
النقد.. أداة لبناء الفرد والمجتمع والدولة وصولاً الى الحكم الرشيد
على الرغم من أهمية النقد، فإن المجتمعات العربية والإسلامية، عموماً، لديها حساسية تجاه النقد، بكافة درجاته وأشكاله، مما يعكس تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة. هذا الرفض يظهر في أشكال متعددة، مثل اعتبار النقد إهانة شخصية، أو محاولة لزعزعة الاستقرار، أو حتى تهديد للهوية الجماعية. لذا، فإن هذا الواقع المَرَضي...
النقد دليل على وجود حرية، والحرية أساس أي تقييم وتغيير وإصلاح، وصولاً إلى ضمان حياة كريمة للإنسان، شريطة أن يُمارَس النقد بمسؤولية ودوافع بنّاءة تصب في خدمة المصلحة العامة.
"المحاسبة" الواردة في التراث الإسلامي و"النقد" المعروف اليوم وسيلتان تهدفان إلى الإصلاح، سواء على المستوى الفردي (محاسبة النفس) أو الجماعي (نقد الحكومة/المجتمع). وكلاهما يتطلب نوعاً من التقييم والتفكير الناقد، سواء كان ذاتياً أو موجهاً للآخرين. بالتالي، فإن "محاسبة النفس" عملية داخلية تهدف إلى إصلاح النفس، بينما "النقد" الحديث هو عملية خارجية تهدف إلى تحسين حال المجتمع أو أداء الحكومة من خلال التحليل العقلي والمساءلة العامة. عليه، فإن "المحاسبة" و"النقد"، كلاهما يسعى للإصلاح، لكن بأساليب وأهداف مختلفة، وقد يتداخلان في بعض الحالات، حيث يمكن أن تستلهم قيم "محاسبة النفس" نقداً بناءً يهدف إلى تحسين المجتمع.
وهكذا، فإن النقد هو عملية تقييمية تحليلية تهدف إلى فحص الأفكار والسلوكيات والسياسات والممارسات، بغرض تحديد نقاط القوة والضعف، واقتراح سبل التحسين. يتجاوز النقد مجرد الانتقاد السلبي، إذ يشمل تقديم رؤى بناءة تعزز التطوير والإصلاح. أيضاً، يُعتبَر النقد أداة أساسية لبناء الفرد والمجتمع والدولة، لأنه يحفز التفكير الواعي، ويكرس الشعور بالمسؤولية، ويكشف التشوهات، ويدفع الى تصحيح الانحرافات.
النقد البناء يساعد الفرد على اكتشاف ذاته، وتحسين مهاراته، وتطوير قدراته. ومن خلال قبول النقد، يتعلم الفرد كيفية مواجهة أخطائه، مما يعزز النمو الشخصي والثقة بالنفس. قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: "حاسِبْ نفسَك قبل أن تُحاسَب، فإنه أهونُ لحسابِك غداً، وزِنْ نفسَك قبل أن تُوزَن، وتجهَّزْ للعَرض الأكبر، يومَ تُعرَض لا يَخفى على الله خافية" (أمالي الطوسي: 534/ح 1162). ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثمرة المحاسبة صلاحُ النفس" (غرر الحكم: 4656)
أما على مستوى المجتمع، فإن النقد يعزز الحوار المجتمعي، ويفتح المجال لتبادل الأفكار، ويحد من انتشار الأفكار الجامدة أو المتطرفة. عليه، فإن المجتمع الذي يتقبل النقد هو مجتمع يتطور، لأنه يشجع على الابتكار والإبداع، ويحترم التعددية. يقول الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإنْ عمل خيراً استزاد اللهَ منه، وحمدَ اللهَ عليه، وإنْ عمل شراً، استغفر اللهَ منه وتاب إليه" (الاختصاص. الشيخ المفيد - ص 26). وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ومن لم يكن فيه شئ منها فلا تنسبه إلى شئ من الصداقة فأولها أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثاني أن يرى زينك زينه وشينك شينه" (الكافي. الشيخ الكليني - ج 2 - الصفحة 639).
وفي إطار الدولة، فإن النقد يُعَد ركيزة أساسية للحكم الرشيد، الذي يقوم على الشفافية، والمساءلة، والمشاركة. ومن خلال النقد، يتم تقويم مسار السياسات العامة، وكشف الفساد، وتعزيز العدالة. وبلا شك في أن الدول التي تتيح مساحة للنقد تكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة.
يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): "من الضروري أن تضع الدولة سياستها دائماً في موضع التساؤل لكشف الخطأ المحتمل وقوعه في الحاضر أو المستقبل، وأيضاً لمراعاة تبدل الظروف والأحوال والقدرات الداخلية الخارجية. فإذا سارت الدولة على سياستها التي بنتها، دون ملاحظة مستدامة ومراقبة كافية، تكون الدولة مهب الخيبة والضياع، وتكون الأمة في دائرة الانحدار والتدهور والإنهيار، والشعب يُعد من أهم أدوات مراقبة سياسة الدولة ومؤسساتها."
لكن، على الرغم من أهمية النقد، فإن المجتمعات العربية والإسلامية، عموماً، لديها حساسية تجاه النقد، بكافة درجاته وأشكاله، مما يعكس تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة. هذا الرفض يظهر في أشكال متعددة، مثل اعتبار النقد إهانة شخصية، أو محاولة لزعزعة الاستقرار، أو حتى تهديد للهوية الجماعية. لذا، فإن هذا الواقع "المَرَضي" ساهم في تراكم الأزمات وتفاقمها، في جلّ الدول العربية والإسلامية.
فمما لا يخفى؛ أن غياب النقد البنّاء أدى إلى استمرار سياسات فاشلة، سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. على سبيل المثال، ضعف المساءلة في العديد من الدول العربية والإسلامية أدى إلى تفشي الفساد وتدهور الخدمات العامة. كما أن رفض النقد عزز التفكير الأحادي وحدَّد من قبول التنوع، مما أدى إلى تعميق الانقسامات الطائفية والسياسية. في الوقت، أن المجتمعات التي ترفض النقد غالباً ما تتخلف عن ركب التقدم، لأنها لا تتعلم من أخطائها ولا تستفيد من تجارب الآخرين.
ابتعاد المجتمعات العربية والإسلامية عن النقد لم يأت من فراغ، فإنه في ثقافة الدول العربية والإسلامية، يُنظَر إلى النقد على أنه هجوم شخصي وليس تقييماً موضوعياً. وهذا المنحى يرتبط بقيم مثل "حفظ ماء الوجه" أو تجنب "الفضيحة"، مما يجعل الأفراد والمؤسسات يتجنبون النقد أو يرفضونه. يقول تعالى مندّدًا بمثل هذه الحالة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)(النساء/ 49). إنهم يزكون أنفسهم، أيْ يزعمون أمانتهم ونزاهتهم، لكن ذلك لا يحصل بالادّعاء والزعم والتبجح، بل بالتزام بقيم الدين كالورع والأمانة والفضيلة.
أيضاً، فإن الأنظمة الاستبدادية تحد من حرية التعبير، وتُجرّم النقد، مما يخلق ثقافة خوف من المساءلة، وهذا يجعل النقد كوسيلة تهديد للسلطة بدلاً من أداة للإصلاح.
بالإضافة الى ذلك، فإن التعليم التقليدي المجتمعات يركز على التلقين بدلاً من التفكير النقدي، مما يحد من قدرة الأفراد على تقبل النقد أو ممارسته بشكل بناء. كما أنه في بعض الحالات، يُساء فهم النصوص الدينية أو تُستخدم لتبرير رفض النقد، خاصة عندما يُعتبر النقد "تطاولاً" على المقدسات أو التقاليد.
النقد ليس مجرد أداة للتقييم، بل هو مدخل أساسي لتحقيق حياة كريمة، فإنه من خلال النقد، يمكن تحديد أوجه القصور في التعليم، والصحة، والاقتصاد، والحريات، ووضع حلول عملية. على سبيل المثال: فإنه في التعليم؛ يساعد النقد على تطوير مناهج تعزز التفكير النقدي والإبداع، وفي الاقتصاد؛ يكشف النقد عن سوء الإدارة ويقترح سياسات تعزز العدالة الاقتصادية، والأمر كذلك في الحكم، فإن النقد يعزز الشفافية، ويحد من الفساد، مما يؤدي إلى تأسيس الحكم الرشيد وترسيخ قيم الأمانة والنزاهة والشفافية.
لكن، استمرار رفض النقد في المجتمعات العربية والإسلامية يثير القلق لأنه:
يعني استمرار الجمود،
ويعني تفاقم الأزمات،
ويعني بقاء الشعوب محرومة وتعيسة،
ويعني أيضاً تأخّر الإصلاح والتقدم.
وهذا الوضع بائس ويثير التساؤل والاستهجان، لأنه يعكس إصراراً على تجاهل الحلول المتاحة، بينما تتفاقم المشكلات وتتراكم الأزمات. وهنا، السؤال: كيف يمكن لشعوب تتوق إلى حياة كريمة، لكنها في الوقت نفسه ترفض أداة أساسية لتحقيقها، وهو أمر محير ومؤلم.
إن النقد هو مفتاح التغيير والإصلاح والتطور، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. بالتالي، ينبغي للمجتمعات العربية والإسلامية تعزيز ثقافة النقد إصلاحات شاملة تشمل التعليم، والسياسة، والقوانين، والثقافة. أيضاً، يجب تشجيع التفكير النقدي منذ الصغر، وتعزيز حرية التعبير، وتكريس مبدأ المساءلة، فإنه فقط من خلال تقبل النقد وتفعيله، يمكن للشعوب العربية والإسلامية أن تبني مستقبلًا يحقق الحكم الرشيد والحياة الكريمة التي تتطلع إليها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 3 ساعات
- صدى البلد
نصرة الحق والعدل.. علي جمعة يكشف عن أهداف الحرب في الإسلام وشروطها
كشف الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، عبر موقعه الرسمي على فيس بوك عن أهداف الحرب في الإسلام وشروطها والآثار المترتبة عليها. أهداف الحرب في الإسلام وقال إن أهداف الحرب في الإسلام هي: (1) رد العدوان والدفاع عن النفس . (2) تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها . (3) المطالبة بالحقوق السليبة . (4) نصرة الحق والعدل . شروط الحرب في الإسلام وأوضح أن شروط تلك الحرب هي : (1) النبل والوضوح في الوسيلة والهدف . (2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين . (3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين . (4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التي تليق بالإنسان . (5) المحافظة على البيئة ويدخل في ذلك النهي عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار، وإفساد الزروع والثمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت . (6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم . الآثار المترتبة على الحروب فى الإسلام ونوه ان الآثار المترتبة عليها هي : (1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية . (2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس، وهو الشر الذي يؤدي إلى الإفساد في الأرض بعد إصلاحها . (3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم . (4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية . (5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس في أوطناهم . أخلاقيات الحرب في الإسلام كشف الدكتور نظير عيَّاد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، عن أخلاقيات الحرب في الإسلام. وأشار "عياد"، خلال لقائه اليومي ببرنامج "اسأل المفتي" الذي يقدمه الإعلامي حمدي رزق على 'صدى البلد'، إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوصي أصحابه بعدم الاعتداء على غير المحاربين، وعدم قتل الأطفال والنساء والرهبان، وعدم هدم دور العبادة. وتابع مفتي الجمهورية، أن النبي عندما رأى التمثيل بجثمان عمه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- توعد في البداية بالانتقام، لكنه عاد وامتثل لأمر الله في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، فاختار الصبر ورفض الانتقام، ضاربًا بذلك أعظم الأمثلة في العفو عند المقدرة. وختم فضيلة المفتي حديثه عن السيرة النبوية بقوله: "أين نحن اليوم من هذه القيم العظيمة؟! العالم يشهد حروبًا لا تراعي للإنسانية حرمة، بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع لنا دستورًا أخلاقيًّا في الحرب والسلم، يدعو للعدل والرحمة والتسامح".


صدى البلد
منذ 3 ساعات
- صدى البلد
الإفتاء: الإسلام كرَّم ذوي الهمم ورفع عنهم المشقة وحرَّم السخرية منهم
أكدت دار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمي أن الشريعة الإسلامية أولت ذوي الهمم اهتمامًا بالغًا، سواء في جوانب التكليف أو الحقوق، انطلاقًا من مبدأ أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين، وراعى في شرعه الحكيم تلك الفروق، فأحاط كل فئة بما يتناسب مع حالها من عناية ورحمة. وردًا على سؤال تلقته الدار بشأن كيفية تعامل الشرع الشريف مع ذوي الهمم من حيث التكاليف والحقوق، أوضحت أن قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 10 لسنة 2018 عرَّف ذوي الهمم بأنهم الأشخاص الذين يعانون من قصور أو خلل كلي أو جزئي – سواء كان بدنيًا، ذهنيًا، عقليًا أو حسيًا – يمنعهم بشكل دائم من التفاعل الكامل والفعّال مع المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين. وبيّنت دار الإفتاء أن الشريعة الإسلامية خفّفت عن هذه الفئة الكريمة من أبناء المجتمع في جانب التكاليف الشرعية، مراعاةً لظروفهم، كما منحتهم مكانة متميزة في منظومة الحقوق، وحرصت على كفالة كرامتهم الإنسانية، محذرةً من كل مظاهر السخرية أو الاستهزاء التي قد تُوجَّه إليهم. واستدلت الدار بقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ...﴾ [الحجرات: 11]، مؤكدةً أن هذه الآية الكريمة تمثل أصلًا شرعيًا قاطعًا في تحريم السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، لما في ذلك من انتقاص لحقوق الإنسان وكرامته. كما شددت على أن السخرية من ذوي الهمم قد تخرج عن حدود الأدب إلى السبّ والبذاءة، وهما منهي عنهما شرعًا، ويُعدّان من خصال الفسوق، مستشهدةً بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ» (متفق عليه). وأكدت دار الإفتاء على أن احترام ذوي الهمم واجب شرعي، وأن أي انتقاص من شأنهم يخالف تعاليم الإسلام السمحة التي جاءت لترسيخ مكارم الأخلاق، والعدل، والرحمة بين الناس.


صدى البلد
منذ 3 ساعات
- صدى البلد
هل يجوز إمامة المرأة للنساء وأين تقف في الصلاة؟ اعرف الطريقة
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال تقول صاحبته "هل يجوز إمامة المرأة للنساء في الصلاة ، حيث أن أمي تريد صلاة التسابيح ولا تعرف كيفيتها وتريدني أن أقوم بإمامتها في الصلاة؟ وأجاب الشيخ محمد عبد السميع، أمين الفتوى في دار الإفتاء، أنه يجوز للمرأة أن تؤم المرأة في الصلاة ويجوز لها كذلك أن تعلي صوتها قليلا حتى تسمعها أمها وتقول مثلما تقول. إمامة المرأة في الصلاة قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن الصلاة عبادة شرعها الله بكيفيتها وهيئتها لم يجتهد في رسمها أحد، وجعل الله لها شروط صحة، وجعل كون الإمام ذكرًا شرطًا لصحة صلاة الجماعة، وليس حقًّا للرجل، ولا انتقاصًا للمرأة، بل هذا أمر تعبدي في المقام الأول. وأضاف علي جمعة، في فتوى له عن حكم إمامة المرأة في الصلاة، أنه قد اتفق المسلمون على تكريم المرأة، ورأوا أن منعها من إمامة الرجال من باب التكريم لا من باب الإهانة والانتقاص، ومن أوامر الإسلام لهذا الغرض أيضًا أن الله تعالى أمر النساء أن يقفن خلف صفوف الرجال؛ لأن صلاة المسلمين قد اشتملت على السجود، فكان ذلك من قبيل قول العرب : «إنما أخرك ليقدمك»، فتأخير النساء في صفوف الصلاة ليس نوعًا من أنواع الحط من كرامتهن، بل ذلك إعلاء لشأنهن، ومراعاة للأدب العالي، وللحياء، وللتعاون بين المؤمنين ذكورًا وإناثًا على الامتثال للأمر بغض البصر. وفي الحقيقة فإن مسألة «إمامة المرأة للرجال في الصلاة» ينظر إليها من زاويتين؛ الزاوية الأولى : هي زاوية الواقع العملي للمسلمين، وتطبيقهم الفعلي على مر العصور والدهور، والثانية: هي التراث الفقهي، والواقع النظري المعتمد لديهم. رفع المرأة للأذان أما عن الواقع العملي فقد رأينا المسلمين شرقًا وغربًا سلفًا وخلفًا قد أجمعوا فعليًّا على عدم تولي المرأة للأذان، ولا توليها لإمامة جماعات الصلاة، ولا توليها لإمامة الجمعة، فلم يعرف تاريخ المسلمين خلال أربعة عشر قرنًا أن امرأة خطبت الجمعة وأمت الرجال، حتى في بعض العصور التي حكمتهم امرأة مثل «شجرة الدر» في مصر المملوكية، لم تكن تخطب الجمعة، أو تؤم الرجال. وبخصوص الواقع النظري من خلال النظر في نصوص الشرع والتراث الفقهي للمسلمين؛ فإننا نجد الفقهاء قد عرفوا الإمامة بأنها : ارتباط صلاة المصلي بمصل آخر بشروط بينها الشرع. فالإمام لم يصر إمامًا إلا إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة، وهو غاية الاقتداء([1]). أما ما ورد في هذه المسألة من نصوص الشرع الشريف ؛فقد ورد حديثان؛ الأول : حديث ورقة بنت عبد الله بن الحارث : «أن النبي – صلى الله عليه وسلم - جعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تَؤم أهل دارها»([2])، والثاني : حديث جابر بن عبد الله في روايته لخطبة من خطب النبي – صلى الله عليه وسلم - حيث قال خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ... إلى أن قال عنه – صلى الله عليه وسلم - : « ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلاً، ولا يؤم أعرابي مهاجرًا ولا يؤم فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه »([3]). وقد ضعف بعض الحفاظ الحديث الأول كالحافظ ابن حجر العسقلاني؛ حيث قال فيه: « في إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة »([4])، أما الحديث الثاني فقد ضعفه أكثر الحفاظ، فهو أضعف من الأول، وقد ذكر الحافظ أن في إسناده عبد الله بن محمد العدوي وقال : اتهمه وكيع بوضع الحديث، وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف. ([5]) أما عن تراث المسلمين الفقهي في هذه المسألة - وهو ما يمثل فهمًا صحيحًا للأصول العامة للشريعة ؛خاصة إذا ما كان هناك إجماع عليه - فقد أجمع أهل العلم من المذاهب الأربعة، بل المذاهب الثمانية، وفقهاء المدينة السبعة على منع إمامة المرأة في صلاة الفريضة، وأن صلاة من صلى خلفها باطلة، وشذ أبو ثور، والمزني، وابن جرير ؛فذهبوا إلى صحة صلاة الرجال وراء المرأة في الفرائض([6])، وإلى هذا القول الشاذ ذهب كذلك محيي الدين بن العربي من الظاهرية.++ وأما في النوافل وصلاة التراويح فجمهور الأمة كذلك على المنع، وخالف بعض الحنابلة وقالوا بجواز إمامة المرأة للرجال في النفل والتراويح، ومن ذلك ما ذكره ابن مفلح عن إمامة المرأة في الصلاة، فقال : «تصح في نفل، وعنه : في التراويح، وقيل : إن كانت أقرأ، وقيل : قارئة دونهم، وقيل : ذا رحم، وقيل : أو عجوزًا، وتقف خلفهم لأنه أستر، وعنه : تقتدي بهم في غير القراءة، فينوي الإمامة أحدهم ، واختار الأكثر الصحة في الجملة، لخبر أم ورقة العام والخاص» ([7]). ولذا فنرى ونفتي بما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا، قولًا وعملًا؛ لقوة الأدلة، ولعمق النظر، وإنما نقلنا ذلك القول الشاذ من التراث الفقهي؛ لأمانة العلم وليس لجعله هو المعمول به، والدعوة للعمل بهذا القول الشاذ فيه اتهام للأمة سلفًا وخلفًا، ولا تجتمع أمة المسلمين على ضلالة أبدًا، فالإجماع حجة، وبه ضبطت المسائل الفقهية الواردة في النصوص الشرعية. والحكمة من إبعاد المرأة في «مسألة إمامة الصلاة»؛ حتى تنسجم مع أمر الإسلام بالعفة والعفاف، وأمر غض البصر للمؤمنين والمؤمنات على حد سواء، وأمر ستر العورة، والمرأة عورتها في كل بدنها إلا الوجه والكفين؛ ولذلك كله أمر الله النساء أن يقفن خلف صفوف الرجال؛ لأن صلاة المسلمين قد اشتملت على السجود الذي به قد يتحدد جسد المرأة ويتكشف. أمَّا ما يحدث في العالم الآن مما نراه ويراه كل أحد، من الخلط بين مسألتي إمامة الجماعة ومسألة خطبة الجمعة، فالأخيرة لم يجزها أحد، فهؤلاء المخلطون ممن ينتمون إلى مدرسة المنشقين، وهي تشتمل على تيارات عدة : بعضها ينكر السنة والإجماع، وبعضها يتلاعب بدلالات الألفاظ في لغة العرب، وبعضها يدعو إلى إباحة الشذوذ الجنسي، والزنا، والخمر، وإلى الإجهاض، وإلى تغيير أنصبة الميراث، ونحو ذلك مما نراه يبرز كل قرن تقريبًا، ثم يخبو ويسير المسلمون في طريقهم الذي أمرهم الله به حاملين رسالة سعادة الدارين للعالمين ؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]