بين اللهب والدخان: هل كنا أمام إدارة صراع محسوبة أم مواجهة مصيرية؟
مع دخول وقف إطلاق النار الأخير حيّز التنفيذ بين القوى المتصارعة — إسرائيل، إيران، والولايات المتحدة — تنفست المنطقة الصعداء، ولو مؤقتاً. التصعيد الذي حبَس أنفاس العالم لأسابيع، ثم انطفأ فجأة، أعاد إلى الواجهة تساؤلات قديمة بثوب جديد: هل كنا فعلاً أمام مواجهة مصيرية تقترب من حافة حرب كبرى؟ أم أن ما جرى كان مجرد حلقة مدروسة ضمن بنية صراعية أوسع، يُعاد فيها إنتاج التوتر لأغراض تتجاوز ميدان المعركة، لتصل إلى غرف السياسات الداخلية والحسابات الإقليمية والدولية؟
كثير من المراقبين لم يتعاملوا مع هذا التصعيد كحدث طارئ، بل كجزء من نمط مكرر، تتقنه هذه الأطراف منذ سنوات. فالتصريحات النارية، والتكتيكات العسكرية المحدودة، والضربات المحسوبة، بدت وكأنها تسير وفق سيناريو محدد سلفاً، يتكرر كلما دعت الحاجة، سواء لردع الخصوم، أو لتحفيز الجمهور الداخلي، أو لإعادة ضبط الإيقاع السياسي في لحظات التوتر. هذا النمط من 'التصعيد المحسوب' لم يُظهر علامات على انفلات أو انزلاق نحو حرب شاملة، بل عكس حالة من الضبط والوعي بالحدود، وكأن كل طرف كان يدرك مسبقاً ما يمكن فعله وما يجب تجنبه.
اللافت أن المواجهة، رغم ضجيجها، لم تُفضِ إلى تغييرات حقيقية في موازين القوى، ولا إلى تحولات جذرية في المشهد السياسي أو الجغرافي. بل انتهت سريعاً، دون أن تترك أثراً عميقاً، ما يعزز فرضية أن ما جرى لم يكن سوى إدارة لأزمة محسوبة، لا معركة حقيقية. وهنا تبرز المقارنة الفلسفية مع مفهوم 'الواقع الفائق' كما طرحه جان بودريار، حيث تُنتج نسخة مصطنعة من الواقع تُعرض على الجماهير باعتبارها حقيقة، بينما هي في الجوهر محكومة بتفاهمات غير معلنة بين القوى المتصارعة.
من هذا المنظور، لم يكن هدف أي طرف تحقيق نصر حاسم. فإسرائيل سعت إلى توجيه رسالة ردع لإيران دون تجاوز الخطوط التي قد تُشعل حرباً واسعة. وإيران حرصت على الرد لتأكيد حضورها الإقليمي، لا للدخول في مواجهة مباشرة مع تل أبيب أو واشنطن. أما الولايات المتحدة، المنهمكة في أولوياتها الداخلية والانتخابات القادمة، فقد اكتفت بتدخل مدروس يضمن الحفاظ على توازن القوى دون تحمل تبعات ميدانية كبيرة. وكأن الجميع شارك في عرض سياسي بملامح عسكرية، حيث تُوزع الأدوار بدقة، ويُضبط التوتر عند مستوى معيّن يخدم مصالح الجميع دون تهديد جوهري للمنظومة القائمة.
ما جرى لم يكن مأساة سياسية بالمعنى الهيغلي التقليدي، حيث تتصادم المبادئ الأخلاقية المتضادة، بل كان أقرب إلى 'ملهاة سياسية' تُؤدى بخبرة، وتُروّج للجمهور المحلي والدولي كحدث مصيري. في الحقيقة، الصراع هنا لم يكن على القيم أو المبادئ، بل على النفوذ والتموضع والمصالح. وهو ما يُحيلنا إلى ما وصفه نيتشه بـ'إرادة القوة' — حيث تُستخدم الخطابات الأخلاقية والثورية كأقنعة لإرادة السيطرة والبقاء.
هذه المواجهة، إذا نظرنا إلى سياقاتها الأعمق، تبدو موجّهة لجمهور متعدد. ففي الداخل الإيراني، جاءت في لحظة يحتاج فيها النظام إلى تحويل الأنظار عن التحديات الاقتصادية والتململ الشعبي. وفي إسرائيل، استُخدمت لتعزيز صورة الحكومة في لحظة مأزومة سياسياً. أما في الولايات المتحدة، فقد وفّرت فرصة لإظهار القيادة وضبط الإيقاع الإقليمي، دون الدخول في مغامرات عسكرية واسعة لا تحظى بشعبية داخلية.
كما أن الرسائل التي بعثتها المواجهة لم تقتصر على الخصوم، بل طالت الحلفاء أيضاً، لتعزيز التنسيق، أو تمرير تحالفات، أو حتى التذكير بضرورة الاستمرار في الدعم. ولم تكن الأسواق بمنأى عن هذه الحسابات، إذ تتأثر أسعار النفط، وسوق السلاح، والمؤشرات المالية بمثل هذه التطورات، وهو ما يضيف بعداً اقتصادياً إلى خلفية كل تصعيد.
من هنا، يمكن القول إن ما شهدناه كان 'منتجاً سياسياً'، لا حدثاً مصيرياً. منتج يُستهلك إعلامياً، يُوجَّه سياسياً، ثم يُطوى مرحلياً بانتظار إعادة إخراجه بصياغة جديدة. وقد يرى البعض أن في هذا الوصف قسوة أو تقليلاً من شأن الضحايا الذين يسقطون فعلاً في كل جولة، لكن الفكرة ليست في إنكار الألم، بل في فهم كيف يُدار هذا الألم ضمن منطق سياسي تحكمه المصالح لا العدالة.
وإذا كانت هذه الجولة قد انتهت بوقف إطلاق النار، فإن احتمالات تكرارها بصيغة جديدة، في زمان مختلف وموقع آخر، تظل قائمة. فما دامت الجماهير مستعدة لتصديق الرواية، وما دام اللاعبون يحصدون مكاسب أدوارهم، فإن العرض سيستمر، والستار لن يُسدل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صراحة نيوز
منذ 21 دقائق
- صراحة نيوز
هل تتجه الحكومة الى تخفيض الرسوم الضريبية والجمركية على السيارت بكافة أنواعها
صراحة نيوز- علمت مصادر مطلعة أن مجلس الوزراء بصدد إصدار حزمة قرارات جديدة تتعلق بقطاع المركبات، من المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من يوم الأحد المقبل. ووفقًا للمصادر، تتضمن القرارات تخفيضات كبيرة في الرسوم الجمركية والضريبية على مختلف أنواع المركبات، بما في ذلك المركبات العاملة على البنزين، والهايبرد، والكهرباء، حيث تصل نسب التخفيض إلى نحو 40% في بعض الحالات.


العرب اليوم
منذ 32 دقائق
- العرب اليوم
الموساد يحذر من مشاريع إيران ويؤكد تراجع التهديد النووي
قال رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) ديفيد بارنيع، اليوم الأربعاء، أن إسرائيل ستراقب عن كثب كل مشروع في إيران لمنع التهديدات المستقبلية، مشيرا إلى تقلص التهديد النووي الإيراني. وفي أول تعليق علني له حول نتائج العملية الإسرائيلية التي استمرت 12 يومًا ضد إيران، قال بارنيع: "تم إحباط التهديد الإيراني، الذي عرّض أمننا للخطر لعقود، بدعم من حليفتنا الولايات المتحدة". كما شدد بارنيع الذي عادة ما يتجنب الإدلاء بتصريحات علنية، على أن عملاء الموساد داخل إسرائيل وخارجها كانوا يعملون "جنبا إلى جنب" مع الجيش الإسرائيلي منذ بداية العملية، وفقا لما نقله موقع "y net" الإخباري. وتابع: "من خلال استخبارات دقيقة، وتقنيات متقدمة، ساعدنا الجيش الإسرائيلي في ضرب المشروع النووي الإيراني وتقليص التهديد الصاروخي". من جانبه، قال رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير اليوم الأربعاء، "تقييمنا يشير لتضرر جسيم بمشروع إيران النووي". كما أضاف في بيان اليوم الأربعاء "لن نسمح لإيران بإنتاج أسلحة دمار شامل"، مبيناً أن البرنامج النووي الإيراني أعيد سنوات إلى الوراء. في حين، أشارت تقديرات إسرائيلية إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني من عامين ونصف إلى 3. وكانت وزارة الخارجية الإيرانية، أقرت اليوم بأن المنشآت النووية في البلاد تضررت بشدة. وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إن المنشآت النووية "تضررت بشدة" بسبب الضربات الأميركية، وفق ما نقلته "أسوشيتد برس". جاء هذا بعدما أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء لقائه بالأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، في قمة الناتو في لاهاي، مؤكداً أن الضربة الأميركية دمرت المواقع النووية الإيرانية بالكامل. وأكد ترامب أنه تم محو المنشآت النووية الإيرانية بالكامل جراء الضربة الأميركية. جاءت هذه التصريحات بعد يوم واحد من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، منهياً جولة غير مسبوقة من المواجهات العسكرية بعد البلدين. وعلى مدة 12 يوماً، اندلعت مواجهات متبادلة غير مسبوقة بين الجانبين، فيما أدت الحرب إلى تدخل أميركي في الصراع، إذ شنت الولايات المتحدة غارات وهجمات على 3 منشآت نووية، مساء السبت الماضي، طالت منشأة فوردو ونطنز وأصفهان. لترد طهران مستهدفة قواعد عسكرية في قطر والعراق، من دون تسجيل أية إصابات، قبل أن يعلن ترامب بعد ساعات وبشكل مفاجئ وقف إطلاق النار. قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :


رؤيا نيوز
منذ ساعة واحدة
- رؤيا نيوز
عراقجي يضع شرطًا أمام ترامب مقابل التوصل لاتفاق مع إيران
وضع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، شرطًا أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مقابل التوصل لاتفاق مع إيران. وقال عراقجي، في منشور على منصة 'إكس'، نقلته وكالة 'رويترز'، إنه إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لديه رغبة صادقة في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، فعليه أن يتوقف عن 'اللهجة غير اللائقة وغير المقبولة تجاه الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي'. ويوم الجمعة، قال ترامب إنه أنقذ المرشد الإيراني من 'موت قبيح ومهين'. جاء ذلك في سياق رده على خامنئي الذي قلّل يوم الخميس من أثر الضربات الأمريكية على المواقع النووية الإيرانية، واعتبر أن بلاده انتصرت في الحرب. وقال ترامب مخاطبًا خامنئي: 'لقد هزمت شرّ هزيمة'. وكان عراقجي قد أكد، الجمعة، أن طهران لا تنوي حاليًا استقبال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، وأنها لن تسمح للوكالة بتفتيش منشآت إيران النووية. وشدد عراقجي في مقابلة متلفزة على أن موقف إيران نابع من فقدان الثقة بمواقف الوكالة وسلوك مديرها.