منذ 11 ساعات
العراق يعزل نفسه جوا وسط الحرب الإقليمية "حتى إشعار آخر"
"كنا نتهيأ للإقلاع، جلس المسافرون في مقاعدهم، الطيار أنهى إعلانه المعتاد، ثم فجأة تغيّر كل شيء"، هكذا تروي يسر علي، الموظفة في مطار بغداد الدولي، اللحظات الأولى لإغلاق الأجواء العراقية فجر الـ13 من يونيو (حزيران) الجاري.
"أنزلنا الركاب من الطائرات، حتى الذين كانوا مستعدين للإقلاع، والذين في صالات الانتظار. بدأنا نداءات مكثفة عبر مكبرات الصوت نبّلغ فيها الناس بأن المجال الجوي مغلق، ارتعبت العائلات وبكي الصغار وانتظروا جميعهم ساعات، ولم نعرف وقتها بمَ نجيبهم. المفاجأة لم تكن في قرار الغلق فقط، بل في عدم وجود توقيت محدد لعودة الحركة"، هكذا تتابع الموظفة حديثها لـ"اندبندنت عربية"، وتقول إن "بعض الركاب بقوا من الخامسة فجراً حتى الساعة العاشرة مساءً، ينتظرون أي خبر. أجانب، وطلاب، ومسافرون لا يملكون سكناً في بغداد، ظنّوا أن الأمر سيُحل خلال ساعات، لكنهم اضطروا في اليوم التالي إلى المغادرة بلا وجهة واضحة، لأن السماء مغلقة"، ثم تضيف بابتسامة مريرة "كنا نكرر الجملة نفسها للسائلين: لا نعرف، راقبوا الصفحة الرسمية. نحن أيضاً ليس لدينا غير انتظار عودة السماء العراقية."
كيف ولماذا أُغلقت الأجواء العراقية؟
في تمام الساعة الخامسة فجراً من الجمعة الـ13 من يونيو 2025، أصدرت سلطة الطيران المدني العراقي بياناً رسمياً أعلنت فيه إغلاق المجال الجوي العراقي "أمام حركة الطيران المدني بشكل موقت"، مشيرة إلى أن القرار يأتي كإجراء احترازي للحفاظ على سلامة الملاحة الجوية في ظل تطورات إقليمية متسارعة.
استخدم البيان عبارات تحمل طابع الطوارئ، بعد تنفيذ إسرائيل هجوماً بالصواريخ على إيران، وورود تقارير غير مؤكدة عن عبور بعض هذه الضربات أجواء العراق، سُمعت في مناطق متفرقة من البلاد. ويجعل الموقع الجغرافي من العراق حلقة وصل بين إيران وإسرائيل، والمعركة بينهما غالباً ما تستخدم هذه المساحة كـ"ممرات جوية" للصواريخ والطائرات من دون طيار، ساحة عبور نيران متبادلة من دون موافقة صريحة، ويمكن من ثم أن يصبح الخطر على الرحلات المدنية حقيقياً وفورياً.
مع مرور الساعات، تبيّن أن قرار الإغلاق لن يكون قصير الأمد كما تصور كثر. ففي الساعة السابعة مساءً من اليوم نفسه صدر تعميم جوي آخر (NOTAM ORBB A0373/25) يؤكد استمرار الإغلاق حتى إشعار آخر. وبدأت شركات الطيران في مختلف دول العالم، من قطر والإمارات إلى تركيا وألمانيا، بتعليق رحلاتها إلى المطارات العراقية في بغداد والبصرة والنجف وأربيل، وتحويل مساراتها الجوية إلى طرق بديلة عبر السعودية والأردن ومصر وغيرها.
لم يقتصر القرار على الطائرات المغادرة والقادمة، بل شمل أيضاً الطائرات العابرة أجواء العراق، التي يُقدر عددها اليومي بـ600 إلى 700 رحلة دولية. وأصبح المجال الجوي العراقي، وهو معبر جوي إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، في ليلة وضحاها فراغاً غير مستخدم.
الدول المجاورة للعراق، أي الأردن ولبنان وسوريا، أعلنت عن إجراءات مماثلة، لكنها كانت أقل شدة من قرار العراق. اكتفت عمّان وبيروت بتعليق موقت خلال ساعات الليل أو في أوقات معينة، ثم أعادت فتح المجال الجوي نهاراً في اليوم التالي، وهي اليوم مفتوحة جزئياً لكن يبقى العراق وحده إضافة إلى إيران وإسرائيل، غالقاً أجواءه كلياً. يقول الباحث في شؤون الطيران المدني والأمن الجوي، محمد مشكور، إن "العراق يقع في قلب الممر الجوي بين إسرائيل وإيران، وهو أحد أكثر النقاط حساسية في حال اندلاع أي صراع. وتحد البلاد من جهة الشرق إيران على طولها وامتدادها، مما يجعله أكثر خطورة من غيره بحال تعرضت إيران للاستهداف أو انطلاق الهجمات منها. ومقارنة بغيره، لا يملك العراق الوسائل الكافية للسيطرة الكاملة على أجوائه، لا من جهة الرادارات الحديثة، ولا من جهة الردع الدفاعي، مما يجعل الشركات أكثر حذراً في التعامل معه، ومن ثم إغلاق المجال".
وقدمت وزارة الخارجية العراقية، الجمعة الـ14 من يونيو، شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل، متهمةً إياها بـ"استخدام المجال الجوي العراقي لقصف أهداف داخل إيران خلال الساعات الماضية".
وجاء في بيان الوزارة أن "هذا التصرف يُعد انتهاكاً لسيادة العراق وتهديداً مباشراً لأمنه الوطني"، لكن لم تتلق الحكومة العراقية أي رد.
العراق منطقة "عالية الخطورة للطيران المدني"
من جهتها أصدرت الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران (EASA) تقييماً واضحاً اعتبرت فيه أن الأجواء العراقية أصبحت منطقة عالية الخطورة على الطيران المدني.
وورد في التحديث الأخير الذي أصدرته الوكالة في منتصف يونيو الجاري، أنه "نظراً إلى التصعيد العسكري الجاري في المنطقة، هناك خطر مرتفع للغاية على الطيران المدني داخل أجواء العراق وإيران ولبنان وسوريا. توصي الوكالة بتجنّب استخدام المجال الجوي بجميع المستويات والارتفاعات حتى إشعار آخر."
هذا التحذير المعروف باسم Conflict Zone Information Bulletin (CZIB)، يُصدر عادة في الحالات التي ترى فيها EASA أن هناك احتمالاً فعلياً لأن تتعرض الطائرات المدنية لأذى مباشر أو غير مباشر نتيجة النزاعات المسلحة، أو لغياب السيطرة الكافية على الأجواء، أو بسبب استخدام المجال الجوي في عمليات عسكرية غير معلنة.
ويبيّن مشكور في حديثه لـ"اندبندنت عربية" أن تصنيف وكالة EASA يحمل ثقلاً دولياً، لا سيما أن كثيراً من شركات الطيران الأوروبية تعتمد عليه في اتخاذ قراراتها التشغيلية، سواء في تغيير المسارات الجوية أو إيقاف الرحلات موقتاً. ونتيجة لهذا التحذير، أوقفت شركات مثل "لوفتهانزا" (Lufthansa) و"أير فرانس" (Air France) و"كي أل أم" (KLM)، و"ويز أير" (Wizz Air) رحلاتها من وإلى سماء العراق، وتجنبت عبور أجوائه بالكامل، حتى بالنسبة إلى الرحلات العابرة.
واجب العراق حماية المسافرين
من جهته قال المتحدث باسم وزارة النقل العراقية، ميثم الصافي، إن "قرار إغلاق المجال الجوي العراقي أمام حركة الطيران المدني جاء حفاظاً على الأرواح وسلامة الملاحة الجوية، وضمن واجب الدولة في حماية مسافريها وأجوائها". وأضاف في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أنه "في ظل هذا الواقع الإقليمي الشديد التعقيد، أصبح إغلاق الأجواء العراقية ضرورة، وجاء نتيجة تقييم أمني مستمر بالتنسيق مع الجهات السيادية والمعنية بالطيران المدني."
وأشار الصافي إلى أن سلطة الطيران المدني لم تصدر تفاصيل علنية في شأن تقييم الخطر، لكنه أوضح أن القرار "سيظل سارياً لحين حصول ضمانات أمنية فعلية من المجتمع الدولي، أو في الأقل توفر مؤشرات واضحة على استقرار نسبي في خط التماس الإيراني - الإسرائيلي."
وأضاف أن "العراق لا يسمح بمرور أو هبوط أية طائرة في ظل الظروف الراهنة، بغضّ النظر عن موقف الدول المجاورة. أولويتنا هي حماية مسافرينا ومنشآتنا الجوية، ولا يمكن السماح بأي هامش للمخاطرة أو التهاون في هذا الشأن، كما أن نسبة الخسارات المالية لا تصل أهميتها بالوقت الحالي لما يجري من خطر قد يمس المسافرين بشكل مباشر". ويقول المتحدث إن مطار البصرة في جنوب العراق، يعمل خلال النهار فقط لعودة المسافرين وإخراج العالقين، وسيبدأ بتنظيم رحلات دولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من 700 طائرة إلى صفر
وكانت وزارة النقل العراقية أكدت في تصريحات سابقة، أن الأجواء العراقية تُعدّ من أكثر الممرات الجوية استخداماً في المنطقة، وتشهد يومياً مرور أكثر من 700 طائرة مدنية، مما يدرّ على البلاد إيرادات مالية تتجاوز 9 ملايين و450 ألف دولار شهرياً.
وذكرت الوزارة أن العراق يتقاضى 450 دولاراً عن كل طائرة تعبر مجاله الجوي، إضافة إلى نحو4 آلاف دولار عن كل طائرة تهبط في مطاراته مقابل خدمات أرضية تقدمها شركات النقل والمناولة الجوية.
ومع استمرار إغلاق الأجواء العراقية، توقفت ثلاثة مصادر رئيسة للعائدات المرتبطة بالطيران، وهي إيرادات الخطوط الجوية العراقية نتيجة إلغاء الرحلات، وعائدات المطارات العراقية بسبب توقف حركة الهبوط والإقلاع، وعائدات المسارات الجوية العابرة التي أُغلقت تماماً نتيجة التصعيد الأمني في المنطقة.
ومن زاوية تقييم اقتصادي، يرى المتخصص محمد مشكور أن هذا الإغلاق يمثل خسارة مركبة للاقتصاد العراقي ،ويقول إن "كل طائرة لا تعبر أو تهبط تعني مالاً ضائعاً على أكثر من جهة تشغيلية. إنها خسارة تشغيلية، ونزيف طويل الأمد يؤثر في شركات الطيران والبنية التحتية وسمعة المجال الجوي العراقي كممر آمن ومستقر."
عودة مطار البصرة
منذ إعلان الإغلاق الرسمي صباح الـ13 من يونيو الجاري، بقيت سلطات الطيران المدني تُصدر تمديدات مرحلية لحظر الطيران، وهو ما عكس ارتباكاً في تقييم المدة الزمنية اللازمة للعودة إلى الوضع الطبيعي. في البداية، صدر الإغلاق حتى منتصف ليل الجمعة ثم مُدد حتى صباح السبت، ثم إلى الساعة الواحدة ظهراً، ثم حتى الرابعة عصراً، وأخيراً حتى السابعة مساءً من اليوم التالي قبل أن يُعلن عن تمديد الحظر مبدئياً حتى الـ20 من يونيو الجاري، ثم تغييره لاحقاً ليصبح "حتى إشعار آخر".
كذلك أعلن رئيس سلطة الطيران المدني، بنكين ريكاني، استئناف الرحلات المنتظمة من مطار البصرة الدولي اعتباراً من الثلاثاء الـ17 من يونيو الجاري، نحو عدد من الوجهات الإقليمية والدولية. وقال ريكاني في بيان رسمي إن الخطوط الجوية العراقية ستبدأ بتسيير رحلات إلى مدن: دلهي وبومباي ودبي والقاهرة وأنقرة وإسطنبول وطرابزون وأنطاليا وبيروت والبحرين.
ويُعد هذا القرار أول انفراجة جزئية في الحظر الجوي المفروض على العراق منذ خمسة أيام، مع بقاء المطارات الرئيسة الأخرى في بغداد والنجف وأربيل والسليمانية مغلقة حتى إشعار آخر.
الشركات التي تجاوزت سماء العراق
وتُعد شركة الخطوط الجوية القطرية (Qatar Airways) من أبرز شركات الطيران التي تعتمد على المجال الجوي العراقي، حيث تسير رحلات منتظمة إلى بغداد والبصرة والنجف وأربيل والسليمانية. وأعلنت الشركة تعليق جميع رحلاتها ابتداءً من فجر الجمعة الـ13 من يونيو، وحتى إشعار آخر، من دون تحديد موعد لعودتها.
أما شركة طيران الإمارات (Fly Emirates) فقد أوضحت في بيان رسمي أن رحلاتها إلى العراق ستظل معلّقة حتى الـ30 من يونيو الجاري، مع تأكيدها أنها تتابع التطورات "على مدى الساعة"، فيما أعلنت شركة "فلاي دبي" (Flydubai) أن التعليق سيستمر حتى الـ20 من يونيو، مع احتمالية التمديد بحسب تطورات الوضع الأمني. وفي بيانات مماثلة، أعلنت شركة "أير أرابيا" (Air Arabia) تعليق رحلاتها حتى نهاية يونيو، بينما اكتفت شركات مثل لوفتهانزا (Lufthansa) والخطوط الجوية التركية (Turkish Airlines) وطيران الاتحاد (Etihad) بعبارة "حتى إشعار آخر"، من دون تحديد مواعيد تقديرية للعودة.
مسألة السيادة الهشة على المجال الجوي، ليست جديدة على العراق، إذ أنه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، أُعلن عن إغلاق جزئي للأجواء فوق إقليم كردستان (أربيل والسليمانية)، إثر عبور صواريخ روسية أُطلقت من بحر قزوين نحو أهداف في سوريا. وفي أبريل (نيسان) 2024، خلال تصعيد عسكري سابق بين إيران وإسرائيل، شهد العراق إغلاقاً موقتاً لمجاله الجوي ساعات قليلة، كإجراء احترازي بعد إطلاق طائرات مسيّرة وصواريخ عبر أجوائه. وأُعلن عن استئناف الرحلات صباح اليوم التالي، بعد التأكد من زوال التهديد المباشر.