
لهيب عبد الخالق قدمت مزيجاً من التأويل والدهشة في ديوانها
'ماقالت الريح لليل' … لغة مكثفة وصور حسية ورمزية طاغية في مشهد شعري متداخل
-داخلت بين الرموز التاريخية والروحية لتظهر صورة نصية جميلة من روح الخطاب 'القرآني'
-تناولت نصوصها بقالب وجداني تأملي كرست فيه تجربة إنسانية مليئة بالايحاء والرمزية
ليس عبثاً أن تهب الرياح لتربك سكون الليل باحثةً عمن ينصت لنشيجها،لمن يستجلي مافيها و يفهم مغزى ما جاءت به، وما حملت في طياتها،الاستفهام والتأكيد الذي جاءت به لهيب عبد الخالق في عنوان ديوانها تحاول أن تبين من خلاله الحوار الخفي الذي يدور بين الإنسان والطبيعة، وأن تنقل حالة عدم الاستقرار التي عليها الريح وما يكتمه الليل من أسرار لاتقبل البوح. 'ما قالت الريح لليل' يفتح أفقاً من التأويل والدهشة،وما يلامس الروح من شغف لمعرفة خفايا ذلك المجهول في قولها لليل.
قصائد عديدة ضمها ديوان 'ما قالت الريح لليل' اشتغلت عليها لهيب عبد الخالق بالتأمل وإلتقاط اللحظات الهاربة وما تتضمنه بعض الذكريات من غموض ومشاعر لاتتوافق مع ما يعيشه العالم اليوم من صخب وفوضى.أحتوى ديوانها الحنين الناعم، رافقته أسئلة لم يحرر لها جواب، وفيه من الحب ما لاشبيه له فيما سمعنا من الروايات ، هو كالريح فعلا تمر وتغير وتترك آثراً على مساراتها التي لابوح فيها لما تقول لليل.
الاستفهام الذي تضمنه العنوان يأخذ القارئ نحو تشظيات الروح التي تلامس وجعها وجمالها،حاولت لهيب أن تعبر عما يجول في خاطر المتلقي من سؤال حول القوة التي تكمن في ذلك البوح الذي اسرت الريح به الليل فحولت بكلماتها ضبابية التصور إلى قوة الموقف التي تنم عن معرفة (ماقالت الريح لليل) رغم ما لف الجملة من إبهام، فهل من سامع لما قالت الريح ، أم أن قولها ذهب مع عتمة الليل وإنبلاج الصباح، ذلك ما أخفته لهيب عنا وعن القراء كي نواصل معرفة ما جرى من خلال نصوصهاأنقينا بعض من نصوص الديوان وخضنا في تفاصيلها.
العنوان جاء بصيغة الإيحاء الرمزي أرادت منه لهيب عبد الخالق الإشارة فيه إلى حديث أوبعض من أسرار لتضفي بعض من غموض أو لإثارة الفضول،أو أن تضع القارئ على عتبة التأمل في طابع الحوار الذي دار بين الريح والليل وما تهمس به النفس في خلجات ذلك الليل وسكونه،نشعر به لكننا لانعرف فحواه، نلمسه عبر حركة الريح ،ونألفه من سكون الليل الذي يدفع صيغة الحوار التي طغت على النص إلى أن تضفي عليه بعداً فلسفيا في هذا التلاقي ،فالليل ساكن ،والريح حركة ،فكيف جمعت لهيب الحركة بالسكون في تكوين جميل وصاغت منه عنوان ديوانها.
وفي الإهداء جاءت لهيب بأبيات مقتضبة صورت من خلالها الخطاب التاريخي بشكل متداخل مع الرموز المكانية والزمانية، بأعتبار أن ماجاءت به من ذكر للمكان يؤرخ لحقب زمنية عرفت باسماء تلك الأماكن، موحية من خلالها باستيفاء المعنى من الخطاب الديني الذي مثل قصص تلك الأمكنة التي وردت في القرآن الكريم ،ومن نصووص صريحة جاء ذكرها نصا بالاسم في النص القرآني. ( إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) الفجر (7)، (1) .
إرم..
أعمدةُ رخامٍ ، أم دخان..
في الإشارة التي جاءت بها لهيب (إرم) المدينة التي عرفت باسم أولئك القوم، أرادت منها التحديد كدلالة نصية على المقصود (إرم) دون غيرها، لكنها في الخطاب الضمني موجهة وتحمل خطاباً توجيهياً فيه من الرجاء، الخوف، التخفيف، التوبة، الأمل بالنجاة ، العودة من الموت، والهرب من بين أنياب الحرب التي تستعر وتخلف ما تخلف من دمار مثلته لهيب بالدخان.
استحضرت لهيب ( إرم) الأسطورية لتصف من خلالها مشهداً للدمار بعد الكوارث ( الحروب وغيرها) ،كما وصفت التحول والتغيير الذي قد يطال الأشياء والمواقف، فها هي أعمدة الرخام التي تمثل جمال المنظر ،تتحول إلى دخان يتطاير وربما يخنق الجميع ، أي التحول من الجمال إلى الزوال.
لا تنظري إلى بحار الخطايا،
وعلى أعمدةِ الدخانِ ارفعي رجاءكِ،
الخطاب الذي بدئته لهيب بالنداء ( لاتنظري للوراء) ،وكأن لهيب تصر على أن يكون نص الإهداء مدعم بالتأثير الروحي الذي تطغى عليه سطوة التأثير الروحي أو الحسي للدين، فالهالة التي ترسمها (القصص القرآني) تستحوذ على مساحة التفكير في محيطنا أو مجتمعاتنا الشرقية،وما أن تعمل على الربط بما يحمل خطاب التقديس فذلك مدعاة لتقبل الطرح والميل نحو مضمونه أكثر من أي خطاب أخر، توجه دقيق نجحت لهيب من خلاله لنشر مساحة التقبل لخطاب الإهداء أكثر مما لوكان ذلك الخطاب يقتصر ربما على صورة مغايرة لصورة الخطاب الروحي.
مزجت لهيب عبد الخالق بين الرمزية الدلالية وقوة الصورة الشعرية ، فخطابها الذي بدء بالنداء كان قوي التأثير يحمل طابعاً تأملياً لكنه قاتم ،عكست من خلاله تجربة حياتية قد توصف بالمريرة بعمق تأثيراتها التي خلفتها الحروب وما تحمله من آثار الدمار.
قد لا يسـتمعُ أحدٌ ..
قد يخنقنا الدخانُ..
لكنهُ الوحيدُ الخارجُ من لجُّةِ الحربِ سليماً، كما هو… دُخانْ…..
وعلى حصَاها المجمرِ، عليكِ قطعَ الأميالِ ..
كرست لهيب في إهدائها حقيقة أوردتها ب(قد) وهي كما نعرف (حرف إمتناع لوجود)،( قد لا يسـتمعُ أحدٌ .. قد يخنقنا الدخانُ..)، وهي تحتمل العكس أيضا، فقد لايسمعنا أحد،وقد لانختق، لكن الثابت أن الدخان هو الناجي الوحيد من هول الحرب،والذي خرج منها كما هو …دخان.
تلك الأبيات لاتخلوا من نصيحة ،أي أن لهيب تدعو من خلال أبياتها للمضي دون الاكتراث بما جرى من هول تلك الاحداث، والسعي لبدء صفحة جديدة من صفحات الحياة على الرغم مما كان،فالحياة لاتتوقف، وتلك دعوة للأمل بان القادم ربما يكون أفضل رغم السوداوية التي ضمنتها وصف حالة المعاناة والمستقبل المجهول.
أرادت لهيب أن توصل للقارئ حقيقة فعلية مفادها أن الحرب دمار مهما كانت نتائجها، وجسدت تلك الصورة عبر ما جاءت به من رموز وصور مثلتها ب (الدخان والحرب)، ثم الرحيل في دعواها لترك الماضي والابتعاد رغم الألم، إلا أنها كرست حقيقة ثابتة أيضا أن لا مدينة فاضلة نركن إليها ،وأن لا أمل بالجنة الموعودة وسط ما نعيشه من لاجدوى ومعاناة، وأن الصفة الثابتة التي نعرفها ونلمسها بين أيدينا تتمثل في أن الدخان يرمز للحقيقة وسط مشاهد الدمار الذي نعيشه، صورة تعبر عن إنكسار نفسي تام لم تسعف الرموز التي تضمنها نص لهيب من أن تجعل تلك من الليل مكاناً آمناً نلجأ إليه لنستريح من تعب الأيام.
ففي بواكير ديوانها الذي بدأته ب'همسُ الظلال' تقول لهيب عبد الخالق:
المساء بثلجه
ﹸأتدفأ بأغنيات
الحقول ﹸوأرسم على
اﹺلضباب ﹰزورقا
الواضح من هذا النص أن هناك طابعاً تأملياً يضفي بابعاده على القصيدة بشكل كامل، أرادت منه لهيب المزج بين الطبيعة والوجدان، أرادت أن تجسد لحظة دفء في النفوس بمواجهة البرودة التي توصف بها أجواء المساء، وهو تاويل وظفته لهيب للدلالة على الوحدة أو الحزن التي تدفع الشاعرة للتعويض عنهما باستحضار صور الماضي المألوفة.
ﹸ على
رف موقدي
ﹰزهرة ﹸخبأتها بين
ﹼدف ﹶتي كتاب..
على تضمين نصها بعنصر آخر يبعث على الدفء الروحي مثلته بالذكريات الجميلة (أغنيات الحقول)، وجاءت بالحلم على صيغة صورة من الخيال لتمثل لها مهرباً من الواقع الذي تشير إليه ' أرسم على الضباب زورقاً'،وهذه دلالة أيضا أرادت منها لهيب أن تبقي على الأمل معقوداً على الحدث الذي أرادته مستمراً لتبقى تفاصيله محفوظة بعناية تشكل دفء داخلي ، صورة وجدانية رمزية رائعة وجميلة رسمتها لهببعبد الخالق لتدفع بنصها إلى الإرتقاء بما ضمنته من أغراض وجدانية ودلالات مؤكدة 'زهرة خبأتها بين دفتَي كتاب' ،نص شكلت فيه الذكريات هاجساً لمقاومة برودة الحياة عبر استحضار الذكريات وصور الأيام الجميلة في الخيال.
ثم في 'ماقالت الريح لليل' تلك البارزة الناهدة التي أطلقتها على الديوان كله اسماً وعنواناً عرفت لهيب ديوانها بتلك القصيدة ،وأضفت من جمال صورها وتشكيلها وموسيقاها على الديوان كله، فحين تصادف ديوان لهيب عبد الخالق هذا يدفعك إلى تساؤل كبير ،حتى قبل تصفحه أو قراءته يفيد … (ماذا قالت الريح لليل).
ما قالتِ الريحُ لليل… .
(ميلودراما)
لا تمض
ﹸكن ﹶمثل السماء
كلوحة ﹶسوداء
أجري كالسفين على
ﹶمداها, أنشر
الأنغام ﹶبين غمامها
وأ راقص الأشجار
أعصف في
صواريك التياعي ثم
أغمض ﹶشوق ﹶتلك الأرض
قالت عنها (مليودراما) وهذه توظف في النص الشعري للتعبير عن المبالغة فيما يتناوله الشاعر من مشاعر وبخاصة الحزن ،ما يجعل النص مؤثراً جداً لما يحتويه من عاطفة طاغية، أي أن الشاعر يأتي بالانفعالات القوية والمشاهد المؤثرة لإثارة تعاطف القارئ، وقد تكون تلك الانفاعالات صادقة أو مفتعلة إلا أنها لابد وأن تكون مشحونة عاطفياً.
خطاب الذات أو خطاب الآخر واضح في هذا النص (لا تمضي) هناك مخاطب ،وهناك طلب بعدم الرحيل، وفيه ايضا توصيف وتشبيه ذهبت منهما لهيب لترسم لوحة شعرية وليس صورة، فهي تقول ( كن مثل السماء) أي تمثيل بحركة السماء وسعتهان وهذا تعبير عن الحياة واستمرارها، وفي الأرة تقول (أجري كالسفين على مداها) وهي دعوة للحرية والانفلات من قيود الحياة وتعقيداتها ،وهذه فيها إيحاءات كثيرة ،ما يعني أن لهيب قصدت أن تكتب بالايحاء لتزيد من غموض النص الذي وفرت للقارئ فيه مساحة من الأمل ينشر جميل أثره مثل الموسيقى التي يستمع إليها الإنسان في كلتا حالاته ( المبهجة ونقيضها)،وهنا جاءت على توضيح ما أعترى المخاطب من هموم فقالت ( أعصف في صواريك التياعي) وهذه صورة تعبر عن الاحساس بالهزيمة الننفسية التي تمزق الرلوعة.
أتركه على خد
الوسادة دمعة ﹼحرى
وأنفاسا ﹸتح ﹼل ﹸق
مثل ذاك الحزن
في ﹶع ﹶب ﹺق السواقي,
عاشقان أنا ﹶوأنت
ﹶنلف ﹰبعضا
على ﹶشواطئ ﹶأسر
الطيور إلى ﹶأقاصي ﹾالذاكرة
وبصورة حسية تمتزج بالعاطفة جسدت صورة لهيب صورة رومانسية يغلب عليها الطابع التأملي الذي جهدت فيه لتصوير الحزن والحب كشعور متداخل يعبر عن حالة وجدانية مركبة لتصوير لحظة تأمل شاعرية جسدتها دمعة على الوسادة تعقبها أنفاس مقطعة ،وهي تعبير دقيق عن حزن عميق فينتاب النفس حتى يصل إلى هذا (النشيج) (الوسادة دمعة حرى، وأنفاساً تحلق)، تعبير قد يكون مثالي حقيقي حين وظفته لهيب في تلك الجزئية الدلالية ،ونجحت فعلاً في ايصال مفهوم ما قصدت عبر ما أنتقته من مفردات( تصوير طبيعي للحدث) والصورة التي تعتمد على الطبيعة في التعبير عن المشاعر تضفي مزيداً من التفاعل والتأمل على شكل النص ومضمونه.
هذه التأملية التفاعلية التي صبغت بها لهيب عبد الخالق هذا الجزء من النص ،اظهرت من خلاله حالة عاطفية راقية تلغي ال(أنا) وتنصهر الذات العاشقة وتندمج المشاعر فيها ( مثلما تلتف أغصان الغروب)، ابرزت الخيال كعنصر حقيقي في النص قادر على شحن النص بالعاطفة المطلوبة،ومن جهة أخرى الإرتقاء بمستوى التفاعل مع القارئ عبر إنتقاء الكلمة ومرادفها بدقة وحذر ،وهو أسلوب حرفي متقن أجادته لهيب وتمكنت من تحقيق ما أرادت من تشكيل انعكست أبعاده على النص.
ﹶننسل من ﹺطين الخليقة
ﹶمثل جرح ﹴنافر
أو ﹶنهدﹺين ﹸتغشيان
ﹶبريق ذاك الوجد
ﹶتنطويان في عرق النخيل
ﹸترقر ﹶقان
الشوق ﹰأغنية ﹶكلفح
الهاجرة .
غلب على النص التأمل الوجودي نوتلك مساحة ربما يعدها البعض من النقاد أو يحسبها على الصيغ الفلسفية في الشعرنوهي قريبة أو في خضم ذاك التفسير، لكن الشعر الفلسفي الوجودي مضامين لاتنطبق على ما جاءت به لهيب في نصها،قد يحمل نصها لمحة من تلك التوصيفات ،لكن لايطلق عليه نصاً فلسفياً أو وجودياً بمعنى (المدرسة الوجودية)*، تناول النص مسالة الوجود من باب النشأة من الطين،وهي حتمية فكل الوجود الإنساني من الطين أي أن الموضوع محسوم وبنصوص قرآنية لاجدال فيها،وهنا أنتفت صفة ( النص الفلسفي الوجودي) عن نص لهيب عبد الخالق فهي قد نقلت ولن تنشأ الفرضية.
هي أرادت أن يكون المدخل بصورة الحدث الفلسفي ،وكان لها وجميل ما أتت به فقد جردت الصورة الشعرية التي رسمتها من التزويق والبهرجة اللغوية والزيادات الفلسفية ،ونقتها بما مزجتها معها من الحب والشوق والرغبة والألم والإثارة(نهدين تغشيان بريق الوجد)، (عرق النخيل' و'أغنية كلفح الهاجرة) وفيها تعبير عن المشاعر القاسية والملتهبة التي تترك تأثيراتها على المحبين، تلك المشاعر والتقلبات وأشكال العشق والرغبات تؤسس لمشهد الحدث في النص، لذلك ظهرت صورتها بكل جرأة تحمل من الإحساس ما يضفي الدهشة على المشهد الشعري بكامل تأثيره على النص .
ظلّ النرجس
ﹸيترنح ﹸسمت
ﹺالضوء ﹶوي
ﹸكبش ما أبقى
ﹸأيلول على ﹸشر
ﹶفت نا,
أتذك ﹸر حين تمر ﹶبي
الأﹸشباح, ﹰسياجا يملؤه
ﹸالآس ﹸوأعراق
حملت لهيب النص نبرة من الحزن وكعهدنا بقصائد الديوان الأخرى ،أو الطابع الغالب على ديوانها ( ماقالت الريح لليل) يحمل طابع الحنين والتأمل ، بزت الأحداث فيه اعتماداً على الذاكرة الحسية نوالأحداث التي داخلتها لهيب لتنشأ منها دراما الحدث ،أو الحبكة الدرامية للنص ،ومنها أرادت ان تجسد اللحظة الحسية الدافئة وتفاصيلها التي أراتدت لها أن تغلب على التفاصيل اليومية التي داخلتها مع المكان والزمان وحتى الحدث .
الشحن العاطفي واضح في ثنايا النص ،استعادة الأحداث من الماضي، استذكار اللحظات، (الشاي ، النعناع، شمس العصر) كل تلك الرموز مشحونة بالعاطفة لما فيها من دلالية حسية تترجم ما حدث حينها لتنسج منها مشهداً يضج بالحنين يعود بالقارئ للجذور وما ينتمي إليه لكن بشوق يطغى حتى اللحظة ويعبر مداها.
'الشحن العاطفي المتصارع بين الروح والجسد سبب أصيل في تجاذب وتدافع وتنافر قواميس اللغة ودلالاتها وتشعّبها في هذا الديوان، حيث تشكل القصيدة مرآة شاعرها'(2) .
الجوري ﹸوزاوية ﹺالنعناع
ﹺالأخضر ﹸحيث ﹸأﹸهيء ﹶشاي
أبي, ﹸوالشمس تجر
ذيول العصر هناك ﹶكبوت
ﹶكم هر في ﹸحضن
ﹺالطين,
باسلوب تاملي هادئ كما العادة في ديوانها أستطاعت لهيب عبد الخالق أن تسوق الاحباط ليكون مقبولاً في مضامين نصوصها ،وبلغة شعرية راقية ورقيقة ومشاهد بصرية جميلة لترسم لنا مشهداً من الحنين للماضي،الصور التي جاءت بها لهيب حسية حركية متقنة في ابعادها وألوانها ، صور مفعمة بذاكرة طبيعية شكلت ربما جزء من ذاكرة النص ،أو الذات الشاعرة ،استطاعت من خلالها لهيب أن تشكل بعداً أخر أمتاز باحتواءه للزمن ،وأن يكون مؤثر نفسياً حتى في تناقضات الصورة التي جاءت بها لهيب وتمثلت بالدفء والغياب.
نص حالم يضج بالحنين لصورة الأب ومشهد الشاي عند شمس العصر ،رسمته لهيب بصورة جمالية غاية بالروعة عكست كل تلك المشاعر ونجحت بتوظيف الصورة الشعرية المدعمة بتأثير الزمان وجمالية المكان وبدلالة المشاعر باسلوب تأملي يمزج بين الحزن والجمال.
'ما قالت الريح لليل' حمل صوراً حسية جريئة كرست من خلالها الشاعرة الإثارة والرغبة ،وربطت بين المشاعر بإختلاف سماتها واشكالها، نقلت طبيعة الفقد القاسية، كما سجلت ما مشاعر الحنين للماضي بتداخل رائع بين الزمان والمكان ،والتي عبرت عنهما بدلالة حسية ورمزية معبرة ودقيقة ،ونجحت بإثارة القارئ واستمالته نحو أبعاد قد لايقرأها عند شعراء آخرين بلغة مكثفة مالت فيها إلى الرمزية التي تتوافق والايقاع الموسيقي التشكيلي الذي يرافق الأداء الشعري.
نص متفاوت التصور ما بين سمتي الخلق والرغبة، غني بالدلالات الوجودية،قدم حقائق قائمة حول خلق الإنسان من طين واصفاً إياه بأنه كائن يوصف بالوجد واللهفة، وعكس تجربة عاطفية عميقة، بلغة تصويرية شاعرية، تستحضر مشاعر الحب والحزن معًا في مشهد تأملي داخلي، يحمل دعوة للتعبير والانطلاق رغم الألم، والثبات رغم التقلّبات، والانغماس في الحياة كفعلٍ شعري جميل،إلأا انه يحمل طابعًا رمزيًا وتأمليًا، ويدعو إلى الثبات والتحرر في آنٍ واحد.
− انكسارات لطفولة غصن − مجموعة شعرية, منشورات آمال الزهاوي شركة عشتار للطباعة والنشر والتوزيع بغداد عام 1987.
− وطن وخبز وجسد, مجموعة شعرية, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد 1999.
− بين انهيارين− الاستراتيجية الأمريكية الجديدة (كتاب سياسي), صدر عن الدار الأهلية – الأردن عام 2004.
− ترانيم سومرية, مجموعة شعرية, صدرت عن الدار الأهلية
−الأردن عام 2014.
− سوسيولوجيا الدم – مجموعة مقالات ودراسات صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر− بيروت عام 2015.
− مسافة جرح, مجموعة شعرية, صدرت عن الدار الأهلية− الأردن عام 2019.
•كاتبة سياسية ولها دراسات سياسية وإعلامية باحثة في مجال الإعلام, لها نحو 300 بحثا في ﹼكل

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الزمان
منذ 5 أيام
- الزمان
إختتام دورة المقامات الصوتية بالرياض
اختُتمت دورة 'المقامات الصوتية' التي أقيمت في 'ورث' – المعهد الملكي للفنون التقليدية بالرياض، والتي امتدت على مدار أربعة أيام من 11 إلى 14 ايار، يوميًا من الساعة الرابعة عصرًا حتى الثامنة مساءً. وقدّم الدورة المدرب المعتمد صابر المضحي، حيث تناولت الجوانب النظرية والتطبيقية لفنون المقام العربي، مع التركيز على الأداء الصوتي الأصيل في القصائد والموشحات، وكيفية توظيف المقامات الصوتية في تلاوة القرآن الكريم.وشهدت الدورة حضورًا لافتًا من المهتمين بالموسيقى التقليدية، وتخللتها نقاشات ثرية وتفاعلات مميزة. وكان من أبرز لحظاتها زيارة الدكتور سمير بن عبد الرحمن الضامر، الباحث في الدراسات الثقافية وعميد كلية الفنون الأدائية، والذي أضفى بحضوره دعمًا معنويًا كبيرًا للمشاركين. وقد تميّز المشاركون في هذه الدورة بخلفياتهم الفنية الثرية، إذ ضمّت القائمة مبدعين حازوا مراكز متقدمة في الفنون الأدائية، ومشاركين في MBC Academy، ومذيعين، وأصحاب فرق موسيقية، وفنانين يمتلكون تجارب حقيقية في المشهد الثقافي.وقد شكّل هذا التنوع بيئة حوارية متعمقة، وساهم في رفع مستوى التطبيق الفني والنقاشات داخل الورشة. وعبّر الأستاذ صابر المضحي عن سعادته بنجاح الدورة، مؤكدًا أن التفاعل الإيجابي من المشاركين يعكس شغفهم بالفنون التقليدية، ومشيرًا إلى أهمية مثل هذه البرامج في تعزيز الوعي الفني والحفاظ على التراث الموسيقي العربي.تأتي هذه الدورة ضمن برامج التعليم المستمر التي يقدمها المعهد الملكي للفنون التقليدية، بهدف إثراء المشهد الثقافي والفني في المملكة، وتوفير منصات تعليمية تفاعلية للمواهب الشابة والمهتمين بالفنون التقليدية.


شفق نيوز
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- شفق نيوز
السليمانية.. "مهرجان إقرأ" يكّرم حفّاظ القرآن ويمنحهم ترخيصا رسميا
شفق نيوز/ انطلقت في محافظة السليمانية، بإقليم كوردستان، يوم السبت، فعاليات "مهرجان إقرأ"، تكريمًا لحفّاظ القرآن الكريم الذين أتموا دوراتهم تحت إشراف مدرّسين وأساتذة مؤهلين في مجال علوم القرآن. وقال المشرف على المهرجان، جليل حسن، لوكالة شفق نيوز، إنّ "21 حافظًا للقرآن الكريم تمّ تكريمهم بمنحهم شهادات رسمية تثبت إتمامهم لحفظ كتاب الله الكريم، كما تم منح 250 مشاركًا من مختلف الجنسيات تراخيص رسمية لقراءة القرآن الكريم في الجوامع والمساجد ضمن حدود محافظة السليمانية، بعد اجتيازهم برامج تأهيلية بإشراف أكاديمي وديني متكامل". وأوضح حسن أن "فعاليات المهرجان شملت عروضًا قرآنية حيّة لعدد من المشاركين، ومحاضرات دينية وتربوية حول أهمية حفظ القرآن في تعزيز القيم الأخلاقية لدى الأفراد والمجتمع، بالإضافة إلى تكريم عدد من الأساتذة والمشايخ الذين ساهموا في إعداد وتأهيل المشاركين". وأقيم المهرجان برعاية منظمة "إقرأ"، وهي منظمة مرخّصة رسميًا من قبل حكومة إقليم كوردستان، وتعمل في جميع مدن الإقليم بهدف دعم تعليم وحفظ القرآن الكريم، ورعاية وتأهيل المواهب القرآنية من جميع الفئات العمرية. وأكدت المنظمة في كلمة لها لها خلال المهرجان، أن من أبرز أهدافها هو إعداد جيل ملتزم ومتمكن من علوم القرآن، من خلال برامج تعليمية تخصصية في الحفظ والتجويد والتفسير، وذلك بالتعاون مع نخبة من المدرّسين المجازين والمؤسسات الدينية ذات العلاقة. وحمل المهرجان في نسخته الحالية شعار "نحو جيل قرآني واعٍ"، في إشارة إلى ضرورة تعزيز روح الالتزام الديني والتربوي في أوساط الشباب، وسط ترحيب كبير من قبل الأهالي والمؤسسات الدينية التي عبّرت عن دعمها لهذه الخطوة التي تسهم في ترسيخ القيم الإسلامية الصحيحة ونبذ الأفكار المتطرفة.


موقع كتابات
٠٣-٠٥-٢٠٢٥
- موقع كتابات
أكاذيب عمي عبو
ما أن وطئت قدماه أرض إحدى عمارات مدينة سيدي قاسم، حتى بدا عبو كأنه آت من كوكب آخر. فهو في الحلقة الرابعة من عمره، قصير القامة، يلبس جلبابا أنيقا يخفي بدنا ضخما مثل برميل، وتلف رأسه عمامة حلزونية 'شرقاوية'. قلة من يعرفون كيف اشتغل بوابا ومن سبب ذلك. المعلومات المتوفرة أنه من منطقة بعيدة بتخوم بوجدور، حفظ القرآن الكريم في أحد الكتاتيب القرآنية، لم يحلم يوما بمغادرة قريته، كان دائم الكذب على والده، وعلى فقيه المسيد، مما كان يعرضه 'للفلقة'و'التقرفيد'. أما عن سبب مجيئه من تخوم منطقة نائية إلى مدينة سيدي قاسم، فتلك قصة أخرى… منذ ثلاثين سنة مضت كان عبو يرعى عنزة بنية الوبر، هزيلة، هي المصدر الوحيد للحليب لدى العائلة المعوزة. في أحد الأيام غلبه النعاس فنام، وبعد سويعات أفاق مفزوعا على صوت ثغاء مشروخ، تأبط عصاه وتوغل نحو غابة قزمة متوجسا، منتظرا الأسوأ، لم يجد سوى جثة العنزة وقد مزقتها الذئاب إلى مئات القطع. جلس تحت شجرة يفكر فيما سيفعله: هل سيرجع إلى المنزل بدون العنزة؟ فلو وقف أمام والده واعترف بغفوته وتقصيره، فسيلومه أشد لوم، وسيقتله بالضرب ويسلخ جلده، الأحسن له أن يفر نحو المجهول… ارتمى عبو خلسة وراء الشاحنة، في غفلة من سائق ركنها على جنب لينتشي بتدخين سيجارة، وعندما توقفت الشاحنة للتزود بالبنزين بمحطة وقود، خرج عبو منها، واستقل أخرى مواصلا الرحلة نحو المجهول، نام في محطات القطار، وأكل من القمامة، اتسخ وأصبح: ' شماكري' يتسول الناس، يقفز، ويتشقلب، ويقوم بحركات بهلوانية أمام المقاهي وفي الساحات العمومية. عمل في البناء مدة طويلة، لذلك كان البناءون ينادونه ب' البوهالي'. دق قلبه، ذات مرة، لفتاة من بنات الليل، لف عليها مختلف الحانات، حتى أسقطها في شباكه، ثم تزوج بها، لكن بعد مدة تركته وهربت مع عشيقها:'فيدور' البار الذي كانت تصطاد فيه ذوي الرغبات المكبوتة، والغرائز البهيمية، والموز المنتصب صلابة. سرقته الأيام، فتذكر فجأة والديه وإخوته، ذهب لدواره، فوجد والده قد أقعد في كرسي متحرك، وأمه قد عميت، أما إخوته فكل واحد منهم صد إلى وجهة غير معلومة… أما عن سبب التحاقه كبواب، فلقد عمل في عمارة، أقامها مقاول بناء، أسماها:' البديعي ـ 68″. قلة من ناس المدينة من يعرفون عبد السميع البديعي، ومن أين له هذا؟ فجده البشير كان يمتلك سبعة آلاف هكتار بمنطقة نائية عن أعين المتلصصين، منحت له كمكافأة عن خدماته كباشا، كان يخرج من قصره، فيبدأ 'الطبالة' و 'الغياطة' في العزف، الشيخات يرفرفرن رقصا، ويهززن بوسطهن حزام الموزون هزا. تنتفخ أوداج الباشا، فيركب حصانا أبيض، يرقص بكل جوارحه، يزلزل التراب بسنابكه، ويتلوى أحد خدمه في شد لجام الحصان، وتوجيهه حتى يصل الى باب القيادة… ابتدأ الباشا البشير زراعة الهكتارات الخصبة الشاسعة بأشجار الزيتون، والبرتقال، والتين، ثم بنباتات وزنها يعير بالذهب حاليا، درت عليه الأموال الطائلة، وأسالت لعاب الإيبيريين. ورث عبد السميع ثروة عائلية هائلة، جعلته يعوم في مسبح عريض من البلور، ويشتري طائرة خاصة تنقل بها في كل أنحاء العالم: فإذا تناول وجبة الفطور في إقامته بحي 'كاليفورنيا' بالدار البيضاء، فإنه سيتناول وجبة الغذاء في أمستردام، ويكتفي بعشاء 'دايت' في دبي. فهو يستمتع بكل ثانية، قبل أن يباغته هادم اللذات ومفرق الجماعات. بدأ في بناء العمارات العالية، والفلل الفخمة، ثم توسع نشاط المقاولة في المدن، ليؤسس أكبر هولدينغ عقاري، فأصبح مستثمرا قويا في شراء البقع الأرضية وبنائها، وبيعها… عندما كان عبد السميع يأتي الى ورش البناء، ليراقب صهره مسير الأوراش، كان عبو يجري ليفتح له باب سيارة 'الرونج روفر'، ويرتمي ليقبل يده الجبنية المغلولة بتسبيح أبيض، فيقول له عبد السميع، ذو الوجنات الجنينية التفاحية، وهو يترك يده عنوة ليقبلها، ويقول ممتنعا بصوت جهوري: ـ أستغفر الله… ثم يدس في يده مبلغا ماليا دسما. بعد انتهاء بناء العمارة، لم يعد عبو يقوى على حمل أكياس الرمل والإسمنت الثقيلة إلى الطوابق العليا، خصوصا عندما آلمته فقرات ظهره، فأوصاه الطبيب بالابتعاد عن حمل كل ما هو ثقيل، فآثر أن يعمل بوابا في العمارة، يؤنسه جهاز راديو صغير. وبعد بضع أسابيع، توطن السكان في العمارة، فكانت زوجته الحسنية تنظف الأدراج والسطح، والشقق بمقابل مادي، أما عبو فكان يجلس على كرسي متهالك بجانب مدخل العمارة، ينصت لأخبار الساعة من مذياع صغير، ولا يغادر كرسيه إلا عندما تحدثه سيدة من السكان عبر 'الأنترفون' بأن يأتي لها بقنينة غاز، وأخرى بقارورة زيت، وثالثة بكيلو باذنجان، ورابعة بكيس ملح، وخامسة بدرهم خميرة… في بعض اللحظات تطيل الحسنية النظر إليه، وتتذكر أكاذيبه، تتذكر جيدا ذلك اليوم التعيس الذي رآها في محل بقالة عندما إفتض عذرية علبة ياغورت، وارتشفه دفعة واحدة. كانت خجولة وراء لباسها القروي، فتبعها كالظل، دس في أذنيها عسل الكلام، فاستسلمت له كريشة في مهب الريح، وبعد سنوات اكتشفت أنه كاذب من الطراز الأول، وحياته كله كذب في كذب، قال لها في أول الأمر بأنه يعمل عونا في إحدى الإدارات، ولتأكيد خداعه، كان يقوم بكراء هندام وربطة عنق، أما الحذاء فقد اشتراه من سوق الألبسة المستعملة. وأوهمها بأن عائلته تحوز أراضي لا تعد ولا تحصى، لتكتشف كذبه المتكرر، ينقض عليها في الفراش مثل انقضاض السكين على حبة العنب، وما أن ينتهي من فعلة الديك معها، حتى يتحول إلى عفريت ناقم، يكره السكن إليها، أرادت الانفصال عنه، فيقنعها ألف مرة أنه فعل ذلك بندم وأنه يعشقها، من أطول شعرة شعتاء في رأسها، إلى ظفرها المفلطح. ولا يريد أن يخسر ودها، لكن ما بيدها حيلة، فوالدها رجل مقعد وأمها تفترش الرصيف في الموقف، وأخوها عبد الجليل، إنقلب به قارب الموت قبل وصوله إلى' الإلدورادو' الإسباني. كفكفت دموعها، وكتمت حسرتها في أعماقها، أطلت عليه وهي تتمتم بكلمات مهموسة، تدعو عدالة المنتقم الجبار. اندهش نسوة العمارة أول الأمر لقصصه الجذابة وحكاياته المثيرة، فزعم أنه التقى العديد من أصناف البشر، بل زعم بأنه ذات ليلة، تحدث مع مخلوقات خضر، عيونهم كالبرقوق الأسود، هبطوا من الفضاء إلى الغابة، بلغوه سلام حضارات بعيدة، ووعدوه بالعودة إليه مرة أخرى، وأنهم سيحتلون الأرض عما قريب، وتحدث أيضا مع الجان المتقدين نارا الذين أبانوا له بعض الأسرار والخفايا، وكشف المستور… أما رجال العمارة فكانوا ينتشون بعدما يقصه عليهم، ويلتهبون شوقا وحماسا لما يرويه، كان لسانه أسرع من الريح، وأحد من شفرات السكاكين، فالطريقة المسترسلة التي كان يتحدث بها تجعل السكان مذهولين. ينصتون إليه بانبهار، محبوسي الأنفاس. فحكاياته الطويلة صبروا عليها حتى حسبوها جزءا من جدرانهم. لكن بعد ذلك، شيئا فشيئا، اكتشف السكان أن كل ما يقصد من مغامرات ومخاطرات، خاضها أو عاينها، سرعان ما أدركوا أنها لم تكن إلا محض اختلاق، وكل ما يحكيه ليس إلا من بنات أفكاره ونبع خياله. وما لم يكن يعرفونه أن عمي عبو لا يعيش إلا بالكلام، ولا ينام إلا إذا ملأ الهواء بأكاذيبه. وقف ذات يوم عند باب العمارة، وقد شبك يديه حول ظهره كحكيم يهم بالكشف عن سر خطير. وقال لسنديك العمارة، الحاج علي: ـ شكيب، زوج منال، ضبطته متلبسا يعطي المال لصبية تلميذة يهمس لها فتتفرقع بقهقهات مراهقة. عندما رآني تلعثم، وكحل بالعمى، وانسحب مطأطأ الرأس… لكن الحقيقة، كانت عكس ذلك تماما، لم يكن شكيب أستاذ الرياضيات، سوى فاعل خير، منح صدقة لفتاة، متسخة الثياب، تبيع علب مناديل، كانت ترتعد من برد الشتاء القارس. كم عانى شكيب مع زوجته من هاته الوشاية الكاذبة، وكم بدت لها الحكاية سخيفة عندما علمت الحقيقة، وكم بدت الإشاعة رهيبة وهي تخرج من فم الثعبان عبو كسم ينتشر في الشرايين. ولم تمض بضعة أيام حتى التصقت حكاية جديدة بمليكة، المرأة الطيبة الساكنة بالطابق الثاني، قال عنها عبو بنبرة من يتحدث عن مأساة: ـ تدخل الى شقتها نسوة كثر، إنها تقرأ الكف وتتنبأ بالبخت، وتستجلي القدر، وتحرق بخور 'الجاوي' و'صلبان'، وتطرطرق 'اللدون' الحامي تحت سيقانهن، فتفوح الروائح في كل زاوية من العمارة، فيا حسرة على زمن الدجالين والآفاقين! لكن مليكة لم تفعل سوى دعوة صديقاتها للسمر والحديث، والضحك الرنان على النكات المرحة، والملح المسلية، رفقة الشاي اللاهب المرقد فيه حبات التين الجاف، وأطباق حلويات 'كعب الغزال' الدسم، و'الفقاص' المعجون باللوز المجروش. لم يسلم أطفال العمارة بدورهم من ساطور لسانه، لقد أسر لرشدي، مدير مقاولة كراء السيارات، أنه رأى ياسر، والحقيبة فوق ظهره، ابن حسن الموظف الساكن بالطابق الأول، وأنه تجاوز سور أحد المنازل، وقطف البرتقال خلسة. في ذلك اليوم، كان ياسر يتألم من ذراعه المكسورة، ويعجز عن حمل حقيبته المدرسية، فكيف تسلق السور؟ فعمي عبو رأى طفلا يتجاوز السور، موليا له ظهره، فاعتقد خطأ أنه ياسر. كان صغار الحي يقتربون منه، ويصرخون في وجهه: ـ عمي بعو الكذاب. ثم يفروا كالكتاكيت، فيحمل عصا مكنسته، ويركض خلفهم، ويقول لهم: ـ وعبو، يا ولاد لحرام، ماشي بعو، الله يجعلو ياكلكم، ويهنينا من صداعكم، لعنة الله عليكم، يا'زريعة القنب'، هادوك اللي ولدوكم غير حالين فخاذهم، كيلوحكم فالشوارع ويطلقوكم، بحال فكارن البحر. هاد الشي فاش حادكين. كتخافوا ما كتحشموا. لم تبقى سلوى، الطالبة الخجولة بمنأى عن أنيابه السامة، فسرد على الزوهرة بلهجة الحكاية المثيرة: ـ رأيت سلوى مع رجل مفتول العضلات، يغطي شنبه الكث نصف وجهه! وكانت الحقيقة أبسط مما توهم: مجرد سائق طاكسي يوصلها إلى كليتها كل صباح. ولم يسلم الحيوان أيضا من فم عبو الضفدعي الكريه. جلس ذات ليلة، مع الطيب، أب الزهرة، وقال بصوت جهوري: ـ في قريتنا، عضني كلب مسعور، دعكت العضة بالليمون ورشة كمون، أقسم لك أنني عويت طيلة خمسة أيام، في تمام الثالثة صباحا، وبعدها بدأت أفهم لغة الكلاب، وكلهم خضعوا لي. ذات مرة، إبان وقت الظهيرة، غرق عبو في قيلولته المعتادة، طلع شيخ ذو لحية، وقور المحيا، الأدراج إلى أحد الشقق، وعندما جلس عبو في جانب باب العمارة، نزل الرجل بمهل شديد ، لأن عظامه واهنة، عندما خرج من الباب، تبعته منال فتقدم منها وهمس لها: ـ لم أرصد دخول هذا الشيخ، ربما طلع إلى مليكة، فوجنتاه أحمران، ربما قد شعشعته الخمرة لديها و… لم يكمل الحديث، حتى أمسكت منال بياقة جلبابه المتسخ، وقالت له وهي تصرخ: ـ كفى من الخوض في أعراض الناس، يا مريض، ذاك الرجل الوقور والدي أحمد، كفى… كفى… وبعد أن ضيق عليه السكان الخناق بأكاذيبه، لم يلبث إلا أن لاذ بالصمت، وسرعان ما بدأ يراوغ ويتملص من الإجابة عن أسئلتهم، ممتقع الوجه، وقد تصبب عرقا. كأنه عوقب على بهتانه. دافع عن ترهاته بحرارة وانفعال. أثبتوا له كذب ما قاله، وأن كل رواياته مختلقة من أساسه. أمام إصرار جميع سكان العمارة، قال لهم في تحد أخير: ـ ما فيكم خير، كلكم تنعتون شهر أبريل بالكذب، بينما كلكم كاذبون أكثر من أبريل، حسبي الله ونعم الوكيل! رحل عمي عبو وحيدا كما جاء، بعدما طلق زوجته الحسنية، التي لم تطق العيش معه وتحمل المزيد معه، لم يودع عبو أحدا لأنه غادر في جنح الظلام. وترك خلفه هواء معبقا بالأسى، وأحاديث لا تنتهي. مرت الأيام، تغيرت وجوه الناس، وتبدلت أبواب الشقق، سار ياسر شابا يافعا،. وذات يوم، بينما كان يقطع شارعا خلفيا، لمح عمي عبو جالسا بكرسي حديدي صدئ بحديقة شارع محمد الخامس، يطعم هريرة شاردة. اقترب ياسر منه، و أمعن النظر فيه، لقد كبر في السن، وتقوس ظهره، وغارت عيناه، فقال له ياسر: ـ ألا زلت تحكي تلك الأكاذيب يا عمي عبو؟ ضحك وقال بنبرة ضعيفة: ـ لقد هجرتني القصص والأقاويل كما هجرني الناس. ثم سكت وواصل الحديث: