجاج والمعتمرين من العلم الشرعي في علوم 'العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والسيرة النبوية، والتزكية والآداب، واللغة العربية'، عبر كتيبات إثرائية، وشرائح علمية متنوعة في الجوانب العلمية التوجيهية، والإرشادية والتوعوية للعقيدة الصحيحة، ومناسك الحج والعمرة، والأمن الفكري، ووسطية الإسلام، مترجمة بعدة لغات خدمةً لضيوف الرحمن، وإثراءً لمعارفهم الدينية. وتهدف السلسلة إلى إيصال رسالة الحرمين الدينية عالميًا؛ من خلال تفسير معاني القرآن الكريم وهداياته، وفهم الإسلام الحق، والعقيدة الصحيحة، وتعلُّم أحكام الدين ومنهج الوسط والاعتدال؛ المستمد من الكتاب والسنة مترجمًا إلى لغات عالمية متباينة؛ وهو أحد سبل نشر الإسلام الحق وإيصاله إلى العالمين من قلب الحرمين الشريفين.

سعورس
منذ 10 ساعات
- سعورس
من أعلام جازان.. فضيلة الشيخ جابر محمد مدخلي
فضيلة الشيخ جابر محمد مدخلي رحمه الله الداعية والأمين العام للتوعية الإسلامية في الحج سابقا، ولد الشيخ جابر في قرية الجرادية عام ١٣٥٦ه التابعة لمحافظة صامطة. تلقى تعليمه الأولي في المسجد حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم الكتابة والخط على يد أحد العلمين. ثم درس في المدرسة السلفية في صامطة التوحيد والفقه والتفسير وفروع اللغة وفي عام ١٣٦٩ه. عينه الشيخ القرعاوي معلما في احدى المدارس في سن مبكرة جدًا ، وعند افتتاح معهد صامطة العلمي التحق به ١٣٧٤ه ودرس فيه التمهيد والثانوي وتخرج عام ١٣٧٨ه كأول دفعة تخرجت من المعهد مع زملائه الشيخ إبراهيم حسن شعبي والشيخ علي صديق عريشي رحمهما الله التحق بعد ذلك بكلية الشريعة بالرياض ودرس فيها لمدة عامين ۱۳۷۹ و۱۳۸۰ه. وعندما افتتحت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام ۱۳۸۱ه ضحى بسنتين من دراسته ليكون ملازمًا للشيخ عبد العزيز بن باز الذي عين نائبا لرئيس الجامعة حيث التحق من السنة الأولى واستمر على حضور دروس الشيخ ابن باز واستمر ملازما له. وكان من الطلاب الذين اختارهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله للدعوة وتعليم الناس في المناطق الجنوبية التي تمتد من مكة إلى البرك وذلك خلال الاجازة الصيفية حتى تخرج من الجامعة في أواخر عام ١٣٨٤ه وبعد تخرجه رُشح للقضاء ولكنه اعتذر وعمل في وظيفة على نظام الساعات في وزارة الزراعة لمدة تسعة أشهر. وفي شهر شوال عام ١٣٨٥ه عُين معلماً في القطيف بالمنطقة الشرقية ثم مديراً للمدرسة النموذجية التابعة لشركة أرامكو بمدينة صفوى لمدة ثلاث سنوات. وفي عام ۱۳۸۹ه انتقل إلى الطائف معلمًا في المتوسطة الأولى، وفي عام ١٣٩١ه رُشح للتدريس في إمارة الفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة لمدة أربع سنوات كان خلالها عضواً فاعلاً في الأنشطة الدعوية وعند عودته من الايفاد عاد للتدريس في ثانوية ثقيف بالطائف. وفي عام ١٣٩٦ه قام الشيخ عبد العزيز بن باز بنقل خدماته من وزارة التعليم إلى الرئاسة العامة الإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وعين مديراً لمكتب التوعية الإسلامية ومشرفًا عامًا على الدعاة ومناشطهم في سلطنة عمان. وكان خلال عمله في عمان يُنتدب للعمل مع التوعية الإسلامية التي كانت تصدرها الأمانة العامة للتوعية الاسلامية في موسم الحج. وفي عام ۱۳۹۹ه كلف بالعمل أميناً عاما للتوعية الإسلامية في الحج، وفي عام ١٤٠١ه عين رسمياً أميناً عاماً للتوعية الإسلامية في الحج واستمر فيها حتى أحيل للتقاعد عام ١٤١٦ه وتم التعاقد معه في نفس العام أميناً عاماً للتوعية الإسلامية. – العضويات والمجالس واللجان:- كان عضواً في العديد من المجالس والجمعيات واللجان ومنها.. ١- عضو في مجلس منطقة مكة المكرمة منذ بدايته. ٢-عضو في لجنة الإفادة من لحوم الهدي والأضاحي التابعة للبنك الإسلامي للتنمية. ٣- عضو في الجمعية الخيرية لمساعدة الشباب على الزواج. ٤- مندوباً ممثلاً لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في اللجنة المكلفة بتحديد حدود الحرم المكي. ٥- شارك في العديد من الندوات العلمية في الداخل والخارج ٦- زار عدد من البلدان الإسلامية للمشاركة في الدعوة. ٧- له الكثير من المقالات والمشاركات الصحفية التي نشرت في الصحف السعودية. – وفاته:- توفي رحمه الله صباح يوم الثلاثاء ٢٧ / ٤ / ١٤٢٨ه إثر حادث دهس تعرض له بجوار منزلة بمكة المكرمة وصلي عليه يوم الأربعاء ٢٨ / ٤ / ١٤٢٨ ه في المسجد الحرام ودفن في مقبرة الشرائع بعد حياة حافلة بالعمل كرس من خلالها جهده ووقته لأعمال الخير والدعوة إلى الله وتوعية حجاج بيت الله الحرام رحمه الله رحمة واسعة.


المناطق السعودية
منذ 12 ساعات
- المناطق السعودية
تدشين مبادرة 'السلسلة الذهبية' لإثراء تجربة ضيوف الرحمن في الحج
دشَّنت رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام ممثلة بوكالة المكتبات والبحث العلمي مبادرة 'السلسلة الذهبية في تقريب العلوم الشرعية'؛ لإثراء تجربة ضيوف الرحمن في موسم حج عام 1446هـ. وتتضمن السلسلة موادًا علمية، تُلبي احتياجات القاصدين من الحجاج والمعتمرين من العلم الشرعي في علوم 'العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والسيرة النبوية، والتزكية والآداب، واللغة العربية'، عبر كتيبات إثرائية، وشرائح علمية متنوعة في الجوانب العلمية التوجيهية، والإرشادية والتوعوية للعقيدة الصحيحة، ومناسك الحج والعمرة، والأمن الفكري، ووسطية الإسلام، مترجمة بعدة لغات خدمةً لضيوف الرحمن، وإثراءً لمعارفهم الدينية. وتهدف السلسلة إلى إيصال رسالة الحرمين الدينية عالميًا؛ من خلال تفسير معاني القرآن الكريم وهداياته، وفهم الإسلام الحق، والعقيدة الصحيحة، وتعلُّم أحكام الدين ومنهج الوسط والاعتدال؛ المستمد من الكتاب والسنة مترجمًا إلى لغات عالمية متباينة؛ وهو أحد سبل نشر الإسلام الحق وإيصاله إلى العالمين من قلب الحرمين الشريفين.