logo
رواية "مسلة آديم المفقودة" تحرر السردية الفلسطينية من التزوير الصهيوني

رواية "مسلة آديم المفقودة" تحرر السردية الفلسطينية من التزوير الصهيوني

الميادينمنذ 3 أيام
أحياناً،
تثير التجارب الأدبية الانتباه لما اشتملت عليه من مفاجآت تأتي من خارج سياق الحياة التي أرادها وعمل عليها أصحابها، فتصير المفاجآت هي إحدى أهم مرتكزات الحياة نفسها، وإحدى أهم الجهات التي تقود الناس إلى الالتفات إليها لسبر أغوارها، ومعرفة أسرارها، وبيان ما فيها من قوة الإرادة من جهة، ونبل المقصد والهدف من جهة أخرى.
أقول هذا لأنني أكتب عن رواية عنوانها "مسلة آديم المفقودة" للكاتب الفلسطيني نضال عبد العال، الصادرة عن دار الفارابي - بيروت - 2024، وهي رواية حياة، أي رواية تاريخ، وراهن، ومستقبل، وصاحبها نضال عبد العال الذي رحل شهيداً بعد أن اغتالته اليد الإسرائيلية الآثمة ليلاً في مدينة بيروت مع اثنين من رفاقه، هو لم يكن مؤرخاً ليكتب عن التاريخ، ولم يكن مهتماً بالعادات والتقاليد والأعراف والتصورات ليكتب لنا رواية معنية بالسوسيولوجيا، بل لم يكن أديباً أصلاً ليكتب لنا رواية متعددة الجوانب، متعددة التقنيات، آسرة في أسلوبها، وغنية بالأمكنة التي تتحدث عنها، الرجل الشهيد، نذر نفسه، منذ شبابه الأول ليكون فدائياً، وهذا هو حلمه الذي عاشه، ذلك لأنّ حياته التي عاشها في مخيم نهر البارد، في الشمال الللبناني، دارت حول البلاد الفلسطينية، وتاريخها، وعمرانها، وأحوالها، وما أصابها من ابتلاءات وأذيات وموحشات ومظلومية أدت إلى القتل والتشريد وتدمير المدن والقرى الفلسطينية بل إلى تدمير أسس الحياة التي جلاها المكان الفلسطيني بجمالياته على أيدي الإسرائيليين الذين اغتصبوا المكان وحاولوا، بكل الوسائل والطرق... تهويده، وتحويره، وتغييره ليتناسب وثقافاتهم الاحتلالية العنصرية، واقتناعاتهم بأنّ القوة تقيم لهم مجتمعاً آمناً بعيداً عن كل تهديد ومخاوف، لكن المكان الفلسطيني الذي افتكه الإسرائيليون من أيدي الفلسطينيين ظل عصياًّ على التهويد والتحوير والمغايرة، لأنّ طبيعة تكوينه فلسطينية، ومرجعياته العمرانية والاجتماعية والتاريخية والثقافية والجمالية عصيّة هي الأخرى على أي تهويد، لأنّ التهويد صباغ، ومآلات الصباغ هي الزوال.
نضال عبد العال، بقي طوال أربعين سنة وأزيد صامتاً أدبياً لكثرة شواغله النضالية، ومهماته العسكرية، وأولوياته في الحياة، مع أنه ينتمي إلى عائلة ثقافية عرفت الكثير من الأدباء والشعراء والفنانين (في مجالات الفنون كلها)، قبل عام النكبة 1948، وما بعدها، لكنه في السنوات الأخيرة، انفجرت ينابيعه الأدبية فكتب غير رواية لاقت الثناء والتقدير من القراء والنقاد معاً، وبدا كما لو أنه عاش حياته ليكتب الرواية وينقش اسمه في مدونة السرد الفلسطيني.
لقد كتب ونشر روايات عدة، وترك وراءه رواية لم تكتمل كتابتها، وإن كان قد اختار عنوانها، ظهرت مؤخراً تحت عنوان (السلك النحاسي)، على النحو الذي انتهى إليه نضال عبد العال. لم يكمل أحد من أهله ومعارفه هذه الرواية احتراماً لتجربته الأدبية من جانب، وتقديراً لمعاني استشهاده من جانب آخر، وقد تُركت نهاية الرواية المفتوحة للقراء كيما تتعدد نهاياتها بتعدد قرائها وقراءاتها في آن.
هنا، وفي هذه الوقفة، أتحدث عن روايته التي اشتهرت وذاع صيتها، وعنوانها "مسلة آديم المفقودة"، وهي رواية شواغلها الأولى التاريخ، والحضارة الفلسطينية، والعمران، ومن بعد، تأتي شواغلها المتمثلة بمواجهة الفلسطينيين للاحتلال الإنكليزي، والاحتلال الإسرائيلي الذي ورث الصلف والعنصرية وثقافة الإخافة منهما من أجل أن يهيمن على البلاد الفلسطينية، لكنه ما استطاع، ولن يستطيع لأنّ ثقافة المقاومة، واليقينية القارة في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني بأنهم أهل المكان والتاريخ والحضارة وصناع المستقبل... كلها تؤكّد بأنّ الإسرائيلي محتل، يشبه كل المحتلين الذين استولوا على بعض الأراضي الفلسطينية بالقوة، والإرهاب والتهديد، والإخافة، ومصيره هو مصيرهم، أي الرحيل، لأن الاحتلال مظلومية وكل مظلومية مآلها المحو والزوال، ولأن الاحتلال أيضاً قرين القوة، ومآلاتهما معاً هي البهوت والذوبان والتلاشي، فلا يقرّ في الحقول سوى أهلها الزارعين، ولا يعرف أمن المكان وأنسه سوى أهله الذين عمروه بالتعب الجميل، والحب الوافي.
رواية "مسلة آديم المفقودة" رواية اجتماعية تاريخية، غنية بهاتين البنيتين: الاجتماعية والتاريخية، فمكان الرواية الأول هو في حال التعالق ما بين الوطن والمنفى، أي ما بين قرية "الغابسية" التي احتلها الإسرائيليون وطردوا أهلها إلى لبنان، ليؤسسوا في لبنان مجتمعاً يعيشون فيه، يكفل حياة استمرار العادات والتقاليد والأعراف والتصورات التي عاشها الأجداد والآباء في قرية "الغابسية"، لقد أسسوا مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني، وجعلوه مجتمعهم الطارئ ريثما يحين موعد العودة المحلومة.
قصص المخيم "نهر البارد" وحكاياته، وعادات أهله وتقاليدهم كلها ذات مرجعية مشطورة إلى شطرين، أولهما يعود إلى قرية "الغابسية"، وما كان الأجداد، والآباء يعيشونه، وما يؤمنون به على أنه عادة أو تقليد أو عرف، وثانيهما يعود إلى الأحوال الطارئة في المخيم، وما نشأ عنها من عادات وتقاليد وأعراف جديدة، فالحياة والآمال في القرية كانت ثقافة مضايفة وبناء على البناء، فالمدرسة بناء حجري راسخ شأنها شأن المسجد، والبيوت، ودار البلدية، والطرق واسعة مثل الأسواق والساحات، أما بعد النكبة، فصارت الحياة والآمال تدور حول التأسيس والتمكين والإعداد، فصار المكان يسمى (المخيم)، بعد أن كان القرية أو البلدة، والمدرسة غدت خيمة، بعد أن كانت بناء حجرياً جميلاً، والبيوت غدت خياماً ، لا أبنية حجرية وأقواساً وقناطر، والشوارع الوسيعة غدت أزقة ضيقة، والقرية التي كانت لها الحقول، والبراري، والغدران، والينابيع، باتت مخيماً ضاق على أهله، مثلما ضاقت جهات الأرض عليهم، إذ لا مكان بديلاً عن الوطن!
رواية "مسلة آديم المفقودة" تحدثت عن مجتمع القرية "الغابسية" في التفاتة استذكار وحنين، مثلما تحدثت عن مجتمع المخيم الحالم بالثأر من الأعداء والظروف وخيبات الأمل... من أجل عودة ظافرة إلى الوطن، وطي عذابات المنفى وظروفها الصعبة.
لكن الرواية، لم تعنَ بالراهن، أي المخيم وحده، بل غورت في التاريخ القديم، فتحدثت عن التاريخ الكنعاني، من خلال العثور على لوح طيني كنعاني كثير النقوش والكتابات هو المسلة، أما آديم، فهي إحدى إلهات الغلال والخصب في المنطقة قبل أن تعرف البلاد الفلسطينية الديانات السماوية، شأنها في ذلك شأن آلهة عرفتها مجتمعات الدنيا كلها، مثل آلهة اليونان والرومان، والآسيان، والأفارقة.
نصف الرواية يدور حول هذه المسلة الكنعانية التي ارتبطت بالإلهة "آديم"، وفيها كتابات ونقوش كنعانية تشير إلى دفاع الأجداد والآلهة معاً عن الأرض، والثقافية، والهوية، والتاريخ (تاريخ فلسطين وتاريخ الآلهة في آن)، هذه المسلة، يعرف مكانها الفلسطينيون، أهل قرية رواية "مسلة آديم المفقودة" تحدثت عن مجتمع القرية "الغابسية" في التفاتة استذكار وحنين، مثلما تحدثت عن مجتمع المخيم الحالم بالثأر من الأعداء والظروف وخيبات الأمل... من أجل عودة ظافرة إلى الوطن التي هي هنا: تمثل البلاد الفلسطينية كلها، مثلما يمثل أهلها أهل فلسطين كلها، وهي مسلة مخبأة في مغارة تلفها الأسرار والمخاوف، مغارة مرصودة، كل من يقترب منها يتعرض للأذى لأنّ بداخلها لبابة المعرفة في هذه البلاد، أي فيها كتاب البلاد الذي يقول تاريخها، وعادات أهلها وتقاليدهم، ويُبدي ثقافتهم، وما عملوا عليه من عمران، ويكشف عن أحلامهم، ومعارفهم، هذه المسلة الكنعانية، سعى أحد أهالي قرية "الغابسية" إلى امتلاكها، واستخراجها من المغارة المرصودة، والتي تحتاج إلى الشجاعة والإرادة ورباطة الجأش، وقد استطاع هذا الرجل الجسور الوصول إليها فعلاً بعد أن فتح باب المغارة بالمعرفة المضادة للرصد والسحر، وحين حملها وخرج من بوابة المغارة، واجهه غرباء، وقطاع طرق، هم لصوص مسلحون، فيضربونه بقسوة، ويأخذون منه المسلة، بعد أن حسبوه قد مات، لكن ما أصابه لم يكن سوى غيبوبة، وقد استفاق منها لكي يواصل البحث عن المسلة الكنعانية، ومن بات لها مالكاً.
وقد استطاع الوصول إلى معرفة أن المسلة الكنعانية وقعت بأيدي المحتلين الإنكليز وقد ورثها عنهم الإسرائيليون، وهي اليوم موجودة في المتحف البريطاني، وقد تعرضت للتحوير، والانتحال، والتزوير، والتزييف، بما يلائم ثقافة الإنكليز، وأحلام الإسرائيليين، لكن الشخص الذي شهد افتكاكها من يد ابن قرية "الغابسية"، يكتب مذكراته، ليعترف فيها أنّ المسلة كنعانية، وأنها تعرضت لتهويد ثقافي/ تاريخي، يلائم السردية الإسرائيلية، ويشير، في مذكراته، إلى أماكن التغيير والتهويد والتحوير، ويذكر أسماء من قاموا بهذا الفعل المشين، من أجل تشويه السردية الفلسطينية وتزويرها، لذلك سعى ابن قرية "الغابسية" إلى الظفر بالمذكرات كي يفضح زيف المسلة الموجودة في المتحف البريطاني التي نزعت منها، ومن نقوشها وكتاباتها، الأبعاد التاريخية الكنعانية الحقيقية، وعلاقة الكنعانيين بارضهم وحضارتهم، وبمن يجاورهم من مصريين، ويونان، ورومان، وهي علاقة تآلف وتعاون مكتوبة بالوثائق والعهود.
نضال عبد العال الشهيد، لم يغير دربه حين كتب الرواية، ولا حلمه، حين قطع المسافة ما بين الفدائي المنادي بتحرير البلاد الفلسطينية، وما بين الكاتب الفلسطيني الذي يكتب السردية الفلسطينية المستندة إلى كتب ومراجع كثيرة منها: كتب العقيدة، والتاريخ، والحق، والاجتماع، والعمران، من أجل تحرير التاريخ الفلسطيني الذي طاله التحوير والتهويد والتغيير، أي من أجل تحرير السردية الفلسطينية من أي شائبة، أو تزوير، أو غاشية بسبب القوة الإسرائيلية التي افتكت المكان الفلسطيني من أيدي أهله الفلسطينيين، وشردتهم وورثت كتبهم، ومسلاتهم، وأحجارهم التي نقشوا عليها تاريخ أجدادهم، البناة الأوائل، أهل العمران والاجتماع والثقافة والقيم والعقائد.. وكلها لا تؤمن بالقوة الإسرائيلية الغاصبة الباطشة، لأنها قوة عمياء مملوءة بالتجبر والغطرسة والعنصرية والأكاذيب.
نضال عبد العال الشهيد، كتب رواية "مسلة آديم المفقودة" بثقافة الوعي الباحثة عن كلية التاريخ الفلسطيني الحقيقي الذي تعرض، في بعض جوانبه وأحداثه وحادثاته، إلى التزوير والتهويد والتحييد والطي، في زمن قوة الإسرائيليين المحتلين، هذه القوة التي لا صفة لها سوى العمى، والجهل، وإراقة الدماء، والتلفيق، والكذب.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أين يولد الإبداع الحقيقي؟
أين يولد الإبداع الحقيقي؟

الميادين

timeمنذ 10 ساعات

  • الميادين

أين يولد الإبداع الحقيقي؟

لا يولد الإبداع الأصيل من رحم الرخاء والتكريس الرسمي، بل غالباً ما ينبثق من صميم تجربة إنسانية عميقة تتسم بالتمرّد والرفض. إنها معاناة، ليست بالضرورة مادية كالفقر، بل هي معاناة الفكر والروح في مواجهة القيود والمؤسسات الراسخة. فالمبدع الحقيقي، الثائر بجوهره، لا ينصاع لأطر السلطة – سياسيةً كانت أم فنيةً أم اجتماعيةً – ولا يزدهر في ظلّ الانحياز للمسيطر. إنه يبحث عن هواء الحرية في الأماكن المهمَلة والمنسية، حيث تُستلهَم الرؤى من شقوق الأرصفة وهمسات المقهورين. هناك، في الهامش الذي تتجاهله مراكز القوة، يُصاغ الإبداع النقي كفعل تحدٍ وتحرّر، مؤكداً أنّ الفن الأصيل والثورة الحقيقية لا يُولدان في القصور، بل يُستقيان من صعوبة السؤال وجرأة الاختلاف. هذا هو المنبع الذي لا ينضب. فالمبدع الحقيقي لا يعلّب روحه في قوالب مؤسسية، ولا يحتاج إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول إلى مملكة الإبداع. زياد الرحباني في شوارع وحانات منطقة الحمرا في بيروت، وبدر شاكر السياب في أهوار البصرة العطشى، والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في حارات القاهرة العتيقة، وبوب مارلي في أزقة "ترينش تاون" البائسة — أولئك صاغوا وجودهم من طين الرفض، وحوّلوا هامشهم إلى مركز كوني للإبداع، ثم ظلوا يقاومون تحويل تمرّدهم إلى تماثيل جديدة تُعبَد في ساحات الأتباع. حين صارت "التجربة الرحبانية" معبداً يُشعَل فيه البخور للمنجَز المكرّس، اخترق زياد صمت التابوهات بأغنيات ساخرة. لم يختر أن يكون وريثاً متوّجاً على عرش الأسرة الفنية المبدعة، بل اندفع كعاصفة تعيد ترتيب رؤيته الخاصة للموسيقى والسياسة معاً. كان يسخر من رجال الدين الذين يبيعون السماء، والسياسيين الذين يسرقون اللقمة من أفواه الجياع. لم تُنجَز أغانيه في استوديوهات مكيّفة، بل ولدت أولاً من عرق العمال والباعة المتعبين تحت شمس بيروت. كان يعرف أنّ الفن الحقيقي لا يُصنع في قاعات المؤسسات، بل في العراء، حيث الريح تحمل همسات المقهورين. وكما كسر زياد قيود المؤسسة الفنية/الاجتماعية/السياسية في لبنان، كان بدر شاكر السياب في أطراف البصرة النائية يعلن ثورة على مملكة الشعر القديم. من قرية "جيكور" التي لا يسمع فيها إلا صوت النخيل وسقسقة المياه، انطلقت قصيدة جديدة تحمل جراح اليتم وعطش الأرض. لم تكن "أنشودة المطر" مجرد كلمات، بل كانت صرخة ضد مؤسسة الشعر التي حبست القصيدة في سجن العمود. كيف يمكن لشاعر نشأ بين "البطاحين" أن يقبل بأوزان تقطع أنفاس الصور؟ كتب بأحرف من ماء دجلة: أصيح بك المطر! أصيح بك المطر! وما في الصحراء من رجاء سوى المطر" حتى حين سجنته الحكومات، ظل السجن "هامشاً" لولادة قصيدة. أما في حارة "حوش قدم" بالقاهرة، حيث تخبز الثورات في أفران الفقر، كان ثنائي مصري ينسج من سخرية المقهورين سلاحاً يهز عروش الفراعنة. الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم — ضرير يرى بقلبه، ويتيم يكتب بغضبه — التقيا في غرفة رطبة لا تتسع لأحلامهما الكبيرة. حين عرض عليهما النظام شيكاً بعشرة آلاف جنيه (ثروة فلكية آنذاك) مقابل صمتهما، مزّقاه كالمناديل التي يمسحان بها عرقهما. أغنيتهما "بقرة حاحا" كانت سوطاً على ظهر الفساد، حتى أنّ القاضي أطلق سراحهما من السجن حين سمع كلماتها. لكنّ عبقريتهما الحقيقية كانت في تحويل السجن إلى مسرح: فمن وراء القضبان، صارت زنزانتهما استوديو يلحّن فيه الشيخ إمام، ويكتب نجم قصائد تهشّم جدران الصمت. لقد صاغا فنهما من طين الرفض — رفض التكريس الرسمي، رفض الانصياع، رفض أن يكون الفن مجرّد زينة لقصور السلطة. وفي الجانب الآخر من الكرة الأرضية، حيث تلتهب شمس البحر الكاريبي، كان صبي هجين الدم يحوّل عار العنصرية إلى هتاف للحرية. من أحياء كينغستون الفقيرة، رفع بوب مارلي صوت الريغي كسلاح ضد مؤسسات الاستعمار والدين والمال. لم تقبله الكنيسة الكاثوليكية لأنه "ابن خطيئة"، فخلق من الرستفارية "Rastafari" عقيدة للمهمّشين. وحين عرضت عليه شركات الإنتاج أموالاً مقابل أن يغيّر كلمات "No Woman, No Cry" رفض قائلاً: الحقيقة لا تباع، وفي أغنية "Redemption Song" صار صوته جسراً نحو الحرية: كسرت سلاسل أجسادنا.. فهل نكسر سلاسل عقولنا؟ كانت موسيقاه بذوراً تزرع في تراب الهامش، فتنبت في أصقاع الأرض. هؤلاء الأربعة لم يجمعهم مكان ولا زمان، لكنهم اتحدوا في رفض أن تكون المؤسسة أُمّاً للإبداع. ومع ذلك، فإن خطراً آخر يتربّص بالمبدع الحقيقي بعد موته: خطر أن يُحوَّل تمرّده إلى صنم. فكما هاجم نقّاد قصيرو النظر ألحان إمام بعد رحيله، في المقابل أيّ مبدع يهرب من سجن المؤسسة قد يقع في فخ تقديس أتباعه. زياد الذي تمرّد على موروثه حين صار مؤسسة، والسياب الذي كسر عمود الشعر ليخلق فضاء للحرية، ومارلي الذي حوّل ألم الغيتو إلى نغم يهزّ عروش المستعمرين، وإمام ونجم اللذان رفضا أن يكونا أدوات في يد السلطة — هم جميعاً لم يبحثوا عن شهادة ميلاد من سلطة، لكنهم أيضاً لم يريدوا شهادة وفاة تحوّلهم إلى تماثيل في متاحف الأيديولوجيا. ولعل أقسى امتحان يواجه المبدع الحقيقي بعد موته هو محاولة النظام الرأسمالي تحويل تمرّده إلى سلعة، وصورته إلى أيقونة فارغة تُطبَع على قمصان المراهقين وولاعات السجائر. وهذه الآلة التسويقية لا تكتفي بتحويل الفنانين إلى بضاعة، بل تطال حتى رموز الثورة العالمية مثل تشي غيفارا الذي صار وجهه سلعة في متاجر الرأسمالية ذاتها التي حاربها؛ فهذه هي "الموتة الثانية": أن يُسحق رمز التمرّد تحت آلة التسويق التي كان يقاتلها طوال حياته. زياد سخِر بقسوة ووضوح من تسليع الفن، وإمام ونجم اللذان رفضا بيع أغانيهما للإذاعات التجارية حتى في أحلك أيام الفقر، هما نفسيهما اللذين تحاول شركات التسويق اليوم توظيف تراثهما لبيع منتجات لا علاقة لها بثورتهما. فالإبداع الأصيل لا يولد في القاعات الحكومية، بل في زنازين السجون حيث يكتب الشاعر على جدران الوحشة، وفي شوارع المدن المنسية حيث يرفع المغنّي صوته فوق دوي القنابل، وفي المقاهي العتيقة حيث يضحك الفنان كي لا تبكي الأوطان. المؤسسات تموت، لكن الفن الذي ينبثق من هامش الوجود يظل كالنهر: يجفّ في المصادر الرسمية، ويجري خفياً تحت الأرض حتى يظهر فيضاناً يغمر الصحارى. وهؤلاء المبدعون لم ينحتوا تماثيلهم من رخام التكريس الرسمي، بل صاغوا وجودهم من طين الرفض والتحدّي. لذلك، كلما رأيت مبدعاً يرفض التكريس الرسمي، اعلم أنك أمام نبع لا ينضب — نبع يرفض أن يُعبَد كما يرفض أن يُسجَن. فالمبدع الحقيقي لا ينتمي إلى مكان، بل يحمل مكانه في روحه، ويصنع من هامشه كوناً لا يُؤسَّس ولا يُؤلَّه. زياد والسياب وإمام ونجم ومارلي يذكّروننا بأنّ الإبداع نهر يرفض القنوات الاصطناعية، وشمس لا تولد في الأقبية المحروسة، وصوت يبقى حراً كالرياح حتى لو حُوِّل إلى أسطورة. عندما يصير الهامش منارة، والمقهورون شعراء، والتمرّد أغنية تغنيها الشعوب فاعلم أنك صنعت كوناً لا يموت.

في وداعية زياد .. أسطورة الغياب والحضور الأبدي وصوت الموسيقى والثورة والمقاومة
في وداعية زياد .. أسطورة الغياب والحضور الأبدي وصوت الموسيقى والثورة والمقاومة

الميادين

timeمنذ 15 ساعات

  • الميادين

في وداعية زياد .. أسطورة الغياب والحضور الأبدي وصوت الموسيقى والثورة والمقاومة

غاب اليوم عن المشهد اللبناني والعربي الموسيقار زياد الرحباني تاركاً فراغاً يتمثّل في الغياب الجسدي، لكنّه ترك صدى صوته حيّاً في الوجدان. مع رحيله، انقسمت الآراء بين من يرى فيه أيقونة الجرأة الفنية والثقافية، صامداً لم يهتز أمام السلطة، مدافعاً عن كرامة الإنسان والمقاومة. ومن يرى فيه ظاهرة استفزازية، رفضت أن تتكيّف مع السياق الفني السائد أو تعزف على أوتار السياسة من خارج خشبة المسرح. بعد بدايته في مسرحية "سهرية" ذات الطابع الفني البحت، قدّم زياد سلسلة مسرحيات امتدت حتى عام 1994 مع "لولا فسحة الأمل". لكنّه، وعلى خلاف النهج الرحباني التقليدي الذي اتسم بالرمزية والرؤية المثالية، اختار أن يغوص في قلب الواقع، مسلطاً الضوء على تداعيات الحرب الأهلية وانعكاساتها على المجتمع. تميّزت أعماله المسرحية بروح النقد السياسي والاجتماعي، وبلغتها القريبة من الناس، إذ نقل عبرها تفاصيل الحياة اليومية، بأسلوب ساخر حيناً، جارح حيناً آخر، وصادق في كل الأحوال. وفي هذا، كان زياد يؤسّس لمدرسة فنية تعاين الواقع وتشرحه، وتقارع الظلم الاجتماعي والاحتلال، وتجعل من المسرح منبراً لحقيقة تتراءى للجمهور بهيئة ساخرة. لقد اختار أن يكون فناناً حرّاً، لا يُقيّد بالمجاملات ولا يُصادره السوق أو السلطة، بل ظلّ وفيّاً لقناعاته، مستنداً إلى حسّ عالٍ بالمسؤولية تجاه مجتمعه والمجتمعات المهمشة والمسلوبة حقها. شكّل عام 1974 محطة مفصلية في مسيرة زياد الرحباني، مع تقديمه مسرحية "نزل السرور" التي مثّلت قطيعة مع الخط الرحباني التقليدي، وبداية لتأسيس مسرح جديد يلامس الواقع اللبناني بلغة الناس وهمومهم. استلهم زياد المسرحية من حادثة احتجاز رهائن داخل "بنك أوف أميركا" في بيروت، لكنه أعاد تقديمها بسخرية سوداء، لكشف تناقضات النظام اللبناني، من فساد السلطة إلى اغتراب المواطن. تميّز العمل بحوارات لاذعة وأغانٍ لامست وجدان الناس، فكانت "نزل السرور" أكثر من عرض مسرحي؛ كانت إعلاناً عن ولادة "مسرح زياد"، الذي جمع بين الفن والموقف، وفتح حوار سياسي صادق مع جمهور يتوق إلى فن التمثيل الحقيقي. مثّل زياد الرحباني نموذجاً لوعي نقدي مزدوج، فني واجتماعي، رفض الاستسلام للسياسات القائمة وآمن بإمكانية تغييرها من جذورها. ظهرت هذه القناعة باكراً، إذ كتب وهو في سن صغيرة خواطر عُرفت في ما بعد تحت اسم "صديقي الله"، عبّر فيها عن مكنونه المختلف عن محيطه. بعد عامين على عرض "سهرية"، اندلعت الحرب الأهلية، فوجد نفسه منغمساً في السياسة والمجتمع، متبنياً قناعات ماركسية غذّتها مشاهد الطائفية والطبقية التي حاصرته. تحوّل المسرح عنده إلى أداة رفض، لا مجرّد فن أو مجاز. في "نزل السرور"، قدّم رؤية ثورية جمعت الكوميديا السوداء بلغة حادّة، كاشفاً التصدعات السياسية والاجتماعية. وفي "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، بعد 3 أعوام على اندلاع الحرب الأهلية، أطلق صرخته الأشدّ، مجسّداً الانهيار الأخلاقي والمعيشي في وطن يتفكّك، عبر شخصية "زكريا" التي اختزلت وجع الناس وفشل النخب. ثم جاءت "فيلم أميركي طويل" (1980) لتشكّل لحظة مواجهة مع الواقع من زاوية الكرامة الوطنية، راسمة صورة لشعب عنيد، رافض للهزيمة، يتمسك بكرامته رغم التآكل والانهيار. لكنّ الصرخة الأوضح جاءت بعد سنوات، في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، حيث عاد زياد ليقدّم تشريحاً لمرحلة ما بعد الحرب، في ظل "السلم الأهلي" المشوّه الذي فرضه النظام الطائفي نفسه. هنا، تصبح الكرامة قضية ساخرة، والشعب العنيد مجرّد صورة تروّجها الخطابات الرسمية، بينما الحقيقة هي خضوع الناس لحكم اقتصادي وسياسي خانق. المسرحية كانت نقداً لواقع ما بعد الطائف، وسخريتها المرّة كشفت زيف "المرحلة الجديدة" التي بُنيت على التسويات لا على العدالة. هكذا، لم يكن المسرح عند زياد مجرد انعكاس للواقع، بل فعلاً نقدياً فاضحاً، مسكوناً بهاجس التغيير، يعرّي تناقضات المجتمع اللبناني من الحرب إلى "السلم"، ويمنح الجمهور فرصة النظر إلى أنفسهم في مرآة "بلا رتوش". منذ بداياته، لم تكن فلسطين عند زياد الرحباني مجرد شعار، بل كانت جوهر الصراع ومحرك القوى العالمية في الشرق الأوسط، ومقياساً فاصلاً لفرز المواقف: إما مع الحق أو مع العدو. في مسرحيته "نزل السرور"، برزت فلسطين كجرحٍ مفتوح وسط مشهد لبناني مأزوم وممزق. أما في "بالنسبة لبكرا شو؟"، فقد تجسدت فلسطين في قلب الأزمة الأخلاقية، حيث تسخر الشخصيات من "الحياد" ومن "المقاومة اللفظية" التي تترك القضية الفلسطينية وحيدة أمام التحديات. لم يقدم زياد بطلاً يحمل السلاح، بل رسم صورة جيلاً ممزقاً بين الإيمان العميق بالقضية واليأس المرير من الواقع. فلسطين عنده لم تكن مجرد خلفية، بل كانت بوصلة وامتحاناً أخلاقياً لا ينتهي، وحافزاً دائمًا للمساءلة والتمسك بالحق. لم يكتفِ زياد الرحباني بالمسرح للمواجهة، بل انخرط ثقافياً وفنياً إلى جانب جبهة المقاومة. منذ التسعينيات، أعلن انحيازه بوضوح، وكانت مقابلاته ومناظراته أشبه ببيانات سياسية تفضح الخنوع وتعرّي دعاة التطبيع. رأى في سلاح المقاومة رمزاً للكرامة، لا أداة طائفية، وعدّه أولوية تتقدّم على كل "حداثة زائفة" أو شعارات حياد. وفي مقابلة مع قناة "المنار"، قال بوضوح: أنا لست حيادياً. لا يمكن أن أكون حيادياً بوجود كيان مثل إسرائيل. يا بكون مع المقاومة، يا بكون مع إسرائيل. وما حدا يقلّي في خيار ثالث. وفي مقابلة مع صحيفة الأخبار عام 2008، جدّد موقفه من دون تردّد: أنا أؤيد المقاومة بكل معنى الكلمة. وإذا في سلاح بوجه إسرائيل، أنا معه. وإذا هالسلاح اسمه حزب الله، فأنا مع حزب الله. ولو كل العالم ضده. بهذا الانحياز المبدئي، ثبّت زياد موقعه في صفوف من اعتبروا أن المعركة مع العدو لا تُخاض فقط في الميدان، بل أيضاً في الوعي، في الكلمة، وفي الإبداع. الفلسطينيون هم الأساس، وهم من سيحرّرون فلسطين. مهما فعلنا في لبنان أو سوريا، فإن الفلسطينيين وحدهم يصمدون بصبر يفوق التصوّر. بعد انتصار تموز 2006، شهد خطاب زياد الرحباني تحوّلاً واضحاً، حيث استقر موقفه علناً إلى جانب حزب الله كمقاومة شرعية وواقعية. في إحدى مقابلاته، عبّر قائلاً: إذا كنا نعيش اليوم بكرامة، فذلك بفضل من يقفون على الحدود، وليس لأن أحداً كتب مقالاً جميلاً أو نظم حفلة. وبعد سنوات من الصمت، أعلن زياد موقفه بوضوح عبر مقابلات في قناة "المنار" وإذاعة "النور": نحنا بعد تموز، ما بقا فينا نحكي عن سلاح المقاومة وكأنه عبء... هيدا السلاح هو اللي واقف بوجه الضياع الكامل. دافع زياد عن المقاومة بلا تردّد، وواجه حملات التشويه، معتبراً انتصار تموز أول انتصار عربي حقيقي على "إسرائيل": مش مهم مين عمل الانتصار، المهم إنه تحقق باسمنا كلنا. بينما فضل كثير من الفنانين الصمت أو الحياد، اختار زياد الاصطفاف مع من يعدّهم حماة الكرامة، قائلاً: في ناس بتخاف تقول إنو مع المقاومة. أنا بقولها عَ العلن، مش لأن عندي شجاعة خارقة، بس لأني مش قادر كون غير هيك. منذ ذلك الحين، صار صوت زياد ضميراً خارج السرب الرسمي، يذكر بقيم الكرامة والسيادة، ويقف في وجه محاولات تشويه صورة المقاومة. في إحدى حفلاته قال: إذا نحنا بعدنا عايشين، فهيدا بفضل ناس واقفين عالحدود، مش بفضل حفلاتنا. وفي مقابلة في برنامج "حوار العمر" مع الإعلامية الراحلة جيزيل الخوري أواخر التسعينيات من القرن الماضي، قال زياد رداً على سؤالها عن ما هي الوطنية: الوطنية؟ يعني ضد إسرائيل. وفي تموز/يوليو 2018، خلال مهرجانات بيت الدين وذكرى انتصار تموز الـ12، قدّم أغنية "تجّار المال هربوا" وأهداها للجنوب والمقاومة. كانت الأغنية من تأليفه عام 2014، وكان من المفترض أن تؤديها فيروز، لكنه أبقى صوته. ما فيك تبني بلد وإسرائيل عالباب، ما فيك تعمل عدالة وحرية وهني بيخلوك تختار بين أمنك وبين كرامتك. بهذا المزيج من الموقف واللحن والكلمة، أثبت زياد أن الفن الحقيقي لا يقف على الحياد حين يكون الوطن على المفترق، وأن الموسيقى مع البوصلة لا تخطئ الطريق. لم يكن زياد الرحباني مجرّد فنان يروي حكايات القهر، بل كان مرآة لعصرٍ مكسور يعاني من أوجاعه وصراعاته. حطّم الواقع وأعاد تركيبه بطريقته الخاصة، من دون مساومة أو تزييف، ليقدّم فناً يحمل صدق الألم وعمق الوعي. كان فناناً حقيقياً سخر من السلطة وفضح السوق بكل جرأة وشفافية، ولم يهادن رغم تغيّر الوجوه والسياسات، وظل وفياً لقناعاته وفنه، رافضاً أن يخضع لأيّ تلوين أو تحريف. أحبَّ فلسطين بعيداً عن الشعارات الرنانة، وانحاز للمقاومة كحقيقة جوهرية في زمن الضجيج الإعلامي والسياسي. اقترب من نبض الناس أكثر من الذين ادّعوا تمثيلهم، وكان أوفى لكرامتهم من أنظمتهم التي تخلّت عنهم. غاب زياد جسدياً، لكن صوته ظل حيّاً في شوارع الفقراء وزوايا المقاهي، وفي وجدان كل من يؤمن بأن الفن موقف والكلمة التي لا تنحاز للمظلوم محكوم عليها بالنسيان.

هيفا وهبي للجيش اللبناني: "منرفع راسنا بجيشنا اليوم ودايمًا" (صورة)
هيفا وهبي للجيش اللبناني: "منرفع راسنا بجيشنا اليوم ودايمًا" (صورة)

LBCI

timeمنذ 2 أيام

  • LBCI

هيفا وهبي للجيش اللبناني: "منرفع راسنا بجيشنا اليوم ودايمًا" (صورة)

عبّرت النجمة اللبنانية هيفا وهبي عن فخرها واعتزازها بالجيش اللبناني، بمناسبة عيده الـ1 من آب، حيث نشرت عبر حسابها الرسمي رسالة وطنية مؤثرة جاء فيها: "اليوم ودايمًا منرفع راسنا بجيشنا اللبناني، كل عام وانت حامي وطني لبنان"، مرفقة بهاشتاغ "عيد_الجيش". وقد لاقت تغريدة هيفا تفاعلاً كبيراً من جمهورها، حيث أثنى المتابعون على دعمها الدائم للمؤسسة العسكرية، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلاد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store