
كرامة مرسال.. الشجن العتيق من حضرموت إلى أعماق الربع الخالي
الفنان كرامة مرسال لديه القدرة على أن ينسجم مع ذاته الداخلية كأن لا أحد في هذا الوجود سواه.
يغني أمام الجمهور كأنه وحده، وكأن العالم من حوله عاجز عن إرباك انسجامه الداخلي. وجهته دائمًا داخل إحساسه المتمازج مع اللحن والكلمات.
يصل إلى الجمهور عبر هذا النبع الداخلي، لا عبر التصنع أو مسايرة ضجيج المشهد الخارجي.
في اللحظة التي يلامس صوته مايك الصوت أمامه، يبدو كأن لا أحد في العالم حوله سوى صوته والموسيقى التي تسري من داخله. لا تراه منشغلًا بما حوله، ومع ذلك هو في المنصة قائد حقيقي؛ يوجّه الفرقة الموسيقية، ويجذب الجمهور إلى مجاله الخاص دون جهد ظاهر، وكأن حضوره مغناطيسي بطبيعته.
تجده منغمسًا في الأغنية حدّ الذوبان، وكل كلمة تمر عبر حنجرته تتحوّل إلى إحساس يشعر به المستمع من ملامح وجهه، وقفته، لا فحسب نطقه المتأني والمنطرب للكلمات.
فنان معتّق، كأنه نتاج قرون من التشكّل والتراكم النفسي والفني، المحتفظ بطابعه وأسلوبه الخاص عبر الزمن.
الكلمة في حنجرته ترنّ، وكأنها إحساس تحوّل إلى شيء ملموس ومتين.
صدق التعبير وعذوبة الصوت يصنعان معًا بصمته الخاصة التي لا يمكن لأي فنان أن يكررها. كيف لا تكون له بصمة فريدة من نوعها، وهو يمتلك شخصية أصيلة لا شبيه لها في عالم الغناء الحضرمي واليمني عمومًا.
ما قد يبدو عاديًا وهشًا في صوت أحدهم، يتحوّل في صوته إلى أغنية مكتملة الوضوح والقسمات، تأسر المستمع وتغمره في تجربة نادرة من الانسجام الفني والوجداني. هو صوت يحمل ذاكرة المكان وروح الإنسان، صوت تفصح نغماته عن كل ما هو جوهري وحقيقي.
صوته يشبه أرضه: مكتمل وصبور، وفيه طبقات عاطفية تعكس البحر والصحراء والواحات والمدن القديمة.
كأنه صدى لأول من نطق اللغة الأولى، أمّ اللغات العربية الجنوبية القديمة. متأنٍ وعميق الأغوار كأن عاد وثمود وعماليق الربع الخالي تسكن صوته، لا فحسب حضرموت واليمن.
هو امتداد لطبقات من الذاكرة الصوتية التي حملتها الرمال والنخيل والسهول البحرية، لكنه في الوقت ذاته حالة فنية متفرّدة تقف في الحاضر، مثلما تضرب جذورها في أعماق لا يمكن سبر أغوارها.
أنصتُ إلى كرامة مرسال كما لو أنني أصغي إلى نفسي في مكانٍ أجهله منذ زمن طويل. موجة موسيقية تصدر من نسغ قصيّ وعميق الأغوار في تاريخ الشخصية الحضرمية واليمن عمومًا:
'على مهلك وقد الحال تكلم يا حبيبي بالكلام الدارجي، ما أطيب الريح هبّت من رياض اليمن، متيم في الهوى، حبي لها، ويشهد الله إني عادنا فيك حبان'.
في صوته بُحة نادرة، لا تُشبه أي بحة أخرى. بحة التاريخ القديم لا بحة التجربة الشخصية. بحة ذات جمعية انتظمت موجتها في روحه وليست فحسب خصيصة من خواص صوت وُلد معه.
بُحة ليست حزينة كليًا ولا منتشية كليًا، لكنها تُقيم في المنطقة الوسطى بين الشجن والسكينة، في نقطة فاصلة تلتقي فيها المشاعر المتناقضة الأكثر صدقًا، وتتجاوز لحظتها ثنائية الفرح والحزن، لتحلّق فوقهما.
هذه البُحة هي توقيعه الشخصي، العلامة التي تميّز صوته حتى وسط الجرس الحضرمي العريق، وكأن حضرموت نفسها استعارت حنجرة كرامة مرسال لتتجاوز بها طابعها الخاص، تُثريه، وتضيف له تجربة تتركه أكثر وضوحًا وكثافة.
تجد عنده وضوح العبارة وإيقاع النفس الطويل الذي يميز المدرسة الحضرمية منذ محمد جمعة خان، لكنه يتجاوزها.
أخذ من نغمة حضرموت مادته الأولى، ثم سكبها في ذات شديدة الخصوصية، حتى صار صوته نموذجًا قائمًا بذاته، لا يشبه إلا نفسه.
كرامة مرسال يملك قدرة عجيبة على تحويل كل كلمة إلى كائن حيّ، له ملمس وحرارة وذاكرة.
يُغني، فتتوهج الحروف في فمه كأنها وجدت حياتها الأولى. صوته ينساب كثيفًا وهادرًا مثل نهر قديم كان يشقّ الربع الخالي وصولًا إلى وادي حضرموت وما بقي فيه من أثره التاريخيّ.
هو نقطة التوازن بين جذور الأغنية الحضرمية وروح الإنسان الكونية. حمل هذا التراث العتيق إلى أجيال جديدة دون أن يفقده أصالته، وترك عليه بصمته الخاصة، بصمة من الصدق والخشوع والعذوبة الخفية.
تستمع إليه وكأنك تلتقي بموجات عاد وثمود وعماليق الربع الخالي ومدينة الألف عمود. رنّة صوته تختزل حضرموت، ليس في جغرافيتها وحدها، بل في طبقاتها العاطفية، في حنينها وشخصيتها الأصيلة الصافية.
شفّاف وعذب وخفيف الروح في لحظات، وغامض في لحظات أخرى. فيه قوة خفية تحضر دون صخب. كرامة مرسال هو الفنان الذي يجمع بين قوة الصوت وعمق الروح التي تسكنه.
أسلوبه في الغناء بسيط وعميق في آن واحد. صوته قوي دونما صخب. جذّاب دون حاجة للزخرفة. يمتاز بوضوح العبارة، وتلوين المقامات بسلاسة دون استعراض، وكأن لكل جملة موسيقية معنى داخلي يبوح به وحده. هو من هؤلاء الفنانين الذين لا يمكن للضجيج الخارجي أن يصنع لهم قيمة؛ لأن قيمته الحقيقية في عمق إحساسه ونبرة صوته الطبيعية.
ما يميز مسيرته أننا أمام فنان لم يلهث يومًا خلف التجريب من أجل التغيير فقط. كان هو التجديد شخصيًا، بشحمه ولحمه ونغمات صوته. حافظ على خصوصيته وحمل معه الأغنية الحضرمية إلى أجيال جديدة، وأضاف إليها من روحه الدافقة بالمحبّة، دون أن يفقدها أصلها وجذورها.
برع في ألوان الغناء الحضرمي كلها، وفي ذروتها الدان الحضرمي، وأجاد الأغنية العاطفية، واستلهم التراث الشعبي في حضرموت، وكان عنوانه الأهم خلال خمسين عامًا من مسيرته الفنية. غنى للوطن بصدق وشجن قريب إلى القلب، يصل بك إلى أقصى درجات الانتماء بصوت متحرّر من الادعاء.
بالمعنى الزمني والفني، بدأ حياته الفنية من حيث انتهت حياة سلفه محمد جمعة خان في عام ثورة أكتوبر 1963، وفيه كانت بدايته وهو لا يزال في سن السابعة عشرة.
وما بين فنان ذاهب وفنان آيب، ترسّخ اللون الغنائي الحضرمي كأوضح ما يكون.
طُويت حياة رائد جدّد الغناء الحضرمي وأضاف له نغمات موسيقية جديدة، وبدأت حياة فنان تكثّفت فيه النغمة الحضرمية كما لم تتجلَّ في أحد غيره. أبوبكر سالم حالة مختلفة تمامًا، فبقدر ما يمثّل قارة فنية للغناء الحضرمي بثنائيته مع المحضار، وصلته العميقة بالتراث الحضرمي، وما أضافه هو من كلمات وألحان، لكنه مع ذلك فنان تجاوز حضرموت واليمن وقدم ألوانًا عديدة، والأهم أنه شكّل لوحده مدرسة غنائية جديدة باسمه في نهاية المطاف.
كرامة مرسال متكاثف هنا والآن في حضرموت. حضرمي ينتح من أغوار النغمة الحضرمية القديمة، ويقدّمها بطابع خاص يضفي عليها من روحه ووجدانه ونكهته الخاصة.
في التاريخ الحديث لحضرموت كان جمعة خان بداية مرحلة انبعاث جديدة للتراث الغنائي الحضرمي.
عمل خان 29 عامًا في الفرقة الموسيقية السلطانية، بقيادة الهندي عبداللطيف في جزء منها، ورئيسًا لها في الجزء الآخر. مكّنه ذلك من أن يصير رائدًا في تجديد الغناء الحضرمي وإدخال وتأصيل التقاليد الموسيقية الحديثة في ألحانه وأدائه الموسيقي.
إلى جانب هذا الملمح تعلّم جمعة خان العزف على يد سعد الله فرج، وكان معلمه ومرجعه في الفنون الشعبية في حضرموت ونغماتها وألوانها الغنائية. ألحانه وأداؤه أمدّا الذائقة الفنية الحضرمية واليمنية بمصادر جديدة مستمدة من الموسيقى الهندية، وله مكانة متميّزة في حضرموت واليمن عمومًا ويحظى بتقدير واسع.
كرامة مرسال جاء بعد محمد جمعة خان واستكمل مسيرته، بصوته الممتلئ بالشجن وبإصراره على البقاء في مدينته برفقة الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار في فترة كانت الفرص متاحة أمامه للانتقال إلى الخليج.
ظل حاملًا للموروث الحضرمي، والنموذج الأوضح والأكثر ثراءً وتعبيرًا عن البيئة الغنائية في حضرموت ومنبعها من الدان والإيقاعات الشعبية. لنقل إنه أكثر التزامًا بالأصالة المحلية والبساطة في الأداء مع حس إنساني وشعري عميق.
إلى تميّزه كفنان كان بارعًا في التلحين، في فترة تجاوز فيها المحلية، بجانب فنانين يمنيين آخرين، إلى التأثير في الساحة الخليجية. أحيوا الحفلات في مدن كويتية وسعودية، وحضروا في المشهد الغنائي في الإمارات وقطر والبحرين وعُمان في زيارات الوفود الفنية التي كانت رائجة حتى نهاية الثمانينات.
غنّى له فنانون خليجيون، وبعضهم أدّى أغانٍ جديدة من ألحانه.
كانت أغنية 'متيم في الهوى' بطاقته التعريفية وأبرز أغنية له لقيت أصداء واسعة لدى فناني الخليج. مثلها أغنية محمد سعد عبدالله 'كلمة ولو جبر خاطر'، وأغنية فيصل علوي 'صبوحة خطبها نصيب'، و'يالله مع الليلة' لأبوبكر سالم.
ثم ماذا بعد؟
ما أن تنتهي من سماع صوت كرامة مرسال، حتى تمتلئ بشعور عميق أن صداه لم يغادرك، كما لو أنه غدا جزءًا من وجدانك وذائقتك الغنائية. هو من الأصوات التي لا تنطفئ مع انتهاء الأغنية، بل تتحوّل إلى شعورٍ يقيم في الروح، وإلى رنينٍ داخلي يصعب الإفلات من نغمته الآسرة. في صوته شيء من دفء البيوت القديمة التي تحتفظ بظل ساكنيها حتى بعد رحيلهم.
الاستماع إليه تجربة تتجاوز حدود الطرب، لأنها توقظ فينا إحساس الانتماء إلى ما هو أعمق من اللحظة: إلى جذورنا، إلى نبع داخلي عميق من الوجد والحنين، أكثر قدمًا من مدينة الألف عمود المطمورة تحت رمال الربع الخالي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 6 ساعات
- اليمن الآن
مايا دياب تلتقي إليسا وملحم زين بعد أزمتها مع أصالة
في لقاء ودي جمع الفنانات مايا دياب وإليسا وملحم زين في أبوظبي، التقطت دياب صورًا تذكارية مع زميلتيها، وذلك بعد الجدل الذي أثارته تصريحات أصالة حول ألبومها الأخير. ياتي هذا اللقاء بعد تصريحات أصالة في مؤتمر صحفي على هامش مهرجان جرش، حيث ردت بسخرية على سؤال حول ألبوم مايا دياب قائلة: 'هي عملت ألبوم.. ربنا يوفقها ما سمعته.. هذا مؤتمر فني خلينا ما نبعدش عن الفن'. واستفزت هذه التصريحات مايا دياب التي ردت عليها قائلة: 'أصالة إنسانة بلا قوى، ويا ريت تصمتي وبدي أقولها إن شاء الله ما يكون عندي وقت لـ أعمل مؤتمر صحفي غير فني وأحكي فيه عنها.' وعلي الصعيد الفني، كانت أصالة قد أطلقت مؤخرًا ألبومها الجديد 'ضريبة البعد' الذي تصدرت أغنيته الرئيسية اهتمام الجمهور، وهي من كلمات أحمد عيسى وألحان مدين وتوزيع أمين نبيل، بينما تتعاون في الألبوم ايضًا مع عدد من الشعراء والملحنين البارزين مثل منة عدلي القيعي وتامر عاشور. اخبار متعلقة


اليمن الآن
منذ 6 ساعات
- اليمن الآن
سعيد شمسان نموذج للإخلاص والالتزام والتميّز الإبداعي في مجال الإخراج الإذاعي
نعت نقابة الزميل الإعلامي والمخرج الإذاعي القدير سعيد شمسان، الذي وافته المنية اليوم الاثنين : ببالغ الحزن وعميق الأسى، تنعى نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين، الزميل الإعلامي والمخرج الإذاعي القدير سعيد شمسان، الذي انتقل إلى جوار ربه صباح يوم الإثنين الموافق 4 أغسطس 2025، بعد معاناة مريرة مع مرض عضال، ألمّ به في الفترة الأخيرة. لقد فقدت الساحة الإعلامية والإذاعية برحيل الفقيد واحداً من أعمدتها المؤسسين، الذين رسخوا حضور الإذاعة الجنوبية كمؤسسة مهنية رصينة، وكان نموذجاً للإخلاص، والالتزام، والتميّز الإبداعي في مجال الإخراج الإذاعي. سيرة الفقيد المهنية ـ نشأ وترعرع في مديرية الشيخ عثمان بعدن. منذ صغره، شغف بالأصوات الإذاعية وبدأ بتقليدها، وكان شغفه دافعًا قويًا للالتحاق بالعمل الإذاعي، بعد أن اكتشف الإعلامي القدير علوي السقاف موهبته الصوتية عبر برنامج "المواهب" في إذاعة عدن. التحق بإذاعة عدن مطلع السبعينيات، فعمل في قسم الصوتيات، ثم مساعد مخرج، قبل أن يصبح من أبرز مخرجي الإذاعة اليمنية، وتدرّج في السلم الإداري حتى شغل منصب رئيس قسم التشغيل الإذاعي، مقدّماً نماذج إخراجية رائدة. من أبرز أعماله: البرامج: نداء الوطن – قاص وقصة – واحة الدراما – محطات صحفية المسلسلات: مطلوب مدير عام – شوامخ إسلامية – مذكرات سعدان – فصيح في مهب الريح نال خلال مسيرته المهنية عدة جوائز تقديرية، أبرزها جائزة أفضل إخراج إذاعي في عامي 1996 و2008، والميدالية الذهبية عن برنامج "نحن والبيئة" ضمن مهرجان الخليج الحادي عشر للإذاعة والتلفزيون – البحرين 2010، وهو العمل الذي نال استحسان لجان التحكيم لإبداعه في استخدام المؤثرات البيئية الطبيعية. عُرف الراحل برؤيته الفنية التي تمزج بين الحسّ الإنساني وروح البيئة، مؤمناً بأن الإذاعة ليست مجرد صوت بل روح تتنفس، وفنّ يحمل رسالة. إننا في نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين، إذ نرفع أصدق تعازينا ومواساتنا إلى أسرة الفقيد وأصدقائه وزملائه ومحبيه، فإننا نحتسبه عند الله من الأخيار الصادقين الذين خدموا الإعلام الجنوبي بإخلاص وتفانٍ. نسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يُلهم ذويه الصبر والسلوان. "إنا لله وإنا إليه راجعون" صادر عن؛ نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين الإثنين – 4 أغسطس 2025م


اليمن الآن
منذ 8 ساعات
- اليمن الآن
مايا دياب ترد على تجاهل أصالة لألبومها
في تصريح حاد اللهجة، ردت الفنانة مايا دياب على تصريحات الفنانة أصالة التي أثارت جدلاً واسعاً بعد تجاهل الأخيرة ذكر ألبوم مايا الجديد خلال مؤتمر صحفي. وقالت أصالة ردًا على سؤال حول رأيها في ألبوم مايا: 'مين؟ نزلت ألبوم؟ ألف مبروك، من سوء حظي ما سمعتو. خلّوا المؤتمر فني وخلّينا مبسوطين مع بعض.' مايا دياب وفي مقابلة مع برنامج 'ET بالعربي'، ردت قائلة: 'أصالة إنسانة بلا بقوى وفاء، وإن شاء الله ما يكون عندي وقت مؤتمر غير فني وأحكي فيه عن أصالة.' تصريح مايا دياب جاء كرد غير مباشر على ما وصفه البعض بـ'التجاهل المتعمد' من أصالة، لا سيما وأن أصالة لم تذكر أيًا من الفنانات الأخريات اللاتي قدمن إصدارات جديدة خلال الفترة الأخيرة، ما أثار تكهنات واسعة وجدلاً عبر منصات التواصل الاجتماعي. اخبار متعلقة