
خطب الجمعة في وطننا بين التنظير والتنزيل
من المعلوم أن الله عز وجل شرع لنا عبادة الجمعة ، فدعانا لنسعى إلى ذكره ،ونذر البيع . ولقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بالذكر هو خطبتي الجمعة استنادا إلى ما ورد في الموطأ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سياق حديثه عن عبادة الجمعة : » فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر » ، ويؤكد هذا قول الله تعالى : (( فإذا قضيت الصلاة …. الآية )) ، وهي الركعتان بعد ذكر الخطبتين.
ولقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرع للمسلمين عبادة الجمعة من أول أيام الهجرة ، وقيل في اليوم الخامس منها ، وقد أطال في خطبته التي ألقها في يوم جمعة كانت له ببطن واد لبني سالم بن عوف ، وكان لهم به مسجد، ثم صلى الجمعة الموالية بمسجده بالمدينة المنورة فيما صح من الأخبار .
ولقد كانت خطبه منذ ذلك الحين تجمع بين ركنين اساسين لها ، وهما : التنظير ، والتنزيل . أما التنظير، فقوامه الوحي المنزل من عند الله عز وجل قرآنا كريما ، وسنة مشرفة ، وأما التنزيل فهو ملابسة ، ومعالجة الوحي لواقع الناس المعيش ، وهو ما وجد إلا لهذا القصد ،ولهذه الغاية من أجل استقامة أحوالهم بتنزيله في حياتهم ،وبقائهم على الفطرة السوية التي فطرهم الله تعالى عليها .
ومعلوم أنه بين التنظير والتنزيل تناغم بحيث نزل الوحي كلاما ،كي يتحول على أرض الواقع إلى أفعال، ومواقف، وسلوكات، ومعاملات ملموسة ، ومشهودة تشهد على آثار الوحي في نفوس الناس بما يتضمنه من هدي قوامه أوامر ونواه .
ولقد كانت خطب النبي متناغمة مع ما كان يومئذ سائدا من أحوال فرضها ظرف الدعوة الإسلامية ، و ظرف بناء دولة الإسلام أول أمرها ، وكان ذلك تحديدا منه صلى الله عليه وسلم لوظيفة خطبة الجمعة التي وجب على المؤمنين التقيد بها إلى قيام الساعة بحيث يساير التنظير التنزيل في مختلف الظروف والبيئات، حيث يكون التنزيل بالضرورة متحولا، بينما يظل التنظير ثابتا ، ودليلا وحجة على أن الوحي يغطي جميع الأحوال التي يمر بها البشر تشريعا وتنظيما إلى يوم القيامة شريطة أن يوفقوا في كل عصر ، و في كل بيئة إلى حسن تنزبل التنظير في واقعهم المعيش .
ولقد سار الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعد ذلك على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحافظة على تناغم التنظير مع التنزيل ، وتابعهم في ذلك التابعون لهم، ومن تبعهم ، وسارت الأمة المسلمة على ذلك النهج لعصور في كل المجتمعات المسلمة حتى أتى على الناس هذا العصر الذي غُيِّب فيه التناغم بين التنظير والتنزيل إلا في حالات قليلة ، و غلب الاقتصار في خطب الجمعة على التنظير في وقت ضار واقعهم المعيش يعج بالمشاكل ، وبالآفات التي يضرب عنها الخطاب الديني صفحا ، وبذلك حدثت قطيعة بين التنظير والتنزيل ، وضاعت فرصة الربط العملي أو الإجرائي بين الوحي قرآنا وسنة وبين الواقع المعيش ، و معلوم أنه لا يمكن أن يتأتى هذا الربط إلا بالترجمة العملية والإجرائية للوحي من خلال أفعال، وسلوكات ، ومواقف ملموسة ، قوامها التزام الناس أوامره ونواهيه .
ولا بد هنا من وقفة مع ظاهرة غياب أو تغييب التناغم بين التنظير والتنزيل في خطب الجمعة ببلادنا مؤخرا ، وأول ما يجب الوقوف عنده هو علاقة التنزيل بالبيئة الطبيعية ، والبشرية أو الاجتماعية ، وكلتاهما يحكمها التنوع مع التناسق . فبلادنا حباها الله تعالى وله الثناء والحمد الكثير بطبيعة خلابة بتنوع تضاريسها المتناسقة ، وهو تنوع يسم التجمعات البشرية فيها بسمات التنوع أيضا بحيث يجمع بينها المشترك العام من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، حواضرها ، وقراها ، وأريافها ، وإلى جانب ذلك يميزها الخاص المتنوع في كل جهة . وهذا التنوع يؤثر في طبيعة أحوال الناس ، وعاداتهم وتقاليدهم ، وأنماط عيشهم ، وطبيعة ذهنياتهم ، وطبيعة سلوكهم، ومواقفهم … إلى غير ذلك من المميزات التي تميز بينهم لكن في إطار قواسم مشتركة تجمع بينهم ويلتقون عندها، و يلعب الوحي باعتباره تنظيرا دورا رئيسيا من أجل تحقيق التناغم المطلوب بينه وبين التنزيل في الواقع المعيش .
ولقد ظلت خطب الجمعة في بلادنا زمنا طويلا تراعي إلى حد ما خصوصيات التنوع البيئي والاجتماعي ، وكان التنوع يطبعها بحيث تتلاءم مع واقع الناس المعيش ، وهو واقع مختلف، ومتنوع ذلك أن واقع الحواضر ليس كواقع البوادي والأرياف ، وليست مشاكل هذه كمشاكل الأخرى ، ولا معضلات هذه كمعضلات تلك ، الشيء الذي يفرض تنوع خطب الجمعة بالضرورة ، ولزوما، وليس اختيارا.
ولما عمدت الوزارة الوصية على الشأن الديني عندنا إلى تنزيل ما سمته خطة تسديد التبليغ بناء على قناعة انطلقت فيها من مسلمة لديها ، بلا برهان مقنع عليها مفادها وجود هوة بين الدين وتدين المغاربة ، وارتأت بناء على هذا أن توحد خطب الجمعة لتحقيق التسديد الذي تبنته في تبليغ الدين لهم ، وذلك في ظل تغييب الفوارق بين جهات البلاد ،حواضرها، وقراها ،وأريافها من حيث تنوع النسيج الاجتماعي، و من حيث تباين مستويات التلقي بين أفراده ، و اختلاف لهجات التلقي إلى جانب لغة الوحي ، واختلاف مشاكل حياتهم اليومية، وهمومهم، وانشغالاتهم ، واختلاف حاجاتهم من التوجيه أو التسديد … إلى غير من الاختلافات التي لا يمكن القفز عليها باعتبار المتلقين نسيجا اجتماعيا واحدا لا تنوع فيه فيوجه بناء على ذلك إليه خطاب ديني موحد على الصعيد الوطني ، وفي هذا خروج عن مقصد أو الغاية من خطبة الجمعة كما شرعها الله عز وجل ، وكما بيّنها للمؤمنين رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا يمكن أيضا إغفال أن الفرد المسلم في بلادنا تربطه آصرة الدين مع كل المسلمين في كل أصقاع المعمور ، وأنه مأمور شرعا بالتفاعل الوجداني معهم باعتبار الأمة المسلمة جسدا واحدا كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تتداعى فيه الأعضاء بالسهر والحمى لشكاة العضو الواحد المتضرر . وهذا مما يوسع بالضرورة دائرة انشغال الأمة بأحوالها وهمومها، الشيء الذي لا يمكن معه للخطاب الديني الموحد على الصعيد القطري أن يلبي هذه الحاجة أو يحقق هذا المطلب .
ولقد كان من المفروض والوزارة الوصية تعتمد هيكلة المجالس العلمية الجهوية والمحلية أن تعطيها استقلاليتها ، وصلاحيتها في اعتماد الخطاب الديني الذي يناسب حاجيات واهتمامات الأفراد في نطاق نفوذها الجغرافي تماشيا مع اعتماد البلاد خيار سياسىة اللامركزية واللاتمركز في الميدان الديني كما هو الحال في باقي الميادين مع توحيد هذا الخطاب بطبيعة الحال في المناسبات المقتضية لتوحيده سواء كانت وطنية أو كانت متعلقة بشؤون الأمة الإسلامية ، كما كان الأمر قبل اعتماد قرار توحيد خطب الجمعة على خلفية اعتماد خطة تسديد التبليغ .
وعلى الوزارة الوصية أن تعي جيدا أنه مما يفقد خطب الجمعة الموحدة تأثيرها الفعلي في متلقيها أنها تغرد بعيدا عن همومهم ،وانشغالاتهم المحلية، والجهوية ،والوطنية ، بل وتلك التي يقتضيها الانتماء إلى الأمة المسلمة، والانشغال بها ، وهو ما يطرح مشكل انعدام التناغم بين التنظير والتنزيل . وكدليل على ذلك نسجل غياب قضية القدس، والمسجد الأقصى من خطب الجمعة الموحدة ، وهي القضية الدينية التي يجعلها المسلمون في كل أرجاء المعمور على رأس اهتماماتهم وانشغالاتهم بحيث لم تخصص ولو خطبة واحدة موحدة لهذه القضية ، بل أكثر من ذلك غاب فيها حتى مجرد الدعاء مع الضحايا الفلسطينيين الذي يتعرضون إلى إبادة جماعية في غاية الوحشية الفظاعة على أيدي الصهاينة المحتلين ، وهم تحت الحصار، والتجويع ، والقصف ليل نهار . فكيف سيتفاعل الناس عندنا مع خطب موحدة والحالة هذه ، وهم الذين يخرجون في مسيرات مليونية كل أسبوع تقريبا للتعبير عن انشغالهم بالقضية الفلسطينية، وتأييدهم لإخوانهم المضطهدين في أرض الإسراء والمعراج ، وهم يعاينون يوميا مسيرات مليونية في كل أقطار العالم عبر وسائل الإعلام ، ووسائل التواصل الاجتماعي تنظموها شعوب مسلمة وغير مسلمة أيضا ؟ وعلى الوزارة الوصية على الشأن الديني أن تعي جيدا أنها أول من يتحمل مسؤولية إفراغ خطبة الجمعة مما يجعل القلوب ترتبط بها ، وتهفو إليها ، وتقبل عليها برغبة وشغف ، ولا تقبل على غيرها مما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي من أنواع الخطاب الديني الذي يتحقق فيه التناغم بين التنظير والتنزيل، وذلك في ظرف ثورة رقمية صيّرت العالم قرية صغيرة .
وأخيرا لعل الأمل يعلق على حكمة السادة علماء المجلس العلمي الأعلى ، وهم المعول عليهم من أجل تدارك التداعيات السلبية لما آلت إليه خطبة الجمعة في بلادنا إثر اعتماد خطة تسديد التبليغ التي هم من اقترحها حسب تصريح الوزير . ولا شك أن هذا التدراك منهم ، سيكون بالفعل تسديدا موفقا للتبليغ إذا ما تحقق بالفعل التناغم بين التنظير والتنزيل إن شاء الله تعالى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سوس 24
منذ ساعة واحدة
- سوس 24
تكريم استثنائي داخل مركز امتحان سيدي وسيدي بتارودانت
في لحظة مؤثرة ومُلهمة، استُدعي لها وحضرها السيد المدير الإقليمي لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بتارودانت، والمدير المساعد، ورئيس المركز الإقليمي للامتحانات، ورئيس مصلحة الشؤون القانونية والتواصل والشراكة، شهد مركز الامتحان سيدي وسيدي بتارودانت تكريمًا خاصًا لمترشحة حرة لامتحانات البكالوريا، تبلغ من العمر 77 سنة، أبهرت الجميع بحضورها المميز، وإصرارها اللافت على خوض غمار هذا التحدي التربوي بعزيمة لا تلين. هذه السيدة الفاضلة، ورغم تقدمها في السن، جسّدت قوة الإرادة، وروح التحدي، وعشق التعلم، وأكدت أن العلم لا عمر له، وأن الطموح لا يعرف حدودًا. حضورها خلق جوًا من الإعجاب والاحترام، ليس فقط لكونها امرأة كسرت كل الصور النمطية، بل لأنها تمثل نموذجًا يُحتذى به في الجدية والانضباط. المبادرة جاءت من السيد رئيس المركز وأطره، الذين حرصوا على الاحتفاء بها، واعتبروا تكريمها لحظة رمزية تحمل رسائل قوية لأجيالنا الصاعدة: أن لا شيء مستحيل مع الإرادة، وأن طلب العلم لا يُقيد بسن أو ظرف. كل التقدير لهذه السيدة الرائعة، التي أهدتنا درسًا حيًّا في المثابرة والتفاني، ونتمنى لها كل التوفيق في مشوارها التعليمي، سائلين الله أن تُتوج مجهوداتها بنتائج طيبة وتحصل على ميزة مشرفة تُكلّل هذا المسار الملهم.


أكادير 24
منذ 2 ساعات
- أكادير 24
وفاة الشيخ عبد العزيز الكرعاني تُفجع الساحة الدينية في المغرب
agadir24 – أكادير24 فقدت الساحة الدينية المغربية، صباح اليوم السبت 31 ماي 2025، أحد أعمدتها البارزين بوفاة الشيخ المقرئ عبد العزيز الكرعاني، داخل إحدى المصحات الخاصة بمنطقة بوسكورة، بعد صراع مرير مع مرض السرطان. وبرز الراحل كأحد أشهر المقرئين في المملكة، حيث تميز بصوته الخاشع وأسلوبه المتقن في التلاوة، فترك أثراً روحياً عميقاً في نفوس مريديه، وأسهم في تخريج أجيال من حفظة كتاب الله، داخل الكتاتيب القرآنية ومن خلال الدروس والدورات التي أشرف عليها في مختلف مدن المغرب. وأثارت وفاة الشيخ عبد العزيز الكرعاني موجة من الحزن العميق في الأوساط الدينية، حيث نعاه عدد من العلماء والمشايخ والمقرئين، معبرين عن تقديرهم الكبير لما قدمه من خدمة جليلة للقرآن الكريم، ولرسالته التربوية والروحية على مدى عقود. وتناقلت منصات التواصل الاجتماعي خبر الوفاة بحسرة بالغة، وسط دعوات جماعية للفقيد بالرحمة والمغفرة، واستحضار لِقَيمه العلمية والأخلاقية التي جعلته رمزاً للصفاء والاتزان في زمن تشتد فيه الحاجة إلى القدوة. ويُعدّ رحيل الشيخ الكرعاني خسارة فادحة للمشهد الديني بالمغرب، بالنظر إلى ما كان يشكله من مرجعية في مجالات التلاوة والتحفيظ والتربية الروحية، وهو ما يعيد تسليط الضوء على أهمية العناية بأعلام الدين في حياتهم وبعد رحيلهم.


وجدة سيتي
منذ 11 ساعات
- وجدة سيتي
حديث الجمعة : (( ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعوهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا ))
حديث الجمعة : (( ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعوهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا )) اقتضت إرادة الخالق سبحانه وتعالى خلق الإنسان كي يُستخلف في الأرض مزودا بما يؤهله لهذه المهمة الجسيمة، وعلى رأس هذا التأهيل تزويده بالملكة العاقلة، والمدركة ، والواعية التي تمكنه من الوعي أولا بذلته وبوجوده ، وبوجود خالقه ، وبالغاية التي من أجلها خلقه ، وبالذي تتحقق به هذه الغاية من أوامر ونواه حددها له تحديدا. ولقد شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يكون بينه وبين الإنسان المخلوق تواصل عبر وحي يوحيه بواسطة ملائكته الكرام إلى صفوة خلقه من الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين المكلفين بالتبليغ عنه إلى بني آدم من بدء الخليقة إلى نهايتها . وهكذا حصل التواصل بينه سبحانه وتعالى وبين خلقه بواسطة ألسنة مختلفة فطرهم عليها ، وعقول متفاوتة الإدراك حسب سلامة فطرتهم . وقوام هذا التواصل بين الخالق سبحانه وتعالى هو الإقناع بالأدلة، والبراهين ،والحجج التي تقنع عقول بني آدم ، وتقيدها بإقامة الحجة عليها بأن التبليغ عنه قد بلغها ، ولا عذر لها بعد ذلك . والبشرعبر تاريخهم الطويل صنفان لا ثالث لهما ، صنف يحسن توظيف الملكة العاقلة، والمدركة ،والواعية بتوفيق من واهبها له سبحانه وتعالى لعلمه السابق ببقائه على الفطرة السليمة التي فطره عليها ، وصنف معطل لتلك الملكة قد حرم من توفيق الواهب له لعلمه السابق بانحرافه عن الفطرة السليمة . والله تعالى سمى الصنف الأول مؤمنين ، والصنف الثاني كافرين مصداقا لقوله تعالى في الآية الثانية من سورة التغابن : (( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير )). والإيمان في حقيقة أمره إقرار واعتراف ، ولا يحصل الإقرار والاعتراف إلا بالملكة العاقلة ، والمدركة، والواعية ، بينما الكفر في حقيقة أمره إنكار، وجحود مرده تعطيل تلك الملكة كما أخبر الله تعالى بذلك في الآية التاسعة السبعين بعد المائة من سورة الأعراف : (( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )) ، وبتعطيل هذه الملكة التي عمادها قلوب تغفه ، وأعين تبصر ، وآذان تسمع ، ينحذر المعطلون لها إلى مستوى الأنعام غير العاقلة ، بل إلى مستوى أضل من ذلك . ولقد تعدد في كتاب الله عز وجل الحديث عن الصنفين معا ، صنف من أحسنوا توظيف ملكتهم العاقلة ، والمدركة ، والواعية ، وصنف المعطلين لها ، ومما جاء في ذكر هذا الصنف الأخير قوله تعالى في الآية الكريمة السابعة من سورة الكهف : (( ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعوهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا )) ، ففي هذه الآية الكريمة بيان سر تعطيل الملكة العاقلة ، والمدركة ، والواعية ، وهو الإعراض عن الآيات التي هي أدلة، وحجج، وبراهين ، والإعراض هو الانصراف، وعدم الاكتراث ، ويكون ماديا حين يدير الإنسان ظهره لمن يكون قبالته ، كما يكون معنويا حين ينصرف بذهنه عما يلقى إليه من كلام . ووفق هذه الآية الكريمة يعتبر المعطل لملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية واقعا في أعجب ،وأقبح، وأشنع ظلم على الإطلاق ، وهو ظلم نفسه قبل ظلم غيره حين يحذر من سوء العاقبة بالأدلة، والحجج، والبراهين ، و يعرض عنها ولا يبالي بها ، لهذا جاء التعبير عن هذا الظلم بقوله تعالى : ((ومن أظلم ممن … )) أي لا يوجد أظلم منه لنفسه ، لأن الذي يحسن توظيف ملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية إذا عرضت عليه الأدلة، والحجج، والبراهين الدالة على ما ينذر به من سوء العاقبة ، أقبل عليها متأملا ، فاحصا ، متبيّنا . والمعطل لهذه الملكة يفضي به تعطيله لها لا محالة إلى النسيان الذي ينتفي معه التذكر ، ويترتب عنه الإهمال ، وأقبح نسيان ما نتج عنه إلحاق الإنسان الضرر بنفسه ، والله تعالى يقول في الآية الخامسة عشرة بعد المائة من سورة طه : (( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)) ، ولقد اقترن هنا النسيان عند آدم ،وهو كذلك في ذريته بغياب العزم الذي اختلف المفسرون في دلالته، فقال بعضهم هو الصبر على ما نُهِي عنه ، وقال آخرون هو حِفْظ ما أمر به ، وبناء على هذا يجتمع في العزم صبر على المنهي عنه ، وحفظ للمأمور به . ولقد بيّن الله تعالى حال الناسي ، وهو المعطل لملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية بأنه كالذي على قلبه كِنَانٌ أي غطاء يحجبه عن إدراك مضامين الأدلة، والبراهين ،والحجج المعروضة عليه ، وكالذي في أذنه وَقرٌ أي صَمَمٌ يحول دون وصول الكلام الحامل لتلك الأدلة ، والبراهين ، والحجج إليه . ولقد أشار الله تعالى إلى أن الكنان الحاجب لقلبه ، والوقر المصم لسمعه إنما هو جَعْلٌ منه سبحانه وتعالى ، وبيان ذلك أنه خلق من المشاغل ما يصرف من يعطل ملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية عن التفكير، والتأمل في عاقبة أمره ، وفي هذه الحال لا تنفع دعوة الداعي له حين يدعوه إلي الهداية ويحذره من الضلال وعاقبته الوخيمة ، وإلى رفع التعطيل عن ملكته . ومعلوم أن سبب نزول هذه الآية الكريمة هو تعطيل كفار قريش ملكتهم العاقلة ، والمدركة ، والواعية، ولكن حكمها ينسحب على كل من يسير على نهجهم في تعطيلها إلى قيام الساعة ، لأن العبرة في كلام الله عز وجل بعموم لفظه ، لا بخصوص سببه . ومعلوم أن تعطيل هذه الملكة سيظل أمرا ملازما لبني الإنسان على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم ما دامت الدنيا باقية ،وذلك مهما بلغت درجة علمهم ومعرفتهم ، والدليل على ذلك أن بعض الراسخة أقدامهم في علوم المادة أو في علوم الإنسان معطلة عندهم تلك الملكة . ومن استحكام الأكنة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم أنهم يرفضون إطلاقا الإنصات لمن يعرض عليهم الآيات أي الأدلة، والحجج، والبراهين الواردة في الذكر الحكيم وكثير منهم لم يخطر بباله يوما أن يستعرض ما تضمنته الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من آيات دالة على الهداية ، ومنذرة بسوء العاقبة في حال الضلال . وفي المقابل قد تكون الآية الواحدة يعيه سامعها سببا في اهتدائه لحظة انكشاف الكِنان عن قلبه ، والوقر عن أذنه ، ويكفي أن نمثل لذلك بما حدث لأحد السفراء الألمان في العصر الحديث الذي رأى صبية في منطقة القبائل بالجزائر يحفظون القرآن الكريم ،وهم متعلقون به أشد التعلق مع أن لغته الأم هي الأمازيغية ، وليست لغتهة العربية ، ففكر في الاطلاع على القرآن الكريم ، فمرت به الآية الثامنة عشرة من سورة فاطر : (( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى )) ، فكان هذا سببا في تحطيم وهم ظل يؤمن بها طويلا ، وهو حمل المسيح عليه السلام خطايا المؤمنين به كما زعم ذلك رهبانهم ، وسببا في اهتدائه وإيمانه بما أنزل الله تعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين . وما أكثر من انكشفت الأكنة على قلوبهم ، والوقر من آذنهم بسبب تأمل واحد في آية من آيات الذكر الحكيم . وما أكثر من ولدوا بين أحضان الأسر المؤمنة ، ولكن استحكمت الأكنة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم ، فضلوا وأضلوا . مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما حذر منه الله تعالى، وهو أخطر الظلم على الإطلاق ، حين يظلم الإنسان نفسه عن طريق تعطيل ملكته العاقلة ، والمدركة ،والواعية خصوصا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعوات الباطلة التي يدعو أصحابها إلى الضلال الصُراح والبَواح تحت شعارات مغرية من قبيل التنوير ، والحداثة ، والتحرر ، والتقدم، والتحضر ، والتقدم … إلى غير ذلك مما ابتدعه الضالون المغرضون ، وهم ممولون من جهات خارجية تضمر العداء لدين الإسلام والحقد عليه ، وعلى أهله من المؤمنين من أجل إشاعة البوائق في الأمة المسلمة ،بدءا بانحطاط القيم الإسلامية ، ومرورا بكل المفاسد على اختلاف أنواعها وأشكالها ، وانتهاء بالكفر والشرك ، وكل ذلك من ظلم النفس البشرية التي فطرت على الفطرة السوية . وإن طوابير الضلال الخامسة المندسة في المجتمعات المسلمة تعمل ليل نهار ، دون كلل أو ملل ،وتبذل قصارى جهودها ، وكل ما في وسعها من أجل طمس معالم الشخصية الإسلامية خصوصا لدى الشبيبة المسلمة مستغلة غِرَّتها ، وقلة تجربتها في الحياة ، وضيق أفقها العلمي والمعرفي ، واستهواء كل أنواع اللهو لها ، و فضلا عن استغلال عنفوان غرائزها خصوصا غريزة الجنس … كي تمرر إلى قلوبها وأذهانها كل ما يفسد فطرتها السوية ، وقد جندت لذلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت قيودا تقيدها ، وتستخدم ككمائن أو شراك في منتهى الخطورة للإيقاع في كل أنواع المفاسد غير المسبوقة ، وذلك في غياب فعالية أدوار أولياء الأمور من آباء وأمهات ، ومربين … وغيرهم ، و مع دس أنواع خبيثة وماكرة من المفاسد في المناهج الدراسية ، وفي غياب دور المؤسسات، والمنابر الدينية المنشغلة عن مواجهة تلك المفاسد المهددة للناشئة ،بأنواع من خطاب القطيعة مع الواقع المعيش والتتغريد بعيدا وعما يتطلبه الظرف الدقيق الذي تمر به أمة الإسلام المهددة في هويتها ، وفي مقدساتها ، وفي ثوابتها ، ودون تدارك خطر تدمير الأسر التي هي نواة المجتمع الصلبة ، و دون التصدي للإجهاز غير المسبوق على القيم الإسلامية ، في زمن استقواء قوى الشر في العالم . و لهذا، ما أحوج أمة الإسلام إلى خلع الأكنة عن القلوب ، والوقرعن الآذان ، من أجل الإصغاء إلى آيات الله عز وجل بالملكة العاقلة ، والمدركة ، والواعية تجنبا للسقوط في آفة ظلم النفس ، وتعريضها للهلاك في الدنيا، ولهلاك الآخرة أشد . اللهم الطف بنا يا لطيفا بالعباد ، ولا تجعل يا مولانا على قلوبنا أكنة ، ولا في آذاننا وقرا، يحول بيننا وبين استيعاب آياتك البينات ، اللهم إنا نسألك هداية من عندك تحول بيننا وبين ظلم أنفسها ، وتنجينا مما درأت له كثير من الجن والإنس. اللهم وانصر المجاهدين في سبيلك في أرض الإسراء والمعراج نصرا تعز به دينك ، وتذل به من يعاديه ، ويمكر به من كفار ومنافقين . والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .