
"الرحيل يوماً" يفتتح "كانّ الـ78": تجربة روائية أولى ذات عناصر متوازنة
في أول روائي طويل لها، "الرحيل يوماً" (Partir un jour)، نجحت الفرنسية أميلي بونّان، في جمع الدراما ب
الرومانسية الغنائية
، وتقديم نفسها بعمل مقنع، يُعتَبر تجربة مبشرة في سيرتها الفنية، التي بدأت بأفلامٍ قصيرة، ونيل جائزة "سيزار" (2023) عن فيلمها القصير الحامل العنوان نفسه لفيلمها الروائي الطويل هذا.
الفيلم، الذي افتتح
الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"
(خارج المسابقة الرئيسية)، بطولة جماعية من ممثلين وممثلات جدد في السينما الفرنسية، استطاعت بونّان (1985) عبرهم، وبإقناع شديد، تقديم الأحداث. فالاختيار أولاً، ثم مهارتها في إدارتهم، من أبرز اللافت للانتباه في فيلم متوازن وحيوي، يبتعد قليلاً عن السينما الفرنسية التجارية، وعن الحوارات الطويلة المملّة، المعهودة فيها عامة.
في "الرحيل يوماً"، ذي القصة الرومانسية العصرية وغير الجديدة كلّياً، باستثناء طريقة التناول ومعالجة المواقف وتطوّر الشخصيات وتقلّبات مشاعرها، تطرح بونّان قضايا مرتبطة بالعلاقات الإنسانية المعقّدة، في إطار العائلة، أو العلاقات الخاصة بين مرتبطين، وصداقات قديمة، وطبيعة الارتباط والانفصال والعودة. كذلك الاختيارات الحياتية وتبعاتها، وذكريات
المراهقة
، والحنين إلى الماضي، وتجدّد المشاعر، ودور المصادفة في الحياة، وآليات التعامل مع المستجدات الناجمة عن هذا، وكيف يؤدّي الأمر برمته إلى اكتشاف الذات، واتّخاذ قرارت حاسمة.
سيسيل بِغان (جولييت أرماني) طاهية باريسية، تستعدّ لتحقيق حلمها بافتتاح مطعمها الخاص الفاخر. لكنْ، قبل أسبوعين على موعد الافتتاح، تُربك ظروف طارئة حساباتها كلّها، إذْ تعلم بحملها غير المتوقّع، وغير المرغوب فيه. تخفي الأمر عن حبيبها سُفيان غاربي (توفيق جلّاب) تجنّباً لأي صدام. كما يتعرّض والدها جيرار (فرنسوا رولّان) لنوبة قلبية ثالثة، كادت تودي بحياته، فتضطرّ، بضغط وتشجيع من سفيان، إلى العودة سريعاً إلى مسقط رأسها في الريف الفرنسي، لرؤية والديها جيرار وفانفان (دومينيك بلان).
موقف
التحديثات الحية
أخطاء "كانّ" فادحة: لماذا يتغاضى عربٌ عنها؟
ذريعة العودة تُحرّك الأحداث بعيداً عن النطاق المعتاد لرصد الحياة اليومية في المدن الفرنسية. فمعظم أحداث/مشاهد "الرحيل يوماً" تحصل في
الريف الفرنسي
، ما أفسح المجال أمام تصوير (ديفيد كاييه) أماكن عدّة في مناطق غير مألوفة كثيراً، وغير مُستهلكة. كما أن ارتباط سيسيل بمهنة الطهي، وهي بارعة ومشهورة، علماً أنّها ابنة عائلة تمتهن الطهي، وتمتلك مطعماً يديره والداها في بلدتها، كان (الارتباط) حجة مناسبة لسرد أحداث ذات خلفية مشوّقة، وغير باعثة على الملل، فالحضور مستمرّ في المطعم ومطبخه، أثناء تحضير الوجبات، والتفنّن في تجهيزها.
كما أنّ زيارتها والديها، والبقاء معهما فترة للمساعدة في شؤون المطعم، سببان للقاء أصدقاء المُراهقة والمدرسة، ولإتاحة فرصة لها لنسيان المشكلات والضغوط، وتمضية لحظات صادقة تخلو من الهموم، في صحبتهم. هذا يُقرّب أكثر من شخصيتها، ويُبرز خلفيتها ومشاعرها. أحد أصدقائها يُدعى باستيان (رافائيل تينريرو)، حبيبها القديم، الذي تركها ذات يوم من دون سبب واضح. تدريجياً، يبدأ التقرّب منها. وبدافع الحنين، تجد نفسها تستعيد لحظات ماضية، وتتجدّد المشاعر القديمة. تتقرّب منه هي أيضاً، ويبادلها الشيء نفسه، رغم حبّها وإخلاصها لحبيبها، ورغم التزام باستيان الصادق تجاه زوجته وابنه. علاقة نجحت بونّان، بفضل سيناريو وحوارات مكتوبة باحترافية (بونّان وديمتري لوكاس)، بتجنّب الانزلاق إلى التكرار المعهود، والتوقع المسبق للأحداث في هذا النوع من
الأفلام الرومانسية
.
أحد أوجه التميّز أيضاً، الذي أنقذ "الرحيل يوماً" من التكرار، التوظيف الموفّق للأغاني والموسيقى كلّ مدّته (94 دقيقة)، إذْ كانت الأغاني بخدمة الدراما وسياق الأحداث والمواقف، وليست مُقحمة لذاتها، أو مفروضة بغرض الاستعراض، أو بدافع الرغبة في إنجاز فيلمٍ غنائي موسيقي. يُلاحَظ مثلاً أنّ أغلب الأغنيات لا تتجاوز مدّة كلّ منها دقيقة أو دقيقتان، مع كلمات تتميّز بالبساطة الشديدة، كأنّها جُملٌ حوارية ملحّنة. ورغم أنّ الفقرات الغنائية تضمّنت أحياناً رقصات، كانت بسيطة للغاية، وليست لوحات راقصة واستعراضية. لذا، كان لها طابع خاص ومميز، ابتعد بها عن الممل، ولم تكن زائدة عن الحاجة، أو معهودة.
"الرحيل يوماً" ليس تجربة استثنائية أو فريدة، موضوعاً وحبكة ومعالجة وخيوطاً سردية ورسم شخصيات. لكنْ، ما أوجدته أميلي بونّان من توازن بين عناصره، أهمها الجرعة الغنائية والطرح الرومانسي وإبراز المشاعر والعواطف والتحكم فيها، والأداء المتناغم والمقنع، خاصة جولييت أرماني، أنقذه من أفخاخ كثيرة كان يُمكنها إفساد كلّ شيء.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 4 أيام
- العربي الجديد
"الرحيل يوماً" يفتتح "كانّ الـ78": تجربة روائية أولى ذات عناصر متوازنة
في أول روائي طويل لها، "الرحيل يوماً" (Partir un jour)، نجحت الفرنسية أميلي بونّان، في جمع الدراما ب الرومانسية الغنائية ، وتقديم نفسها بعمل مقنع، يُعتَبر تجربة مبشرة في سيرتها الفنية، التي بدأت بأفلامٍ قصيرة، ونيل جائزة "سيزار" (2023) عن فيلمها القصير الحامل العنوان نفسه لفيلمها الروائي الطويل هذا. الفيلم، الذي افتتح الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" (خارج المسابقة الرئيسية)، بطولة جماعية من ممثلين وممثلات جدد في السينما الفرنسية، استطاعت بونّان (1985) عبرهم، وبإقناع شديد، تقديم الأحداث. فالاختيار أولاً، ثم مهارتها في إدارتهم، من أبرز اللافت للانتباه في فيلم متوازن وحيوي، يبتعد قليلاً عن السينما الفرنسية التجارية، وعن الحوارات الطويلة المملّة، المعهودة فيها عامة. في "الرحيل يوماً"، ذي القصة الرومانسية العصرية وغير الجديدة كلّياً، باستثناء طريقة التناول ومعالجة المواقف وتطوّر الشخصيات وتقلّبات مشاعرها، تطرح بونّان قضايا مرتبطة بالعلاقات الإنسانية المعقّدة، في إطار العائلة، أو العلاقات الخاصة بين مرتبطين، وصداقات قديمة، وطبيعة الارتباط والانفصال والعودة. كذلك الاختيارات الحياتية وتبعاتها، وذكريات المراهقة ، والحنين إلى الماضي، وتجدّد المشاعر، ودور المصادفة في الحياة، وآليات التعامل مع المستجدات الناجمة عن هذا، وكيف يؤدّي الأمر برمته إلى اكتشاف الذات، واتّخاذ قرارت حاسمة. سيسيل بِغان (جولييت أرماني) طاهية باريسية، تستعدّ لتحقيق حلمها بافتتاح مطعمها الخاص الفاخر. لكنْ، قبل أسبوعين على موعد الافتتاح، تُربك ظروف طارئة حساباتها كلّها، إذْ تعلم بحملها غير المتوقّع، وغير المرغوب فيه. تخفي الأمر عن حبيبها سُفيان غاربي (توفيق جلّاب) تجنّباً لأي صدام. كما يتعرّض والدها جيرار (فرنسوا رولّان) لنوبة قلبية ثالثة، كادت تودي بحياته، فتضطرّ، بضغط وتشجيع من سفيان، إلى العودة سريعاً إلى مسقط رأسها في الريف الفرنسي، لرؤية والديها جيرار وفانفان (دومينيك بلان). موقف التحديثات الحية أخطاء "كانّ" فادحة: لماذا يتغاضى عربٌ عنها؟ ذريعة العودة تُحرّك الأحداث بعيداً عن النطاق المعتاد لرصد الحياة اليومية في المدن الفرنسية. فمعظم أحداث/مشاهد "الرحيل يوماً" تحصل في الريف الفرنسي ، ما أفسح المجال أمام تصوير (ديفيد كاييه) أماكن عدّة في مناطق غير مألوفة كثيراً، وغير مُستهلكة. كما أن ارتباط سيسيل بمهنة الطهي، وهي بارعة ومشهورة، علماً أنّها ابنة عائلة تمتهن الطهي، وتمتلك مطعماً يديره والداها في بلدتها، كان (الارتباط) حجة مناسبة لسرد أحداث ذات خلفية مشوّقة، وغير باعثة على الملل، فالحضور مستمرّ في المطعم ومطبخه، أثناء تحضير الوجبات، والتفنّن في تجهيزها. كما أنّ زيارتها والديها، والبقاء معهما فترة للمساعدة في شؤون المطعم، سببان للقاء أصدقاء المُراهقة والمدرسة، ولإتاحة فرصة لها لنسيان المشكلات والضغوط، وتمضية لحظات صادقة تخلو من الهموم، في صحبتهم. هذا يُقرّب أكثر من شخصيتها، ويُبرز خلفيتها ومشاعرها. أحد أصدقائها يُدعى باستيان (رافائيل تينريرو)، حبيبها القديم، الذي تركها ذات يوم من دون سبب واضح. تدريجياً، يبدأ التقرّب منها. وبدافع الحنين، تجد نفسها تستعيد لحظات ماضية، وتتجدّد المشاعر القديمة. تتقرّب منه هي أيضاً، ويبادلها الشيء نفسه، رغم حبّها وإخلاصها لحبيبها، ورغم التزام باستيان الصادق تجاه زوجته وابنه. علاقة نجحت بونّان، بفضل سيناريو وحوارات مكتوبة باحترافية (بونّان وديمتري لوكاس)، بتجنّب الانزلاق إلى التكرار المعهود، والتوقع المسبق للأحداث في هذا النوع من الأفلام الرومانسية . أحد أوجه التميّز أيضاً، الذي أنقذ "الرحيل يوماً" من التكرار، التوظيف الموفّق للأغاني والموسيقى كلّ مدّته (94 دقيقة)، إذْ كانت الأغاني بخدمة الدراما وسياق الأحداث والمواقف، وليست مُقحمة لذاتها، أو مفروضة بغرض الاستعراض، أو بدافع الرغبة في إنجاز فيلمٍ غنائي موسيقي. يُلاحَظ مثلاً أنّ أغلب الأغنيات لا تتجاوز مدّة كلّ منها دقيقة أو دقيقتان، مع كلمات تتميّز بالبساطة الشديدة، كأنّها جُملٌ حوارية ملحّنة. ورغم أنّ الفقرات الغنائية تضمّنت أحياناً رقصات، كانت بسيطة للغاية، وليست لوحات راقصة واستعراضية. لذا، كان لها طابع خاص ومميز، ابتعد بها عن الممل، ولم تكن زائدة عن الحاجة، أو معهودة. "الرحيل يوماً" ليس تجربة استثنائية أو فريدة، موضوعاً وحبكة ومعالجة وخيوطاً سردية ورسم شخصيات. لكنْ، ما أوجدته أميلي بونّان من توازن بين عناصره، أهمها الجرعة الغنائية والطرح الرومانسي وإبراز المشاعر والعواطف والتحكم فيها، والأداء المتناغم والمقنع، خاصة جولييت أرماني، أنقذه من أفخاخ كثيرة كان يُمكنها إفساد كلّ شيء.


العربي الجديد
منذ 6 أيام
- العربي الجديد
"سعيد أفندي" في "كلاسيكيات كانّ الـ78": شهادة سينمائية عن قضايا اجتماعية
اختارت لجنة الحسن بن الهيثم للذاكرة العراقية المرئية، بدعم من السفارة الفرنسية في العراق ووزارة الخارجية الفرنسية، وتنفيذ Expertise France بمشروع "سينماتك العراق"، الفيلم العراقي "سعيد أفندي" (1956) لكاميران حسني (1 يوليو/تموز 1927)، القادم من الولايات المتحدة الأميركية بعد نيله شهادة ماجستير في الإخراج السينمائي، والذي يُعدّ رائد السينما الواقعية. ميزةٌ له أنّه مُصرّ على المساهمة في صنع سينما عراقية، لها حضور متميز، فأصدر مجلة "السينما" عام 1955، أول مطبوعة سينمائية عراقية. مُدرّس في "معهد الفنون الجميلة"، وباكورة أعماله مخرجاً "سعيد أفندي"، الذي كان له نجاح باهر بمعايير خمسينيات القرن الـ20. عُرض أولاً عام 1957 في "سينما الخيام" بكركوك، ثم في "معهد العالم العربي" بباريس، في تكريم يوسف العاني عام 1998، المتمثّل بعرض أفلامٍ عدّة له. "سعيد أفندي" أول فيلم عراقي يشارك في احتفال دولي، في "مهرجان موسكو"، عام 1958. لم يستطع حسني إكمال مشواره الواعد، إذ أحبطت ظروفٌ طموحاته، فأصابته الخيبة، وانسحب من الفن اٍلى التجارة، مؤسِّساً مطعماً في بغداد. ثم ما لبث أنّ هاجر مجدّداً، ليموت مُغترباً (6 سبتمبر/أيلول 2004). فيلمه هذا رُمِّم بتقنية K4 في "المعهد الوطني للسمعي البصري الفرنسي (INA)"، باستخدام النيغاتيف الأصلي، وحُفظت النسخة المرمّمة لدى لجنة الحسن بن الهيثم نفسها. وللمرة الأولى في تاريخ السينما العراقية، اختير "سعيد أفندي" ليُعرض في "كلاسيكيات كانّ"، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) ل مهرجان "كانّ" . سينما ودراما التحديثات الحية أكذوبة مهرجان كانّ في السياسة والحريات "سعيد أفندي" مقتبس عن قصة "شِجَار" (1955) للكاتب إدمون صبري (1921 ـ 1975)، ويُعدّ من أبرز الأعمال الكلاسيكية العراقية. تمثّل هذه الخطوة غير المسبوقة إحياءً للتراث العراقي السينمائي، ونقله إلى العالم من أوسع أبوابه. إنّه أحد أبرز الأعمال السينمائية العراقية، ويعكس صورة حيّة للمجتمع البغدادي في خمسينيات القرن الماضي. يتميّز بأسلوب واقعي يبتعد عن الديكورات المصطنعة، إذْ صُوّر في أزقة منطقة "الحيدرخانة"، وبيوتها القديمة، ما أضفى عليه طابعاً أصيلاً يعكس بساطة الحياة اليومية: المعلّم سعيد أفندي (يوسف العاني) يواجه صعوبة في العثور على مسكن مناسب لعائلته، فينتقل إلى حي شعبي، يلتقي فيه جاراً جديداً، الإسكافي عبد الله (جعفر السعدي). تنشأ بين العائلتَين علاقات متوتّرة بسبب مشاجرات الأطفال، ما يؤدّي إلى سلسلة أحداث تكشف عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها الطبقات المتوسّطة في تلك الحقبة. اعتمد حسني أسلوب الواقعية الإيطالية الجديدة، مستخدماً معدات بسيطة في التصوير بمواقع حقيقية، وهذا أضفى طابعاً طبيعياً بعيداً عن التصنع. هذا النهج الفني ساعد في نقل الواقع الاجتماعي للمجتمع العراقي في تلك الفترة، جاعلاً الفيلم وثيقة سينمائية قيّمة لعادات بغداد القديمة وتقاليدها. فسبب اختيار الواقعية، والتصوير في أماكن طبيعية، كامنٌ في عدم توفر استديوهات وآلات حديثة وديكورات وأدوات فنية، لكنّ "سعيد أفندي" تعرّض لمشاكل رقابية قبل عرضه للجمهور للمرّة الأولى في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 1957، في سينما "ميامي" في بغداد. رغم بساطة القصة، نجح الفيلم في تسليط الضوء على قضايا اجتماعية مهمّة، كالطبقات الاجتماعية والتعليم والعلاقات بين الجيران. أثار اهتمام النقاد والجمهور، واعتبره البعض بداية تأسيس سينما عراقية تعكس الواقع الاجتماعي بصدق وواقعية، كما يُعدّ علامة فارقة في تاريخ السينما العراقية ، بجمعه بين الأسلوب الفني الواقعي والموضوعات الاجتماعية المهمة. ورغم مرور أكثر من ستة عقود على إنتاجه، لا يزال يحتفظ بقيمتيه الفنية والتاريخية، ما يجعله مرجعاً مهمّاً لفهم تطوّر السينما العراقية، وتوثيق الحياة اليومية في بغداد الخمسينيات. حين عُرض، اعتُبر "سعيد أفندي"، الذي أبدعت فيه الفنانة زينب حسني، إلى جانب العاني وكاتب السيناريو كاميران حسني نفسه، باكورة ناضجة تبشّر بخير سينمائي كثير، أعقبه حسني بـ"مشروع زواج" (1962)، ثم "غرفة رقم 7" (1966، مُنجز في لبنان)، فيلمه الأخير، قبل عودته إلى أميركا.


العربي الجديد
منذ 6 أيام
- العربي الجديد
"وقائع سنوات الجمر": عودة إلى "كانّ" بعد نصف قرن
قليلة الأفلام العربية المُشاركة والمتُوّجة في مهرجان "كانّ" ، مقارنة بالسينمات العالمية الأخرى. رغم هذه القلة، هناك تجارب مهمّة شكّلت استثناءً، وسجّلت حضورها بماء من ذهب فيه. البدايات مع أفلام مصرية: "دنيا" لمحمد كريم (1946)، و"مغامرات عنتر وعبلة" لصلاح أبو سيف (1948) و"البيت الكبير" لأحمد كامل مرسي (1949)، و"ابن النيل" ليوسف شاهين، و"وليلة غرام" لأحمد بدرخان في دورة 1952. ثم تلتها مشاركات عربية أخرى. الأفلام هذه وغيرها، المشاركة في الفترة المذكورة وما بعدها، خرجت من المسابقات الرسمية والموازية خاوية الوفاض، مع استثناءات قليلة، بسبب منافسة أفلام قوية من دول لديها مرجعية سينمائية راسخة. إضافة إلى معطيات أخرى غير معلومة، لا دليل يثبت اختيار فوزها انطلاقاً من أبعاد غير جمالية وفنية، خاصة في الأفلام الطويلة. لكنْ، هناك أفلام عربية كسرت تلك القاعدة، وتكلّلت مشاركتها بالنجاح، كالجزائري "ريح الأوراس" (1966) ل محمد لخضر حمينة (1934) ، الذي صنع الاستثناء، إذْ شارك بالمسابقة الرسمية للدورة الـ20 (27 إبريل/نيسان ـ 12 مايو/أيار 1967). حينها، كانت المنافسة قوية بين أفلام عدّة مهمّة لمخرجين مهمّين، لهم بصمات خاصة في السينما، كـ"أنت صبي كبير الآن" لفرنسيس فورد كوبولا، و"بلو آب" لميكلأنجلو أنتونيوني، الفائز بـ"السعفة الذهبية". ورغم أنّه لم ينل الجائزة الكبرى، اقترب "ريح الأوراس"، بحسب تصريح لحمينة، من السعفة، لكنّ امتناع السنغالي عثمان سمبين عن التصويت له حال دون ذلك. لكنّ لجنة التحكيم، برئاسة المخرج الإيطالي أليسّاندرو بلازيتّي، منحته جائزة العمل الأول. رغم أهميتها، لم ترضِ الجائزة طموح حمينة فهو سينمائي يتّقد حماسة وشغفاً، فراح يعمل ويفكّر ويكتب، إلى أنْ ألّف سيناريو مهمّاً مع رفيق الكتابة توفيق فارس، بالتعاون مع الروائي رشيد بوجدرة ، ساعياً بعدها إلى تحقيق حلمه السينمائي المؤجّل، عبر "الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينماتوغرافية" (مؤسّسة جزائرية أنتجت أفلاماً مهمة وفارقة). سينما ودراما التحديثات الحية السينما الجزائرية تسعى إلى انطلاقة جديدة صوّر حمينة فيلمه هذا، وقائع سنوات الجمر" (إنتاج 1974) - الذي تُعرض نسخة مُرمّمة له في "كلاسيكيات كانّ"، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" - في مناطق جزائرية عدّة، وفي فضاء مهمّ عكس هوية الفيلم: ساحة مدينة "غرداية". بعد إنهاء تصويره وعملياته الفنية، أرسله إلى "كان"، فاختير للمسابقة الرسمية للدورة الـ28 (9 ـ 23 مايو/أيار 1975)، التي ترأست لجنة تحكيمها الفرنسية جانّ مورو"، وفاز بالجائزة الكبرى. من الأفلام المشاركة في الدورة نفسها، هناك "أليس لم تعد تُقيم هنا" لمارتن سكورسيزي، و"لغز كاسبر هاوزر" لفيرنر هرتزوغ، و"المهنة: صحافي" لمايكلأنجلو أنتونيوني، و"قسم خاص" ل كوستا غافراس ، وغيرها. المُثير للانتباه في هذه الدورة، مشاركة المجري ميكولوي جانكسو، بفيلمه "من أجل إلكترا"، في المسابقة نفسها مع "وقائع سنوات الجمر"، هو (جانكسو) الذي كان عضواً في لجنة تحكيم الدورة الـ20. المُثير للانتباه أيضاً أنّ كوستا غافراس "جلب" للجزائر "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عام 1969، عن "زَدْ"، الذي أخرجه بإنتاج مشترك بين الجزائر وفرنسا، لكنّه رُشِّح لهذه الجائزة باسمها، فتكون الجزائر الدولة العربية الوحيدة التي لديها جائزة "أوسكار"، والوحيدة التي فازت بـ"السعفة الذهبية". رغم مرور نصف قرن على إنجازه، لا يزال "وقائع سنوات الجمر" يحتلّ صدارة أجمل الأفلام وأقواها، لانتصار حمينة فيه لرؤى وجماليات مفتوحة، تقتات من اللغة السينمائية ومنطلقات الجمال البصري، خاصة أنّه صنع مشاهد لا تُنسى، كمشهد الصراع على المياه بين جهتين، وتلوّن جسم كلّ فرد بالطين، وهذه دلالة على ما خلّفه الاستعمار الفرنسي على الجزائر كلّها. مشهد جمالي لم يتكرّر لاحقاً، ويحمل دلالتين رمزية وبصرية. هذا مثال على ما في الفيلم من جماليات غير محدودة، لذا، لا يمكن لهذه التحفة أنْ تموت. مع أنّ له مشاركات مميزة ونوعية في مهرجان "كانّ"، لم تختر إدارته محمد لخضر حمينة أبداً عضواً في لجان تحكيمها، مع أنّ إنجازاته فيه مهمّة جداً، إذ شارك في المسابقة الرسمية ثلاث مرات، آخرها بـ"رياح رملية" (1982). التساؤل مشروع، ويحتاج إلى إجابة صريحة ومعقولة.