
الرواشين.. فنّ يتنفس الخشب
في عامٍ خُصص للحِرَف اليدوية، تعود الفنون التقليدية إلى الواجهة، لا كتحفٍ في الذاكرة، بل كقوة حيّة تستعيد مكانتها في تشكيل الوعي والهوية. وبين عشرات الحِرَف التي نمت على يد الإنسان وأصبحت امتدادًا لذائقته وبيئته، يبرز فن "الرواشين" بوصفه أحد أكثر أشكال التعبير الحِرَفي نُضجًا وخصوصية.
الرواشين ليست مجرد نوافذ خشبية مزخرفة، بل هي منظومة متكاملة من الوظيفة والجمال والتقنية. هي معمار ناعم يتقاطع فيه الضوء بالظل، والخصوصية بالانفتاح، والبساطة بالحرفية العالية. في كل قطعة من الروشن حكاية صبر وصنعة وذوق، تُصنع بدقة لا تُترك للصدفة، وتُنحت بأنامل تعرف كيف تُخاطب الخشب.
الحِرفة التي تصنع الضوء..
فن الرواشين يبدأ بما لا يُرى: القياس. فالحِرَفي لا يبدأ بالنقش أو التزيين، بل بتحديد أبعاد دقيقة تضمن التوازن والبساطة والانسجام، وهو ما يتيح لاحقًا إمكانية البناء الفني المتقن. بعد ذلك، تُختار الأخشاب المناسبة وفقًا لمعايير محددة، تأخذ بعين الاعتبار المتانة، وسهولة التشكيل، ومقاومة عوامل الزمن. هذه ليست مجرّد مواد خام، بل أساس جمالي سيحمل فوقه كل ما سيأتي لاحقًا من تفاصيل.
ثم تأتي مرحلة التقطيع، وهنا يبدأ التحوّل من "خشب" إلى "مكوّن فني". تُقطع الأجزاء وتُصنّف بدقة لتتماشى مع التصميم المرسوم في خيال الصانع أو وفقًا لتقاليد محددة. هذه العملية تتطلّب عينًا مدرّبة تعرف التناسب، وتُدرك كيف أن الفارق بين قطعة وأخرى قد يُخل بالتناغم البصري للعمل النهائي.
التجميع هو الخطوة التي تعكس البراعة الحرفية كاملة. ليست كل القطع المتطابقة تجتمع على نحوٍ جميل؛ بل إن طريقة التثبيت، والانسياب في التنقل من وحدة إلى أخرى، والقدرة على دمج الأجزاء دون فقدان الهوية الشكلية، هي ما يرفع العمل من مستوى الصنعة إلى مستوى الفن.
الزخرفة في الرواشين ليست ترفًا بصريًا، بل لغة خاصة تعبّر عن الذائقة المجتمعية وتكشف عن تراكب تأثيرات فنية متنوعة. هناك أنماط هندسية صارمة، وأخرى انسيابية، منها ما يعتمد على التكرار الموزون، ومنها ما يترك للفراغ مساحة للتأمل. يتم التشطيب بأساليب يدوية دقيقة، غالبًا دون أدوات ميكانيكية حديثة، لأن اللمسة الشخصية هي ما يُضفي على الروشن فرادته.
في النهاية، تُطبّق المعالجة النهائية لحماية الخشب من العوامل البيئية، باستخدام مواد تحافظ على الملمس واللون والبنية. هذا التوازن بين المحافظة والتجميل هو ما يجعل الرواشين صامدة عبر الزمن، محتفظةً ببهائها ومكانتها.
رمزٌ للحرفة..
الرواشين تمثل حالة من التفاعل بين الفن والبيئة، وبين الإنسان وخصوصيته، وبين الحِرفة والتقنية. وفي عامٍ تتجه فيه الأنظار نحو الحِرَف اليدوية، يعود هذا الفن ليؤكّد أن الصناعات التقليدية ليست من بقايا الماضي، بل من أدوات الحاضر، وأسس المستقبل.
إن إحياء فن الرواشين اليوم لا يعني فقط الاحتفاء بجمالها، بل إدراك الدور الذي تلعبه الحِرَف في ترسيخ الذوق العام، وإحياء الاقتصاد المحلي، وتعزيز الهوية الثقافية. الرواشين ليست قطعًا تُصنّع، بل ذائقة تُنقل، وروح تُستعاد، وإرث يُعاد تقديمه في صيغة معاصرة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
منذ 4 ساعات
- سعورس
الرواشين.. فنّ يتنفس الخشب
الرواشين ليست مجرد نوافذ خشبية مزخرفة، بل هي منظومة متكاملة من الوظيفة والجمال والتقنية. هي معمار ناعم يتقاطع فيه الضوء بالظل، والخصوصية بالانفتاح، والبساطة بالحرفية العالية. في كل قطعة من الروشن حكاية صبر وصنعة وذوق، تُصنع بدقة لا تُترك للصدفة، وتُنحت بأنامل تعرف كيف تُخاطب الخشب. الحِرفة التي تصنع الضوء.. فن الرواشين يبدأ بما لا يُرى: القياس. فالحِرَفي لا يبدأ بالنقش أو التزيين، بل بتحديد أبعاد دقيقة تضمن التوازن والبساطة والانسجام، وهو ما يتيح لاحقًا إمكانية البناء الفني المتقن. بعد ذلك، تُختار الأخشاب المناسبة وفقًا لمعايير محددة، تأخذ بعين الاعتبار المتانة، وسهولة التشكيل، ومقاومة عوامل الزمن. هذه ليست مجرّد مواد خام، بل أساس جمالي سيحمل فوقه كل ما سيأتي لاحقًا من تفاصيل. ثم تأتي مرحلة التقطيع، وهنا يبدأ التحوّل من "خشب" إلى "مكوّن فني". تُقطع الأجزاء وتُصنّف بدقة لتتماشى مع التصميم المرسوم في خيال الصانع أو وفقًا لتقاليد محددة. هذه العملية تتطلّب عينًا مدرّبة تعرف التناسب، وتُدرك كيف أن الفارق بين قطعة وأخرى قد يُخل بالتناغم البصري للعمل النهائي. التجميع هو الخطوة التي تعكس البراعة الحرفية كاملة. ليست كل القطع المتطابقة تجتمع على نحوٍ جميل؛ بل إن طريقة التثبيت، والانسياب في التنقل من وحدة إلى أخرى، والقدرة على دمج الأجزاء دون فقدان الهوية الشكلية، هي ما يرفع العمل من مستوى الصنعة إلى مستوى الفن. الزخرفة في الرواشين ليست ترفًا بصريًا، بل لغة خاصة تعبّر عن الذائقة المجتمعية وتكشف عن تراكب تأثيرات فنية متنوعة. هناك أنماط هندسية صارمة، وأخرى انسيابية، منها ما يعتمد على التكرار الموزون، ومنها ما يترك للفراغ مساحة للتأمل. يتم التشطيب بأساليب يدوية دقيقة، غالبًا دون أدوات ميكانيكية حديثة، لأن اللمسة الشخصية هي ما يُضفي على الروشن فرادته. في النهاية، تُطبّق المعالجة النهائية لحماية الخشب من العوامل البيئية، باستخدام مواد تحافظ على الملمس واللون والبنية. هذا التوازن بين المحافظة والتجميل هو ما يجعل الرواشين صامدة عبر الزمن، محتفظةً ببهائها ومكانتها. رمزٌ للحرفة.. الرواشين تمثل حالة من التفاعل بين الفن والبيئة، وبين الإنسان وخصوصيته، وبين الحِرفة والتقنية. وفي عامٍ تتجه فيه الأنظار نحو الحِرَف اليدوية، يعود هذا الفن ليؤكّد أن الصناعات التقليدية ليست من بقايا الماضي، بل من أدوات الحاضر، وأسس المستقبل. إن إحياء فن الرواشين اليوم لا يعني فقط الاحتفاء بجمالها، بل إدراك الدور الذي تلعبه الحِرَف في ترسيخ الذوق العام، وإحياء الاقتصاد المحلي، وتعزيز الهوية الثقافية. الرواشين ليست قطعًا تُصنّع، بل ذائقة تُنقل، وروح تُستعاد، وإرث يُعاد تقديمه في صيغة معاصرة.


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
الرواشين.. فنّ يتنفس الخشب
في عامٍ خُصص للحِرَف اليدوية، تعود الفنون التقليدية إلى الواجهة، لا كتحفٍ في الذاكرة، بل كقوة حيّة تستعيد مكانتها في تشكيل الوعي والهوية. وبين عشرات الحِرَف التي نمت على يد الإنسان وأصبحت امتدادًا لذائقته وبيئته، يبرز فن "الرواشين" بوصفه أحد أكثر أشكال التعبير الحِرَفي نُضجًا وخصوصية. الرواشين ليست مجرد نوافذ خشبية مزخرفة، بل هي منظومة متكاملة من الوظيفة والجمال والتقنية. هي معمار ناعم يتقاطع فيه الضوء بالظل، والخصوصية بالانفتاح، والبساطة بالحرفية العالية. في كل قطعة من الروشن حكاية صبر وصنعة وذوق، تُصنع بدقة لا تُترك للصدفة، وتُنحت بأنامل تعرف كيف تُخاطب الخشب. الحِرفة التي تصنع الضوء.. فن الرواشين يبدأ بما لا يُرى: القياس. فالحِرَفي لا يبدأ بالنقش أو التزيين، بل بتحديد أبعاد دقيقة تضمن التوازن والبساطة والانسجام، وهو ما يتيح لاحقًا إمكانية البناء الفني المتقن. بعد ذلك، تُختار الأخشاب المناسبة وفقًا لمعايير محددة، تأخذ بعين الاعتبار المتانة، وسهولة التشكيل، ومقاومة عوامل الزمن. هذه ليست مجرّد مواد خام، بل أساس جمالي سيحمل فوقه كل ما سيأتي لاحقًا من تفاصيل. ثم تأتي مرحلة التقطيع، وهنا يبدأ التحوّل من "خشب" إلى "مكوّن فني". تُقطع الأجزاء وتُصنّف بدقة لتتماشى مع التصميم المرسوم في خيال الصانع أو وفقًا لتقاليد محددة. هذه العملية تتطلّب عينًا مدرّبة تعرف التناسب، وتُدرك كيف أن الفارق بين قطعة وأخرى قد يُخل بالتناغم البصري للعمل النهائي. التجميع هو الخطوة التي تعكس البراعة الحرفية كاملة. ليست كل القطع المتطابقة تجتمع على نحوٍ جميل؛ بل إن طريقة التثبيت، والانسياب في التنقل من وحدة إلى أخرى، والقدرة على دمج الأجزاء دون فقدان الهوية الشكلية، هي ما يرفع العمل من مستوى الصنعة إلى مستوى الفن. الزخرفة في الرواشين ليست ترفًا بصريًا، بل لغة خاصة تعبّر عن الذائقة المجتمعية وتكشف عن تراكب تأثيرات فنية متنوعة. هناك أنماط هندسية صارمة، وأخرى انسيابية، منها ما يعتمد على التكرار الموزون، ومنها ما يترك للفراغ مساحة للتأمل. يتم التشطيب بأساليب يدوية دقيقة، غالبًا دون أدوات ميكانيكية حديثة، لأن اللمسة الشخصية هي ما يُضفي على الروشن فرادته. في النهاية، تُطبّق المعالجة النهائية لحماية الخشب من العوامل البيئية، باستخدام مواد تحافظ على الملمس واللون والبنية. هذا التوازن بين المحافظة والتجميل هو ما يجعل الرواشين صامدة عبر الزمن، محتفظةً ببهائها ومكانتها. رمزٌ للحرفة.. الرواشين تمثل حالة من التفاعل بين الفن والبيئة، وبين الإنسان وخصوصيته، وبين الحِرفة والتقنية. وفي عامٍ تتجه فيه الأنظار نحو الحِرَف اليدوية، يعود هذا الفن ليؤكّد أن الصناعات التقليدية ليست من بقايا الماضي، بل من أدوات الحاضر، وأسس المستقبل. إن إحياء فن الرواشين اليوم لا يعني فقط الاحتفاء بجمالها، بل إدراك الدور الذي تلعبه الحِرَف في ترسيخ الذوق العام، وإحياء الاقتصاد المحلي، وتعزيز الهوية الثقافية. الرواشين ليست قطعًا تُصنّع، بل ذائقة تُنقل، وروح تُستعاد، وإرث يُعاد تقديمه في صيغة معاصرة.


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
تفاصيل صغيرةأحلامي التشكيلية
حضرت قبل يومين افتتاح المعرض العام في دورته الـ45 في قصر الفنون بالقاهرة، وهو معرض سنوي يقيمه قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية، وهو حدث مهم يشارك فيه كبار الفنانين المصريين، كانت المشاركة في السابق تتم بناء على دعوات يوجّهها القطاع إلى الفنانين المهتمين لعرض لوحاتهم، وتغير الوضع الآن حيث يقدم الفنانون الراغبون بالمشاركة إلى لجنة تقوم باختيار اللوحات، وعلى الرغم من أنني كنت منبهرة من المستوى الرفيع للفن المعروض إلا أن أحد الفنانين أخبرني أن المعرض في السابق كان مستواه أقوى ومعروضاته أجمل، والسبب أن كثيرا من الفنانين الكبار أحجموا عن المشاركة حين توقفت الدعوات وأصبح مطلوبا منهم عرض لوحاتهم على اللجان. وأنا أتجول في المعرض، انتابتني الأحلام التي لا تنفك تراودني كلما زرت مكانا ثقافيا جميلا، أتمنى مثله في بلادي، تمنيت أن يكون هناك حدثا تشكيليا تقوم عليه وزارة الثقافة، حيث تدعو الفنانين السعوديين للمشاركة فيه، ويكون معرضا جماعيا سعوديا ضخما بمستوى متميز. ترافقه الدورات وورش العمل والأنشطة، شيء يشبه ما تقوم به مسك في أسبوع مسك للفنون، لكن الأساس فيه هو هذا المعرض الجماعي السعودي لكل الفنانين المتميزين والمعروفين، وأعتقد أن تقوم المشاركة على الطريقتين، توجيه الدعوات للفنانين المعروفين والذين حققوا حضورا واعترافا وتميزا في المشهد التشكيلي السعودي، بالإضافة إلى عرض الفنانين الذين لم توجه لهم دعوات للمشاركة عبر لجان تختار اللوحات المناسبة. والحلم الأساس الذي يسبق كل الأحلام هو وجود متحف للفنون، يضم الأعمال المهمة للفنانين عندنا، معرض يصبح مزارا لأي مهتم بالفن عندنا أو للزائر من الخارج، الحقيقة أنني أحلم بأكثر من متحف، بذات المستوى، واحد في الرياض والآخر في جدة. أحلم بوجود متحف لكل فنان راحل من الفنانين الكبار والرواد لدينا، متحف لعبدالحليم رضوي في جدة مثلا، ومتحف لمحمد السليم في الرياض، أو أكثر من متحف لكل فنان. ولأنني أعشق فن البورتريه فأنا أحلم بوجود متحف للبورتريه، أسوة بمتحف البورتريه في لندن. أحلم بمسابقة ضخمة تشرف عليها وزارة الثقافة، تقدم فيها جوائز مهمة للفنانين الرابحين. أحلم بأن يكون المستشارين لهيئة الفنون البصرية يمثلون كل أنواع الفنون، وألا يكون الاهتمام منصبا على نوع واحد أو مدرسة واحدة على حساب بقية الأنواع والمدارس. أحلم بمتاحف تمثل أكثر من نوع من الفنون. أحلم أن تقوم الجامعات التي لديها كليات فنون بعمل معارض سنوية تدعو لها عامة الناس للتعرف على فن خريجيها. أحلم أن تقوم البنوك والفنادق وكل القطاعات الخاصة بشراء أعمال فنية سعودية وعرضها بشكل أكبر، هذا هو الدعم الحقيقي الذي عن طريقه تتطور الفنون لدينا. مازال لدي الكثير من الأحلام التشكيلية لكن سأكتفي بهذا القدر هذه المرة.