#أحدث الأخبار مع #«الأبجوريو»PèreGoriotالقدس العربي منذ يوم واحدترفيهالقدس العربي استعدوا للصدمة: «بلزاك» يكتشف خبايا الرقمنة«ما أشبه اليوم بالبارحة»، عبارة مألوفة متداولة على الألسنة، كثيرًا ما تطلق على مواقف عدَّة، سواء أكان الغرض من إطلاقها واقعياً أم ساخراً، وذلك إن دلّ على شيء فإنه دليل دامغ بأن للحقيقة وجهين، أحدهما مؤلم والآخر يثير الضحك والسخرية. لكن في كلتا الحالتين، الضحية التي نحزن عليها أو نسخر منها هي البشر الذين هم في حقيقة الأمر مرآة واقعية لما نمر به من أحداث متشابكة وغير منطقية إلى حد كبير، تعكس قانون الطبيعة الذي انبثق منه القانون الوضعي. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ أن المظلوم هو من يقع في المشكلات، لكن الطمَّاع والجشع والمؤذي لا يصيبه سوى أبهى الحظوظ، ويرفل في حياة رغدة. وعبَّر عن تلك المُفارقة المؤلمة التي تثير السخرية الكاتب الفرنسي «أونوريه دي بلزاك» Honoré de Balzac بأسلوبٍ أيضًا مؤلم وساخر، حين صرَّح: «القوانين تضاهي شبكة العنكبوت التي تسمح للحشرات الكبيرة أن تمر عبرها، في حين أنها تصطاد الحشرات الصغيرة»، وهذا دليل من أحد روَّاد الكتابة الواقعية الفجَّة بأن العالم لا يتهاون مع البسطاء. وبإمعان النظر في صيرورة أحداث الكون، يلاحظ تكرار المواقف والأحداث عبر الأزمنة بنفس التفاصيل، وإن اختلفت الظروف والأحداث. وهذا يؤكِّد نظرية أن التاريخ يعيد نفسه، وكما عبَّر الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» Michelle Foucault، فالحقب التاريخية أشبه بحلقات الزنبرك؛ متشابهة ومتصلة وتسير في إطار لا نهائي. وأغرب من هذا كله معرفة أن ما نمر به حاليًا في عصرنا الرقمي من أحداث وتغيُّرات مجتمعية متسارعة قد حدث بالفعل منذ ما يربو قليلًا على مئتي عام، وبالتحديد في نهاية القرن الثامن عشر الذي شهد البداية الحقيقية للثورة الصناعية الأولى وينطبق على ثورة الرقمنة التي تعدّ بداية لأسلوب حياة شديد التطوُّر وغير مسبوق. واستطاع الكاتب الفرنسي «أونوريه دي بلزاك» Honoré de Balzac (1799- 1850) أن يرسم ببراعة وواقعية ملامح ذاك العصر في رائعته «الأب جوريو» Père Goriot (1835)، التي تناقش ما مرّ به المجتمع الفرنسي من تغييرات جوهرية، بداية من حقبة سقوط حكم نابليون إلى أن اعتلى «آل بوربون» عرش البلاد، وسمِّيت حقبة إحكام قبضتهم على مقاليد السلطة بـ «عصر الاستعادة البوربوني» The Bourbon Restoration (1814-1830). وبالرغم من أن «بلزاك» لا يعتزم أن يكتب رواية تاريخية أو يتناول التدوين لحقبة عينها، لكنه وجد أن الخلفية التاريخية محور أساسي يشرح سير الأحداث وأسباب التغييرات الجوهرية التي انبلجت في المجتمع الفرنسي. ومن ثمَّ، عمل «بلزاك» على سبر أغوار الأحداث التي صاغت المجتمع الفرنسي بوجه عام، وكانت السبب في تبدُّل قناعات الأفراد، بوجه خاص. وعلى هذا، كانت وجهته الأولى شرح الثورة الفرنسية وتأثيرها على المجتمع، وكيف أفضت إلى تكوين الجمهورية الأولى، والتي منها صعد نجم «نابليون بونابرت»، الذي استطاع تكوين إمبراطوريته الكاسحة التي أقصت «آل بوربون» بعيدًا عن عرش البلاد، والتي بعد سقوط «نابليون»، استعاد «آل بوربون» الحكم وشهدت حقبتهم ما نشأ في المجتمع من حراك من جرَّاء التوتّرات المحتدمة التصاعد بين الطبقة الارستقراطية التي استعادت مكانتها مع تسلم «لويس الثامن عشر» مقاليد السُّلطة، والطبقة البرجوازية التي أفرزتها الثورة الصناعية الأولى؛ فبالرغم من امتلاك كلتا الفرقتين الأموال الطائلة، فإن الطبقة البرجوازية لا تسطيع أن تضاهي النموذج الأخلاقي المتأنِّق الخاص بالطبقة الأرستقراطية. وبينما تتصارع الطبقتان البورجوازية والأرستقراطية، كان عموم الشعب يعيش على أرض الواقع الأليم، ويعاني من فقر مدقع وتجاوزات تأتي على كرامتهم وأمنهم الشخصي، وخاصة في أكثر مدينة ازدحامًا في أوروبا في ذاك الوقت. فكان أجر الفرد الفرنسي العادي أقل من حدّ الفقر. ومن ثمَّ، أضحى الشغل الشاغل لأي فرد، وخاصة الناشئين، هو إيجاد وسيلة للصعود للطبقة البرجوازية، حتى ولو كان ذلك يتطلَّب التنصل من ماضيهم ومن جميع قناعاتهم الأخلاقية الصالحة. وشهدت البلاد على إثر ذلك فوضى أخلاقية عارمة، وقدَّمت الطبقات الفقيرة العديد من التنازلات لصعود السلَّم الاجتماعي من أجل مضاهاة منزلة الطبقات البورجوازية، في حين أنَّ الطبقة الأرستقراطية كانت تراقبهما بغضب شديد. وقصد «بلزاك» من تصوير ذاك المشهد التاريخي كخلفية للأحداث هو التشديد على أن المجتمع الفرنسي خلال هذا الوقت كان يدور في فلك نظام طبقي صارم، لا يعتبر إلَّا من يماريه المكانة الاجتماعية والثروة. كانت قوَّة «بلزاك» وتأثيره الشديد على المجتمع تتأتى من قدرته على تصوير أحداث واقعية، تحض الفرد على التماهي مع الأحداث والشخصيات، لدرجة الإيمان العميق بأنه رأى أو سمع نفس الحكاية من آخرين. وبراعة «بلزاك» جعلته من القوَّة لأن يصعد لمصاف كبار الأدباء ذوي التأثير النافذ. وبناء على ما شهده في مجتمعه، كان يردد: «القوة لا تتكشف بالضرب بقوة أو بشكل متكرر، بل بالضرب الحقيقي». وبالنسبة لـ «بلزاك» كانت قوَّته تكمن في الواقعية الدقيقة في الكتابة، وكذلك في استخدامه للرمزية المناسبة التي تسهِّل على القارئ فهم الأفكار التي يسوقها ووجهات نظره. وتدور أحداث رواية «الأب جوريو» Père Goriot في باريس عام 1819، حينما كانت رمزًا للحرِّية والتقدُّم والرقي في أوروبا. وتنصب أحداث الرواية على ثلاث شخصيات: العجوز الخرف «الأب جوريو»، والشاب القروي طالب كلية الحقوق الذي يحاول أن يشق طريقه في حياة المدينة الصاخبة «راستينياك»، والمجرم الغامض الذي يعيش في الظلّ «فوترين». وبالرغم من تباين مراكزهم الاجتماعية وتوجهاتهم، يعيش هؤلاء مع آخرين في مبنى سكني مؤلَّف من ثلاثة طوابق؛ الطابق الأوَّل يقطنه الميسورون الذين يعيشون في شقق فخمة، والثَّاني تعيش فيه الأسر متوسطة الحال، وأمَّا الثالث فهو مخصص للفقراء ويتألَّف من حجرات فقيرة، متهالكة الأثاث. والمبنى يرمز للمجتمع الفرنسي حينذاك الذي يتألَّف من طبقة الأثرياء، والطبقة المتوسطة، وطبقة الفقراء؛ بالرغم من تباين مواقفهم وخلفياتهم الاجتماعية والشخصية، وإن كان القاسم المشترك فيما بينهم الفقر الذي ساوى بينهم. في بادئ الأمر، عندما انتقل «الأب جوريو» للسكن في تلك البناية، استقبلته المالكة بترحاب شديد، وكان حينها أحد سكَّان الدور الأرضي الميسورين. «الأب جوريو» كان تاجرًا، وبفضل عمله الدؤوب كوَّن ثروة وارتقى للطبقة البرجوازية. ولرغبته في تثبيت أقدام بنتيه في الطبقة الميسورة، زوجهما من رجلين ينتميان للطبقة الرَّاقية، وأخذ يغدق عليهما الأموال إلى أن امتلك القليل الذي بالكاد يكفيه. ولذلك، انتقل للعيش في الطابق الثالث الفقير بجوار الطالب «راستينياك» والمجرم «فوترين». وبدلًا من تقدير شخصيته المعطاءة المتدفِّقة بالحب والتسامح، أغلق زوجا ابنتيه أبواب منزلهما أمامه، بعد أنّ كان محل ترحاب، عندما كان يغدقهما بالأموال. وكذلك، حرما على بنتيه زيارة والدهما. وفي الحقيقة، كانت ردَّة فعل البنتين أقوى من موقف زوجيهما؛ فلقد انغمستا في حياة باريسية من اللهو والمظاهر، بل وأصبح لكل واحدة منهما عشيق، وامتنعتا عن زيارة والدهما المريض العجوز، وتركتاه يعاني الوحدة والآلام دون ونيس. لكنهما كانتا لا تقصدانه إلا عند الحاجة إلى المال. وقسوة الزمان على «الأب جوريو» امتدت للآخرين؛ فصاحبة المنزل أصبحت تعامله بضيق وغلظة عندما انتقل للعيش في الطابق الثالث، وأصبح محل سخرية الجيران الذين أشاعوا أنه بدد ثروته على عشيقاته، بسبب مشاهدة سيدات من الطبقة الراقية يعودانه من حين لآخر، دون أن يعلموا أنهما بنتاه. حتى عند موته، لم يحضر الجنازة سوى جاره «راستنياك» واثنين من مأجورين من مكتب الجنازات. وأمَّا بنتاه، فأرسلتا خادماً معه شعار العائلة، ولم تحضرا الجنازة. وأمَّا «راستنياك» فهو نموذج للشاب الطموح القادم من بيئة فقيرة، ومستعد للقيام بأي شيء كي يرتقي بمرتبته الاجتماعية. وبسبب أن المجتمع الباريسي لا يرتقي فيه الفرد إلَّا من خلال قوَّة علاقاته الاجتماعية، نبذ «راستنياك» القيم والأخلاق الأصيلة، وأصبح يقدِّم تنازلات كثيرة حتى يصير مقبولًا لدى الطبقات الثرية. ولم يجد غضاضة في خداع أسرته الفقيرة المُعدمة عند طلب أموال؛ لكي ينفقها على صديقته وعلى عشيقته. وكذلك، خدع الفتاة التي أحبها، وكان على استعداد للاشتراك مع المجرم «فوترين» في خطة لقتل أخيها؛ لأنه العقبة أمام حصولها على ثروة طائلة إذا تزوَّجها. وفي الوقت نفسه، احترف حيلة العشيق للحصول على المال، وكان أوَّل من خدعه ابنة صديقه «الأب جوريو» الذي كان يكن له الحب والاحترام. والمجتمع الباريسي ذاك يضاهي تمامًا ما يحدث في العالم الرقمي على وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث قيمة الشخص لا تحددها جودة منشوراته، بل عدد الأصدقاء والمتابعين وعلامات الإعجاب وتداول المنشور؛ بغض النظر عن طبيعة المحتوى، مع ملاحظة أن المحتوى الرديء يحصد الإعجاب والشهرة والمكاسب. وأمَّا حتمية الانتماء للطبقات الراقية الثرية حتى ينال الفرد الاحترام، فإن الإنستغرام، على رأس وسائل التواصل الأخرى، قد تخصص في نشر صور المشاهير، الذين يرتدون أحدث صيحات الموضة ويرتادون أفضل الأماكن. وأمَّا الأفراد الطموحة، فهي على استعداد لتقديم تنازلات من أجل الإعلان عن منتجات لشركات وأماكن كبرى وفخمة، كي يبدو حينها كأحد المشاهير ويجني الأموال والمتابعين، وبالتأكيد، الشهرة. وأمَّا شبكة التوظيف «لينكيد إن» Linked-in، فتصعيد الملف الشخصي وترشيحه لأصحاب الأعمال من أجل الحصول على وظيفة يتم قياسه بشبكة العلاقات التي ينتمي لها الفرد، وكذلك تأييد أفراد شبكته لما يمتلكه من مهارات، ربما لا يعلمون عنها شيئًا سوى أن ذاك الفرد أحد أعضاء الشبكة التابعين لها، ولسوف يرد لهم التأييد. ناهيك عن الأعمال المشبوهة للجان الإلكترونية التي هي كفيلة إمَّا بتصعيد فرد أو جماعة، أو حتى إسقاط مجتمعات ودول؛ فالمادة عندهم هي أساس الوفاء الوقتي بالطبع، وبدونها تغلق الأبواب في وجه من يقصدهم. عالم وسائل التواصل الرقمي قائم على المظاهر والنفعية، وكل من اشتهروا على تلك التطبيقات هم البرجوازيون الجدد، والفقراء أصبحوا من لا يمتلكون المتابعين، ولا يلاحقهم أحد بعلامات الإعجاب. ومن ثمَّ، يصيرون محلّ تجاهل أو سخرية، وخاصة إذا كانوا شخصيات لها وزنها في العالم الواقعي. عبقرية «أونوريه دي بلزاك» التي تغلغلت في العالم الأدبي، استطاعت الوصول للقارئ بسبب صدق وواقعية ما يقدمه من أفكار. والنموذج الذي طرحه «بلزاك» هو أداة لقياس كفاءة المجتمع ومدى اقترابه من شفير الانحلال الأخلاقي والتدهور المجتمعي.
القدس العربي منذ يوم واحدترفيهالقدس العربي استعدوا للصدمة: «بلزاك» يكتشف خبايا الرقمنة«ما أشبه اليوم بالبارحة»، عبارة مألوفة متداولة على الألسنة، كثيرًا ما تطلق على مواقف عدَّة، سواء أكان الغرض من إطلاقها واقعياً أم ساخراً، وذلك إن دلّ على شيء فإنه دليل دامغ بأن للحقيقة وجهين، أحدهما مؤلم والآخر يثير الضحك والسخرية. لكن في كلتا الحالتين، الضحية التي نحزن عليها أو نسخر منها هي البشر الذين هم في حقيقة الأمر مرآة واقعية لما نمر به من أحداث متشابكة وغير منطقية إلى حد كبير، تعكس قانون الطبيعة الذي انبثق منه القانون الوضعي. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ أن المظلوم هو من يقع في المشكلات، لكن الطمَّاع والجشع والمؤذي لا يصيبه سوى أبهى الحظوظ، ويرفل في حياة رغدة. وعبَّر عن تلك المُفارقة المؤلمة التي تثير السخرية الكاتب الفرنسي «أونوريه دي بلزاك» Honoré de Balzac بأسلوبٍ أيضًا مؤلم وساخر، حين صرَّح: «القوانين تضاهي شبكة العنكبوت التي تسمح للحشرات الكبيرة أن تمر عبرها، في حين أنها تصطاد الحشرات الصغيرة»، وهذا دليل من أحد روَّاد الكتابة الواقعية الفجَّة بأن العالم لا يتهاون مع البسطاء. وبإمعان النظر في صيرورة أحداث الكون، يلاحظ تكرار المواقف والأحداث عبر الأزمنة بنفس التفاصيل، وإن اختلفت الظروف والأحداث. وهذا يؤكِّد نظرية أن التاريخ يعيد نفسه، وكما عبَّر الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» Michelle Foucault، فالحقب التاريخية أشبه بحلقات الزنبرك؛ متشابهة ومتصلة وتسير في إطار لا نهائي. وأغرب من هذا كله معرفة أن ما نمر به حاليًا في عصرنا الرقمي من أحداث وتغيُّرات مجتمعية متسارعة قد حدث بالفعل منذ ما يربو قليلًا على مئتي عام، وبالتحديد في نهاية القرن الثامن عشر الذي شهد البداية الحقيقية للثورة الصناعية الأولى وينطبق على ثورة الرقمنة التي تعدّ بداية لأسلوب حياة شديد التطوُّر وغير مسبوق. واستطاع الكاتب الفرنسي «أونوريه دي بلزاك» Honoré de Balzac (1799- 1850) أن يرسم ببراعة وواقعية ملامح ذاك العصر في رائعته «الأب جوريو» Père Goriot (1835)، التي تناقش ما مرّ به المجتمع الفرنسي من تغييرات جوهرية، بداية من حقبة سقوط حكم نابليون إلى أن اعتلى «آل بوربون» عرش البلاد، وسمِّيت حقبة إحكام قبضتهم على مقاليد السلطة بـ «عصر الاستعادة البوربوني» The Bourbon Restoration (1814-1830). وبالرغم من أن «بلزاك» لا يعتزم أن يكتب رواية تاريخية أو يتناول التدوين لحقبة عينها، لكنه وجد أن الخلفية التاريخية محور أساسي يشرح سير الأحداث وأسباب التغييرات الجوهرية التي انبلجت في المجتمع الفرنسي. ومن ثمَّ، عمل «بلزاك» على سبر أغوار الأحداث التي صاغت المجتمع الفرنسي بوجه عام، وكانت السبب في تبدُّل قناعات الأفراد، بوجه خاص. وعلى هذا، كانت وجهته الأولى شرح الثورة الفرنسية وتأثيرها على المجتمع، وكيف أفضت إلى تكوين الجمهورية الأولى، والتي منها صعد نجم «نابليون بونابرت»، الذي استطاع تكوين إمبراطوريته الكاسحة التي أقصت «آل بوربون» بعيدًا عن عرش البلاد، والتي بعد سقوط «نابليون»، استعاد «آل بوربون» الحكم وشهدت حقبتهم ما نشأ في المجتمع من حراك من جرَّاء التوتّرات المحتدمة التصاعد بين الطبقة الارستقراطية التي استعادت مكانتها مع تسلم «لويس الثامن عشر» مقاليد السُّلطة، والطبقة البرجوازية التي أفرزتها الثورة الصناعية الأولى؛ فبالرغم من امتلاك كلتا الفرقتين الأموال الطائلة، فإن الطبقة البرجوازية لا تسطيع أن تضاهي النموذج الأخلاقي المتأنِّق الخاص بالطبقة الأرستقراطية. وبينما تتصارع الطبقتان البورجوازية والأرستقراطية، كان عموم الشعب يعيش على أرض الواقع الأليم، ويعاني من فقر مدقع وتجاوزات تأتي على كرامتهم وأمنهم الشخصي، وخاصة في أكثر مدينة ازدحامًا في أوروبا في ذاك الوقت. فكان أجر الفرد الفرنسي العادي أقل من حدّ الفقر. ومن ثمَّ، أضحى الشغل الشاغل لأي فرد، وخاصة الناشئين، هو إيجاد وسيلة للصعود للطبقة البرجوازية، حتى ولو كان ذلك يتطلَّب التنصل من ماضيهم ومن جميع قناعاتهم الأخلاقية الصالحة. وشهدت البلاد على إثر ذلك فوضى أخلاقية عارمة، وقدَّمت الطبقات الفقيرة العديد من التنازلات لصعود السلَّم الاجتماعي من أجل مضاهاة منزلة الطبقات البورجوازية، في حين أنَّ الطبقة الأرستقراطية كانت تراقبهما بغضب شديد. وقصد «بلزاك» من تصوير ذاك المشهد التاريخي كخلفية للأحداث هو التشديد على أن المجتمع الفرنسي خلال هذا الوقت كان يدور في فلك نظام طبقي صارم، لا يعتبر إلَّا من يماريه المكانة الاجتماعية والثروة. كانت قوَّة «بلزاك» وتأثيره الشديد على المجتمع تتأتى من قدرته على تصوير أحداث واقعية، تحض الفرد على التماهي مع الأحداث والشخصيات، لدرجة الإيمان العميق بأنه رأى أو سمع نفس الحكاية من آخرين. وبراعة «بلزاك» جعلته من القوَّة لأن يصعد لمصاف كبار الأدباء ذوي التأثير النافذ. وبناء على ما شهده في مجتمعه، كان يردد: «القوة لا تتكشف بالضرب بقوة أو بشكل متكرر، بل بالضرب الحقيقي». وبالنسبة لـ «بلزاك» كانت قوَّته تكمن في الواقعية الدقيقة في الكتابة، وكذلك في استخدامه للرمزية المناسبة التي تسهِّل على القارئ فهم الأفكار التي يسوقها ووجهات نظره. وتدور أحداث رواية «الأب جوريو» Père Goriot في باريس عام 1819، حينما كانت رمزًا للحرِّية والتقدُّم والرقي في أوروبا. وتنصب أحداث الرواية على ثلاث شخصيات: العجوز الخرف «الأب جوريو»، والشاب القروي طالب كلية الحقوق الذي يحاول أن يشق طريقه في حياة المدينة الصاخبة «راستينياك»، والمجرم الغامض الذي يعيش في الظلّ «فوترين». وبالرغم من تباين مراكزهم الاجتماعية وتوجهاتهم، يعيش هؤلاء مع آخرين في مبنى سكني مؤلَّف من ثلاثة طوابق؛ الطابق الأوَّل يقطنه الميسورون الذين يعيشون في شقق فخمة، والثَّاني تعيش فيه الأسر متوسطة الحال، وأمَّا الثالث فهو مخصص للفقراء ويتألَّف من حجرات فقيرة، متهالكة الأثاث. والمبنى يرمز للمجتمع الفرنسي حينذاك الذي يتألَّف من طبقة الأثرياء، والطبقة المتوسطة، وطبقة الفقراء؛ بالرغم من تباين مواقفهم وخلفياتهم الاجتماعية والشخصية، وإن كان القاسم المشترك فيما بينهم الفقر الذي ساوى بينهم. في بادئ الأمر، عندما انتقل «الأب جوريو» للسكن في تلك البناية، استقبلته المالكة بترحاب شديد، وكان حينها أحد سكَّان الدور الأرضي الميسورين. «الأب جوريو» كان تاجرًا، وبفضل عمله الدؤوب كوَّن ثروة وارتقى للطبقة البرجوازية. ولرغبته في تثبيت أقدام بنتيه في الطبقة الميسورة، زوجهما من رجلين ينتميان للطبقة الرَّاقية، وأخذ يغدق عليهما الأموال إلى أن امتلك القليل الذي بالكاد يكفيه. ولذلك، انتقل للعيش في الطابق الثالث الفقير بجوار الطالب «راستينياك» والمجرم «فوترين». وبدلًا من تقدير شخصيته المعطاءة المتدفِّقة بالحب والتسامح، أغلق زوجا ابنتيه أبواب منزلهما أمامه، بعد أنّ كان محل ترحاب، عندما كان يغدقهما بالأموال. وكذلك، حرما على بنتيه زيارة والدهما. وفي الحقيقة، كانت ردَّة فعل البنتين أقوى من موقف زوجيهما؛ فلقد انغمستا في حياة باريسية من اللهو والمظاهر، بل وأصبح لكل واحدة منهما عشيق، وامتنعتا عن زيارة والدهما المريض العجوز، وتركتاه يعاني الوحدة والآلام دون ونيس. لكنهما كانتا لا تقصدانه إلا عند الحاجة إلى المال. وقسوة الزمان على «الأب جوريو» امتدت للآخرين؛ فصاحبة المنزل أصبحت تعامله بضيق وغلظة عندما انتقل للعيش في الطابق الثالث، وأصبح محل سخرية الجيران الذين أشاعوا أنه بدد ثروته على عشيقاته، بسبب مشاهدة سيدات من الطبقة الراقية يعودانه من حين لآخر، دون أن يعلموا أنهما بنتاه. حتى عند موته، لم يحضر الجنازة سوى جاره «راستنياك» واثنين من مأجورين من مكتب الجنازات. وأمَّا بنتاه، فأرسلتا خادماً معه شعار العائلة، ولم تحضرا الجنازة. وأمَّا «راستنياك» فهو نموذج للشاب الطموح القادم من بيئة فقيرة، ومستعد للقيام بأي شيء كي يرتقي بمرتبته الاجتماعية. وبسبب أن المجتمع الباريسي لا يرتقي فيه الفرد إلَّا من خلال قوَّة علاقاته الاجتماعية، نبذ «راستنياك» القيم والأخلاق الأصيلة، وأصبح يقدِّم تنازلات كثيرة حتى يصير مقبولًا لدى الطبقات الثرية. ولم يجد غضاضة في خداع أسرته الفقيرة المُعدمة عند طلب أموال؛ لكي ينفقها على صديقته وعلى عشيقته. وكذلك، خدع الفتاة التي أحبها، وكان على استعداد للاشتراك مع المجرم «فوترين» في خطة لقتل أخيها؛ لأنه العقبة أمام حصولها على ثروة طائلة إذا تزوَّجها. وفي الوقت نفسه، احترف حيلة العشيق للحصول على المال، وكان أوَّل من خدعه ابنة صديقه «الأب جوريو» الذي كان يكن له الحب والاحترام. والمجتمع الباريسي ذاك يضاهي تمامًا ما يحدث في العالم الرقمي على وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث قيمة الشخص لا تحددها جودة منشوراته، بل عدد الأصدقاء والمتابعين وعلامات الإعجاب وتداول المنشور؛ بغض النظر عن طبيعة المحتوى، مع ملاحظة أن المحتوى الرديء يحصد الإعجاب والشهرة والمكاسب. وأمَّا حتمية الانتماء للطبقات الراقية الثرية حتى ينال الفرد الاحترام، فإن الإنستغرام، على رأس وسائل التواصل الأخرى، قد تخصص في نشر صور المشاهير، الذين يرتدون أحدث صيحات الموضة ويرتادون أفضل الأماكن. وأمَّا الأفراد الطموحة، فهي على استعداد لتقديم تنازلات من أجل الإعلان عن منتجات لشركات وأماكن كبرى وفخمة، كي يبدو حينها كأحد المشاهير ويجني الأموال والمتابعين، وبالتأكيد، الشهرة. وأمَّا شبكة التوظيف «لينكيد إن» Linked-in، فتصعيد الملف الشخصي وترشيحه لأصحاب الأعمال من أجل الحصول على وظيفة يتم قياسه بشبكة العلاقات التي ينتمي لها الفرد، وكذلك تأييد أفراد شبكته لما يمتلكه من مهارات، ربما لا يعلمون عنها شيئًا سوى أن ذاك الفرد أحد أعضاء الشبكة التابعين لها، ولسوف يرد لهم التأييد. ناهيك عن الأعمال المشبوهة للجان الإلكترونية التي هي كفيلة إمَّا بتصعيد فرد أو جماعة، أو حتى إسقاط مجتمعات ودول؛ فالمادة عندهم هي أساس الوفاء الوقتي بالطبع، وبدونها تغلق الأبواب في وجه من يقصدهم. عالم وسائل التواصل الرقمي قائم على المظاهر والنفعية، وكل من اشتهروا على تلك التطبيقات هم البرجوازيون الجدد، والفقراء أصبحوا من لا يمتلكون المتابعين، ولا يلاحقهم أحد بعلامات الإعجاب. ومن ثمَّ، يصيرون محلّ تجاهل أو سخرية، وخاصة إذا كانوا شخصيات لها وزنها في العالم الواقعي. عبقرية «أونوريه دي بلزاك» التي تغلغلت في العالم الأدبي، استطاعت الوصول للقارئ بسبب صدق وواقعية ما يقدمه من أفكار. والنموذج الذي طرحه «بلزاك» هو أداة لقياس كفاءة المجتمع ومدى اقترابه من شفير الانحلال الأخلاقي والتدهور المجتمعي.