logo
"بالييوود" و"غزة وود".. حملة إسرائيلية تروج روايات مضللة لإنكار المجاعة في غزة

"بالييوود" و"غزة وود".. حملة إسرائيلية تروج روايات مضللة لإنكار المجاعة في غزة

الجزيرةمنذ 5 أيام
في الوقت الذي يشهد فيه قطاع غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه، وسط حصار خانق وتجويع ممنهج ضد أكثر من 2.4 مليون إنسان، تشن منصات موالية للاحتلال الإسرائيلي حملة تضليل رقمي منظمة، تهدف إلى قلب الرواية، والتشكيك في حقيقة التجويع، وتصدير صورة معكوسة عن الواقع اليومي في غزة.
في هذا التقرير ترصد وكالة "سند" للرصد والتحقق الإخباري في شبكة الجزيرة هذه الحملة، وتعرض طبيعة الشبكات التي تروج لها، ومن يقف خلفها.
مشاهد لأطعمة فاخرة
بدأت الحملة مع مطلع يوليو/تموز الجاري، وانطلقت عبر منصة "إكس"، وتقودها حسابات مشبوهة روجت لمقاطع تظهر أطعمة فاخرة، وحلويات ومشروبات وهدايا وأدوات تجميل في مناطق محدودة من قطاع غزة، في محاولة لتعميم صورة زائفة توحي بأن الوضع المعيشي في القطاع طبيعي، وأن لا وجود لمجاعة.
الحسابات ذاتها أعادت نشر المقاطع مرارا، متجاهلة بشكل ممنهج التقارير الموثقة والشهادات الحية التي تؤكد معاناة مئات الآلاف من سكان غزة من الجوع الحاد ونقص الغذاء، لا سيما في المناطق التي تعاني حصارا مزدوجا بين القصف وأوامر الإخلاء.
تزامن ذلك مع تصاعد تفاعل وسوم محددة، وتكرار لافت لسرديات موحدة بين الحسابات ذاتها، مما أثار تساؤلات عن أهداف الحملة، وطبيعة الشبكات الرقمية التي تقف خلفها، ودورها في محاولات التضليل الممنهجة لتشويه الواقع الإنساني في غزة.
"بالييوود" و"غزة وود"
في موازاة بث مقاطع الطعام الفاخر، صعّدت منصات موالية للاحتلال الإسرائيلي من حملة التضليل الرقمي، مستخدمة خطابا ساخرا يستهدف تشويه صورة الضحايا الفلسطينيين والتقليل من حجم الكارثة الإنسانية في غزة.
فقد نشطت حسابات إسرائيلية في ترويج مصطلحين ساخرين هما "بالييوود" (دمج بين فلسطين وهوليود) و"غزة وود"، في إشارة إلى مزاعم التمثيل والفبركة، في محاولة لتجريد مشاهد المعاناة من صدقها، والتقليل من حجم الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، بهدف تضييق دائرة التعاطف العالمي.
ضمن هذه الحملة، زعم أحد مستخدمي أن سيدة فلسطينية ظهرت في مقابلة إعلامية تشتكي من الجوع بينما كانت تحمل هاتفًا من نوع "آيفون" يفوق ثمنه ألف دولار أميركي، في إيحاء ساخر يتنافى مع شكواها. غير أن التدقيق أظهر أن السيدة كانت تحمل هاتفا من طراز "ريدمي A9" المنخفض التكلفة، وليس آيفون كما ادعى الناشر.
كذلك انتشر مقطع مصور يوثق مائدة طعام كبيرة في غزة، قُدم على أنه حديث لتكذيب روايات المجاعة. لكن التحقق أظهر أن الفيديو قديم ونشر قبل أشهر، وأعيد تدويره ضمن الحملة الحالية.
View this post on Instagram
A post shared by فلسطينFREE🇵🇸 (@palestine.free_456)
ومع تضاؤل قدرة هذه الحسابات على إيجاد مشاهد حديثة يمكن التلاعب بها، لجأت إلى أساليب سخرية مباشرة، من خلال صور وتعليقات ساخرة تحوّل المجاعة إلى مادة ترفيهية، في تجاهل فجّ للكارثة الإنسانية المتفاقمة.
حملة منظمة
لم تكن حملة التضليل الرقمي التي رافقت الحديث عن المجاعة في غزة عشوائية، بل أظهرت مؤشرات واضحة على التنسيق المسبق، إذ خصصت ما لا يقل عن 5 حسابات عبر منصة "إكس" محتواها اليومي لنشر مقاطع فيديو تظهر أطعمة متنوعة ومشاهد من كافيهات ومطاعم في مدينة دير البلح وسط القطاع، في محاولة لتقديم صورة مغايرة للواقع، توحي بأن الإمدادات الغذائية وفيرة، وأن الحياة المعيشية لم تتأثر بالحرب.
إعلان
ويقف في صدارة هذه الحملة حساب (imshin@) الذي لعب دورا محوريا في تضخيم الرواية التضليلية، مدعوما بشبكة من الحسابات يتابعها عشرات الآلاف، ومن أبرزها حساب (GAZAWOOD1@) الذي نشر مقاطع من داخل مطعم محلي تعرض تقديم عصائر وحلويات، وكتب تحتها: "تم تصوير هذا اليوم في دير البلح"، موجها اتهاما إلى الإعلام الفلسطيني بتجاهل هذه المشاهد و"إسكات" صوت المطاعم.
كما رصدت منشورات من الحساب ذاته تسخر من مشاهد لصحفيين غزيين وهم يشربون الماء والملح، في إشارة مباشرة إلى حالات الجوع والعطش التي وثقتها تقارير محلية ودولية.
لكن التدقيق في ادعاءات هذه الحسابات كشف عن تناقض فاضح، إذ نشر المطعم ذاته عبر حسابه في "إنستغرام" تنويها قبل أيام قال فيه: "في الوقت الذي وقفنا فيه أمام أنفسنا وأمام الله إلى جانب أهلنا وأبناء شعبنا بتوفير كل الأصناف بسعر التكلفة، نعتذر اليوم السبت عن استقبالكم لعدم توفر المواد الخام للأصناف".
View this post on Instagram
A post shared by Rayhana Sweets salt (@rayhanasweetsalt)
وسم مضلل وسردية منسقة
ضمن الحملة الرقمية الممنهجة لتزييف الواقع في قطاع غزة، نشط وسم #TheGazaYouDontSee كأحد أبرز الأدوات التي اعتمدتها الحسابات الموالية للاحتلال الإسرائيلي، لترويج سردية مضادة تنكر وجود المجاعة، وتتهم الفلسطينيين بفبركة المشهد الإنساني.
وقد رصدت "سند" تداول هذا الوسم بلغات متعددة، أبرزها الإنجليزية واليابانية، عبر منشورات ركزت على مهاجمة حركة حماس، والتشكيك في التقارير الحقوقية والإنسانية، مدّعية أن المجاعة "أكذوبة" صاغها الإعلام العربي والإسلامي لتأليب الرأي العام العالمي.
من يقف وراء الحملة؟
وفي إطار رصد موسع، أظهر تحليل شبكي أجرته "سند" لعينة مكونة من ألفي تغريدة، نشرت على الوسم خلال يومي 1 و2 يوليو/تموز 2025، وجود نمط من التنسيق بين مجموعات رقمية متداخلة هدفت إلى تشويه صورة الوضع الإنساني في غزة، عبر بث روايات موحدة تفيد بأن "لا وجود لمجاعة" أو أن "المعاناة مبالغ فيها ومفبركة".
وتكرّر في منشورات تلك الحسابات استهداف وكالة "الأونروا" بشكل لافت، سواء من خلال الردود أو الوسوم أو الإشارات المباشرة (المنشن)، في محاولة لتصويرها كجهة منحازة أو متواطئة في "خداع" المجتمع الدولي.
وأظهر التحليل الشبكي الذي أجرته "سند" للبنية الرقمية للحملة أن الحساب الإسرائيلي (imshin) شكّل محور التفاعل الأبرز، حيث تصدّر ما يعرف بـ"العقدة المركزية" (Central Node) التي تدور حولها باقي الحسابات المروجة، في دلالة واضحة على مركزية الخطاب ومصدره.
ووفق خوارزميات التحليل، تبيّن أن أكثر من 74% من الحسابات المشاركة في الوسم تعود إلى مجموعة مركزية واحدة تدور في فلك هذا الحساب، مما يعكس درجة عالية من الاصطفاف والتنسيق في إنتاج المحتوى وتكرار السرديات.
وفي تحليل تقاطعي أوسع شمل الحسابات الثلاثة (imshin@ – GAZAWOOD1 – osint613)، ظهر ترابط ملموس في التوقيت والمحتوى وحجم التفاعل، فقد شكل كل واحد منها مجتمعا فرعيا متماسكا يرتبط بباقي الحسابات عبر ما يعرف بالحسابات "الجسرية" (Bridge Accounts)، وهي حسابات تسهل انتقال الرواية بين المجموعات وتضمن إعادة تدويرها بشكل منسّق.
رواية واحدة و3 أساليب
وبرز حساب (GAZAWOOD1) بين أبرز المشاركين في الحملة، من خلال نشر مقاطع فيديو ساخرة تُنكر المجاعة وتتهكّم على التقارير الحقوقية، مستخدما لغة مزدوجة تجمع بين الطرافة السوداء والنفي المبطن للكارثة.
في السياق ذاته، نشط حساب (TrollAndoVoy) ضمن مجموعة فرعية موازية، تشارك المحتوى ذاته، بينما برز حساب (tantemay) -الذي يزعم انتماءه إلى الدانمارك- كأحد أكثر الحسابات الأوروبية نشاطا في دعم السردية الإسرائيلية، من خلال تكرار منشورات تهاجم منظمات حقوق الإنسان، وتطعن في مصداقية التقارير الدولية عن الوضع في غزة، بلغة ساخرة أو ذات طابع استعلائي تجاه الضحايا.
وإلى جانب هذه الحسابات، أظهر التحليل وجود نمط تكراري في اللغة والتوقيت والأسلوب، مما يرجح أن الحملة ليست مجرد تفاعلات فردية، بل نتاج شبكة منظمة تهدف إلى طمس الرواية الحقوقية، وتشويه المعاناة الفلسطينية، وخلق حالة من الشك الممنهج لدى الرأي العام الدولي.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ما حقيقة اكتشاف سجن يضم 6 آلاف جثة في ريف دمشق؟
ما حقيقة اكتشاف سجن يضم 6 آلاف جثة في ريف دمشق؟

الجزيرة

timeمنذ 12 دقائق

  • الجزيرة

ما حقيقة اكتشاف سجن يضم 6 آلاف جثة في ريف دمشق؟

نفق غامض، أبواب حديدية، وشائعة مرعبة عن 6 آلاف جثة مدفونة تحت الأرض قرب سجن صيدنايا، هكذا اشتعلت منصات التواصل خلال ساعات، بمقطع فيديو زعم أنه يوثق "أفظع اكتشاف سري في سوريا"، ليغذي سرديات الرعب والانتهاكات. ملايين المشاهدات وتعليقات مشحونة، والكل يتساءل: هل هذا السجن حقيقي؟ وهل ما نراه جريمة موثقة أم مجرد خدعة رقمية؟. وكالة "سند" للتحقق في شبكة الجزيرة تتبعت أصل الفيديو، وسياق نشره، وموقعه. سجن خفي البداية كانت بعد تداول ناشطون وحسابات سورية، أمس السبت، مقطع فيديو زعم أنه يظهر اكتشاف سجن ضخم تحت الأرض، يقع على بعد كيلومترين من سجن صيدنايا العسكري في ريف دمشق، والذي يعد واحدا من أكبر سجون البلاد وأسوأها سمعة. نشر الفيديو بشكل واسع عبر منصة "إكس"، وادعت بعض المنشورات أن السجن المكتشف يحتوي 6 آلاف جثة، دون تقديم أدلة أو مصادر. لاقى المقطع انتشارا كبيرا أيضا على منصة "تيك توك"، محققا أكثر من 5 ملايين مشاهدة، ويظهر فتحة أرضية تقود إلى نفق عميق ينحدر عشرات الأمتار تحت الأرض، وتتفرع منه ممرات ضيقة وأبواب حديدية، وسط تأكيدات في التعليقات أنه يوثق "أفظع ما شهدته سوريا من مجازر". أجرت وكالة سند للتحقق الإخباري تحليلا للمقطع باستخدام أدوات البحث العكسي، ليتبين أن الفيديو لا صلة له بسوريا، ولا يوثق أي اكتشاف جديد، سواء لسجن أو لجثث. من سوريا للهند تبين أن المقطع لم يكن متداولا على أنه من سوريا فحسب، بل نشر أيضا من قبل ناشطين وحسابات في الهند خلال الشهرين الماضيين، وأرفق بعبارات مثل: "ماذا يوجد داخل النفق"، و"من المؤكد أنك لم تر سجنا ضخما كهذا من قبل". View this post on Instagram A post shared by SAM KHAN YT (@ إعلان غرف تخطيط خلال الحرب العالمية الثانية كما توصلنا إلى نسخ سابقة نشرت في فبراير/ شباط الماضي على حساب "تيك توك" يحمل اسم (urbexkev)، وهو مستكشف حضري يعرّف نفسه بأنه متخصص في توثيق مواقع تاريخية مهجورة. وأشار صاحب الحساب إلى أن الفيديو يوثق غرف تخطيط وقيادة عسكرية من الحرب العالمية الثانية، دون تحديد الموقع بدقة. وشاركت حسابات مهتمة باستكشاف نفس المحتوى على فيسبوك مقاطع فيديو متطابقة، قالت إنها تظهر غرف التخطيط التي شكلت جزءا أساسيا من أنظمة القيادة والتحكم خلال الحرب العالمية الثانية دون الإشارة إلى مكان تصوير الفيديو. يذكر أن سجن صيدنايا يعد أحد أكثر السجون العسكرية السورية تحصينا، ويطلق عليه "المسلخ البشري" بسبب التعذيب والحرمان والازدحام داخله، ولُقب بـ"السجن الأحمر" نتيجة الأحداث الدامية التي شهدها خلال عام 2008. وقد تمكنت قوات المعارضة السورية في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 من اقتحامه، وتحرير كافة المعتقلين منه، وذلك بعد دخولها العاصمة السورية دمشق، وإعلانها إسقاط حكم بشار الأسد.

"أصداء الطوفان".. حين تصير الكلمة بندقية
"أصداء الطوفان".. حين تصير الكلمة بندقية

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

"أصداء الطوفان".. حين تصير الكلمة بندقية

حين تصير الكتابة فعل نجاة، ويغدو الحرف مركبا صغيرا في بحر متلاطم الأمواج، نحتاج إلى أكثر من محلل سياسي أو مراسل حربي… نحتاج إلى شاهد يسجّل بالألم ما عجزت عنه المصوِّرات/أجهزة التصوير، شاهد يكتب ليقاوم النسيان فضلا عن أن يقنع أو يؤثر. كتاب عبد الحي كريط "أصداء الطوفان؛ صوت غزة في زمن الانكسار" ليس مجموعة مقالات أو حوارات عابرة عن حرب مروّعة فحسب، بل هو وثيقة وجدانية فكرية، تقف على تخوم الصدمة، وتعيد تعريف المثقف بوصفه أولا إنسانا محكوما بالحب والعجز تحرقه أخبار المجازر والشهداء، قبل أن يكون كاتبا أو خبيرا أو مثقفا. والكتاب صدر حديثا عن دار مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث. في هذا المقال، نفتح صفحات هذا العمل، لننصت إلى صوت مختلف للكتابة، صوت يجرّح أكثر مما يداوي، لكنه يصرّ على أن الكلمة، إذا كُتبت بلسان صادق، فقد تَشِي بشيء من المعنى، وتحفظ شيئا من المعنى ومن ماء الوجه في عالم فقد كل معنى. يشكّل كتاب أصداء الطوفان صوت غزة في زمن الانكسار للكاتب والصحفي المغربي عبد الحي كريط، عملا أدبيا وفكريا مختلفا في مرحلة من تاريخ العروبة يتآكل فيها المعنى وتتشظى فيها القيم تحت وطأة القتل الجماعي والتواطؤ السياسي والإعلامي، والكتاب لا يأتي في صيغة توثيقية نمطية، ولا يتخذ من الحياد قناعا، بل ينهض بوصفه موقفا أخلاقيا، وصيحة احتجاج ضد الصمت، وانحيازا صارخا للحياة في وجه آلة القتل والتدمير الصهيونية المستمرة. في مقدمة الكتاب، يعلن عبد الحي كريط بوضوح انحيازه الإنساني والسياسي حين يقول: "لا أكتب من موقع الراوي المحايد، بل من موضع الشاهد المنكسر.. المنحاز للحياة في وجه الموت، وللكلمة في وجه القصف". هذه العبارة تتجاوز كونها افتتاحية لتتحول إلى إعلان نية جريء، حيث يحدد الكاتب من البداية موقعه، فهو ليس مجرد مؤلف يسرد، بل هو إنسان يكتب بجرح نازف من قلب اللهيب لا من شرفات التحليل البارد. بنية ثلاثية للبوح والتفكيك والتطهير يمتد الكتاب على نحو 170 صفحة، ويعتمد بنية ثلاثية متكاملة تجمع بين الحوارات، والمقالات التحليلية، والنصوص الشعرية، في مزج عضوي بين الفكر والإبداع؛ بين العقل والوجدان، هذا التقاطع البنيوي لا ينبع من رغبة في التنويع الشكلاني، بل من وعي بالوظيفة التكاملية للثقافة حين تصبح درعا في وجه التفاهة، وصوتا في زمن الانكسار. أما في القسم الحواري، فيجري كريط لقاءات مع عدد من المثقفين الفلسطينيين والعرب والإسبان، وهو لا يستدعيهم بوصفهم شهودا على المأساة فحسب، بل شركاء في صياغة ذاكرة مقاومة، هؤلاء المثقفون لا يكتفون بوصف الفاجعة، بل ينخرطون في فعل تطهيري للوعي، ويتمرّدون على منطق الوصاية الذي ينطق عن غزة من الخارج، وبذلك، يصير الحوار طقسا جمعيا للبوح، واستعادة صوتية لكرامة مهدورة في زمن التواطؤ. وأما القسم التحليلي، فيشكّل محورا نقديا عميقا يتناول السياقات السياسية والإعلامية لما بعد 7 أكتوبر، في ظلال عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عدوان غير مسبوق على غزة، هنا يستعمل عبد الحي كريط المقالة بوصفها أداة لتفكيك الخطاب العربي الرسمي، ويُسائل صمت الأنظمة، ويكشف آليات تدجين الوعي وتصيير المأساة "محتوى"، وتحويل الدم إلى مشهد يعاد تدويره بلا أثر ولا مساءلة، تخرج هذه المقالات من دائرة التحليل لتدخل نطاق المحاكمة، حيث تُعري تواطؤ الإعلام الموجّه، وتفكك خطابات الشرعنة التي تحيط بالاحتلال من كل جانب. وأما في بُعده الإبداعي، فيقدّم كريط نصوصا شعرية نازفة كتبت كما لو أنها خرجت من ذاكرة محاصرة، هذه النصوص لا تغرق في الحزن ولا تستجدي التعاطف، بل تصوغ الألم في قالب فني، يربك القارئ، ويوقظ ضميره، إنها كتابة ترفض الشفقة وترفض أن تُروى غزة حكاية حزينة، بل تصرّ على رسمها ملحمة إنسانية عصية على المحو والنسيان لا يضرها من خذلها. الكلمة فعل مقاومة ليست "أصداء الطوفان" كتابا عن غزة فقط، بل عن الامتحان الأخلاقي للوعي العربي المعاصر، إنه بمثابة مرآة كاشفة لا يعري انهيار دعاوى حقوق الإنسان فحسب، بل يعري انهيار المعنى ذاته حين تُختزل المأساة في تدوينات عابرة، أو حين تصبح الجرائم وقودا لدورة إعلامية سريعة الزوال، وهنا لا بد للكتابة أن تعيد اكتشاف دورها التاريخي، بعيدا عن الزينة والتأنيق، ورغبة النجاة الفردية، أداة للمواجهة، وللفضح والتعرية، وللتذكير بأن اللغة قادرة على أن تكون سلاحا حين تعجز البنادق عن الوصول. بهذا المعنى، لا يمكن تصنيف أصداء الطوفان ضمن الكتابات الأدبية أو السياسية فحسب، بل هو مشروع في مساءلة الضمير العربي، واستعادة للثقافة بوصفها فعلا حيّا يتجاوز الاستهلاك، ويجابه الانحلال القيمي بكل أشكاله، لقد عرف القارئ عبد الحي كريط من قبل في مؤلفاته مثل "مدارات ثقافية: الشمس تشرق من المغرب ونوافذ حوارية في الأدب الإسباني"، حيث يتقاطع النقد الثقافي مع الحوار المتوسطي، لكن عمله الجديد يذهب أبعد، إذ يتحوّل من التحليل إلى البوح، ومن التفسير إلى الصراخ الواعي، ومن التوثيق إلى الانخراط الوجودي. في مواجهة الانكسار: الكتابة بوصفها ترميما للذاكرة ربما تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه لا يُقدَّم أرشيفا للحرب، بل نقشا في الذاكرة الجمعية، ومحاولة لترميم الذات العربية الفلسطينية التي تتعرض للطمس اليومي، والكتاب ليس خطابا مباشرا، بل كتابة تستنطق الإنسان، وتُعيد له صوته واسمه ووجهه في زمن تعميم القتل وطمس الأثر. تسكن في صفحات هذا العمل صرخات الأطفال، ونواح الثكالى، وبكاء الأيامى، وأصوات البيوت المهدّمة التي تنطق بالحياة والذكريات وسط الركام، لكنه، على خلاف العديد من النصوص، لا يعزف على وتر الرثاء، بل يصرّ على أن تكون الكلمة فعل نهوض، لا نعيا، وأن تكون القراءة مشاركة في المقاومة لا تضامنا شعريا عابرا. ومن المتوقع أن يُعرض أصداء الطوفان في عدد من المعارض العربية خلال الموسم الثقافي المقبل، وسط اهتمام متزايد بالأعمال التي تردّ الاعتبار للثقافة بوصفها ذاكرة حية لا وثيقة صامتة، بهذا الظهور المتوقَّع، ينضم الكتاب إلى موجة من الإنتاجات الفكرية التي تُعيد للثقافة دورها الأخلاقي، في زمن هيمنت فيه الأدوات التقنية على المعنى، والصورة على الوجدان. ففي زمن يُقتل فيه الناس بالصوت والصمت معا، يأتي هذا الكتاب ليقول: إن الكتابة ليست فقط ملاذا، بل ساحة مواجهة، وإن الصمت لم يعد حيادا، بل خيانة، يقول كريط في عمله: "الحياد في زمن المذبحة خيانة للضمير"، وهكذا، يصبح أصداء الطوفان بيانا أدبيا وسياسيا ضد البلادة، وصرخة مكتوبة في وجه انكساراتنا المتكررة. في أصداء الطوفان، يتجاوز عبد الحي كريط وظيفته كاتبا ليصبح شاهدا على عصر فقد فيه الإنسان إحساسه بالكارثة. وبين الحوارات والمقالات والقصائد، تتشكل ملحمة ثقافية تُعيد رسم دور الكلمة حصنا أخيرا للكرامة، إنه كتاب يُقرأ لإعادة الحياة والمعنى لا للاستهلاك، ويقرأ للذكير والنصرة، لا للتسلية، ففي زمن الخراب، لا يزال هناك من يكتب ليذكّرنا بأن غزة ليست بعيدة، وأن المجازر وروائح الدماء وأصوات الشهداء والضحايا فيها لم تتوقف يوما، وأن الأصداء لا تزال قادرة على إرباك الصمت وفضح التخاذل.

غارات إسرائيلية مكثفة على غزة واستشهاد أكثر من 25 فلسطينيا منذ منتصف الليل
غارات إسرائيلية مكثفة على غزة واستشهاد أكثر من 25 فلسطينيا منذ منتصف الليل

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

غارات إسرائيلية مكثفة على غزة واستشهاد أكثر من 25 فلسطينيا منذ منتصف الليل

أفادت مصادر طبية فلسطينية باستشهاد أكثر من 25 فلسطينيا وإصابة العشرات في سلسلة من الغارات الإسرائيلية المكثفة التي استهدفت عدة مناطق بقطاع غزة منذ منتصف ليلة الاثنين، تركز معظمها على مدينة خان يونس جنوبي القطاع. واستهدفت غارات إسرائيلية عدة منازل سكنية بمنطقتي المواصي والحي الياباني غربي خان يونس، وأضافت مصادر طبية أن بين الضحايا عددًا من المفقودين الذين لا يزالون تحت الأنقاض، في حين تواصل طواقم الدفاع المدني عمليات البحث والإنقاذ وانتشال الجرحى والشهداء من تحت ركام المنازل التي تعرضت للقصف. ووسط قطاع غزة، أفادت مستشفى شهداء الأقصى بوصول شهيدتين وعدد من الإصابات جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في منطقة البصة بمدينة دير البلح، ومنزلًا آخر في مخيم المغازي وسط القطاع، أدى إلى استشهاد 3 مواطنين وإصابة آخرين. وشنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي غارات عنيفة على منطقة المواصي غرب خان يونس، بالتزامن مع قصف مدفعي مكثف على منطقة الكتيبة وسط المدينة، كما نفذت قوات الاحتلال عمليات تفجير وهدم لمنازل سكنية في خان يونس. وأفادت وزارة الصحة في غزة -أمس الأحد- بأن 88 فلسطينيا استشهدوا وأصيب 374 آخرون بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الساعات الـ24 الماضية في القطاع، وارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 59 ألفا و821 شهيدا، و144 ألفا و851 مصابا. يأتي ذلك في حين قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن الجيش قدم للمستوى السياسي خططا لاستمرار القتال في غزة، وإن القطاع لا يزال "ميدان الحرب الأساسي"، مدعيا أن ما تعرف بعملية " عربات جدعون" حققت جميع أهدافها في القطاع. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية بغزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها. وخلفت الإبادة الإسرائيلية، بدعم أميركي، أكثر من 204 آلاف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.​​​​​​​

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store