logo
إرنست قبل همينغوي ابن طبيب ناجح وشغل شاغل لأم كرست له حياتها

إرنست قبل همينغوي ابن طبيب ناجح وشغل شاغل لأم كرست له حياتها

Independent عربية١٠-٠٢-٢٠٢٥

لعل من الأمور التي تلفت النظر حقاً في تعامل قراء الكاتب الأميركي إرنست همينغوي (1899 - 1961) مع كاتبهم المفضل هذا، أنهم يتعاملون، عادة، مع سيرته خارج إطار طفولته والأعوام الأولى من صباه ليلتقطوه كاتباً معروفاً وغالباً بدءاً من تجوالاته الأوروبية، ولا سيما منها الباريسية. وحده صاحب "وداعاً للسلاح" و"العجوز والبحر"، من دون سائر الكتاب المجايلين له سواء كانوا أميركيين أو غير أميركيين، لا يسأله أحد من قارئيه عن أعوام ما قبل تكونه، وكأن سيرة تلك الأعوام بديهية من نافل القول ولا تحتاج إلى سؤال. وربما كان يشجع على ذلك، غنى حياته وامتلاؤها وقوة شخصيته وخصب مخيلته وروعة أدبه الذي يبدو أحياناً وكأنه كل حياته وسيرته. وعلى رغم ذلك فلا بد من العودة بين الحين والآخر إلى تلك الأعوام المبكرة التي يبدو أنه، هو نفسه، كان يفضل نسيانها أحياناً على رغم أن ليس فيها ما يستحق ذلك النسيان. وتحديداً بالنظر إلى أن من أجمل ما في هذا الكاتب أنه تجاوز بداياته ليصنع نفسه بنفسه ليس فقط كإنسان بل كذلك ككاتب، وكاتب كان مآله أن يفوز يوماً بجائزة "نوبل" الأدبية، وربما تحديداً لأن ما صنعه كان نقيضاً تماماً لكل ما كان من شأنه أن يكونه لو لم يفعل!
الحياة البوهيمية في باريس بين الحربين العالميتين (أرشيف جامعة السوربون)
أميركيون عاديون جداً
أتى إرنست همينغوي من بيئة أميركية شديدة التزمت، بل حتى التدين والمحافظة، ويمكن القول إنها كانت بيئة بورجوازية فوق ذلك. ومن دون أن ننسى أن واحداً من أعمامه المقربين كان رجل دين توجه باكراً إلى الصين للتبشير بمذهب شديد التزمت، ولا بد من لفت النظر إلى أن أباه كان طبيباً نسائياً ناجحاً في عمله الذي يدر عليه مكاسب طائلة، وهو
أمر لن تتوقف أم إرنست عن الشكوى منه طوال حياتها، إذ تعتبر نفسها ضحية للتزمت والثراء العائليين، وذلك لأنها كانت، منذ صباها الباكر، تريد أن تمتهن الغناء الأوبرالي ما تعارض، من ناحية، مع تزمت العائلة، ومن ناحية ثانية، مع واقع أن الأب الطبيب، لغناه، فضل لها أن تبقى ربة منزل لتشرف بنفسها على تربية الأطفال وإدارة شؤون العائلة.
كان ذلك أمراً مريحاً بالنسبة إليها طبعاً، لكنها اعتبرته ظلماً كبيراً بخاصة أن الأسرة عاشت، خلال طفولة إرنست، في ضاحية بعيدة من شيكاغو أحست فيها، حتى إرنست نفسه، بالاختناق... وكاد ذلك الاختناق يدمر كل أحلامه لولا شيئان لن يتوقف عن ذكرهما كلما تحدث عن بداياته لاحقاً: أولهما أن فصول الصيف كانت تقوده وبقية أفراد العائلة إلى الغابات والبراري حيث يعيشون حياة ضارية، ممتعة، وثانيهما قراءته المبكرة لروايات عشقها سيقول دائماً إن في مقدمها رائعتي مارك توين "مغامرات توم صوير" و"هاكلبري فن". وكانت تلك، على أية حال، مدرسته الحقيقية كما سيقول ويكرر بنفسه، وكانت ما أنقذه من الانغلاق الأسري الخانق.
حب للحياة لا يضاهى
ولقد تواكبت تلك "المدرسة" لديه مع شغف بالمغامرة وحب للحياة سنجدهما لاحقاً يهيمنان، ليس فقط على العقود التالية من حياته، بل كذلك على رواياته وقصصه واختياراته في مجال الكتابة. ومن هنا لن يكون غريباً حين اندلعت الحرب العالمية الأولى وراحت الولايات المتحدة تخوضها، أن يقرر المشاركة فيها من دون أن يدعوه أحد إلى ذلك، بل إنه كان راغباً في التوجه إلى أوروبا منذ بداية الحرب، كي تكون مشاركته أطول ما يمكن، وكان يريد أن يكون جندياً مقاتلاً لكن ضعف بصره حال بينه وبين ذلك. وهكذا ما إن حل عام 1918 وتم القبول به "بما يشبه المعجزة" كسائق سيارة إسعاف متطوع في صفوف الصليب الأحمر الإيطالي، حتى اندفع، من دون تردد، معتبراً وصوله إلى إيطاليا، أوائل يوليو (تموز) من ذلك العام، البداية الحقيقية لحياته، حتى وإن كانت تلك الحياة قد أصيبت بالنكسة الأولى يوم طاولته شظية قذيفة فيما كان يوزع السجائر والسكاكر عند الجبهة على الحدود النمسوية - الإيطالية، فأصيب بجرح بليغ في ساقه قاده إلى المستشفى حيث سيبقى ثلاثة أشهر سيروي لنا تفاصيلها بعد حين في روايته الكبرى "وداعاً للسلاح"، لكن تحوله إلى خوض الكتابة الأدبية لن يبدأ بالطبع مع هذه الرواية، حتى وإن كان قد تفاقم لديه خلال وجوده في المستشفى حيث دارت أحداث حقيقية هي التي يرويها في تلك الرواية.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرواية الأولى الحقيقية
الواقع أن أعوام المستشفى لن تخلقه كروائي، فهو كان يحب أن يخوض الكتابة منذ ما قبل ذلك، بل منذ قرأ مارك توين في أعوام ما قبل مراهقته كما أشرنا، غير أنه كان يبقي الأمر أشبه بحديقة سرية في حياته.
وفي المستشفى كان مطلوباً منه أن يتأقلم مع نوع جديد من حياة لا تترك مكاناً للمغامرات لديه، ومن هنا نراه ينكب على كتابة مقالات وتحقيقات لصحيفة كان قد سبق أن راسلها عبر مقالات عن الحرب هي "تورنتو ستار" التي راحت كتابته فيها تضحى أكثر وأكثر جدية ومتواصلة، ولا سيما بعدما انتهت الحرب ووجد نفسه في باريس منذ عام 1921 متزوجاً من امرأته الأولى هادلي ريتشاردسون، ويعتبر جزءاً معها من الحياة البوهيمية - الأميركية في عاصمة النور، كما سيروي هو لاحقاً في كتابه البديع "باريس عيد متواصل"، وسيتبعه وودي آلن في وصف ذلك الجو نفسه من خلال بعض أجمل مشاهد فيلمه "منتصف الليل في باريس" بعد ذلك بنحو قرن من الزمن، لكن هذه حكاية أخرى طبعاً، لكنه كان يشعر أن عليه أن يكتب شيئاً آخر تماماً، كان عليه أن يكتب... رواية، وكان يشجعه على ذلك صديقه الذي التقاه للمرة الأولى في باريس، الشاعر عزرا باوند، وصديقته الكاتبة جرترود شتاين، إضافة إلى المتأدبة الأميركية سيلفيا بيتش مؤسسة مكتبة "شكسبير ورفاقه" وسط العاصمة الفرنسية. ولكن ماذا يكتب؟ ولماذا يكتب؟ سؤالان شغلاه طويلاً، بخاصة أنه كان يشعر أنه لا يملك أسلوباً، ولا لغة على أية حال، كان كل ما يملكه حياة صاخبة عنيفة ورغبة صارخة في أن ينتج رواية أسوة بمن يفعلون ذلك! والحقيقة أنه كتب عند ذلك كثيراً، ولا سيما نصوصاً عديدة صدرت في مجموعتين نشرتا في كتابين لم يلفتا نظر أحد، حتى وإن كان قد ملأهما بنصوص حول تجارب تتعلق بالموت والحياة، وكان أول الكتابين "النهر الكبير ذو القلب المزدوج" والثاني "في زماننا"، الذي صدر في نيويورك عام 1925، غير أن كلا الكتابين مر مرور الكرام.
وكاد همينغوي أن يستسلم لليأس ويتخلى عن حلمه الروائي، لولا ما سيسميه هو "تلك المعجزة الصغيرة"، التي لن تكون سوى روايته الكبيرة الأولى، "الشمس تشرق ثانية"، التي لا يدري كيف كتبها بسرعة قياسية لتصدر في عام 1926، بل إن همينغوي سيقول إنه لم يتنبه إلا لاحقاً إلى أنه قد استقى عنوانها نفسه من عبارة ترد في الكتاب المقدس، لكنه كان يعرف تماماً أنه إنما كتبها مستوحياً فيها تلك الحياة البوهيمية التي كان يعيشها في باريس خلال الحقبة الذهبية التي كانت فيها مدينة النور عاصمة للثقافة العالمية وبخاصة "مربط خيل" للجيل الضائع المؤلف من عشرات الكتاب الأميركيين الذين كانوا يصرون على أن خروجهم من محليتهم الأميركية الضيقة لا يمكنه أن يتم إلا عبر مرورهم بباريس وحول باريس، والحقيقة أن غرابة الموضوع وجاذبيته بالنسبة إلى كثر من القراء حول العالم، لعبتا دوراً أساساً في انطلاقة إرنست همينغوي كواحد من كبار كتاب القرن الـ20.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟
ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

سعورس

timeمنذ 6 أيام

  • سعورس

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟
ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

الوطن

timeمنذ 6 أيام

  • الوطن

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

من الأمانة الأدبية أن نبدأ هذا المقال باعتراف، لا يخدش من قدر أحد ولا يعبث باختيارات أحد: إنني كنت، وما زلت في رأيي الشخصي أعتقد، أن الصوفية – في صورتها التقليدية – تحمل في طقوسها ومظاهرها الكثير مما لا يستسيغه العقل، وتتشرب بعناصر مستعارة من ثقافات ومذاهب متباينة، حتى ليصعب الفصل بين الأصل والوافد! وبالعامية (أحسها نزعة دراويش وضحك على الذقون!)، ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يمنعني من أن اجل الاحترام والتقدير الكبير لجلال الدين الرومي، لا بوصفه «صوفيًا»، بل بوصفه عبقريًا إنسانيًا، شاعرًا بحجم العالم، ومفكرًا تخطّى الزمان والمكان! جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».

محاولة لجعل العالم أفضل قليلا
محاولة لجعل العالم أفضل قليلا

الوطن

time٠٨-٠٥-٢٠٢٥

  • الوطن

محاولة لجعل العالم أفضل قليلا

كثيرون هُم الأدباء الغربيّون الذين أتعبتهم بلادهم فكانوا يغادرونها إلى الخارج ليرتاحوا ويتأمّلوا، ولو إلى حين؛ ومن بين هؤلاء الروائيّ الألمانيّ "غونتر غراس" (1927 - 2015) الحائز على جائزة نوبل للآداب عن ثلاثيّته الروائيّة المعروفة بـ "ثلاثيّة داينتسيغ" في العام 1999، والذي كان يَعشق الهند ويتردّد عليها أكثر من مرّة في السنة، إذ كان يرى فيها البلاد التي تُعيد إليه الكثير من حيويّته وتوازن ذاته المضْطربة. وغونتر غراس، إلى جانب كونه روائيّاً فذّاً، هو أيضاً شاعر ونحّات ومسرحيّ يُحسب له حساب في ألمانيا وأوروبا بعامّة؛ فهو أوّل مَن بَشَّر بانتهاء عصر الشخصيّة في الرواية، وأَدخل "ترسانة السورياليّة" إلى أدبه بغنائيّةٍ غاضبة تُناسب تمرّده وانخلاعه على الجهات.. ولقد وصفه الشاعر والناقد الفرنسي ميشال دوغي "بأنّه سيّد الرواية الجديدة أو الأعمال المُعادية للرواية في أوروبا والعالَم". في زيارةٍ شخصيّة لي إلى مدينة دوسلدورف الألمانيّة منذ ما يزيد على عقود ثلاثة، التقيتُ بشعراء ومثقّفين ألمان قدّمني إليهم أحد الأصدقاء اللّبنانيّين المُقيمين في ألمانيا.. ودارَ بيننا حديثٌ مطوّل حول الشعر والأدب والفلسفة في بلاد "غوته"؛ وبمجرّد أن تفوّهتُ أمامهم باسم غونتر غراس، حتّى بادرني أحدهم و"بإنكليزيّة شبه هتلريّة": "تقصد "بورنو غراس".. وأردف: "آه، إنّه كاتب جيّد، لكنّه منعزل وحادّ الطبع". ومن دون أن أستفسره عمّا يقصد "ببورنو غراس"، استطردَ قائلاً: "لا تَرْتَب أيّها الصديق الجديد.. أنا أعني ما أقول، فهو كاتبٌ إباحيّ ومُنخلع في إباحيّته. هو مثل نورمان ميلر في الولايات المتّحدة، جريء وقاطع، إيثاريّ وحاسِم، حتّى لتحسبه واحداً من ضبّاط الجيش الذين يقطّبون جباههم في لحظة نفير جديّة". على أنّ غونتر غراس على "حديديّته الفرديّة"، يظلّ أيضاً ينتقل من العزلة إلى العلاقة، ومن التجاوُز إلى الاندغام، لكنّ ذلك كلّه من ضمن نظرة كيانيّة شموليّة تُحذِّر من سقوط العالَم وفراغه القاتل، لا بل إنّه استشرفَ هذا الفراغ الأصفر القاتل من خلال ما حكاه في إحدى رواياته عن الفأرة التي تَرِث الجنس البشري على الأرض بعد دمارها بكوارث نوويّة متحقّقة. ومثل هذا التدمير النووي يُحذّر منه كلّ إنسان سويّ، عاقل ومحبّ للسلام يحرص على وطننا الأمّ جميعاً كبَشر: "الأرض". إنّ هذه مهمّة عظيمة يتجنّد لها غونتر غراس.. هذا الكاتب العظيم المُدرِك في العُمق لمعضلة تدمير الإنسان لنفسه ولغيره، وعجْز هذا الإنسان في الوقت نفسه عن الإقلاع عن مزاولات لعبة التدمير هذه، والتي، ولا شكّ، وَقَفَ وراءها في السابق، وسيَقف لاحقاً، نفرٌ من حكّام ساديّين مرضى بالسياسات الديكتاتوريّة المنحرفة في غير مكانٍ من هذا العالَم. روايات غونتر غراس تدلّنا دائماً على خصوصيّات رغبتنا فيها، وهي عبارة عن خليطٍ متوازن من قوّة التعبير الدلالي و"الكلام الصامت" المندمج في تطهيريّة مُستغرقة تنال من قارئها تماماً.. ويَعرف غراس في النتيجة كيف لا يَجعل من مضمون كتابته تعبيراً عن معنىً أوّل. كما أسلفنا، يُغادر غونتر غراس بلده إلى الهند أكثر من مرّة في السنة، وذلك بهدف الراحة والتأمّل؛ فالهند بما فيها من أجواءٍ أسطوريّة وخرافيّة وبدئيّات تعويذاتيّة، تُجدِّد خيالَ الكاتب الأوروبي المُصادَر بالمنطق والتنظيم البارد؛ كما تُبعد عن لغته ضبابَ السأم والتبرُّم بالعالَم، فيستحيل موقفه في الحياة، وفي النصّ الأدبيّ، حالةً تنفجر بمحمولاتها إلى خارجها بدلاً من أن تظلّ حبيسة نفسها في دورانٍ حلزونيّ لا طائل منه. يصنع غراس روايته من جحيم حياته وتشنّجاته وانقلاباته الخاطفة، وتلك البعيدة الحاذقة.. على الأقلّ هذا ما توحي به بعض أعماله التي قرأناها مترجمةً إلى العربيّة مثل "طبل الصفيح"، "القطّ والفأر" و"مخدِّر موضعي". ففي هذه الروايات يقطع غونتر غراس مع الحقيقة البشريّة التعسّفيّة بحقّ نفسها وحقّ العالَم أجمع، ويظلّ صارماً على الدوام ضدّ السياسات التي تُفاقِم من أورام العصر وتناقضاته الفاقدة من خلال أصحابها لأيّ وعيٍ يقدّمه الدرس التاريخي المتناوب.. في الغرب خصوصاً، علاوة على بعض جوانب الحياة الحديثة المُفضية إلى إدراكٍ مشتّت في الفرد نفسه، ومن ثمّ في الجماعة لاحقاً، سواء بسواء. "ذلك أنّ حياتنا هي نَهْبٌ للمصادفات البحتة التي تظلّ تتدفّق علينا من كلّ صوب يوميّاً" حسبما يقول. وهو أيضاً ضدّ نفسه عندما تُظهر الشكوى أمام مَنْ لا يرحمها. وأحياناً إذا ما أحسّ أنّ الصمت لديه، هو صمت صاغر ومذلّ بإزاء أيّ سلطة استبداديّة مناوئة، فسرعان ما يسعى، وبجهدٍ فوريّ موصول، إلى إقامة ضجيج مُناوىء لهذا الصمت المذلّ، عاملاً على قهْره وطرْده من عقله وذاكرته وضميره دفعةً واحدة. إنّه كاتب مسؤول بدرجةٍ عالية ونافِذة.. يُدرِك أنّ المستقبل، مثل التاريخ، يبقى أساساً للفهم السببيّ للوقائع جميعها. وربّما لأجل ذلك، يظلّ غونتر غراس كاتباً صلباً بموقفه، مهزوماً بقلبه.. وعلى خشية دائمة من أن تُسرَق منه نفسه في درجةٍ مفاجئة من العنف المجنون، والذي تتنكّبه، كما العادة، حفنةٌ مشوَّهة من السياسيّين المُرتبطين بجماعات الاحتكارات الماليّة الضخمة على مستوىً عالميّ، والتي يُحرّكها الشره وعمى الأنانيّة والتنافُس الضيّق على كلّ شيء. وأستطرد فأقول إنّ غراس هو روائي الأسئلة السياسيّة الحارقة التي تظلّ تطرق رؤوسنا كلّ لحظة وبحرارة لا يُخطئها الحسّ لديه. كان غونتر غراس مُحبّاً للعرب ومُناصراً لقضاياهم، وخصوصاً في فلسطين والجزائر، وكان مناوئاً شرساً للمشروع النووي الإسرائيلي، ولكيان إسرائيل الدخيل على المنطقة، كما قال بذلك الألماني أندرياس نوربرت كوهلر، صديق صديقي اللّبناني ميخائيل جوزيف خطّار المُقيم في ألمانيا منذ أكثر من 57 عاماً. وأَردف كوهلر، بحسب خطّار، يقول إنّه جالَسَ مراراً غونتر غراس في واحدة من مقاهي مدينة دوسلدورف التي كان يحبّ التردُّد عليها، وحادَثَه في أمور كثيرة.. سياسيّة وثقافيّة، بخاصّة في ما يتّصل منها بأوروبا ومصيرها، وخصوصاً بعد قيام كيان الاتّحاد الأوروبي، وإنّه كان على الضدّ جملةً وتفصيلاً من التبعيّة الأوروبيّة المُذلّة للولايات المتّحدة الأميركيّة وفي كلّ أمر سياسي وحتّى ثقافي استراتيجي عامّ... وعلى العكس من ذلك (والكلام لكوهلر) كان على أوروبا، في رأي غونتر غراس، أن تقود هي أميركا وتعقلها في كلّ شيء آنيّ ومستقبليّ، أوّلاً، لأنّ العقل الأوروبي السياسي هو الأهدأ والأعمق من العقل السياسي الأميركي المحكوم دوماً بمنطق القوّة والمُكابَرة والتنطّع... وثانياً لأنّ الدول الأوروبيّة لم تَزل تتمتّع باحترامٍ وافر من معظم شعوب العالَم، بعكس ما تُبديه هذه الشعوب من نفورٍ تجاه الولايات المتّحدة وجبروتها مهما أبدت هذه الأخيرة عكس ما هو مروَّج عنها. وفهمتُ من الصديق اللّبناني ميخائيل خطّار بَعد، وعلى لسان صديقه الألماني المذكور، أنّ هذه الوضعيّة الأميركيّة يجب أن يتبصّرها الاتّحاد الأوروبي على الدوام، وحتّى قَبل غيره من دول العالَم كافّة، وعلى مختلف الصعد والمستويات. وكفى في رأيه "لهذه الأوروبا الخبيرة والعظيمة بطبقاتها السياسيّة والفكريّة والإبداعيّة الرائدة.. كفى لها أن تظلّ هكذا مقودة للولايات المتّحدة وبكلّ شيء تقريباً... نعم، إنّه أمر لا يليق بالاتّحاد الأوروبي أن يظلّ يَظهر لنا، ولغيرنا في العالَم، على هيئة جسمٍ عملاق ديموغرافيّاً وجغرافيّاً ولكن برأسٍ سياسي في منتهى الصغر". على ما تقدّم، لا يُمكن للعالَم، وبرأي كثير من المفكّرين التنويريّين من مختلف الشعوب، أن يُقاد إلّا بالتعاون الجدّي الخلّاق بين الجميع.. جميع القادرين من الدول، ودائماً بالفكر والعِلم والمعرفة والثقافة والإبداع، وليس عبر "مفاهيم" الشركات الكبرى والتروستات الماليّة والاحتكاريّة على أنواعها. ألا من سيضْطلع بهذه المهمّة الإنسانيّة الحضاريّة التاريخيّة الفاصلة، في غرب العالَم وشرقه، في شماله وجنوبه، في محاولةٍ منه لجعْل هذا العالَم المُنهَك والمتآكل أفضل قليلاً؟! *مؤسسة الفكر العربي * تزامناً مع دورية أفق الإلكترونية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store