#أحدث الأخبار مع #Nixonshockصحيفة الخليج٢٧-٠٣-٢٠٢٥أعمالصحيفة الخليجتعميم ظاهرة اللاتوازن الماليد. محمد الصياد * كما هي عدوى المرض الهولندي الذي تصاب به الدول التي تركن لإحدى ثرواتها الطبيعية وتهجع اقتصاديا ظناً منها أن مصدر هذه الثروة الطبيعي لن ينضب، كذلك هي عدوى انتقال وانتشار اللاتوازن (بين الإيرادات والمصروفات) الذي بات يميز موازنات الدول الكبرى الرأسمالية في العقدين ونيف الأخيرين. فالعدوى بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية التي أخذت على عاتقها مهمة ومسؤولية ضبط وتنسيق وتوازن السياسات النقدية والمالية العالمية، سواءً عبر تنصيبها الدولار الأمريكي كعملة العملات العالمية: للتداول الداخلي والخارجي، ولعمليات الدفع الدولية، وللاكتناز الدولي، أو عبر المؤسسات المالية الدولية التي تسيطر عليها (بحكم نسبة مساهمتها في رؤوس أموالها) وتشرف على عملها، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية «International Finance Corporation» التابعة للبنك الدولي – لم تتمكن من النهوض بهذه المهام والمسؤوليات سوى ل 26 سنة فقط، من سنة 1945 الى سنة 1971، حين قررت أمريكا، فيما عُرفت بصدمة نيكسون «Nixon shock»، فك ارتباط الدولار بالذهب تحت ضغط أزمتها الاقتصادية التي تمثلت في ارتفاع نسبة التضخم الى 5.84%، وارتفاع معدل البطالة إلى 6.1%. والسبب هو تعاظم الالتزامات المالية (الانفاق) للدولة الأمريكية الذي أدى إلى تآكل احتياطياتها الذهبية واختلال توازناتها المالية. فكان لابد للولايات المتحدة من دفع ثمن مسؤولياتها العالمية المتعاظمة العسكرية والاقتصادية والسياسية. ولم يعد، منذ ذلك الحين، بوسع الولايات المتحدة أن تقابل احتياجاتها والتزاماتها المالية المتعاظمة سنة بعد سنة، إلا من خلال التمويل العجزي الذي يصلها على مدار الساعة (كأنبوب تغذية المريض) من دول الفوائض المالية التي تحصل مقابل ذلك على فوائد السندات التي تبيعها وزارة الخزانة الأمريكية. وبما أن المعلم لم يعد قادراً ولا مبالياً بعواقب الاستدانة المستدامة، فكان لابد للتلاميذ أن يقلدوا أستاذهم في عدم الاهتمام بالانضباط، «حضوراً وتحصيلا علمياً». فكان أن تعممت سياسة التمويل العجزي، بحيث يندر أن تجد اليوم دولة لا تؤمِّن احتياجاتها الإنمائية، الجارية والاستثمارية، من سياسة التمويل العجزي، باستثناء عدد يسير من الدول (10 دول) ما زالت تضبط إيقاع دورتها الاقتصادية أخذاً في الحسبان مبدأ التوازن المالي، ما مكنها من جعل دينها العام كنسبة مئوية من إجمالي ناتجها المحلي، عند حده الأدنى الذي يراوح ما بين 2.1% (هونج كونج)، و17% (روسيا الاتحادية). لهذا، يمكن القول إن جميع الدول تقريباً، اليوم، مديونة، بسبب الإخفاق في تحقيق التوازن المالي، حيث تتراكم الديون بسبب عجز الموازنات والاضطرار إما لزيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة لزيادة الإيرادات بالتوازي مع خفض النفقات، أو للاقتراض لجسر الفجوة بين الإيرادات والمصروفات. وتأتي الأموال اللازمة لتمويل هذا العجز من مصادر عدة: الاقتراض من خلال قيام الحكومات بإصدار سندات لجمع الأموال المطلوبة من المستثمرين المحليين والدوليين الذين يقبلون على شراء هذه السندات. وهذه هي الطريقة الأساسية التي تستخدمها الحكومات لتمويل عجزها، التمويل من خلال البنوك المركزية: في بعض الحالات، قد تشتري البنوك المركزية سندات حكومية بشكل مباشر أو غير مباشر، ما قد يوفر تمويلاً فورياً، لكن هذا سيؤدي إلى زيادة المعروض النقدي، وترتيباً التضخم إذا تم ذلك بشكل مفرط، الاستثمار الأجنبي، فقد تجتذب البلدان الاستثمار الأجنبي المباشر أو الاستثمار في المحافظ، والذي يمكن أن يوفر تدفقات لرأس المال تساعد على تمويل العجز، المساعدات والقروض الدولية، حيث تتلقى بعض البلدان مساعدات مالية من منظمات دولية (مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي) أو دول أخرى، لتغطية عجوزاتها، السياسة النقدية، إذ بوسع البنوك المركزية أيضاً تنفيذ سياسات تخفض أسعار الفائدة، ما يجعل الاقتراض أرخص للحكومات لغرض تمويل العجز، النمو الاقتصادي، فإذا نما الاقتصاد، يمكن أن تزيد الإيرادات الضريبية بمرور الوقت، ما يساعد على إدارة العجز وتقليصه. دوامة العجز تبدأ من تسببه في رفع وتيرة ومستويات الاقتراض، وزيادة مدفوعات الفائدة، ولا تنتهي بتخفيض مخصصات الاستثمار الإنتاجي، ما يؤدي إلى انخفاض الإيرادات خلال العام التالي. الآن، ما الذي يسبب عجز الميزانية؟ ينحاز مذهب الاقتصاد السياسي الرأسمالي، لتحميل مسؤولية العجز إلى سياستين إنفاقيتين هما زيادة الإنفاق على برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، وتقديم الدعم الحكومي لبعض الصناعات. ولا يقارب هذا المذهب أوجه الإنفاق التي تُعد المسؤول الأول والحقيقي عن العجز وتراكمه، مثل الإنفاق العسكري، و«دوزنة» الهيكل الضريبي بطريقة تضع ضرائب أقل على أصحاب الرساميل والثروات والمداخيل المرتفعة، وزيادتها، بالمقابل، على أصحاب الأجور المنخفضة، فضلاً عن سياسة الإعفاءات والتخفيضات والتسهيلات الضريبية. *خبير اقتصادي بحريني
صحيفة الخليج٢٧-٠٣-٢٠٢٥أعمالصحيفة الخليجتعميم ظاهرة اللاتوازن الماليد. محمد الصياد * كما هي عدوى المرض الهولندي الذي تصاب به الدول التي تركن لإحدى ثرواتها الطبيعية وتهجع اقتصاديا ظناً منها أن مصدر هذه الثروة الطبيعي لن ينضب، كذلك هي عدوى انتقال وانتشار اللاتوازن (بين الإيرادات والمصروفات) الذي بات يميز موازنات الدول الكبرى الرأسمالية في العقدين ونيف الأخيرين. فالعدوى بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية التي أخذت على عاتقها مهمة ومسؤولية ضبط وتنسيق وتوازن السياسات النقدية والمالية العالمية، سواءً عبر تنصيبها الدولار الأمريكي كعملة العملات العالمية: للتداول الداخلي والخارجي، ولعمليات الدفع الدولية، وللاكتناز الدولي، أو عبر المؤسسات المالية الدولية التي تسيطر عليها (بحكم نسبة مساهمتها في رؤوس أموالها) وتشرف على عملها، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية «International Finance Corporation» التابعة للبنك الدولي – لم تتمكن من النهوض بهذه المهام والمسؤوليات سوى ل 26 سنة فقط، من سنة 1945 الى سنة 1971، حين قررت أمريكا، فيما عُرفت بصدمة نيكسون «Nixon shock»، فك ارتباط الدولار بالذهب تحت ضغط أزمتها الاقتصادية التي تمثلت في ارتفاع نسبة التضخم الى 5.84%، وارتفاع معدل البطالة إلى 6.1%. والسبب هو تعاظم الالتزامات المالية (الانفاق) للدولة الأمريكية الذي أدى إلى تآكل احتياطياتها الذهبية واختلال توازناتها المالية. فكان لابد للولايات المتحدة من دفع ثمن مسؤولياتها العالمية المتعاظمة العسكرية والاقتصادية والسياسية. ولم يعد، منذ ذلك الحين، بوسع الولايات المتحدة أن تقابل احتياجاتها والتزاماتها المالية المتعاظمة سنة بعد سنة، إلا من خلال التمويل العجزي الذي يصلها على مدار الساعة (كأنبوب تغذية المريض) من دول الفوائض المالية التي تحصل مقابل ذلك على فوائد السندات التي تبيعها وزارة الخزانة الأمريكية. وبما أن المعلم لم يعد قادراً ولا مبالياً بعواقب الاستدانة المستدامة، فكان لابد للتلاميذ أن يقلدوا أستاذهم في عدم الاهتمام بالانضباط، «حضوراً وتحصيلا علمياً». فكان أن تعممت سياسة التمويل العجزي، بحيث يندر أن تجد اليوم دولة لا تؤمِّن احتياجاتها الإنمائية، الجارية والاستثمارية، من سياسة التمويل العجزي، باستثناء عدد يسير من الدول (10 دول) ما زالت تضبط إيقاع دورتها الاقتصادية أخذاً في الحسبان مبدأ التوازن المالي، ما مكنها من جعل دينها العام كنسبة مئوية من إجمالي ناتجها المحلي، عند حده الأدنى الذي يراوح ما بين 2.1% (هونج كونج)، و17% (روسيا الاتحادية). لهذا، يمكن القول إن جميع الدول تقريباً، اليوم، مديونة، بسبب الإخفاق في تحقيق التوازن المالي، حيث تتراكم الديون بسبب عجز الموازنات والاضطرار إما لزيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة لزيادة الإيرادات بالتوازي مع خفض النفقات، أو للاقتراض لجسر الفجوة بين الإيرادات والمصروفات. وتأتي الأموال اللازمة لتمويل هذا العجز من مصادر عدة: الاقتراض من خلال قيام الحكومات بإصدار سندات لجمع الأموال المطلوبة من المستثمرين المحليين والدوليين الذين يقبلون على شراء هذه السندات. وهذه هي الطريقة الأساسية التي تستخدمها الحكومات لتمويل عجزها، التمويل من خلال البنوك المركزية: في بعض الحالات، قد تشتري البنوك المركزية سندات حكومية بشكل مباشر أو غير مباشر، ما قد يوفر تمويلاً فورياً، لكن هذا سيؤدي إلى زيادة المعروض النقدي، وترتيباً التضخم إذا تم ذلك بشكل مفرط، الاستثمار الأجنبي، فقد تجتذب البلدان الاستثمار الأجنبي المباشر أو الاستثمار في المحافظ، والذي يمكن أن يوفر تدفقات لرأس المال تساعد على تمويل العجز، المساعدات والقروض الدولية، حيث تتلقى بعض البلدان مساعدات مالية من منظمات دولية (مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي) أو دول أخرى، لتغطية عجوزاتها، السياسة النقدية، إذ بوسع البنوك المركزية أيضاً تنفيذ سياسات تخفض أسعار الفائدة، ما يجعل الاقتراض أرخص للحكومات لغرض تمويل العجز، النمو الاقتصادي، فإذا نما الاقتصاد، يمكن أن تزيد الإيرادات الضريبية بمرور الوقت، ما يساعد على إدارة العجز وتقليصه. دوامة العجز تبدأ من تسببه في رفع وتيرة ومستويات الاقتراض، وزيادة مدفوعات الفائدة، ولا تنتهي بتخفيض مخصصات الاستثمار الإنتاجي، ما يؤدي إلى انخفاض الإيرادات خلال العام التالي. الآن، ما الذي يسبب عجز الميزانية؟ ينحاز مذهب الاقتصاد السياسي الرأسمالي، لتحميل مسؤولية العجز إلى سياستين إنفاقيتين هما زيادة الإنفاق على برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، وتقديم الدعم الحكومي لبعض الصناعات. ولا يقارب هذا المذهب أوجه الإنفاق التي تُعد المسؤول الأول والحقيقي عن العجز وتراكمه، مثل الإنفاق العسكري، و«دوزنة» الهيكل الضريبي بطريقة تضع ضرائب أقل على أصحاب الرساميل والثروات والمداخيل المرتفعة، وزيادتها، بالمقابل، على أصحاب الأجور المنخفضة، فضلاً عن سياسة الإعفاءات والتخفيضات والتسهيلات الضريبية. *خبير اقتصادي بحريني