
في رحاب آيات الحج والبيت الحرام (1): {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}
وسمّيت الكعبة بذلك لتكعيبها، أي تربيعها ولارتفاعها ونتوئها، وارتفاع ذكرها في الدنيا واشتهار أمرها في العالم، ولذلك يقولون لمن عظم أمره: فلان علا كعبه (بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص 30).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عدة أسماء للكعبة، ومن هذه الأسماء: البيت العتيق، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ]الحج:29[، وسبب تسميته بالبيت العتيق قيل في عدة أسباب منها:
لأنَّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة.
أنَّ العتيق بمعنى القديم.
أنّه لم يملك قط.
لأنّه أعتق من الغرق زمن الطوفان (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، ص 243).
وسمّيت مكة ببكة، حيث قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ..}، وسبب التسمية، ذكر العلماء أقوالاً منها:
لازدحام الناس عندها، والمعنى هو الزحم، إذ يُقال: بك فلان فلاناً إذا زحمه وصدمه، فهو يبكه بكا، وسميت البقعة بفعل المزدحمين بها (زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، 1/344).
لأنّها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله (تفسير ابن كثير، 2/57).
لأنّها تقع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل أي وضعت منه، ووردت نخوته بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها (زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، 1/343).
ومن أسمائها المسجد الحرام قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ]البقرة:144[ (بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص31).
ومن أسمائها أم القرى؛ لشرفها وعلو كعبها على باقي القرى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ]الشورى:7[، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ]الأنعام:92[، وسمّيت بأم القرى؛ لتقدمها على سائر القرى، وسميت بذلك لأنَّ الأرض منها دحيت وعنها حدثت فصارت أماً لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه، وسمّيت كذلك بالبلد الأمين: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (ملة أبيكم إبراهيم، المرسومي، ص 186).
{مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}
: أيّ: مرجعاً ومعاداً، كلما انصرفوا منه اشتاقوا إليه، فعادوا وثابوا إليه في الحج والعمرة والعبادة فلا ينقضي منه الوطر ولا تشبع منه النفوس، ويثوبون إليه أيضاً في الصلاة بقلوبهم ويتوجهون إليه بأجسادهم ويتذكرونه في كل يوم وليلة (تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص 217).
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}: 'تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة، بيت مأخوذ من البيتوتة، وهو المأوى الذي تأوي إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك، ولذلك سّميت الكعبة بيتاً؛ لأنّها في المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله، ومثابة يعني مرجعاً تذهب إليه وتعود، ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يجب أن يرجع مرات ومرات، إذن فهو مثابة؛ لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربّه، وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته (تفسير الشعراوي، 1/575).
تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن، ولا تتذكر أولادك ولا شؤون دنياك، ولو ظلت جاذبية بيت الله تعالى في قلوب الناس مستمرة؛ لتركوا كل شؤون دنياهم ليبقوا بجوار البيت، ولذلك كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حريصاً على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة. ومن رحمة الله سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه؛ لأنَّ الحجيج في بيت ربهم وكلما كربهم شيء أو همهم شيء، توجهوا إلى ربّهم وهم في بيته، فيذهب عنهم الهمّ والكرب، ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ]إبراهيم:37[، أفئدة وليست أجساماً، وتهوي: أي يلقون أنفسهم إلى البيت، إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله؛ ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة (تفسير الشعراوي، 1/576).
و{أَمْنًا} أي: جعلناه آمناً يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم، ويأمن فيه حتى الصيد والأشجار أن تقطع، وهو محل آمن لمن يسكنه، وكان الرجل في الجاهلية يرى قاتل أبيه وأخيه في الحرم، فلا يتعرض له، وكانوا لا يُغيرون على مكة مع شركهم، ولأجل توفير الأمن فيه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمل السلاح في مكة المكرمة فقال: لا يُحمل فيها سلاح لقتال (صحيح مسلم، رقم: 1374) (تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص217).
المراجع:
قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين، دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع، الأسكندرية، 2004م.
بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص30.
مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، تحقيق: مصطفى محمد حسين الذهبي، دار الحديث، القاهرة ط1، 1415 هـ، 1995م، ص243.
زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط4، 1407ه، 1987م، (1/344).
تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (2/57).
ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، دار المعراج للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2021م.
تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، دار العبيكان، الرياض، ط1، 2016م.
تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 7 ساعات
- الشروق
التدافع بين الناس سنة ربانية وسبيل للتمكين في الأرض
إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو – مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة – فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة… فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً» (1). «وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً لميزان الحياة» (2). لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية في القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه (3): الآية الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [البقرة: 251]. الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40]. والملاحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله تعالى الآية بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [البقرة: 251]، (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم) (4). وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم – سبحانه – بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40]. إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله تعالى في دفع الناس بعضهم ببعض: «لتدرك أن سنة الله تعالى في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله تعالى بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» (5). إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضى به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به.. إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية، الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة.. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية (6): (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) [فاطر: 43]. وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية, وما على الأمة إلا أن تعى هذه السنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين (7). ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام.. وقد أجاد سيد قطب – رحمه الله – في بيان هذه الحقائق فقال: (والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة – على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك: 1- أن الحماسة الجماعية، قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة. 2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الثائر في نفوس الجماعات، ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول. أ- فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلاء قد تولَّوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيهم، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت. ب- ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول، وشربوا من النهر، ولم يجاوز معه إلا عدد قليل. ج- وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاونت العزائم، وزلزلت القلوب. د- وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة، واعتصمت بالله، ووثقت بوعده، وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين. لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلاث مرات، وخلاصة الخلاصة، هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده، وأنزل عليهم نصره. 3- في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت – تبرز فيها: أ- خبرته بالنفوس. ب- عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة. ج- عدم اكتفائه بالتجربة الأولى. د- محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة. هـ – فصله للذين ضعفوا، وتركهم وراءه. و- ثم – وهذا هو الأهم – عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة. 4- والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله، تتغير موازينه وتصوراته، لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: ( لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ثم اتجهت لربها تدعوه: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه. وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!. ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية – كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن، وبقدر حاجته الظاهرة فيه. ويبقى لها رصيدها المذخور، تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم (8). إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق، وسنجد خبرات لا تعد ولا تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والأخروية، وتمد العاملين من أجل الإسلام بالصبر والثبات. إن دعاء القلة المؤمنة ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ليس خاصًا بها، بل يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة، تقف أمام أعدائها، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاثة: الصبر وتثبيت الأقدام والنصر، فكل فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيبًا مرحليًا، فعند مواجهة الأعداء يحتاج المجاهد أولاً إلى الصبر- بمفهومه الشامل وميادينه المتعددة – فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه، ولن تثبت الأقدام إلا عند الصابرين وإذا ثبتت الأقدام واستبسل المجاهد في القتال نصره الله على الأعداء، ونلاحظ في الدعاء الالتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية، وتقديمها على الحالة الخارجية المادية، ولذلك قدم الصبر على المعركة، وعلى تثبيت الأقدام فيها، كما نلاحظ تناسقًا وتنسيقًا بين موقفي اغترافهم من النهر اغترافًا، بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم إفراغًا، وصبّه عليهم صبًا، ولعل في هذا إشارة أخرى: فمن استعلى على الدنيا وحاجاتها، لم تتعبده ملذاتها، من حرم نفسه من بعض متاعها ومباحاتها، ابتغاء وجه الله، عوّضه الله عن ذلك، وأمده الله بمدد من عنده، فها هي القلة المؤمنة امتنعت من الشرب من النهر، واستعلت بذلك على متاع الدنيا ومباحاتها، فعوّضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفراغًا، ونلاحظ: أن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدأ أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسئولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان هو الذي يكشف عن المواهب، فالقائدان طالوت وداود ظهرا من وسط الناس، وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين (9). ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت، أن داود كان فتى صغيرًا من بنى إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا… ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجرى بظواهرها، إنما تجرى بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا بواجباتهم، ويفوا الله بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم. إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, وإن النظرة المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب العالمين تجارب بشرية ضخمة, وتمدهم بتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، وتورّث أجيال الأمة ميراث الأنبياء والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان، والحياة، والكون، وحقيقة الإنسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة. المصادر والمراجع: ([1]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/742). (2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية لمحمد السيد محمد، ص 218. (3) المصدر نفسه، ص 219. (4) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (3/514). (5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1091) (6) انظر: لقاء المؤمنين لعدنان النحوي (2/117). (7) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، محمد السيد محمد، ص 225. (8) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/260- 263). (9) انظر: مع قصص السابقين في القرآن، صلاح الخالدي، (1/332). (10) فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، ط1، مكتبة التابعين، القاهرة، 2001، ص 85-90.


النهار
منذ 2 أيام
- النهار
أعيش في ريب من أمري بين واقعنا الهادئ.. وآراء زوجي على المواقع
قد تتأجج المشاعر بداخلنا يعتصر لها القلب ويحترق من شدة وجعها لكن تخوننا الحروف في التعبير عنها بما يليق بها. خاصة إن كان الأمر يتعلق بشمل أسرة، فتضحي بعمرك من اجل تفادي شتاتها. سيدتي أنا امرأة في الأربعينات من عمري، متزوجة ولي أولاد، حياتي إلى جانب زوجي عشتها راضية بالقليل الذي ينفقه علينا. عشت صابرة متحملة معه الحلوة والمرة، لا أنكر أنه لم يقصر في حقنا يوما. لا من مأكل ولا مشرب ولا ملبس فذاك هو نصيبنا في الحياة من الرزق والحمد لله. ناهيك عن أنه دوما يشعرني وأولادي بحبه واهتمامه، وكل شيء. كان عل ما يرام إلى أن جاء اليوم الذي تلقيت في صدمة حياتي. يوم دخلت لحساب زوجي عل الفايسبوك وقرأت منشوراته، حينها اختلطت عليّ الحسابات وجعلتني في ريب من أمري. حيث يصف الزواج في منشوراته بأنه تعب ونكد، وأحيانا أخرى يقول أن النساء لا تتهمن سوى بالماديات. وأن الزواج مسؤولية أعباء أكثر منه حب. علما أنني لست من نوع النساء اللواتي يكثرن بالطلبات لأنني أراعي مدخوله الشهري. لكن لماذا يضعني في هذا الموقف المحرج أمام أصدقائه ويجعلهم يظنون أن زوجته سيئة. وأنني أنغص عليه الحياة، وأنا التي اختره هو لدينه وأخلاقه دون غيره. أحاسيسي مبعثرة سيدتي، منذ أن دخلت حسابه وأنا تائهة وسط كومة من الأسئلة التي لا أجد ردا عليها. فأنا بت أحس أنه لا يحبني وأنه كان يمثل عليّ فقد دور المحب. وقد لاحظ عليّ الأمر إلا أنني لم أواجهه بما قرأت. لأنه منع عليّ أن أكون صديقة معه على الفايسبوك أو أن أظهر أمام متابعيه. سيدي أنا أعيش صراع كبيرا لأنني لا أريد الشتات لأسرتي، لكن تصرفاتي متغيرة.. أريد حلا ساعدوني. هالة من الوسط الرد مرحبا بك سيدتي معنا، وشكرا على الثقة ونأمل أن نكون عند حسن ظنك بنا، صدقيني إن قلت لك أنني قرأت رسالتك أكثر من مرة. وفي كل مرة يتأكد لي أنك أنت من فتحتي على نفسك بابا ألقيت من خلاله بنفسك في غيابة الشك وتبعثر الأحاسيس. لطالما عشت حياة زوجية مستقرة، راضية بما رزقك الله، تراعين ظروف زوجك. تشعرين بحبه واهتمامه. أما اليوم بعد أن اكتشفت منشوراته أنظري ماذا فعلت بنفسك. سأسألك سؤال: أي المواقف التي تملأ العين، تلك التي تقرئينها في المواقع..؟ أم ما تلمسينه في الواقع..؟ سأترك لك الجواب. ولو أنني أتفهمك جيدا، وأتفهم ما تشعرين به من نكران من طرفه على المواقع. لأنه الأجدر به أن يحمد الله ويشكره على زوجة صابرة صالحة مثلك. لكن في الأخير يبقى كلام يمكن مسحه بكبسة زر، أما ما يرسخ في القلوب والعقول هي المواقف على أرض الواقع، وأنت أهل لها، فمواقفك كثير، ومواقفه أيضا. لذا أنصحك سيدتي بعدم مواجهته بما قرأته في هذا الحساب الالكتروني، لأنه حتما سينكر. وأنه سيواجهك بالواقع الذي اعترفت فيه بلسانك أنك لا ينقصك فيه شيء. وأنه ينفق عليكم حسب ما يجنيه من مدخول من عمله المتواضع. وبدلا من ترصد زوجك في المواقع، حاولي أن تكوني له عونا في الواقع. حاولي سيدتي بدل الاستكانة أن تتعلمي حرفة تجعلك مستقلة ماديا وطبعا هذا دون الخروج عن طوع زوجك، أتمنى لك التوفيق. وحاولي أن تفكري جيدا فيما قلت لك، وعيشي واقعك الذي تشعرين فيه بدفء أسرتك، وبالتوفيق بحول الله.


الشروق
منذ 2 أيام
- الشروق
في عزّ الحر… متطوعون يسقون الحيوانات في الجبال والشوارع!
أطلق ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب عدد من الأطباء البياطرة، حملة واسعة بمختلف ولايات الوطن تدعو إلى سقي الحيوانات عبر وضع أوعية وأكياس بلاستيكية أو قوارير ماء في الأماكن العامة والمناطق الطبيعية، وتأتي هذه الحملة تزامنا مع فصل الصيف الذي تشهد فيه درجات الحرارة ارتفاعا، يتسبب عادة في نفوق العديد من أنواع الحيوانات البرية. ولا تقتصر المعاناة خلال فصل الصيف على البشر فقط، بل تمتد لتطال الطيور والقطط والحيوانات البرية، التي تموت عطشا في صمت بعيدا عن الأنظار، حيث تتحول بعض المناطق الجبلية والغابية إلى أراض عطشى وجفاف الوديان والمسطحات المائية، وكذا انتشار الحرائق لتصبح الحيوانات مهددة بالموت خاصة بعض الأنواع منها والتي تكون على وشك الانقراض، وهو ما دفع بالمتطوعين في مجال البيئة و الأعمال الخيرية إلى تبني مبادرات إنسانية تسابق مواطنون من مختلف الأعمار والفئات لتجسيدها تحت شعار 'سقي الحيوانات البرية وقطط الشوارع'. إحدى هذه المبادرات شهدتها بلدية أولاد خلوف بولاية ميلة، حيث قام متطوعون بالتعاون مع أعوان إقليم الغابات وعدد من الشباب، ببناء أحواض مائية صغيرة لتوفير الماء للطيور والسلاحف والثعالب البرية و غيرها، وقد لاقت الخطوة ترحيبا كبيرا من سكان المنطقة، الذين تجاوبوا معها والسعي لتجسيدها طيلة فصل الصيف، وسرعان ما انتقلت الفكرة إلى ولايات أخرى، لا سيما بمنطقة تافرنت وجبل الوحش في قسنطينة، حيث تكررت التجربة في مناطق غابية تعاني بدورها من نقص حاد في المياه، كما طرح نشطاء مقترحات لتوسيعها بجبال الحلفاء بقسنطينة، ومنطقة العياضي بتبني المبادرة بالتعاون مع أعوان الغابات.. وفي ولايات العاصمة والبليدة وبسكرة ومعظم ولايات الوطن، شارك المواطنون الحملة بشكل عفوي، حيث تم وضع قوارير ماء وأوعية بسيطة في الشوارع، الحدائق، وأمام المحلات، لسقي قطط الشوارع والحيوانات الضالة، في صورة جميلة تعكس الوعي الشعبي المتنامي تجاه البيئة والكائنات الحية، كما أن أكثر المشاهد التي أثرت في الجزائريين، انتشار فيديو مؤثر لطفل بولاية المسيلة، يظهر فيه وهو يخرج من بيته بدلو ماء ليسقي به القطط الشارع في مشهد بريء، وهو المقطع الذي تفاعل معه الجزائريون وتداولته صفحات عربية على نطاق واسع. وبالمقابل، شملت الحملة أيضا جهودا كبيرة من طرف الأطباء البيطريين والجمعيات المهتمة بحماية الحيوانات الأليفة، حيث أطلق هؤلاء نداءات مفتوحة عبر صفحاتهم الرسمية، دعوا فيها إلى توفير الماء للحيوانات، محذرين من حالات نفوق جماعية بدأت تسجل في المناطق المعزولة بسبب انعدام المياه، كما طالبوا بدعم بلدي وجمعوي لتعميم الحملة وطنيا. واللافت أن هذه المبادرات ارتبطت كذلك بقيمة دينية نبيلة، حيث استند المشاركون إلى حديث النبي- صلى الله عليه وسلم-: 'في كل كبد رطبة صدقة'، حيث يتسابق الجزائريون من خلالها لكسب الأجر فضلا عن أهميتها في حماية الثروة الحيوانية، ليتحول العمل من مجرد مجهود بيئي تطوعي إلى صدقة جارية تعكس أسمى معاني الرحمة والإنسانية بالمجتمع الجزائري.