
منافقون بلا حدود
بقلم يونس مجاهد
تصدر منظمة مراسلون بلا حدود، الفرنسية، تقريرها السنوي، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يتضمن تصنيفا للدول، حسب درجة ممارسة هذه الحرية فيها، بناء على معايير تعتمدها، وتتعامل معها كما يحلو لها.
ولا يمكن لأي متتبع إلا أن يندهش لهذا التصنيف، الذي يضع دولة إسرائيل التي قتلت قرابة 200 من الفاعلين الإعلاميين، في عدوانها على غزة والضفة الغربية، في مرتبة متقدمة على المغرب، حيث احتل المرتبة 120، بينما احتلت إسرائيل المرتبة 112، في احترام حرية الصحافة، حسب هذه المنظمة.
أما دولة قطر فقد احتلت، حسب هذه المنظمة، المرتبة 79، متقدمة على الأرجنتين ولبنان ومصر، وعلى كل الدول العربية الأخرى، مما يدفع إلى التساؤل عن جدية المنهجية التي تعتمدها مراسلون بلا حدود، في تقييمها لممارسة حرية الصحافة، في العالم. فإذا كانت دولة إسرائيل تغتال وتعتدي باستمرار على الصحافيين الفلسطينيين والأجانب، وهي الممارسة التي تعتبر أقصى ما يمكن أن تقترفه دولة تجاه حرية العمل الصحافي، فإن دولة قطر لا تعترف بأي حق من حقوق الحرية في التنظيم والتجمع، ناهيك عن حق حرية التعبير.
وأتذكر أنه في مرة من المرات، سافرت إلى هذا البلد رفقة الأمين العام السابق للفيدرالية الدولية للصحافيين، آيدن وايت، بهدف خلق نواة لتنظيم صحافي في قطر، وبعد أن أجرينا عدة اتصالات بصحافيين، حاولنا عقد اجتماع مع البعض منهم، غير أنهم امتنعوا عن ذلك، حيث أن أي تجمع من هذا القبيل غير مرخص به، وقد يعرضهم لعقوبات شديدة. لذلك فإن هذه الدولة تعتمد مراكز رسمية، تخلقها وتعين على رأسها من تشاء، وتقدمها كمخاطب في مجالات حرية الصحافة وحقوق الإنسان.
وقد سبق للأمين العام الأسبق، لمنظمة مراسلون بلا حدود، روبير مينار، أن اشتغل في مثل هذه المراكز، حيث استقال بشكل مفاجئ سنة 2008، من قيادة هذه المنظمة، ليساهم في تأسيس مركز الدوحة لحرية الإعلام، الذي تشرف عليه الشيخة موزة، وتولى منصب مديره العام. بعدها سيعود إلى فرنسا، ويلتحق بأقصى اليمين، ويتقدم للإنتخابات المحلية مع حزب الجبهة الشعبية العنصري.
وقد سبق أن التقيت بهذا الشخص، عندما كان أمينا عاما لمراسلون بلا حدود، عدة مرات، من بينها مرة زار فيها بلدنا، بدعوة من جهات رسمية، وأخذ يروج لخطاب كله تمجيد ومدح لحرية الصحافة في المغرب، واتصلت به رفقة أحد القياديين، في النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وخلال جلسة العمل، سألناه عن سبب هذا التحول الفجائي، لكنه لم يردّ، وأخبرناه أننا لسنا متفقين معه، إذ لدينا تقارير أكثر مصداقية من تقارير المنظمة التي يشرف عليها، ودعوناه ليطلع عليها.
وتعتبر المنظمات النقابية الفرنسية، في قطاع الصحافة، مراسلون بلا حدود، درعا من أدرع الدولة الفرنسية، لذلك لا تحظى تقاريرها لديهم بأية مصداقية. وتتلقى هذه المنظمة أموالا ومساعدات كبيرة، رغم أنها تنشر تقريرا عن مصادر دخلها، لكنه لا يعكس الحقيقة. وتسمح لها هذه الإمكانات الضخمة بأن تعتمد مراسلين عبر العالم، هم الذين ينجزون تقاريرها، كما تتيح لها هذه المداخيل تنظيم حملات إعلامية قوية.
وتنظم أيضا حملات ضد المغرب فيما تسميه 'ممارسة حرية الصحافة في الصحراء الغربية'، لتدعم بشكل غير موضوعي كل ادعاءات الإنفصاليين، وهوما قامت به بشكل مفضوح خلال أحداث 'اكديم أيزيك'، سنة 2010. وصادف أن كنت آنذاك في باريس، فطلبت موعدا مع الأمين العام الأسبق، جان فرانسوا جوليار. وفي مقر المنظمة عقدنا اجتماعا، رفقة موظفة مكلفة بمنطقة شمال إفريقيا، فعرضت عليه كل المعطيات التي تكذب كل ما كانت تنشره المنظمة حول ما يسمونه 'الصحراء الغربية'. واعترف الأمين العام للمنظمة آنذاك بأن هذه التقارير التي عرضتها مراسلون بلا حدود غير دقيقة، وأعطى تعليماته للموظفة بمراجعة الأمر.
كل هذه المعطيات، وأخرى كثيرة، لا يسع المجال لاستعراضها هنا، تؤكد أن التقارير الصادرة عن هذه المنظمة، موجهة، وليست موضوعية، بل هي عبارة عن تقييمات سياسية، تستند على منهجية انتقائية غير دقيقة، لا ينجزها خبراء أكاديميون، يعتمدون معايير علمية، معمول بها في مجالات العلوم الاجتماعية والسياسية، بل ينجزها مراسلون، بناء على استمارة توزع على عينة عشوائية من 'النشطاء'، لا تخضع لأي منطق ومقياس من المقاييس المعمول بها في اختيار العينات، وتضاف إلى نتائجها المواقف السياسية، التي تمليها المصلحة الجيو استراتيجية للممولين، لتتحول إلى مجرد نفاق بلا حدود.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


هبة بريس
منذ يوم واحد
- هبة بريس
مأزق التنظيم الذاتي وسقط ُالمتاع
يونس مجاهد هل يمكن الجزم بأن التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، في المغرب، يعرف مأزقا حقيقيا، اليوم؟ ثمة مؤشرات تنذر بذلك، لأن فلسفة هيئات أخلاقيات الصحافة تقوم على الإنخراط الجماعي لمكونات المهنة في مشروع التخليق، بشكل طوعي، كقناعة ذاتية راسخة، يتقاسمها المهنيون من صحافيين وناشرين، بهدف تحصين مهنتهم من الممارسات السيئة، وتقديم ضمانات للجمهور، مفادها أن المهنة قادرة على تنظيف صفوفها، وعلى تقويم الإعوجاج فيها، بشكل تلقائي. إن المبدأ السامي الذي يتحكم في هذه الفلسفة، هو أن شرعية وجود مهنة الصحافة، تتمثل في التزامها بالأخلاقيات، أي أنها بدون احترامها لقواعد العمل الصحافي وأخلاقياته، ليست سوى سقطُ متاع. وهو تعبير عربي معروف، يشير إلى ما سقط من المتاع، أي الذي لا فائدة منه، أو هو عبارة عن متلاشيات، لكنه في الصحافة يرمز لنشر التفاهات والإشاعات، وفي السلوك البشري يشير إلى تدهور القيم وانعدام الضمير. وحول هذا المعنى قال الشاعر قطري بن الفجاءة، الذي واجه الأمويين والحجاج بن يوسف الثقفي؛ وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ – إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاعِ. فنجاح التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، لا يمكن أن يفرض من خارج الحقل الصحافي، ولا أن يملى من طرف أية جهة خارجية، وما حصل في تجربة بلادنا تأكيد لهذه الفرضية، حيث بادرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في بداية تسعينيات القرن الماضي، إلى تأسيس لجنة حكماء آداب المهنة، وفي بداية القرن الحالي، أسست الهيئة المستقلة لاحترام أخلاقيات الصحافة وحرية التعبير، وواصلت عملها لإنشاء المجلس الوطني للصحافة، انطلاقا من قناعات مبدئية، والتزام صادق بضرورة تقديم المثال في السلوك والأخلاق. غير أن المأزق الذي يعيشه المغرب، اليوم، سبق أن عاشته بعض البلدان، حيث انهارت هيئات التنظيم الذاتي للصحافة، بسبب رفض بعض مكوناتها الإلتزام بأخلاقيات المهنة. يقول جمال الدين الناجي، في كتابه 'موجز آداب المهنة'، إن أي ميثاق أخلاقي قد ينهار ويتهاوى إذا لم يتم احترامه من طرف المهنيين، فالنسبة للأطباء مثلا، قد يتم التشطيب عليهم من المهنة، الأمر الذي لا يحصل مع الصحافيين. ويذكر أنه في سنة 1995، قدمت اللجنة الاستشارية لحقوق الانسان في فرنسا رأيها، بخصوص موضوع أخلاقيات الصحافة، مقترحة على المنظمات المهنية التمثيلية، أن تضيف في الميثاق، النص على أن الالتزام باحترام هذه الاخلاقيات، هو الذي يضمن الحصول على بطاقة الصحافة، وأن انتهاكها يعني عمليا سحبها وعدم تجديدها. أما في بريطانيا فقد تم حل مجلس شكاوى الصحافة، بعد الفضائح الأخلاقية التي عرفها هذا القطاع، على إثر تشكيل الحكومة للجنة تحقيق، برئاسة قاضي كبير، برايان ليفيسون، حيث نظمت هذه اللجنة جلسات إنصات، ومن بين من استمعت لهم، رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، ديفيد كاميرون، ووزير المالية، ونائب رئيس الوزراء، ورئيس الوزراء الاسبق جون ميجور، والزعيم العمالي ايد ميليباند… وأنجزت اللجنة تقريرا حول 'ثقافة وممارسة وأخلاقيات الصحافة'، الذي اعتبر أن الصحافة يجب أن تكون مسؤولة أمام الجمهور في عملها وأن تحترم حقوق الآخرين، لأنه من غير المقبول أن تستخدم صوتها وسلطتها ونفوذها للإساءة للمجتمع، ثم يتم تجاهل هذه الممارسات، والإفلات من المحاسبة. واقترحت اللجنة التعامل مع الشكاوى ضد الصحف، من خلال عملية تحكيم رخيصة وسهلة، دون الحاجة إلى الذهاب إلى المحكمة، وأن على الهيئة الجديدة، لأخلاقيات الصحافة، فرض غرامة على الصحف، تصل إلى مليون جنيه إسترليني، أي حوالي مليون ونصف المليون دولار أمريكي، في حالة انتهاك أخلاقيات المهنة. وتولى البرلمان البريطاني مهمة مواصلة هذا الجدل، حيث صادق على إنشاء نظام الاعتراف، وهو نظام مصمم لإطلاق عهد جديد من التنظيم الذاتي يتمتع بالمصداقية. وفي آخر تقرير للجنة الاعتراف بالصحافة، صادر في فبراير من السنة الجارية، ورد فيه؛ 'لا يزال المواطنون العاديون عرضة للخطر، حيث تُرك الجمهور تحت رحمة ممارسات تجارية، غير منضبطة لبعض الصحف، التي تُخفي مصالحها المالية وراء شعار 'حرية التعبير'. أولئك الذين يرددون شعار 'حرية التعبير' كثيرًا ما ينسون أنها ليست مجرد حق، بل أيضًا مسؤولية.' وعاشت مقاطعة الكيبيك أزمة مماثلة، حيث كان ريمون كوريفو، الذي شغل مسؤولية رئاسة مجلس الصحافة، قد نظم جولة استماع إلى مطالب وتطلعات الجمهور تجاه الصحفيين، وأصدر كتاب 'بؤس التنظيم الذاتي'، اعتبر فيه أن هذا التنظيم في حاجة إلى مراجعة شاملة في طريقة تشكيل أعضائه، كما أن مسطرة النظر في الشكاوى طويلة ومعقدة، لكن عند نشر الكتاب، واجه مقاومة من ممثلي وسائل الإعلام، مما دفعه إلى الاستقالة من رئاسة المجلس. وتجمع مختلف التجارب التي تمت مراجعتها في مجالس الصحافة، أن نظام التأديب تجاه منتهكي أخلاقيات الصحافة، ينبغي أن يكون صارما وإلزاميا، لحماية المهنة والمجتمع، لأن شرعية هذه المهنة تكمن في أخلاقياتها، ويمكن القول أيضا، إن شرعية وجود الهيئات المهنية في الصحافة، رهين بمدى انخراطها التلقائي في منظومة التخليق، بين أعضائها، أولا، ثم بين باقي مكونات الحقل الصحافي والإعلامي، ثانيا.


الرباط
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- الرباط
صناعة قوس قزح
كتب / يونس مجاهد لا يمكن لأي باحث في قضايا الصحافة والإعلام، في تاريخ المغرب الحديث، أن يتجاهل الدور الذي لعبته النقابة الوطنية للصحافة المغربية، منذ أن تأسست سنة 1963، حيث ساهمت بشكل متميز في الحركية التي عرفها هذا الحقل، سواء في دفاعها عن حرية الصحافة والرأي، أو في وقوفها القوي لحماية الصحافة الوطنية. ففي مختلف التطورات التي شهدها حقل الصحافة والإعلام، سجلت هذه النقابة حضورها كفاعل أساسي، حيث قاومت التراجعات التي شهدها المغرب، في سنوات الرصاص، بخصوص قانون الصحافة والنشر، واستمرت في مطالبتها بحذف الرقابة على الصحف، وتمكنت بعد مسلسل قضائي طويل، من طرد صحافة 'ماص' الاستعمارية، التي حولها الملك الراحل الحسن الثاني، بعد ذلك، إلى مجموعة 'ماروك سوار. لقد استمرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، حاضرة وفاعلة، رغم الظروف السياسية الصعبة، التي عاشها المغرب، التي أدت إلى اعتقال ونفي عدد من قادتها، بفضل التلاحم والتضامن القوي، بين مكوناتها، التي كانت تجمع بينهم الروح الوطنية والقيم الأخلاقية الراقية. ويذكر جمال محافظ، في كتابه 'الصحافيون المغاربة، والأداء النقابي في الاعلام'، أن علال الفاسي الذي كان يرجع له الفضل في فكرة تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، كان يرى أنه يتعين على هذه المنظمة أن تذهب أبعد من إدماج المكونات الحزبية والنقابية للحركة الوطنية، بل كان يقول بحتمية إضافة الصحافة المستقلة وصحافة رجال الاعمال. وهو ما تم العمل به، حيث أشرف عبد الرحمن اليوسفي، على التحضير لعملية التأسيس، وعند أول اجتماع للمكتب، تدخل ليطلب الاستغناء عن الاقتراع السري، لاختيار الكاتب العام، واقترح أن يتولى هذه المسؤولية، الكاتب الصحافي، عبد الكريم غلاب، عن جريدة 'العلم'، كرمز للصحافة الوطنية. حصل كل هذا في عِزّ الخلاف السياسي بين حزب الاستقلال، وحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية. وتكرر هذا الموقف، بشكل آخر، عندما تم تكليف محمد اليازغي، بالكتابة العامة لهذه النقابة، سنة 1984، حيث اعتبر أعضاء المكتب، آنذاك، أن توليه هذه المسؤولية، تعبير منهم عن التضامن مع جريدتي 'المحرر' و 'ليبراسيون' اللتين منعتا خلال الإضراب العام وأحداث الدار البيضاء، لسنة 1981. ولم يكن المكتب الوطني للنقابة في تلك الفترة يتشكل من أغلبية الصحف التي تنتمي لما كان يسمى بالصف الوطني الديمقراطي. توالت على النقابة الوطنية للصحافة المغربية، أجيال من القادة والأطر، ساهمت كلها، نساءا ورجالا، في مواصلة رسالتها، حيث ساهمت بشكل متميز في المناظرة الوطنية الأولى للإعلام، سنة 1993، التي شغل محمد العربي المساري، منسقها العام، وكان يتحمل مسؤولية الكتابة العامة للنقابة المذكورة، بعدها جاءت محطات وطنية أخرى، مثل مناظرة الصخيرات سنة 2005، والحوار الوطني 'الإعلام والمجتمع'، سنة 2010، حيث كانت مساهمة هذه النقابة أساسية. تواصلت هذه المسيرة النضالية في للدفاع عن حرية الصحافة وعن الخدمة العمومية في الاعلام العمومي، وغيرها من المطالب الديمقراطية، ونظمت هذه النقابة إضرابات واحتجاجية، إلى حدود السنوات الأخيرة الماضية، حول العديد من المطالب والقضايا، وتمكنت من فتح حوار شامل مع المسؤولين في كل القطاعات، لذلك نجحت في تحقيق العديد من المكتسبات. وحظي موضوع أخلاقيات الصحافة بأهمية قصوى في عملها، حيث حققت تراكمات في هذا المجال، توجت بالتجربة التأسيسية للتنظيم الذاتي للمهنة. كما ظلت التقارير السنوية، التي تصدرها بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، مرجعا لا محيد عنه لمتابعة تطورات الصحافة والإعلام في المغرب، ناهيك عن الأدوار الطلائعية التي لعبتها على صعيد المنظمات الدولية والإفريقية والعربية. ولم يكن هذا ليتم، لولا أسلوب العمل الجماعي، واحترام الديمقراطية الداخلية، والالتزام بمنهجية التعددية والحق في الاختلاف، وإلى عهد قريب تواصلت صناعة خاصية هذه الهيئة، التي هي عبارة عن قوس قزح، الذي لم ينبثق عفويا، بل جاء بالوفاء للتاريخ وللروح الديمقراطية والتضحية والترفع. إن حياة التنظيمات وحركيتها الداخلية، تخضع للمد والجزر، وخصصت لهذه الظاهرة دراسات وأبحاث في علم الإجتماع، من أهمها كتاب 'الفاعل والمنظومة'، الذي أنجزه كل من أرهارد فرايدبيرغ وميشيل كروزيي، الذي يعتبر أنه يجب على الأفراد اكتساب قدرة جماعية خاصة، لإدارة الصراعات الداخلية التي تتيح لهم التنظيم بشكل أفضل، وعلى المنظومة تطوير نفس القدرات، لكن هذه القدرة التنظيمية ليست بنفس القوة لدى جميع أعضاء المنظمة، وذلك حسب لعبتهم الخاصة. تسمى هذه المهنجية التحليل الاستراتيجي، إذ تعتبر أن الإنسان هو الذي يجب أن يتحمل المسؤولية الأولى في التغيير، لأن هامش الحرية الذي يتمتع به يجعله مسؤولا، ويمكنه أن يؤثر في المنظومة. لذلك فإن التطورات التي يمكن أن تشهدها المنظمات النقابية والأحزاب السياسية، قد تكون إيجابية أو سلبية، حسب أدوار الفاعلين فيها، فليس هناك خط منتظم للتقدم، في التاريخ، بل هناك أيضا خط التراجع والنكوص، فالتغيير التاريخي ليس تراكميا، كما يقول الفيلسوف ميشيل فوكو، بل هو عبارة عن قطائع لا متصلة، أي أن اتجاه التقدم نحو الأفضل ليس حتميا، بالضرورة.


LE12
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- LE12
صحافة وإعلام. يونس مجاهد يكتب. صناعة قوس قزح
ففي مختلف التطورات التي شهدها *يونس مجاهد لا يمكن لأي باحث في قضايا الصحافة والإعلام، في تاريخ المغربالحديث، أن يتجاهل ففي مختلف التطورات التي شهدها حقل الصحافة والإعلام، سجلت هذه النقابة حضورها كفاعل أساسي، حيث قاومت التراجعات التي شهدها المغرب، في سنوات الرصاص، بخصوص قانون الصحافة والنشر، واستمرت في مطالبتها بحذف الرقابة على الصحف، وتمكنت بعد مسلسل قضائي طويل، من طرد صحافة 'ماص' الاستعمارية، التي حولها الملك الراحل الحسن الثاني، بعد ذلك، إلى مجموعة 'ماروك سوار. لقد استمرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، حاضرة وفاعلة، رغم الظروف السياسية الصعبة، التي عاشها المغرب، التي أدت إلى اعتقال ونفي عدد من قادتها، بفضل التلاحم والتضامن القوي، بين مكوناتها، التي كانت تجمع بينهم الروح الوطنية والقيم الأخلاقية الراقية. ويذكر جمال محافظ، في كتابه 'الصحافيون المغاربة، والأداء النقابي في الاعلام'، أن علال الفاسي الذي كان يرجع له الفضل في فكرة تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، كان يرى أنه يتعين على هذه المنظمة أن تذهب أبعد من إدماج المكونات الحزبية والنقابية للحركة الوطنية، بل كان يقول بحتمية إضافة الصحافة المستقلة وصحافة رجال الاعمال. وهو ما تم العمل به، حيث أشرف عبد الرحمن اليوسفي، على التحضير لعملية التأسيس، وعند أول اجتماع للمكتب، تدخل ليطلب الاستغناء عن الاقتراع السري، لاختيار الكاتب العام، واقترح أن يتولى هذه المسؤولية، الكاتب الصحافي، عبد الكريم غلاب، عن جريدة 'العلم'، كرمز للصحافة الوطنية. حصل كل هذا في عِزّ الخلاف السياسي بين حزب الاستقلال، وحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية. وتكرر هذا الموقف، بشكل آخر، عندما تم تكليف محمد اليازغي، بالكتابة العامة لهذه النقابة، سنة 1984، حيث اعتبر أعضاء المكتب، آنذاك، أن توليه هذه المسؤولية، تعبير منهم عن التضامن مع جريدتي 'المحرر' و 'ليبراسيون' اللتين منعتا خلال الإضراب العام وأحداث الدار البيضاء، لسنة 1981. ولم يكن المكتب الوطني للنقابة في تلك الفترة يتشكل من أغلبية الصحف التي تنتمي لما كان يسمى بالصف الوطني الديمقراطي. توالت على النقابة الوطنية للصحافة المغربية، أجيال من القادة والأطر، ساهمت كلها، نساءا ورجالا، في مواصلة رسالتها، حيث ساهمت بشكل متميز في المناظرة الوطنية الأولى للإعلام، سنة 1993، التي شغل محمد العربي المساري، منسقها العام، وكان يتحمل مسؤولية الكتابة العامة للنقابة المذكورة، بعدها جاءت محطات وطنية أخرى، مثل مناظرة الصخيرات سنة 2005، والحوار الوطني 'الإعلام والمجتمع'، سنة 2010، حيث كانت مساهمة هذه النقابة أساسية. تواصلت هذه المسيرة النضالية في للدفاع عن حرية الصحافة وعن الخدمة العمومية في الاعلام العمومي، وغيرها من المطالب الديمقراطية، ونظمت هذه النقابة إضرابات واحتجاجية، إلى حدود السنوات الأخيرة الماضية، حول العديد من المطالب والقضايا،وتمكنت من فتح حوار شامل مع المسؤولين في كل القطاعات، لذلكنجحت في تحقيق العديد من المكتسبات. وحظي موضوع أخلاقيات الصحافة بأهمية قصوى في عملها، حيث حققت تراكمات في هذا المجال، توجت بالتجربة التأسيسية للتنظيم الذاتي للمهنة. كما ظلت التقارير السنوية، التي تصدرها بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، مرجعا لا محيد عنه لمتابعة تطورات الصحافة والإعلام في المغرب، ناهيك عن الأدوار الطلائعية التي لعبتها على صعيد المنظمات الدولية والإفريقية والعربية. ولم يكن هذا ليتم، لولا أسلوب العمل الجماعي، واحترام الديمقراطية الداخلية، والالتزام بمنهجية التعددية والحق في الاختلاف، وإلى عهد قريب تواصلت صناعة خاصية هذه الهيئة، التي هي عبارة عن قوس قزح، الذي لم ينبثق عفويا، بل جاء بالوفاء للتاريخ وللروح الديمقراطية والتضحية والترفع. إن حياة التنظيمات وحركيتها الداخلية، تخضع للمد والجزر، وخصصت لهذه الظاهرة دراسات وأبحاث في علم الإجتماع، من أهمها كتاب 'الفاعل والمنظومة'، الذي أنجزه كل من أرهاردفرايدبيرغ وميشيل كروزيي، الذي يعتبر أنه يجب على الأفراد اكتساب قدرة جماعية خاصة، لإدارة الصراعات الداخلية التي تتيح لهم التنظيم بشكل أفضل، وعلى المنظومة تطوير نفس القدرات، لكن هذه القدرة التنظيمية ليست بنفس القوة لدى جميع أعضاء المنظمة، وذلك حسب لعبتهم الخاصة. تسمى هذه المهنجية التحليل الاستراتيجي، إذ تعتبر أن الإنسان هو الذي يجب أن يتحمل المسؤولية الأولى في التغيير، لأن هامش الحرية الذي يتمتع به يجعله مسؤولا، ويمكنه أن يؤثر في المنظومة. لذلك فإن التطورات التي يمكن أن تشهدها المنظمات النقابية والأحزاب السياسية، قد تكون إيجابية أو سلبية، حسب أدوار الفاعلين فيها، فليس هناك خط منتظم للتقدم، في التاريخ، بل هناك أيضا خط التراجع والنكوص، فالتغيير التاريخي ليس تراكميا، كما يقول الفيلسوف ميشيل فوكو، بل هو عبارة عن قطائع لا متصلة، أي أن اتجاه التقدم نحو الأفضل ليس حتميا، بالضرورة. *رئيس اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر