
زياد الرحباني.. غريب في الديار
اختنق الرجل على دفعات بعد أن احتشد قاموسه بمفردات الأسى من جهة، وأذى الآخرين، حيال مواقفه وأفكاره وسخريته، من جهةٍ أخرى. لكن موسيقاه، مسرحياته، أغانيه، ستبقى أيقونة عصية على النسيان.
عبقريته المبكّرة وضعته في لجّة الموجة نحو فضاء آخر، كما لو أنه يعيد وصل الخيط المقطوع مع سيد درويش، كلاهما كتبا نبض الشارع الشعبي من موقع مضاد. فهذا موسيقي عبث بالنوتة الراسخة، وابتكر سلالم موسيقية جديدة مشبعة بطرب شرقي غير مألوف، وبكلمات ملتقطة من اليومي المهمل وزجّها في صلب شعر العامية غير مكترث بالذائقة المستقرة.
هكذا تجاور البيانو والبزق في لحن واحد، كما لو أنهما من عائلة واحدة. كانت معركته الموسيقية الأولى مع سلالته الرحبانيين المؤسسين، معركة بدأت بألعاب نارية مسلية، قبل أن تطيح بالخصم في عقر داره.
هكذا نصب كميناً محكماً لموسيقى الأب والعم قبل أن يعلن نوتته الشخصية وانشقاقه عن المدرسة الأم. أنجز فتى السابعة عشرة أغنية "سألوني الناس عنك يا حبيبي" كتحية لوالده الراحل، وكمرثية للأم المفجوعة، ثم مضى مفرداً إلى شوارعه وحاناته ومسرحياته، وصناعة فرجة مضادة في توصيف الخسارة وعفن الحرب الأهلية اللبنانية التي باغتته في أول الطريق.
إلّا أنّ هذه الحفرة منحته في المقابل كنوزاً موسيقية يصعب على سواه أن يحقّقها بمثل هذه البراعة والعبقرية والتمرّد، وإذا لكلّ واحد من جيله وما تلاه حصته من وليمته بتوابلها الحرّيفة ونكهتها التي لا تتكرّر.
ما غنمه زياد الرحباني من ميراث العائلة، حوّله بخيمياء سحرية إلى ميراثه الشخصي. هجر "ضيعة الرحابنة" ومخاتيرها، وحكماءها وطرابيشها، و"لبنان يا أخضر حلو"، مستكشفاً صخب المدينة ومصحاتها وأسرارها، وشوارعها الخلفية من دون مراوغة أو مجازات.
أغنية مثل "الحالة تعبانه يا ليلى" بصوت رفيقه جوزيف صقر تختزل منهج زياد الرحباني الذي سيتطوّر باستقطاب أصوات أخرى، ربما كان صوت لطيفة بأغنية "أمّن لي بيت" نموذجاً في توسيع دائرة الأغنية المضادة لخردة السوق وميوعتها.
على المقلب الآخر، سنقع على سيرة موازية لأفكاره في مسرحياته، بدءاً من "سهرية" (1973)، مروراً بمسرحية "نزل السرور"، و"بالنسبة لبكرا شو"، وصولاً إلى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، و"لولا فسحة الأمل" (1994).
لعل زياد الرحباني فقد فسحة الأمل، فأرخى الستارة وغادر خشبة المسرح باكراً، لكنّ صدى تلك المسرحيات بقي عالقاً في أذهان مريديه من جيل الحرب الأهلية، ليعيد اكتشافها الجيل الجديد بمنظورٍ آخر.
ستحضر موسيقى زياد الرحباني في فضاء مجاور، حيث كتب الموسيقى التصويرية لمجموعة من الأفلام المهمة، مثل "طيارة من ورق" لرندة الشهال، و"وقائع العام المقبل" لسمير ذكرى، و"نهلة" لفاروق بلوفة، كما أنجز مجموعة من البرامج الإذاعية بصوته، من موقع اليساري الغاضب والجريء ضد ممارسات السلطة، مثل "العقل زينة"، و"نص الألف خمسمية".
لكنّ الانقلاب الكبير في مسيرة زياد الرحباني يتجلّى في تعاونه مع السيدة فيروز في مغامرة تبدو للوهلة الأولى عصيّة على التحقّق. فكيف لهذا الصوت البرّي المؤلف من طراوة العشب، المبلل بالمطر، ورائحة الثلج، و"ذهب أيلول تحت الشبابيك"، أن يشتبك مع كلمات ابنها الآتية من معجم آخر لا يشبهها (كيفك أنت، وعودك رنّان، وعهدير البوسطة، على سبيل المثال).
في لحظة مجنونة وعبقرية تمكّن زياد من سحب فيروز نحو بساطه الشعبي لتغادر سجادة العائلة، وتدخل بثقة إلى الأزقة الخلفية للحياة اليومية بقاموس غرائبي يحمل بصمة الابن العبقري والمجنون. هكذا تدخل تعابير جديدة إلى أغنيات فيروز مثل الخس والزيتون من دون أن نحتجّ على هذا التحوّل. بل على العكس تماماً، كأنّ زياد وهو يختبر حنجرة فيروز في هذه المنطقة الملتبسة، يسعى إلى خلخلة التاريخ الرحباني لها بتاريخ مضاد، يشبه اللحظة الراهنة بكلّ تشظياتها، بعيداً من الرومانسية الريفية التي لم تعد موجودة إلا في بطون الكتب، ليؤكّد أنّ فيروز تصلح لكلّ الأزمنة وكـــــــــلّ الأدوار، سواء فــــــــي شجن الناي أو جنون الجاز.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

القناة الثالثة والعشرون
منذ 4 ساعات
- القناة الثالثة والعشرون
بـ"صورة مؤثرة".. هذا ما قاله غسان الرحباني لـ"ريما" ابنة فيروز
في حين اختارت عائلة الرحباني الصمت وعدم الإدلاء بتصاريح على أثر رحيل العبقري زياد الرحباني، عبّر غسان الرحباني، إبن عمّ زياد، عن تضامنه مع ريما الرحباني من خلال نشر صورة لها وهي برفقة السيدة فيروز، أرفقها بتعليق مؤثّر للغاية جاء فيه: " قلبي معَكِ يا سَانِدة الأم الحزينة". وكانت الصورة قد التُقطت في مراسم دفن زياد، إلى جانبها ريما، ابنتها، التي لم تفارقها طوال الوقت. وكان غسان الرحباني قد سبق ونشر صورة لزياد الرحباني بالأبيض والأسود وعلّق عليها بالقول: "وجعي"، في تعبير يعكس مدى حزنه على فراق ابن عمّه. وفي مراسم وداع نجلها زياد الرحباني، حافظت السيدة فيروز على خصوصيتها المعهودة في مواجهة الألم، ملتحفة بصمتٍ بات أحد أوجه حضورها العميق في الوجدان اللبناني والعربي. وقد بدا هذا في صورها التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كشفت النقاب عن عظمة الأم الصامدة، فكانت درساً إنسانياً يرمز إلى لبنان. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


تيار اورغ
منذ 6 ساعات
- تيار اورغ
بالصور: خطيبة زياد الرحباني السابقة شاركت في مراسم الدفن!
لا زال خبر وفاة الفنان الراحل زياد الرحباني ومراسم دفنه تتصدران أخبار مواقع التواصل الاجتماعي. فقد أعيد الحديث بعد نحو أسبوع من وفاته عن خطوبته من الفنانة ليال ضو التي حصلت عام 2009 الا انها لم تتكلل بالزواج. وكانت ليال وهي ممثلة مشهورة بالأدوار الكوميدية عُرفت من خلال برنامج 'بسمات وطن' للمخرج شربل خليل وشاركت في عدة أعمال فنية مع زياد. وفي حديث تلفزيوني أجري معها على قناة 0tv قبل عام ، أشارت ليال إلى انها لم تكن على تواصل مع زياد في الفترة الأخيرة. علما ان ليال شاركت في مراسم دفن زياد وظهرت وهي تبكي بحرقة أمام نعشه. وتزوج زياد للمرة الأولى من دلال كرم في العام 1979 بعدما تعرَّف إليها في التمارين التي كانت تُقام لمسرحية 'ميس الريم'، حيث كانت تتمرّن مع فرقة الدبكة، لكنهما انفصلا لاحقاً، ووصلت علاقتهما إلى حدٍّ دراماتيكي ومضرّ بابنهما عاصي؛ لا سيما وأن زياد أعلن أنه أجرى فحص الـ DNA، وتبيّن أنه ليس والده. ولاحقاً ارتبط زياد بالممثلة كارمن لبّس في علاقةٍ كانت قوية واستمرّت لنحو 15 عاما ، لكنهما انفصلا ولطالما رفضت لبّس التحدث عن هذه الفترة.


النهار
منذ 8 ساعات
- النهار
قصّة أغنية "كيفك إنت"... ليست عن زياد وفيروز (فيديو)
لطالما أحاطت بزياد الرحباني شائعات وروايات متداولة، خصوصاً تلك التي تمسّ أعماله الفنية وعلاقته بوالدته، السيدة فيروز. ومن أكثر هذه القصص انتشاراً، الكلام المنتشر بأن أغنية "كيفك إنت"، التي كتبها زياد وغنّتها فيروز، كانت موجّهة من الأم إلى ابنها. تفاصيل الرواية المزعومة تدّعي أن فيروز التقت بزياد صدفة بعد انقطاع طويل، وقالت له: "كيفك إنت؟ مفكرتك برّات البلاد، وقال صار عندك ولاد". إلا أن الحقيقة مختلفة تماماً، وفق ما أكّده زياد الرحباني نفسه في مقابلة تلفزيونية، أوضح خلالها أن القصة الحقيقية للأغنية تعود إلى امرأة كانت تربطه بها علاقة سابقة. وقد التقاها صدفة بعد عودته إلى لبنان، وكانت هي من بادرت بتلك الجملة، التي أصبحت لاحقاً مطلع الأغنية. وبالتالي، لا علاقة للسيدة لفيروز بهذا النص. وتجدر الإشارة إلى أن الإعلامية ديما صادق كانت قد أعادت نشر هذا التوضيح حفاظاً على الأرث عبر حسابها على إنستغرام، مرفقة الفيديو الذي يوثّق كلام زياد. View this post on Instagram A post shared by Dima Sadek 🌺🌺 ديما صادق (@dimasadekofficial) وفي سياق متصل، لا يمكن تجاهل الإرث الفني والثقافي الهائل الذي يحمله اسم الرحابنة، والذي لطالما حرصت ريما الرحباني، ابنة السيدة فيروز، على صونه والدفاع عنه، في وجه القصص المختلقة والتأويلات العشوائية التي تُنسج حول العائلة وأعمالها.