logo
صوت الأنا المزعج

صوت الأنا المزعج

الوطن٠٦-٠٥-٢٠٢٥

من سوء حظ الإنسان أنه لم يُخلق زنبقًا. فلو كان كذلك، لما تورط في هذه المهزلة الكونية التي نسميها «الازدواجية». نعم، نحن الكائنات التي ابتُليت بالعقل، نجد أنفسنا دائمًا بين شيئين: بين ما نحن عليه وما نظن أنه يجب أن نكونه، بين «أنا» الواعي و«أنا» المشتت بين صور الإنستغرام وتحليلات كارل يونغ.
الإنسان، هذا الكائن المأسور في منتصف الطريق بين جوهره وغايته، يلوك الزمن كمن يلوك لبانة فقدت طعمها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما جلس بارمنيدس تحت شجرة زيتون وقرر أن «الوجود واحد» ــ ونحن منذ ذلك الحين نحاول أن نثبت له أنه مخطئ.
لكن مهلًا، لماذا لا نكون مثلًا زهورًا؟ على الأقل الزهرة لا تقلق بشأن الغد، ولا تراجع بريدها الإلكتروني قبل النوم، ولا تدخل في نوبة قلق وجودي لأن صديقًا لم يُعجب بصورتها الأخيرة! كيركجارد، الفيلسوف الدنماركي ذو المزاج الميلانكولي، فهم المسألة جيدًا، وكتب ذات مرة في نشوة غريبة: «دعونا نتعلم من الزنبق... الزنبق لا يقول (أنا)». وهذا وحده كافٍ ليجعلنا نشعر بالنقص أمام نبتة لا عقل لها ولا طموحات، لكنها أكثر انسجامًا مع الكون منّا.
الرغبة، في رأي كيركجارد، اختراع شيطاني ابتدعه اليأس كي يحافظ على مكانته بين البشر. الزهرة لا ترغب، الزهرة تزهر. ببساطة. أما نحن، فنريد أن نكون سعداء، مبدعين، ناجحين، محاطين بالإعجابات، وأن ننقذ الكوكب في عطلة نهاية الأسبوع. قال نيتشه ذات مرة: «كل رغبة هي قيد»، ونحن بلا شك مقيّدون إلى درجة أن الزنابق تضحك علينا في سرّها.
في الحقيقة، لو توقفنا عن قول «أنا» في هذه الضوضاء الوجودية، ربما وجدنا السلام. لكننا نعيش في زمن يجعل من الصمت تهديدًا أمنيًا، ومن السكوت عن الذات جريمة ضد السيرة الذاتية. وحتى حين نحاول أن نصمت، نضع صورًا لذلك على «ستوري» الإنستغرام مصحوبة بهاشتاغ: #تأملات_عميقة.
ما يدعونا إليه كيركجارد ليس الهروب إلى كهف ولا اعتناق الزهد الرقمي، بل ببساطة أن نصغي للحياة بصمت، أن نشارك في الوجود دون أن نحاول تصحيحه. ألا نسأل الزهرة عن سبب تفتحها، ولا الطير عن موعد هجرته. أن نحيا كمن يقول: «كفى»، مثلما كتب ألبير كامو، «أن يوجد الإنسان فقط، هو فضيحة كافية بحد ذاتها».
جيل دولوز تساءل ذات يوم: «ما الذي يمكن أن يفعله الجسد؟»، سؤال يبدو كمزحة غليظة على مسامعنا المثقلة بالمسؤوليات والبطاقات البنكية المنهكة. لكن ربما في هذا السؤال يكمن الخلاص: أن نكتشف ماذا يمكن لأجسادنا أن تفعل بعيدًا عن لغة المواعيد والتقويمات والأهداف. أن نعيش اليوم لأنه «اليوم»، وليس لأنه الجمعة أو نهاية الشهر.
الزنبق لا يطرح أسئلة، لا ينظر إلى الأعلى ويتساءل: «هل أنا كافٍ؟»، بل يزهر حتى في التربة الفقيرة، في الريح، في الغبار، لأنه لا يعرف معنى الفشل أو المقارنة. كتب كيركجارد: «انظر إلى العشب في الحقل، كما هو اليوم». وهو دعوة لأن نكون «اليوم»، لا كفكرة مجردة، بل ككائن حي يتنفس الحياة ولا يضطر لتفسيرها.
إن الفرح ليس شعورًا، بل موقف وجودي، حالة من الامتزاج اللحظي مع اهتزاز العالم. أن تكون فرِحًا، يعني أن تكون الآن، تمامًا، بلا شروط، بلا تفسيرات. وهذا ما تفعله الزهرة.
وبالتالي، لعلّ الحل في كل هذا الهوس المعرفي والقلق الوجودي ليس أن نفهم الحياة، بل أن نكفّ عن التشويش على إيقاعها. ألا نحاول إصلاح الذات كما لو كانت مشروعًا هندسيًا معيبًا. أن نكتفي ــ ويا لها من شجاعة! ــ بأن نكون مثل الزنبق: صامتين، مزهرين، متصالحين مع أن «الوجود... يكفي».

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

شيماء سيف تحسم الجدل حول انفصالها بصورة ورسالة محبة لزوجها
شيماء سيف تحسم الجدل حول انفصالها بصورة ورسالة محبة لزوجها

صدى الالكترونية

timeمنذ 11 ساعات

  • صدى الالكترونية

شيماء سيف تحسم الجدل حول انفصالها بصورة ورسالة محبة لزوجها

وضعت الفنانة المصرية شيماء سيف حدًا للشائعات المتداولة مؤخرًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشأن انفصالها عن زوجها المنتج محمد كارتر، خاصة بعد أن لاحظ المتابعون إلغاء متابعتها له عبر 'إنستغرام'. وردّت شيماء بطريقة غير مباشرة، حيث نشرت عبر خاصية القصص المصورة 'ستوري' على حسابها في إنستغرام، صورة عفوية تجمعها بزوجها، وعلّقت عليها بكلمات مؤثرة: 'حبيبي، ربنا يخليهولي يا رب'، ما اعتبره جمهورها تأكيدًا على استمرار علاقتهما وعودة الاستقرار لحياتهما الزوجية. وكانت النجمة قد أثارت التساؤلات في وقت سابق، بعدما نشرت رسالة غامضة تضمنت عبارة: 'الندل لو كشفته يبجح، ولو واجهته يقبح، ولو بعدت عنه يلقح، ويشوف عدوك فين ويقعد معاه ويسبح'، ما فتح باب التأويلات حول وجود خلاف جديد بينها وبين كارتر. يُذكر أن شيماء سيف أعلنت في وقت سابق عودتها إلى زوجها بعد فترة من الانفصال، ما جعل أي مؤشرات على توتر العلاقة بينهما محط اهتمام الجمهور، قبل أن تحسم الأمر بنفسها برسالة حب علنية أنهت التكهنات. إقرأ أيضًا:

نجل مالكوم يحتفل بيوم ميلاده بقميص الهلال .. صور
نجل مالكوم يحتفل بيوم ميلاده بقميص الهلال .. صور

صدى الالكترونية

timeمنذ 6 أيام

  • صدى الالكترونية

نجل مالكوم يحتفل بيوم ميلاده بقميص الهلال .. صور

احتفل النجم البرازيلي مالكوم فيليبي، محترف الهلال، بيوم ميلاد نجله غابرييل الثاني، في أجواء عائلية مميزة. وشارك مالكوم الجماهير عبر خاصية 'ستوري' على حسابه في 'إنستغرام' لقطات من جلسة تصوير خضع لها نجله، ظهر خلالها مرتديًا قميص الهلال. كما زُينت كعكة عيد الميلاد بصورة غابرييل وهو يرتدي قميص الزعيم، وسط إعجاب وتفاعل كبير من مشجعي النادي على مواقع التواصل الاجتماعي.

صوت الأنا المزعج
صوت الأنا المزعج

الوطن

time٠٦-٠٥-٢٠٢٥

  • الوطن

صوت الأنا المزعج

من سوء حظ الإنسان أنه لم يُخلق زنبقًا. فلو كان كذلك، لما تورط في هذه المهزلة الكونية التي نسميها «الازدواجية». نعم، نحن الكائنات التي ابتُليت بالعقل، نجد أنفسنا دائمًا بين شيئين: بين ما نحن عليه وما نظن أنه يجب أن نكونه، بين «أنا» الواعي و«أنا» المشتت بين صور الإنستغرام وتحليلات كارل يونغ. الإنسان، هذا الكائن المأسور في منتصف الطريق بين جوهره وغايته، يلوك الزمن كمن يلوك لبانة فقدت طعمها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما جلس بارمنيدس تحت شجرة زيتون وقرر أن «الوجود واحد» ــ ونحن منذ ذلك الحين نحاول أن نثبت له أنه مخطئ. لكن مهلًا، لماذا لا نكون مثلًا زهورًا؟ على الأقل الزهرة لا تقلق بشأن الغد، ولا تراجع بريدها الإلكتروني قبل النوم، ولا تدخل في نوبة قلق وجودي لأن صديقًا لم يُعجب بصورتها الأخيرة! كيركجارد، الفيلسوف الدنماركي ذو المزاج الميلانكولي، فهم المسألة جيدًا، وكتب ذات مرة في نشوة غريبة: «دعونا نتعلم من الزنبق... الزنبق لا يقول (أنا)». وهذا وحده كافٍ ليجعلنا نشعر بالنقص أمام نبتة لا عقل لها ولا طموحات، لكنها أكثر انسجامًا مع الكون منّا. الرغبة، في رأي كيركجارد، اختراع شيطاني ابتدعه اليأس كي يحافظ على مكانته بين البشر. الزهرة لا ترغب، الزهرة تزهر. ببساطة. أما نحن، فنريد أن نكون سعداء، مبدعين، ناجحين، محاطين بالإعجابات، وأن ننقذ الكوكب في عطلة نهاية الأسبوع. قال نيتشه ذات مرة: «كل رغبة هي قيد»، ونحن بلا شك مقيّدون إلى درجة أن الزنابق تضحك علينا في سرّها. في الحقيقة، لو توقفنا عن قول «أنا» في هذه الضوضاء الوجودية، ربما وجدنا السلام. لكننا نعيش في زمن يجعل من الصمت تهديدًا أمنيًا، ومن السكوت عن الذات جريمة ضد السيرة الذاتية. وحتى حين نحاول أن نصمت، نضع صورًا لذلك على «ستوري» الإنستغرام مصحوبة بهاشتاغ: #تأملات_عميقة. ما يدعونا إليه كيركجارد ليس الهروب إلى كهف ولا اعتناق الزهد الرقمي، بل ببساطة أن نصغي للحياة بصمت، أن نشارك في الوجود دون أن نحاول تصحيحه. ألا نسأل الزهرة عن سبب تفتحها، ولا الطير عن موعد هجرته. أن نحيا كمن يقول: «كفى»، مثلما كتب ألبير كامو، «أن يوجد الإنسان فقط، هو فضيحة كافية بحد ذاتها». جيل دولوز تساءل ذات يوم: «ما الذي يمكن أن يفعله الجسد؟»، سؤال يبدو كمزحة غليظة على مسامعنا المثقلة بالمسؤوليات والبطاقات البنكية المنهكة. لكن ربما في هذا السؤال يكمن الخلاص: أن نكتشف ماذا يمكن لأجسادنا أن تفعل بعيدًا عن لغة المواعيد والتقويمات والأهداف. أن نعيش اليوم لأنه «اليوم»، وليس لأنه الجمعة أو نهاية الشهر. الزنبق لا يطرح أسئلة، لا ينظر إلى الأعلى ويتساءل: «هل أنا كافٍ؟»، بل يزهر حتى في التربة الفقيرة، في الريح، في الغبار، لأنه لا يعرف معنى الفشل أو المقارنة. كتب كيركجارد: «انظر إلى العشب في الحقل، كما هو اليوم». وهو دعوة لأن نكون «اليوم»، لا كفكرة مجردة، بل ككائن حي يتنفس الحياة ولا يضطر لتفسيرها. إن الفرح ليس شعورًا، بل موقف وجودي، حالة من الامتزاج اللحظي مع اهتزاز العالم. أن تكون فرِحًا، يعني أن تكون الآن، تمامًا، بلا شروط، بلا تفسيرات. وهذا ما تفعله الزهرة. وبالتالي، لعلّ الحل في كل هذا الهوس المعرفي والقلق الوجودي ليس أن نفهم الحياة، بل أن نكفّ عن التشويش على إيقاعها. ألا نحاول إصلاح الذات كما لو كانت مشروعًا هندسيًا معيبًا. أن نكتفي ــ ويا لها من شجاعة! ــ بأن نكون مثل الزنبق: صامتين، مزهرين، متصالحين مع أن «الوجود... يكفي».

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store