
ابن القرية (4)
في هذا المقال من سلسلة ابن القرية، نغوص في ذاكرة الأم الجنوبية، حارسة البيت وسيدة الموقف، حينما يُطرق الباب في لحظةٍ عابرة بلا موعد ولا مؤونة. يا الله إنه ضيف جاءنا فجأة . حيا الله الضيف (أرحب). وهنا سأتحدث بالألفاظ القروية القديمة تذكيرًا بها وحفاظاً عليها من الاندثار ، فهي جزء من التراث الثقافي الذي يجب الحفاظ عليه وتجديده كما هو مستهدف في رؤية سمو ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان (حفظه الله ).
وقد تحدثنا في المقالات السابقة عن جانبٍ من معاناة الأمهات في الأزمنة الماضية، وهذا لا يعني أن الآباء لم يعانوا، بل سنتناول معاناتهم لاحقًا بإذن الله.
في هذا المقال، أتطرق لما وردني من بعض القراء الكرام، الذين ذكّروني بمصطلح 'الحزابة'.
و'الحزابة' هي شكل من أشكال التوفير الذكي الذي كانت تتولاه الأم، إذ تحتفظ بجزء يسير من الدقيق ، أو السمن ، أو القهوة ، أو التمر، وتمنع استخدامه مهما اشتدت الحاجة. يُحفظ هذا الزاد في 'المِخوال' – وهو مستودع في الدور الأوسط غالبًا – ويُقفل عليه بإحكام، والمفتاح لا يُفارق حزام المرأة، كأنه تعويذة لحماية الكرم والكرامة.
'المفتاح كان مربوطًا في حزام الأم… ليس فقط لحماية المؤونة، بل لحماية ماء الوجه.'
في ذلك الزمن، لم تكن هناك مطاعم ولا فنادق، وكان المسافرون يتوقفون عند أي بيت في القرية، فيُفتح لهم الباب بلا تردد، ويُبسط لهم الطعام بلا انتظار.
وكان من أهم أدوار الأم في تلك المرحلة أن تُبقي شيئًا للطوارئ، لا لضيوفها فحسب، بل أحيانًا لضيوف جيرانها أيضًا. ولذا، كانت 'الحزابة' محرّمة تمامًا على الاستخدام العائلي، ويُنظر إلى من يقترب منها كمن يخرق حرمة عرفٍ مقدس.
وفي مشهد يتكرر كثيرًا، قد لا تملك الأسرة شيئًا لتُقدّمه، خاصة إن جاء الضيف قبيل الغروب. حينها، تنظر نساء القرية العاملات في الحقول الزراعية إلى البيت الذي استقبل الضيف، ويعلمن أن الموقف حرج، فيُبادرن بإرسال ما لديهن من 'الحزابة'، في تجلٍ صادق للتكافل المجتمعي، الذي لم تكن له أسماء آنذاك، بل كان 'نخوة' و'مروءة' و'أخوّة'.
'في القرية، لا يُترك بيت يُضيّف إلا ويُضيَّف معه كل قلبٍ نبيل.'
تروي لي إحدى كبيرات السن موقفًا من تلك الأيام، فقالت:
'جاءنا ضيوف وقت المغرب، ولم يكن لدينا شيء. ذهبتُ إلى جارتنا أطلب دقيقًا وسمنًا وحطبًا. فقالت: خذي الحطب، أشعلي النار، وسأبحث لكِ عن الباقي. جلستُ أرقب الطريق، أترقب ضوء فانوس قادم يحفظ لنا ماء الوجه أمام ضيفٍ يجلس يرقب عشاءه بعد تعب الرحلة وجوعه الشديد. وبعد نحو ساعة، رأيتُ الضوء، فاستبشرت خيرًا وجاءت جارتنا وهي تحمل دقيقًا وسمنًا. شكرتها، وطلبتُ منها أن تتعشى معنا، فقالت: (يالله، يسدّ ضيفكم).
ثم اعتذرت عن التأخير، لأنها طرقت أبواب القرية كلها، ولم تجد السمن إلا في قرية مجاورة.'
وهنا قد يتساءل سائل: وأين دور الرجال؟
الرجل كان يُرحّب بالضيف، ويؤانسه، ويُخفي عنه سبب تأخر الطعام، ويجالسه كواجب ضيافة. أما تدبير شؤون الضيف من إعداد وتوفير، فهو دور النساء، وهن كنّ على قدر عالٍ من الحنكة والحكمة والمسؤولية.
المرأة كانت تعرف دورها بدقة، تساند زوجها، ويعتمد عليها، ويثق بها، وكانت لها كلمتها وهيبتها ومكانتها المرموقة داخل القرية بأسرها.
ومن أجمل ما يميز الحياة القروية القديمة أن رجال القرية كانوا ينظرون إلى زوجة رفيقهم كأخت، ونساء القرية ينظرن إلى رجال القرية كإخوة، في مجتمع مترابط يسوده الاحترام والثقة.
'القرية لم تكن مباني، بل عائلة كبيرة، تتوزع بين البيوت وتلتقي عند المواقف.'
كانت القرية، مهما كبر حجمها، بيتًا واحدًا لنا نحن الأطفال. لم تكن الأبواب تُغلق نهارًا، فكنا ننتقل بين جميع البيوت بلا استثناء، نلعب ونلهو بين الحقول الزراعية. وإذا جُعنا، دخلنا أي بيت، وذهبنا إلى 'الجونة' – وهي وعاء من الخصف يُوضع فيه الخبز – نفتحها ونبحث عن شيء نأكله، فإن لم نجد، ننتقل إلى البيت الآخر، وهكذا.
لم يكن أحد يستنكر ذلك، فكان جميع نساء القرية هن 'أمهاتنا'، وجميع رجالها 'آباؤنا'. وإن أخطأنا، يُؤدبنا أقرب رجل، ويعاملنا كما يعامل ابنه.
كم نشتاق إلى تلك الأيام!
كم نتألم حين نمرُّ على معالمها وقد تهدمت، ومزارعها قد بادت. لقد جاءت الحضارة والتطور، لكنها أطفأت بعضًا من رونق القرى، وسلبت شيئًا من روحها.
رحم الله من فقدنا من آبائنا وأمهاتنا، ومتّع من بقي منهم بالعافية، فقد تركوا لنا إرثًا من القيم، لا يُحفظ في المِخوال، بل يحفظ في الوجدان.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
منذ ساعة واحدة
- سعورس
6 خرائط لمعرفة الطرق والاتجاهات بموسم الحج
ودعت قوات أمن الحج لشؤون المرور ضيوف الرحمن إلى الاستفادة من هذه الخرائط في تحديد مساراتهم، واتجاهات الحركة، والتصعيد، والنفرة. يأتي ذلك ضمن جهود قوات أمن الحج والعمرة في تسهيل حركة ضيوف الرحمن بين المشاعر المقدّسة، وتوفير أعلى سبل الراحة لهم، لتحقيق إتمام مناسك الحج بيسر وطمأنينة. من ناحية أخرى، أطلقت وكالة الشؤون النسائية بالمسجد الحرام أمس، مبادرة "عشر وارفة" العلمية، لإثراء تجربة القاصدات في موسم حج 1446ه. وتهدف المبادرة إلى بيان فضل العشر من ذي الحجة؛ وفق منهج علمي رصين يعزِّز الجوانب الإيمانية لهذه الأيام المباركة. وتتضمن المبادرة سلسلة دروس علمية منهجية مؤصلة؛ تهدف لتعزيز القيم الإيمانية، وبيان قدسية الأيام العشر المباركة، وتهيئة الأجواء التعبدية للقاصدات وإروائهم من فضائلها، وتغذيتهم الإيمانية برحماتها، إضافةً إلى عددٍ من البرامج لتعميق أثر شعيرة الحج في وجدان وسلوك حاجَّات بيت الله الحرام، وإثرائهن بكل ما من شأنه إنجاح رحلتهن الإيمانية، وأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.

سعورس
منذ ساعة واحدة
- سعورس
موسم الرحمة وتجديد العهد
كم من نفس تائهة وجدت طريقها في مثل هذه الأيام؟ وكم من دعوة خافتة ارتفعت في ظلمة الليل فاستُجيبت؟ قلوب ظمأى ارتوت من معين الذكر والدعاء، وأرواح أنهكتها الحياة عادت لتسكن عند باب الله، تأنس بقربه وتلتمس نوره. في هذه الأيام المباركة، يقف المرء مع نفسه وقفة صدق، يراجع الطريق الذي سلكه، ويتأمل الوجهة التي يسير نحوها. إنها أيام تصنع الفرق، تبعث الروح، وتوقظ الفطرة، حين ينكسر القلب بين يدي الله خضوعًا، ويتخلص من كل ما أثقله من شواغل الدنيا. دمعة واحدة في جوف الليل، من قلب صادق، قد تفتح للعبد أبوابًا من الخير لم يكن يتصورها، وتغير مجرى حياته بأكمله. فلنتهيأ لهذا الموسم كما يليق بعظمته، لا نريد أن نعيشه كما عشنا مواسم مضت، بل نريد أن نترك فيه أثرًا، أن نُسطر فيه طاعة، وأن نفتح صفحة جديدة مع الله. فلنجعل من هذه الأيام نقطة تحوّل حقيقية، نغسل فيها قلوبنا من شوائب التعلق بالدنيا، ونجعلها مهيأة للقرب من الله أكثر من أي وقت مضى. الإلهام لا يُنتظر من الخارج، بل يُستخرج من داخلنا. هناك نور قد خبا تحت غبار العجلة والانشغال، وهذه الأيام المباركة كفيلة بأن تعيده مشتعلاً، نقيًا، مطمئنًا. لا نعلم ما يخبئه الغد، لكننا نملك اليوم، نملك هذه الفرصة الثمينة، وما دامت الفرصة قائمة، فالرحمة أقرب مما نظن، والقبول أعظم مما نتخيل، والله أكرم وأرحم مما نتصور.

سعورس
منذ ساعة واحدة
- سعورس
أمير الشرقية يُدشن مبادرة "خدمتكم فخر واعتزاز" لخدمة ضيوف الرحمن
وأكد سمو أمير المنطقة الشرقية ، أن خدمة ضيوف الرحمن شرف ومسؤولية وطنية تُجسد القيم الراسخة التي تقوم عليها المملكة، مشيرًا إلى أن حكومة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين –حفظهما الله- تسخّر كافة الإمكانات وتحرص على تطوير الخدمات المقدمة للحجاج والمعتمرين، بما يعكس الصورة المشرفة للمملكة ويؤكد مكانتها الريادية في خدمة الإسلام والمسلمين.جاء ذلك خلال استقبال سموه، لرئيس مجلس إدارة الجمعية، الدكتور محمد بن عبدالعزيز العيد، يرافقه عددٌ من أعضاء مجلس الإدارة. وقدّم رئيس المجلس عرضًا عن المبادرة التي تهدف إلى استقبال حجاج بيت الله الحرام القادمين والمغادرين عبر المنافذ الجوية والبرية في المنطقة الشرقية ، وتقديم حزمة من الخدمات اللوجستية والإنسانية، بما يسهم في تيسير رحلتهم وتمكينهم من أداء مناسكهم بكل يسر وطمأنينة. وبيّن أن هذه المبادرة تأتي امتدادًا للجهود المتواصلة التي تبذلها جميع الجهات المعنية في المملكة لتقديم خدمات نوعية ومتميزة لضيوف الرحمن، انطلاقًا من توجيهات القيادة الرشيدة –أيدها الله- وحرصها الدائم على تسخير كل الإمكانات لخدمة الحجاج والمعتمرين. وفي ختام اللقاء، ثمن الدكتور العيد دعم سمو أمير المنطقة الشرقية واهتمامه الدائم بالمبادرات المجتمعية، مؤكدًا أن هذا الدعم يُعد ركيزة أساسية في نجاح المبادرة وتحقيق أهدافها.