
الصِّدق الذي نؤاخَذ عليه
الحالة الأولى: النيات الحسنة
لكل امرئ نية فيما يعمل، بعضها سليم وبعضها سقيم، وقسمُها السقيم يعدّ من الصدق الذي نؤاخَذ عليه وربما نحاسَب، عندما ننطلق من نيّاتنا الطيبة مقطوعة الصلة بما ينعكس عن تلك النيات من ثمار خبيثة المذاق ومن ردود أفعال سلبية على الفرد والمجتمع، ذلك أن النيات الحسنة ليست هي المعيار المعتبر وحده في تعامل الإنسان مع الحياة، قد يكون الإنسان صاحب نية طيبة في تعبُّد ما ولكنه لا يراعي في تعبُّده الالتزام بالصحة وصوابية الفعل الخالي من البدعة وغيرها من الاختلالات الشرعية، كما قد يكون الإنسان صادقا في فعل اجتماعي معين ونيته حسنة في ذلك، ولكنه ينعكس سلبا على المجتمع أو على فئة عريضة منه، كما يمكن أن يكون للمرء رأيٌ أو موقفٌ مبنيٌّ على اجتهاد صادق إلى أبعد الحدود، ولكنه يكون هو أول ضحاياه.
ولحماية هذا النوع من الصدق الذي نؤاخَذ عليه، لا بد من تحري الصحة والصواب، سواء كان الأمر قانونيا أو شرعيا أو قيميا… وإذا لم تكن النية متوافقة ومتناغمة مع الشرعية القانونية أو الفقهية أو القيمية، تبقى أثار الفعل محل مؤاخذة، ولذلك لم يعتبر القانون مثلا حسن النية دليلا وإنما اعتبره مجرد قرينة قد يشفع في بعض الحالات، وكذلك في الرأي الفقهي أو المقرر القيمي.
أما ما يُؤْثر من نصوص الوحي في أهمية النية ومكانتها في منظومة العبادة، مثل حديث 'إنما الأعمال بالنيات'، و'نية المرء خير من عمله' وغير ذلك من النصوص، فمتعلقٌ بالأساس بالقضايا التعبُّدية، وفيما يريد الإقدام عليه من الأعمال، إذ أنّ حسن النية يضفي على الفعل من محاسن الإخلاص ما لا يسمح به مجرد الفعل الصحيح، الذي قد يكون مشوبا بذاتية أو مصلحية قاصرة…
وهذا الجانب في ميزان الله يؤجَر عليه صاحبه لأنه نوى الخير. أما مقاييس الدنيا وقوانين عمارتها فلا تكفي معها النيات الحسنة، ولذلك اعتبرناها من المؤاخَذ عليه إذا ما خالفت قوانين الحياة.
الحالة الثانية: المواقف السياسية لغير المؤهَّلين
نقصد بغير المؤهَّلين، الذين هم في مواقع لا تسمح لهم باتخاذ المواقف والإدلاء بالآراء المناسبة في القضايا السياسية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية؛ لأن هذه الفئة لا تمتلك المعلومات المطلوبة والمحيطة بالمواضيع الآنية وعلاقاتها الممتدة في التاريخ وفي المستقبل… وهؤلاء غير المؤهَّلين في الغالب لا يكونون في السلطة ولا في المعارضة، ومكان المؤهَّلين يكون في الأحزاب السياسية ومن الشخصيات من أعيان المجتمع، والباحثين والخبراء في مكاتب الدراسات والمخابر….
وكل من كان دون هؤلاء لا يشفع له صدقه في الإدلاء بالرأي أو اتخاذ الموقف، ويؤاخَذ بسبب ذلك؛ لأن الآراء والمواقف في مثل هذا المجال تحتاج إلى الكثير من المعطيات التي لا يتمكن منها أغلب الناس، ولذلك نجد الكثير منهم تتلاعب بهم وسائل الإعلام والمؤسسات الاستخباراتية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
المتابع للأحداث لا يمكنه أن يتغافل عما تمر به الأمة من مآسي ومكائد تُنْصب لها في كل مكان، ولا يمكن لعاقل أن يكون بمنأى عما يجري، فلا يمكن لشخص، أيا كان، أن يرى ما تمر به سوريا من محن ويسكت أو يغمض عينيه، كما لا يمكن للمرء أن يشاهد ما تمر به غزة ولا يقول كلمة أو يفعل شيئا، ولا يمكن للمؤمن أن يمر بما يسمع من فتاوى ومواقف شرعية متناقضة ولا يقول شيئا!
لا شك أن الاحتقان في عالمنا الإسلامي وانحرافات سياسييه، يوحي لكل فرد فيه أنه مدرك للحقيقة بسبب قصور القيادات السياسية أو عمالتها لقوى الاستكبار الدولية، ولكن الحقيقة ليست بهذه البساطة، مما يجعل القوى الاستكبارية تستثمر في هذه الفراغات، فتحوّل هذا الشنآن بين الشعوب وحكامهم إلى حروب دامية ومعارك طويلة الرابح فيها خاسر.
لا شك أن هناك إشكالات كبرى فيما يتعلق بقضايا الأمة السياسية، بسب استبداد الأنظمة، مما جعل الشعوب تحشر أنفها في الكثير من القضايا التي هي أكبر منها بطبيعتها، لأن الشعور بواجب الاهتمام بشؤون الأمة يفرض نفسه أحيانا، فيسبّ هذا ويلعن ذلك ويدعو على أولئك… وكل ذلك من الصدق بلا شك، ولكنه من الصدق الذي نؤاخَذ عليه بسبب فقداننا للأهلية التي تسمح لنا بالخوض فيما لا نحسن؛ لأن ذلك لا يكون في صالح المجتمع، إنما توجد أوعية أخرى قد تستثمر في النيات الحسنة بما يقضي عليها وعلى قدراتها.
ثالثا: التدخل في شأن الغير
يدخل في هذا الغير المجتمعات والفئات والأشخاص. ذلك أن كل جهة من هذه الجهات خصوصيات لا يحيط بها إلا من كان من أهلها، فالمجتمعات بينهم من الاختلاف في تفاصيل الحياة الكثير الذي لا يحيط به من كان خارجها، ومن ثم لا يُسمح لأي شخص أن يتدخل في شؤون مجتمع آخر بمجرد الحرص على شأن ذلك المجتمع؛ لأن تدخل الغير قد يكون سببا في تعقيد المشكلات وفي تسميم العلاقات بين مؤسسات هذا المجتمع وشعبها.
ومن أبرز الملفات المفتوحة على طول التاريخ وعرضه فكرة التدخل في الشؤون الداخلية للدول. أما التدخل في الأحزاب والجمعيات وفي حالات الناس الشخصية، فهي أوضح من أن توضَّح؛ لأن التنظيمات لها برامجها وتفاصيلها ولها أهدافها وليس من المقبول أن يُسمح لغير رجالها بالتدخُّل في قضاياها الخاصة بها والمسؤولة عنها بصفة خاصة، وكذلك تدخُّل الناس في حياة غيرهم بحجة الحرص على فعل الخير والنصح…
هذه ثلاث نقاط أراها من الصدق الذي نؤاخَذ عليه، ليس لكونها سيئة في ذاتها أو خبيثة القصد، وإنما لأنها من الخير الذي في غير موضعه، إذ أنّ لكل حالة من حالات الإنسان خصوصيات وضوابط وشروط وموانع، ومراعاة هذه الضرورات تقتضي أن تكون مثل هذه الأمور في أوعيتها الصحيحة، وإذا خرجت عنها، فإنها تُذمّ بسبب ذلك.
ولذلك وجب التنبيه إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالنيات الطيبة، وعلى أهمية انشغال كل فئة بما تحسن وما هي مؤهَّلة له، وأخيرا عدم التدخل في شؤون الغير، إلا بالمقادير المنضبطة.
ذلك هو الأنفع والأصلح في الجمع بين النيات الحسنة وإصابة الهدف المطلوب، والمساهمة في خير الناس والنفع العامّ.
لا شك أن المتابع للأحداث والقضايا التي نشاهد، لا يمكنه أن يتغافل عما تمر به الأمة من مآسي وخروق كبيرة، ومكائد تُنْصب لها في كل مكان، ولا يمكن لعاقل أن يكون بمنأى عما يجري، فلا يمكن لشخص، أيا كان، أن يرى ما تمر به سوريا من محن ويسكت أو يغمض عينيه، كما لا يمكن للمرء أن يشاهد ما تمر به غزة ولا يقول كلمة أو يفعل شيئا، ولا يمكن للمؤمن أن يمر بما يسمع من فتاوى ومواقف شرعية متناقضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ولا يقول شيئا!
كل ذلك صحيح، ولكن هل هذا الشخص مؤهّل لأن يقول أو يفعل في جميع هذه الحالات؟
لا شك أن الكثير منا لا يسمح له مستواه المعرفي أو الاجتماعي أو السياسي بذلك، ولذلك وجب على الجميع أن لا يخوض في مثل هذه الأمور إلا بالقدر الذي يحقِّق الإضافة، وعدم الالتزام بهذا القدر من الإضافة والحرص على تحقيقها، هو الذي أوقعنا في الكثير من المزالق الدينية والدنيوية؛ لأن أهليتنا لم تسمح لنا إلا بالكلام، فمنّا من يرى أن سوريا بيعت بثمن بخس، ومنا من يراها في منتهى العقل والدقة المطلوبة في هذه الأجواء الملغمة، ومنا من يرى أن المقاومة ورّطت المجتمع الفلسطيني في معارك خاسرة أعادته خمسين سنة إلى الخلف، ومنا من يراها قدّمت للأمة الكثير من المجد المفقود من شجاعة وبطولات اختفى بريقها منذ قرون، وقل مثل ذلك في الكثير من القضايا التي تتنازع فيها الأمة، التي لا ضابط لها إلا الالتزام والانضباط بما على عواتقنا من واجبات نحن مفرّطون فيها ومنشغلون بأمور نحن عاجزون عن فهمها والإحاطة بتفاصيلها، فنقع في الأخطاء والخطايا ونظن أننا نُحسن صنعا. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول 'من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرا أو ليصمت'.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الاتحاد
منذ 21 دقائق
- الاتحاد
خالد بن محمد بن زايد: «يوم عهد الاتحاد» محطة لتجديد العهد والولاء لمسيرة الوطن
أكد سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، أن يوم عهد الاتحاد يمثل محطة وطنية راسخة في وجدان أبناء الإمارات، نجدد فيها العهد والولاء والانتماء، لوطن تأسس على قيم الوحدة والتكاتف والإرادة الصلبة. وقال سموه في كلمة له بهذه المناسبة: «في (يوم عهد الاتحاد)، نستحضر بكل تقدير ووفاء، الجهود العظيمة التي بذلها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه الحكام، والذين غرسوا في أرض الإمارات بذور الوحدة، وأرسوا دعائم دولة تنبض بالعزة والعطاء». وتابع سموه: «في هذا اليوم، نعبر عن فخرنا واعتزازنا بما حققته دولتنا من إنجازات نوعية وريادة عالمية في مختلف المجالات، بفضل رؤية قيادتنا الرشيدة التي جعلت من الإنسان محور التنمية، ومن الاتحاد مساراً ثابتاً نحو المستقبل. وفي يوم عهد الاتحاد نجدد العهد على السير على نهج الآباء، والتمسك بقيم الوحدة والوفاء للوطن، ونؤكد فيها أن مسؤوليتنا اليوم هي أن نصون هذا الإرث، وأن نواصل البناء على أسسه الراسخة، بعزيمة لا تضعف، وإيمان راسخ بأن مستقبل الإمارات سيظل ثابتاً على النهج، مشرقاً بالإنجازات».

عمون
منذ 21 دقائق
- عمون
يُمن عبدالرحيم الحياري .. مبارك التخرج
بسم الله الرحمن الرحيم ، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) عمون - يتقدم ابــــــــناء عشـــــــيرة الحـــيارات الكـــــــرام بالتهنئة والتبريك الى ابن العم عبدالرحيم أحمد صالح الحياري بمناسبة تخرج ابنته يمن الله وحصولها على درجة البكالوريوس علوم مالية ومصرفية جامعة البلقاء التطبيقية . اللهم كما أنعمت فتمم . متمنين لها دوام التقدم والنجاح في ظل القيادة الهاشمية.


نافذة على العالم
منذ 23 دقائق
- نافذة على العالم
أخبار العالم : خالد بن محمد بن زايد: «يوم عهد الاتحاد» محطة لتجديد العهد والولاء للوطن
الجمعة 18 يوليو 2025 02:20 مساءً نافذة على العالم - أكد سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، أن يوم عهد الاتحاد يمثل محطة وطنية راسخة في وجدان أبناء الإمارات، نجدد فيها العهد والولاء والانتماء، لوطن تأسس على قيم الوحدة والتكاتف والإرادة الصلبة. وقال سموه في كلمة له بهذه المناسبة: «في يوم عهد الاتحاد، نستحضر بكل تقدير ووفاء الجهود العظيمة التي بذلها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه الحكام، والذين غرسوا في أرض الإمارات بذور الوحدة، وأرسوا دعائم دولة تنبض بالعزة والعطاء». وتابع سموه: «في هذا اليوم، نعبر عن فخرنا واعتزازنا بما حققته دولتنا من إنجازات نوعية وريادة عالمية في مختلف المجالات، بفضل رؤية قيادتنا الرشيدة التي جعلت من الإنسان محور التنمية، ومن الاتحاد مساراً ثابتاً نحو المستقبل. وفي يوم عهد الاتحاد نجدد العهد على السير على نهج الآباء، والتمسك بقيم الوحدة والوفاء للوطن؛ ونؤكد فيها أن مسؤوليتنا اليوم هي أن نصون هذا الإرث، وأن نواصل البناء على أسسه الراسخة، بعزيمة لا تضعف، وإيمان راسخ بأن مستقبل الإمارات سيظل ثابتاً على النهج، مشرقاً بالإنجازات».