
الفاضل الجزيري: المسرح فن وحياة ورفض
في روايته "ليلة حديقة الشتاء"، يسرد الأديب التونسي الراحل، حسونة المصباحي، سيرة ذاتية للفاضل الجزيري الذي جمعته به صداقة، وتعتبر الرواية من هذه الناحية شهادة على لسان هذا المبدع الذي أثّر وأثرى المشهد الثقافي والمسرحي والسينمائي التونسي على امتداد 50 سنة .
يقول المصباحي في الصفحة 166 من الرواية، إنه في أحد لقاءاته بالجزيري استقبله الأخير أمام بيته الحجري الشبيه بقلعة رومانية، وبقامته الفارعة وشعره الكثيف الأشيب الذي يشبه أيقونات السينما العالمية. تحدث عن حياته واكتشف منذ طفولته أنّ ما يحدث في تونس كان صراعاً على السلطة بين البايات العثمانيين وبين الاستعمار الفرنسي والقوى الوطنية التي تبحث عن الاستقلال من جهة ثانية، والتي لم تخلُ أجنحتها من الانقاسامات العميقة.
وكان يلاحظ المناخ العائلي داخل أسرته التي تنتمي إلى البورجوازية التونسية الصغيرة ومدى انشغالها بمصالحها اليومية، تشرّب الجزيري الطفل حينها الأحداث وخزّنت ذاكرته الصغيرة وعياً تبلور فيما بعد بالتحدي وإعلان الرفض للمسلمات ومسايرة التحديث، من دون التخلي عن الثوابت التي تسم الشخصية التونسية بهمومها الوطنية، غير مبتعد عن المشاغل العالمية للحرية والموجات الجديدة في الفنون والفكر. هكذا بقي فاضل الجزيري محافظاً على التمشي الفكري/الإبداعي طيلة حياته .
وتحدث الفاضل الجزيري عن المرحلة الصادقية وتعليمه الثانوي الذي بلور شغفه بالمسرح وبالفنون الجميلة، فكان من تلاميذ الفنان، زبير التركي. كما نشط في المسرح المدرسي وظلت أعمال شكسبير راسخة في ذهنه، وكان يحفظ منها مقاطع عن ظهر قلب. كما واظب على حضور جلسات والده في مقهاه بالمدينة العتيقة، إضافة إلى مكتبته الزاخرة بكنوز الكتب.
تمتع الجزيري بصداقات مع الفنانين الذين تركوا بصمتهم الأصيلة في عصره. وكان له مخزون معرفي مهم في الشعر والأدب العربي القديم، ما سيولد لاحقاً لدى هذا المسرحي رؤية جمالية مميزة للصورة الذهنية وتقشفاً في الكلمة كأداة لتطوير الخطاب سواء في ميدان المسرح أم السينما أم العروض "الفرجوية" التي انشغل بها لاحقاً كالنوبة والحضرة والمحفل.
وجاء في رواية "ليلة حديقة الشتاء" أيضاً أنّ الجزيري كان مصّراً على دراسة الفلسفة. وكان من أبرز أساتذته الفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، الذي كان وقتها مقيماً في تونس، والذي كان في بداية شهرته العالمية، وتوطدت علاقته به مثل بعض الطلبة الذين فتحت نقاشاته معهم خارج أسوار الجامعة آفاقاً جديدة لفهم علاقة الفن والفلسفة والجسد.
وقد تعرض الجزيري لتجربة السجن إثر تظاهرات طلابية عام 1967، وكان شاهداً على عمليات التعذيب والقمع التي طالت معتقلي الرأي. رحل ميشال فوكو إثر ذلك تاركاً أفكاره تزداد اتساعاً داخل عقول الجيل الشاب الثائر .
وتحدث الجزيري، كما ورد في الرواية، أنه بحث بعد ذلك عن آفاق أرحب وكانت لندن وجهته، حيث تعرّف على مسارحها، وغذّته الحركة الثقافية التي كانت تشهد زخماً في حقول فنية متنوعة، كالموسيقى والسينما والرسم أيضاً. ثم واصل رحلته إلى باريس ليعيد اكتشاف أعمال جون لوك غودار وينهل من "فرجة" مسرحيات بيتر بروك، وجان جونيه، وكلود شابرول.
وكان الفاضل الجزيري يؤمن، كما يرى أستاذه القديم ميشال فوكو، أنّ السينما تمنحنا القدرة على أن نفكر بشكل مختلف. وتمكن بفضل كتابات هذا الأخير حول أعمال مارغريت دوراس وبازليني وغيرهما، من أن يتعمق أكثر في مسألة الخطاب الجسدي والحسي كحامل يمكن أن يعدّل من حشو اللغة.
وتجلى ذلك في أدواره وأعماله المسرحية التي تحتفي بالممثل أو المؤدي باعتباره يملك وسائل تعبيرية متنوعة ومفتوحة على تأويلات المتلقي، وبالتالي فإنّ العمل الفني يستمد راهنيته من تجذره في اللحظة والآن، لكنه لا ينفصل عن الأحداث السابقة .
بعد عودته من فرنسا أسس الفاضل الجزيري مع مجموعة من رفاقه "فرقة مسرح الجنوب" في قفصة .كما كان من مؤسسي المسرح الجديد مع جليلة بكار والفاضل الجعايبي ومحمد إدريس وحبيب المسروقي.
وبلغت التجربة المسرحية لهذه المجموعة أوجها مع مسرحية "غسالة النوادر" عام 1980. وبعد رحلة إلى لبنان ومشاهدة مجريات الأحداث، انطلقت أولى تجارب مسرحية "عرب"، ثم أخذ كل فرد من المجموعة في البحث عن آفاق أخرى .
كان الفاضل الجزيري يتمتع بكاريزما قوية ويحمل مشروعاً جمالياً مكّنه من خوض مجال التمثيل السينمائي، ومن أكثر أدواره رسوخاً في الذاكرة التونسية دوره في شريط "عبور". كما خاض تجارب أخرى إلى جانب إخراج فيلم "ثلاثون"، علماً أنه حمل مشروع فيلم حول المناضل النقابي، فرحات حشاد، والرمز الوطني التونسي، محمد الدغباجي .
يقول المخرج والكاتب المسرحي والأستاذ في المسرح الوطني في تونس، حسن المؤذن، إن الفاضل الجزيري كان أستاذه في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، وهو رمز مهم في المشهد الثقافي التونسي المعاصر.
وأضاف أن الجزيري "ينتمي إلى جيل كان يحترم الفن باعتباره حقلاً إبداعياً يتطلب جملة من الشروط التي يجب أن تتوفر في المبدع، أهمها مدى إيمانه بعمله والصرامة مع الفعل الإبداعي، والتوق المتجدد للمعرفة في مختلف المجالات التي يمكن أن تضيف إلى المسرح والعمل "الفرجوي" عموماً. كما كان الجزيري يحرص على مزيد من التعلم، ما أطلق عليه "نار التجربة" التي تصقل الأداء وتصفي الشوائب".
وقال المؤذن إن جيل الجزيري "علّمنا من خلال سلوكياته تجاه العمل بدرجة أكبر من الخطاب في مرحلة تاريخية ربطت بين الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي مع البلد، ومن المميزات المهمة لجيل الجزيري أنه أرسى قيم الاستقلالية المادية للمبدع لأنها ضرورة لممارسة الحرية في مجال الفن وعدم الخضوع لإملاءات السلطة القائمة. وتالياً الانطلاق نحو تعبيرات أكثر رحابة وفهماً أكثر وضوحاً للواقع وللفرد وتطلعاته، ما يفتح الباب أمام سبر أعماق المشاهد بكل شفافية".
ويرى المخرج والكاتب المسرحي التونسي أن "هذا المعطى فتح الباب أمام الكونية، وهو جيل ربط الحداثة بالمحلية. إذ لم يكن ممكناً بناء خطاب جمالي مستورد".
وذكر حسن المؤذن أعمالاً مستمدة من الموروث الشعبي منها البرني والعطراء والجازية الهلالية ومحمد علي الحامي، معتبراً أن جيل الجزيري تفطن مبكراً إلى أن "الشعبوية يجب ألا تجذب المبدع إلى استسهال العمل الفني أو ترذيل الخطاب أو عدم الالتزام بنخبوية المسرح، لأنه حامل لقيم توعية واستطيقية ويهدف إلى الاستبصار والوعي، وكان الفنان الفاضل الجزيري من بين المجموعة التي عملت على حقل الميثولوجيا اليومية الآن وهنا فقد بقي الاتصال مع التراث بطريقة سلسة وعقلانية".
ويوضح المؤذن "كان هناك استبطان للكائن التونسي ضمن خطاب مسرحي متكامل، حيث أضاف الجزيري للمدونة الفنية التونسية أعمالاً احتفالية. إذ قام بــ "مسرحة" المخزون الشعبي وأرجع الظاهرة المسرحية إلى الينابيع الدينوزية حيث التجارب الأولى للإغريق حين كان الجمهور يشارك في العروض المقدمة له على المسارح.
من جهته، كتب المخرج والمنتج السينمائي والتلفزي التونسي، علي منصور: "عرفنا فاضل الجزيري مخرجاً طلائعياً حمل المسرح التونسي إلى مناطق جمالية وفكرية جديدة. كما عرفناه وجهاً تمثيلياً قوي الحضور ثم مخرجاً سينمائياً صاحب رؤية لا يشبه سواه".
وأضاف "لقد أغنى (الجزيري) تجربته أيضاً بإخراج أعمال استعراضية ضخمة متقنة البناء والإخراج زاوج فيها بين الموسيقى والرقص والشكل البصري من دون أن تخرجه تلك التجارب من جوهره الحقيقي. إنه رجل مسرح وسينما بامتياز. لقد خسرته الساحة الفنية لا كمخرج استثنائي فحسب، بل كأيقونة اختارت أن تفتح أفق التعبير الحر، وأن تشتغل على الجمال برؤية تجاوزت السائد ولامست العمق، عمق الإنسان والوطن. كان الفقيد من أولئك الذين لا يرضون بالسطح ولا يكتفون بالمنجز".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ 11 ساعات
- LBCI
بعد طول انتظار... تايلور سويفت تكشف موعد صدور ألبومها الجديد
كشفت النجمة العالمية تايلور سويفت عن موعد صدور ألبومها الجديد "The Life Of A Showgirl". ونشرت سويفت صورة غلاف ألبومها الجديد، معلنةً أنه سيصدر في 3 تشرين الأول المقبل. كما كشفت سويفت عن قائمة أغاني الألبوم المكوّن من 12 أغنية. And, baby, that's show business for you. New album The Life of a Showgirl. Out October 3 ❤️🔥 Album Producers: Max Martin, Shellback and Taylor Swift 📸: Mert Alas & Marcus Piggott — Taylor Swift (@taylorswift13) August 13, 2025


LBCI
منذ يوم واحد
- LBCI
"هي الأكثر تعاسة"... هذا ما كشفته دراسة حول العلاقات الزوجية بعد المواعدة الافتراضية
اكتشف الخبراء أن علاقات الأزواج الذين تعارفوا من خلال تطبيقات المواعدة قد تكون الأقل سعادة، وفق ما نقل موقع " ديلي ميل" البريطاني. وفي التفاصيل، درس الباحثون آلاف العلاقات من كافة أنحاء العالم حيث التقى بشكل عام 21% من المتطوعين بشركائهم عبر الإنترنت. وقال الباحث المشارك آدم بود، من الجامعة الوطنية الأسترالية: "أفاد المشاركون الذين التقوا بشركائهم عبر الإنترنت بانخفاض مستوى رضاهم عن العلاقة وعمق مشاعر الحب، بما في ذلك الشغف والالتزام، مقارنةً بمن التقوا في الحياة الواقعية". وقد تساعد هذه النتائج في تفسير بعض حالات الانفصال الشهيرة، بما في ذلك انفصال المغنية البريطانية ليلي ألين والممثل الأميركي ديفيد هاربور، حيث التقيا عبر تطبيق مواعدة المشاهير "رايا". ووفقًا للباحثين، هناك عوامل عدة قد تفسر نتائج الدراسة، فالأزواج الذين التقوا في الواقع يميلون إلى تقاسم سمات أكثر تشابهًا مقارنة بأولئك الذين التقوا عبر الإنترنت. ونظرًا لاستمرار نمو المواعدة عبر الإنترنت عالميًا، أكّدت نتائج الدراسة على ضرورة تعزيز الدعم لتحسين جودة العلاقات بين الأزواج، وخاصةً أولئك الذين التقوا بشركائهم عبر الإنترنت.


الميادين
منذ يوم واحد
- الميادين
إيرانيون يطلقون حملة "أيها العالم! انظر إلى الأطفال" في فلسطين!
بمبادرة من "مؤسسة تنمية الطفل والشباب في إيران - كانو"، أطلقت حملة "أيها العالم! انظر إلى الأطفال"، داعية الأطفال والمراهقين في إيران وحول العالم للمشاركة من خلال صنع طائرات ورقية (أوريغامي) دعماً للأطفال الفلسطينيين الذين يعانون في غزة. وتهدف هذه المبادرة، وفق المنظمين، إلى "زيادة الوعي بحقوق الأطفال، بما في ذلك اتفاقية حقوق الطفل، وتسليط الضوء على معاناة الأطفال في غزة وفلسطين وإيران، الذين يعانون من الهجمات الوحشية للنظام الصهيوني". ويمكن للمشاركين الانضمام إلى الحملة من خلال إنتاج مقاطع فيديو مدتها 30 ثانية تظهر كيفية صنع طائرة ورقية. وتؤكد الحملة أنها تعبير عن "عمل أخلاقي وإنساني عملي في الظروف الحالية"، داعية إلى "أساليب مبتكرة لزيادة الوعي بحقوق الأطفال". وفقًا للدعوة، يُدعى الأفراد من جميع الأعمار - من الأطفال إلى البالغين - لتقديم أعمالهم من 11 آب/أغسطس الجاري إلى 13 تشرين الأول/أكتوبر، بالتزامن مع "أسبوع الأطفال الوطني"، إلى أمانة الحملة. وتعد الطائرة الورقية رمزاً عالمياً للسلام والأمل والصداقة، وتمثل الرغبة في التناغم وشفاء الجروح الناتجة عن الحروب والنزاعات. وتعود قصتها إلى حياة ساداكو ساساكي، الفتاة اليابانية التي تأثرت بالقصف النووي الأميركي على هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية. وكانت ساداكو تعاني مرض الإشعاع، وقد آمنت بالأسطورة اليابانية التي تقول إن طي 1000 طائرة ورقية سيسمح بتحقيق أمنية ويحقق الشفاء من المرض. إلا أن ساداكو توفيت عن عمر يناهز 12 عاماً بعد أن أكملت 644 طائرة ورقية، ولم تتمكن من الوصول إلى هدفها. لكن أصدقاءها وزملاءها، الذين تأثروا بشجاعتها ورغبتها في السلام، أكملوا طي الطائرات الورقية المتبقية تكريماً لها، ما خلق إرثاً يستمر في تمثيل الصمود والسلام ورغبة البشرية في إنهاء النزاعات.