
في رِحابِ عيدِ الله الأَكبر الغديرُ الأَغرُّ.. الإِمامَةُ نِظامٌ
الفرقُ بينَ الأُممِ والمُجتمعاتِ يتمظهرُ بالإِلتزامِ والتَّطبيقِ والإِحترامِ، فبينما تحرَص الأُمم المُتحضِّرة على الإِلتزامِ بالنِّظامِ والدِّفاعِ عنهُ والتَّواصي والتَّعاون على تطبيقِ القانونِ، ترى الأُمم والمُجتمعات المُتخلِّفة تتسابق فيما بينِها لكسرِ النِّظامِ والتَّجاوزِ على القانون وتكريسِ حالةِ الفوضى في كُلِّ مكانٍ وفي كُلِّ شيءٍ. وهذا الأَمرُ لا علاقةَ لهُ بالإِلتزامِ...
والنِّظامُ، وهو ضدَّ الفوضى، جَوهر كُلَّ التَّشريعات السماويَّةِ منها والأَرضيَّة، فالقرآنُ الكريم عندنا مَثلاً هوَ (ونَظْمَ مَا بَيْنِكُمْ) كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع).
والنِّظامُ هوَ القانون والقانونُ هوَ الحقُوق التي هيَ (فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّه سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ) كما يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع).
وفي مدرسةِ أَهلِ البيتِ (ع) فإِنَّ الإِمامةَ [الوِلاية] هي أَصلُ كُلَّ ذلكَ وهيَ بمثابةِ العمودِ الفقري وحجرِ الزَّاوية في النِّظامِ والقانونِ كما يصفُها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ (الإِمامةُ نِظامُ الأُمَّةِ) وكذلكَ في قولِ الإِمامِ عليِّ بن موسى الرِّضا (ع) (إِنَّ الإِمامةَ زِمامُ الدِّينِ ونِظامُ المُسلمينَ وصلاحُ الدُّنيا وعِزُّ المُؤمنينَ) فعندما يحكُم النِّظام المُجتمع ويكونُ القانون فوقَ الجميع بلا أَيِّ شكلٍ من أَشكالِ التَّمييزِ، عندها لا يشعُر مُواطنٌ بالغُبنِ ولا يتعرَّض أَحدٌ لظُلمٍ ولا يُسحقَ حقٌّ فيعيشُ النَّاسَ بعزٍّ.
وفي قولٍ عظيمٍ لأَميرِ المُؤمنينَ (ع) يشرح معنى وضَرورة النِّظام في المُجتمعِ بقولهِ (مكانُ القيِّمِ بالأَمرِ مكانُ النِّظامِ من الخَرزِ يجمعُهُ ويضمُّهُ، فإِن انقطعَ النِّظامُ تفرَّقَ وذَهبَ ثُمَّ لمْ يَجتمِع بحَذافِيرهِ أَبداً).
ولذلكَ ذكرَ (ع) النِّظامَ وضرُورتهِ وأَوصى بهِ فساواهُ بتقوى الله تعالى ومَخافتهِ في آخرِ وصيَّةٍ لهُ لولدَيهِ السِّبطَينِ الحسنَينِ (ع) لمَّا ضربهُ عدُوَّ الله المُجرم إِبنَ مُلجِم لعنهُ اللهُ في محرابِ صلاةِ الفجرِ بقولهِ (ع) (أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللَّه ونَظْمِ أَمْرِكُمْ وصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (ص) يَقُولُ (صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ)).
وإِنَّما الفرقُ بينَ الأُممِ والمُجتمعاتِ يتمظهرُ بالإِلتزامِ والتَّطبيقِ والإِحترامِ، فبينما تحرَص الأُمم المُتحضِّرة على الإِلتزامِ بالنِّظامِ والدِّفاعِ عنهُ والتَّواصي والتَّعاون على تطبيقِ القانونِ، ترى الأُمم والمُجتمعات المُتخلِّفة تتسابق فيما بينِها لكسرِ النِّظامِ والتَّجاوزِ على القانون وتكريسِ حالةِ الفوضى في كُلِّ مكانٍ وفي كُلِّ شيءٍ.
وهذا الأَمرُ لا علاقةَ لهُ بالإِلتزامِ الدِّيني من عدمهِ، وما إِذا كانت الدَّولة [دينيَّةٌ] أَم [علمانيَّة] لا تُؤمن بدينٍ معيَّنٍ للدَّولةِ، لانَّ النِّظامَ والقانون حاجةٌ وضَرورةٌ إِنسانيَّةٌ من المُستحيلِ الإِستغناءِ عنها فالبديلُ هي الفَوضى.
لذلكَ نُلحظُ أَنَّ نبيَّ الله يوسُف (ع) عندما أَرادَ أَن يكيدَ لإِخوتهِ للإِبقاءِ على شقيقهِ عندَهُ لم يشأ اَن يُحقِّقَ ذلكَ بالفوضى أَو خارج سُلطة القانون، وإِنَّما وضعَ خُطَّتهُ المُحكمةِ وفعلَ كُلَّ ذلكَ في إِطارِ [دينِ الملكِ] أَي قانون الدَّولة التي كان يحكمَها الملك [الفرعُون] ومن دُونِ أَن يتجاوزَ الأَخلاق أَو يتجاهلَ المبادئ والقِيَم! إِذ ليسَ من أَخلاقِ الأَنبياءِ والأَوصياءِ التَّجاوزِ على النِّظامِ والقانونِ بذريعةِ [الشرعيَّةِ الذاتيَّةِ] التي يمتلكونَها من السَّماءِ بسببِ الوحي أَو بذريعةِ أَنَّ الدَّولة غَير [مُتديِّنة].
يقولُ تعالى (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
ذات المبدأ والقِيمة الرساليَّة العُليا أَشارَ إِليها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ عندما تكالبَت عليهِ الأُمَّةُ لمُبايعتهِ خليفةً لها (دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ، واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوه أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!).
وعندما هدَّدَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فاسداً سرقَ بيت المال أَكَّد مفهُوم [القانون فوقَ الجَميع] حتَّى لا يمُرَّ بخاطرِ أَحدٍ من ضِعافِ النُّفوسِ بأَنَّ التَّهديدَ سببهُ محسوبيَّةً مثلاً أَو منسوبيَّةً أَو لانتقامٍ أَو ما إِلى ذلكَ.
يقولُ (ع) (ووَاللَّه لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ ولَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا).
تأسيساً على ذلك، فعندما ترى الفَوضى ضاربةٌ في طولِ مُجتمعٍ ما وعَرضهِ، فتيقَّن بأَنَّهُ أَبعد ما يكونُ عن جوهرِ الإِمامةِ ومعناها الحقيقي، حتَّى إِذا رفع شِعارات الإِمامة وتغنَّى بالغديرِ وافتخرَ بلافتاتهِ، فالإِمامةُ ليست شِعارات فارغة أَو لافتات ملوَّنة من دونِ جَوهرٍ أَو معنى، أَبداً.
إِذا رأَيتَ الفوضى في الفتاوى وفي منبرِ الصَّلاةِ وفي الدَّولة وفي السِّياسة والإِعلام والتَّعليم والسُّوق وفي التِّجارةِ والمُرورِ وفي الأُسرةِ والمحلَّةِ والعشيرةِ وفي كُلِّ شيءٍ فاعلم أَنَّهُ مُجتمعٌ لا علاقة لهُ بالإِمامةِ!.
كذلكَ إِذا رأَيتَ القويُّ يفلت من القانُون والمُتنفِّذ يتحايل على النِّظام فيما يصطاد القانُون الضَّعيف غير المدعُوم فاعلم أَنَّ هذا المُجتمع لم يفهم شيئاً من الإِمامةِ وروحِها وجوهرِها.
فالولائي الحقيقي ليسَ فوضويّاً بل على العكسِ فهو يُحبُّ النِّظام ويدعو إِلى احترامِ القانون ويتمسَّك بشرفهِ الوطني ولا يبيعهُ لأَحدٍ أَبداً.
أَمَّا إِذا رأَيتَ مُجتمعاً يحترِم النِّظام ويُقدِّس القانون فتأَكَّد بأَنَّهُ مجتمعٌ [ولائيٌّ] حتَّى إِذا لم يفهم من الإِمامةِ شيءٌ، لأَنَّ تقديس النِّظام والقانون هو تقديسٌ لروحِ الإِمامةِ وجوهرِها الحقيقي، وهوَ المطلُوب!.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الجزائرية
منذ 20 دقائق
- الشرق الجزائرية
فضل الله في محاضرة المركز الاسلامي: وحدة الصف أساس في أي انتصار
عقد العلّامة السيّد علي فضل الله لقاءً حواريًا في المركز الإسلامي الثقافي في حارة حريك بعنوان 'النصر شروط ومسؤوليات'. وقال: 'ان الله وعد المؤمنين في أكثر من آية في القرآن الكريم بأنّه حاضر معهم وغير بعيد، ويسدّد رميتهم، ويقوّي عزائمهم، ويضعف عدوّهم، ويثبّت أقدامهم فهو معهم في كلِّ مواقع جهادهم التي انطلقوا إليها بكلّ وعيٍ وتخطيط، وأعدّوا لها جيّداً، ودرسوا أدقَّ تَّفاصيل المعركة'. أضاف: 'بيّن الله ان للنَّصر شروطا لا بدَّ من استيفائها، ومعايير لا بدَّ من الالتزام بها، حتى يتحقق ابتداءً من إخلاص النية بحيث يكون الهدف منه نصرة الله في دينه ورسالته ونصرة عباده المظلومين والمضطهدين. ومن شروط النصر ان يكون الانسان مستعدا للتضحية فالنّصر لن نحصل عليه بالمجّان حتّى ولو كانت القضية التي يقاتل من اجلها قضية مُحقّة وان يبقى الإنسان صابراً ثابتاً في مواقعه، لا تُهزمه تحدّيات الدّنيا، ولا تخضعه الضغوط والتهاويل النّفسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الّتي تُمارس عليه حتى تسقطه وتسقط قضاياه المحقة بل يتابع طريقه من أجل الله وفي سبيله بكلّ صبرٍ وثبات وإرادة وعزيمة مع الإعداد الجيد للمعركة من النواحي السياسية والعسكرية والإعلامية والاقتصادية'. وتابع: 'لقد استشرى الظّلم في واقعنا، وفقدنا العدل في محافلنا. بتنا نعيش في عالمٍ القويّ فيه يأكل الضّعيف، عالم لا صوت فيه إلاّ للقوَّة، بدلاً من أن يكون صوت الحقّ هو الأعلى… ما أحوجنا اليوم إلى المزيدٍ من محطَّات النَّصر.. هذا العصر الّذي جعل مقدَّساتنا مستباحةً، وثروات الامة بيد الآخرين.. وقرارها في عهدة الدول المستكبرة، يحصل كل ذلك لأنَّ شعوبها رضخت للهزيمة النَّفسيَّة الّتي اقتنعوا معها بأنَّهم ضعفاء، وراحوا يفكِّرون في الحسابات الشَّخصيَّة أكثر مما يفكِّرون في الحسابات العامَّة، وانقسموا ولم يتوحدوا، وركزوا على نقاط الاختلاف فيما بينهم واستبعدوا نقاط الوحدة'. ودعا إلى 'ضرورة توحيد جهود الأمة وتضافرها في مواجهة أي خطر خارجي يتهددها بعيدا عن أي اعتبارات او خلافات سياسية او مذهبية وان يكون موقفنا دائما مع الحق وضد الباطل فالأعداء يريدون القضاء على مواقع القوة فيها ونهب ثرواتها وتفتيتها حتى يكون لهم يد الطولى في التحكم فيها'. وتطرق إلى 'ظاهرة ثقافة العنف والالغاء التي تتحكم في اكثر من موقع من واقع مجتمعاتنا مشيرا إلى أنها تشكل حالة مرضية خطيرة على واقعنا وتتسبب بآثار وتداعيات سلبية عليه وهي بعيدة كل البعد عن قيمنا الدينية ومفاهيمنا الأخلاقية والإنسانية وتعكس حالة من التخلف وعدم الوعي تتحكم بأصحابها وهي تسيء الى وحدة الصف وتؤدي إلى تمزيقه داعيا إلى ثقافة الحوار والانفتاح والى ان يكون الحوار الهادىء والمنطقي هو الحاكم في كل مواقع وقضايا الاختلاف والا نعيش الفوضى والصدام والعنف'.

القناة الثالثة والعشرون
منذ ساعة واحدة
- القناة الثالثة والعشرون
المقدسي: نحن من يلم الشمل ونحن من يشتت
كتب رئيس "مؤسسة المقدسي الانمائية والاجتماعية" طلال المقدسي عبر حسابه على "أكس": "كل الاعذار كاذبة ، من يريد يستطيع، من يريد التواصل سيتواصل ،من يريد الاهتمام سيهتم. من يريد إظهار الحب سيجد الطريقة والوسيلةً، ومن يريد الهروب سيجد الف باب ونافذة وحيلة، معظم الأشياء لا تقررها الظروف، نحن من نتمسك ونحن من نفلت، نحن من يبني ونحن من يفتت ويهدم، نحن من يلم الشمل ونحن من يشتت. حماك الله يا وطني". انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


ليبانون ديبايت
منذ ساعة واحدة
- ليبانون ديبايت
الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية: بين الحسابات الإقليمية والمصالح السيادية
"ليبانون ديبايت"- شاكر البرجاوي تتّخذ الحرب المستترة والمعلنة بين إسرائيل وإيران أبعادًا تتجاوز حدود المواجهة الثنائية لتلامس جوهر التوازنات الإقليمية والدولية. فمنذ عقود، تخوض الدولتان حربًا هجينة، تتراوح بين عمليات استخباراتية، اغتيالات، ضربات جوية، وحملات سيبرانية. لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا نوعيًّا في طبيعة هذه المواجهة، وخصوصًا بعد دخول الجغرافيا اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية على خطّ التماس. وفي ظل هذا السياق، تُطرح تساؤلات جوهرية: هل هي حرب دفاعية أم توسعية؟ ومن يخدم استقرار المنطقة؟ وما موقع السيادة والمقاومة في هذا الصراع؟ وهل فعلاً المشروع الإيراني يهدّد المنطقة، أم أنه يُستخدم كذريعة لحروب استباقية تخدم إسرائيل؟ إيران: مشروع إقليمي بديل أم تهديد وجودي؟ تتّهم إسرائيل إيران بأنها تسعى إلى "تطويقها" عبر وكلاء وأذرع عسكرية في لبنان (حزب الله)، وسوريا، وغزة، واليمن. لكن هذه القراءة تُغفل السياق الذي دفع إيران إلى هذا التمدد الدفاعي: فمنذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، وُضعت إيران تحت طائلة العقوبات والعزلة، وتعرّضت لمحاولات متكررة لإسقاط نظامها، بدءًا من الحرب العراقية ـ الإيرانية، إلى الدعم الأميركي والإسرائيلي المستمر لأنظمة معادية لها في الخليج. عملياً، فإن "حزام المقاومة" الذي بنته طهران ليس مشروعًا توسعيًّا بقدر ما هو سياسة ردع استراتيجية في وجه مشروع أميركي ـ إسرائيلي كان يستهدف تفكيك الجمهورية الإسلامية ومحاصرتها. وبالتالي، فإن التوصيف العادل للدور الإيراني هو أنه محاولة لإقامة توازن ردع إقليمي في وجه تفوّق إسرائيلي مدعوم بلا حدود من الغرب. إسرائيل: دافعٌ أم مبادر؟ على الضفة الأخرى، تروّج إسرائيل لمقولة أنها تدافع عن نفسها ضدّ "التهديد الوجودي الإيراني". لكنها في الواقع تقود استراتيجية هجومية متواصلة، من خلال الضربات الجوية على الأراضي الإيرانية ، واستهداف قيادات الحرس الثوري وكذلك علماء عاملين في البرنامج النووي الإيراني السلمي، ومن دون أن ننسى اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، والهجمات السيبرانية ضد منشآت نووية كـ "نطنز". هذه الأعمال العسكرية والاستخباراتية تتجاوز مفهوم الدفاع المشروع، وهي تُشكّل، وفق القانون الدولي، انتهاكًا لسيادة دول مستقلة. إسرائيل تخوض حربًا استباقية لا تهدف فقط إلى تعطيل البرنامج النووي السلمي الإيراني، بل إلى كسر الحضور الإيراني بكل الوسائل، حتى لو كان الثمن تفجير المنطقة بأكملها. وهذا ما يجعل الموقف الإيراني أكثر انسجامًا مع منطق "الردّ لا المبادرة"، و"الردع لا الغزو". المقاومة كخيار استراتيجي تمتلك إيران شبكة حلفاء إقليميين، أبرزهم حزب الله في لبنان، وحركات فلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي، وقوى حشد شعبي في العراق، وأنصار الله في اليمن. وهذه الشبكة، التي يُطلق عليها البعض "محور المقاومة"، ليست أدوات فارغة بل تعبير عن خيار شعبي في العديد من الساحات التي ترفض التطبيع والخضوع للهيمنة الإسرائيلية والأميركية. في لبنان مثلاً، يُعتبر حزب الله قوة عسكرية وسياسية راكمت شرعيتها من مواجهتها الاحتلال الإسرائيلي ثم صدّ العدوان عام 2006. في فلسطين، لم يكن بإمكان حركات المقاومة أن تصمد أمام آلة الاحتلال لولا الدعم الإيراني بالسلاح والمعرفة والخبرة. وبالتالي، فإن الرؤية الإيرانية للمقاومة ليست فقط أداة جيوسياسية، بل مشروع فكري وأيديولوجي يتقاطع مع قضايا التحرّر ورفض الاحتلال. النووي الإيراني: بين الحقّ والسيطرة يمثّل الملف النووي أحد أبرز ملامح المواجهة بين إيران وإسرائيل. الأولى تصرّ على حقها المشروع في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، وتُخضع منشآتها لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بينما الثانية، أي إسرائيل، ترفض التوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، وتملك ترسانة نووية سرّية يُقدّرها البعض بمئتي رأس نووي، ومن دون أي رقابة دولية. هذا التناقض الفاضح يكشف حجم الكيل بمكيالين الذي تمارسه الدول الغربية، وهو ما يدفع إيران إلى التمسك بحقها المشروع في تطوير قدراتها العلمية دمن ون أن تتحوّل إلى رهينة الابتزاز الغربي (الأميركي والأوروبي) أو الإسرائيلي.سيناريو كارثي للجميع رغم تعدد ساحات الاشتباك المباشر، فإن خطر الانزلاق نحو مواجهة عسكرية شاملة لا يزال قائمًا، خصوصًا مع تصاعد الاستفزازات الإسرائيلية ومحاولات الولايات المتحدة فرض عقوبات خانقة. لكنّ مثل هذه الحرب لن تكون نزهة لإسرائيل، بل قد تفتح أبواب الجحيم في منطقة مترابطة ومتداخلة. إيران، بما تملكه من قدرات صاروخية، وحلفاء فاعلين على حدود إسرائيل، قادرة على خلق معادلة "الدم بالدم"، وهي معادلة ردع لا يمكن الاستهانة بها. وحتى وإن لم تسعَ طهران لحرب مفتوحة، فإنها تمتلك الوسائل لمنع الآخرين من شنّها دون ثمن باهظ. البُعد الدولي: روسيا، الصين، والمصالح الكبرى لا يمكن فهم هذا الصراع بمعزل عن السياق الدولي. فإيران اليوم لاعب مهم في التوازنات الآسيوية، ولها شراكة استراتيجية مع الصين، وتنسيق عسكري مع روسيا، ما يضعها في قلب التوازنات العالمية الجديدة، في مواجهة أحادية قطبية أميركية – إسرائيلية في طور التراجع. هذا التموضع الإيراني في عالم متعدّد الأقطاب يمنحها هامشًا أوسع في المناورة، ويجعل كلفة ضربها دوليًا أعلى مما يعتقد البعض. وهي تدرك أن الزمن تغيّر، وأن السياسات الإمبراطورية لم تعد قادرة على فرض إرادتها من دون مقاومة. لذلك فإن الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية ليست مجرد صراع نفوذ، بل تجلٍ لصراعٍ بين مشروعين: مشروعٍ يُدافع عن استقلال القرار الإقليمي، ويرفض الهيمنة الغربية، ويقف إلى جانب قضايا التحرّر، ومشروعٍ آخر يقوم على الاحتلال والتوسع والابتزاز النووي والدعم غير المشروط من الغرب. المصلحة الإيرانية، في هذا السياق، ليست فقط حماية نظامها، بل الإسهام في بناء شرق أوسط أكثر توازنًا، حيث لا تتفرد إسرائيل بالتسيّد على المنطقة. وربما آن الأوان لأن يُعاد النظر في سردية "التهديد الإيراني"، لصالح قراءة أعمق وأشمل تعترف أن الخطر الحقيقي على الاستقرار الإقليمي هو الاحتلال الإسرائيلي، لا الدولة الإيرانية التي تدفع ثمن خياراتها السيادية منذ عقود.