logo
#

أحدث الأخبار مع #«مندليكريم

الأغنية الشعبية كمرآة للتراث.. قراءة في أغنية «مندل يكريم الغربي»
الأغنية الشعبية كمرآة للتراث.. قراءة في أغنية «مندل يكريم الغربي»

الدستور

time١٩-٠٣-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الدستور

الأغنية الشعبية كمرآة للتراث.. قراءة في أغنية «مندل يكريم الغربي»

علي طه النوباني لا تُختزل الأغنية الشعبية في بلاد الشام والعراق في كونها مجرد إيقاع وكلمات، بل هي «حافظة للتاريخ الشفوي»، ووعاءٌ للهوية الثقافية التي تشكَّلت عبر آلاف السنين. فمن ملحمة جلجامش في العراق القديم، إلى أغاني الحصاد في قرى الشام، تظل هذه المنطقة بوتقة انصهرت فيها الحضارات، وتفاعلت فيها اللغات والفنون، لتنتج تراثاً غنياً يتجلى في الأغاني التي تتناقلها الأجيال. تتميز الأغنية الشعبية بكونها إنتاجاً جماعياً، تتداخل فيه الروايات الفردية مع الحكايات الجمعية، مما يجعلها «نصاً مفتوحاً» قابلاً للتأويل والتطوير بما يتناسب مع ما عرفنا عن النظم الشفوي من مشاركة جماعية أشبه بالسحابة الإلكترونية التي يساهم فيها الكثيرون دون حتى أن يعرفوا بعضهم أو يتفقوا على شيء سوى تجميل تحفتهم وإيصالها إلى أن تكون خير ممثل لوعيهم الجمعي. وفي هذا السياق، تبرز أغنية «مندل يكريم الغربي» الأردنية كنموذجٍ فريدٍ يعكس عمق التفاعل بين الإنسان وبيئته، وبين العاطفة والرمز، وبين الموروث المحلي والروافد الثقافية المشتركة؛ ليقف شاهدا على امتزاج خطوات الإنسان بأرضه، وعلى التناغم بين خرير عيون المياه وضربات أقدام الناس في حلقات الدبكة في الأعراس والمناسبات السعيدة التي يخالطها دوما الحزن القادم من قلق الوجود والخوف من الفقد والضياع. تبرز الكلمة كمفتاح دلالي «مندل»، والمكونة - فيما أعتقد - من «ما أندل» من الفعل (دلّ أي أرشد) وحرف النفي (ما)، بمعنى (لا أعرف الطريق). وكلمة «مندل» بهذا تحمل دلالة مزدوجة: ضياع جغرافي (عدم معرفة طريق الكرم الغربي)، وضياع عاطفي (فقدان الحبيبة)، وهو انزياح من المادي إلى المعنوي يُجسِّد فلسفة التراث الشامي-العراقي في ربط المكان بالوجدان، كما في الأشعار العربية التي تربط الصحراء بالفراق، أو أغاني العراق التي تحوِّل دجلة إلى رمز للشوق. ولهذا تشكل هذه الكلمة اللازمة التي تتكرر في كل مقاطع الأغنية بنغمتها الحزينة؛ لترسل إيحاءاتها للسامعين وتؤكد عليها. ويأتي المفتاح الثاني من الكرم والعناقيد، ف»كريم» (تصغير كرم) ليس مجرد بستان عنب، بل هو «فردوس مفقود» يرمز للجمال والخصوبة، وهو رمز متجذر في ثقافة المنطقة منذ عصور الرافدين، حيث ارتبطت حدائق بابل المعلقة بالجنَّة الأرضية. أما فقدان العناقيد فيشير إلى زوال النعمة أو فقدان الحبيبة، وهو استعارةٌ تعكس ثقافة الزراعة التي تهيمن على المخيال الشعبي في بلاد الشام، حيث يُصوَّر الحبيب كـ «غصن زيتون» أو «سنبلة قمح». ثم يأتي على ذكر الحبيب وزينته: «جانا الغالي يتعلل... لابس ساعة وسوارة بيده»، فالساعة والسوار يمثلان إبرازا لثراء الحبيب، وهو ليس تفصيلاً عابراً، بل هو انعكاس لـثقافة المظاهر في المجتمعات التقليدية، حيث تُستخدم الحلي كوسيلة لإثبات المكانة الاجتماعية، تماماً كما في أغاني الأردن العراق وسوريا التي تمدح الفرسان بـ «خنجر مذهَّب» أو «عباءة مطرَّزة». أما (التعاليل) والسهرات مع الأحبة فهي عادةٌ اجتماعيةٌ راسخة في بلاد الشام والعراق، تجسيداً لقيم التكافل والفرح الجماعي، والتي تظهر أيضاً في «العرس الشامي» بطبوله وأهازيجه، أو في «المجالس البغدادية» التي تجمع الشعر والغناء. ولا يفوتنا أن نلاحظ ورود الوفاء واللعنة في الأغنية: «وللي يخون بعهد الله... ريت العمى بعيونه»، فاللعنات حاضرة في التراث، والدعاء بالعمى على الخائن يُذكرنا بـاللعنات الطقسية في الموروث الديني والشعبي، كالتي وردت في النصوص الآرامية أو التراتيل المسيحية المبكرة في سوريا، حيث تُستخدم اللغة كسلاحٍ رمزي لحفظ القيم الأخلاقية. كما تظهر في الأغنية لافتة مهمة تشير بقوة إلى الموت والذكرى: «حطو قبري بعاريضة... بلكي تمرق يا خلي» وهي إشارة إلى الجنازة كطقس جماعي، فطلب الدفن في قبر في «رأس الشعيب» (مكان مرتفع) يعكس رغبةً في البقاء مرئياً للجماعة، وهي فكرةٌ تعكس «الرهبة من النسيان» في الثقافة العربية. ثم تظهر سورة الفاتحة كصلة روحية تمثل ارتباط قراءة الفاتحة بالذكرى، وتجسد التمازج بين الإسلام والعادات المحلية، حيث تُوظف السورة كجسر بين الأحياء والأموات، تماماً كما في طقوس «الختمة» العراقية أو «الزار» الشامي مع اختلاف السياقات الدينية. ويبرز تشبيه النساء بالخيول الجامحة (من عربنا لعربكم... ما من فرس هذابة). والهذّابة هنا من التهذيب بمعنى الترويض، حيث تستدعي الأغنية ثقافة البداوة التي تقدِّس الفرس كرمز للحرية والقوة، وهو تشبيهٌ متكرر في الشعر النبطي وفي أغاني العراق كقولهم: «يا خيل الله اركبي». لكن تحويل الفرس إلى رمزٍ للعشق المُعذَّب يُظهر الانزياح من البطولة الذكورية إلى الحيرة العاطفية، فالنص يحيل إلى العذاب الناتج عن جموح الأنثى وعدم ميلها للهوى والغرام في تعبير عن شوق أسطوري للحرية البدائية المفتوحة دون قيود أو معيقات. وهكذا فإن أغنية «مندل يكريم الغربي» في سياقها الثقافي الأوسع تختزن شكلا عميقا من التفاعل مع التراث الإنساني والثقافي لمنطقة بلاد الشام والرافدين، فهي تشبه الكثير من الأغاني التي تستخدم التكرار والإيقاع الدائري، وتتقاطع مع كثير من نصوص الغزل في التاريخ العربي. كما أنها تقدم حافظة لتاريخ اللغة من خلال حفظها لكلمات مثل «شويقي» (تصغير شوق)، والتي تعكس لهجات محلية اندثر بعضها، فحفظتها الأغنية، ورددها الناس غير واعين للكثير من دلالاتها، على الرغم من أنها مختزنة في اللاوعي الجمعي للمجتمع. ومن جهة أخرى تظهر الرمزية الزراعية جلية من خلال العناقيد والكروم، فتذكرنا بأسطورة «تموز وعشتار» في بلاد الرافدين، حيث يرتبط موت الإله وقيامته بمواسم الزراعة والحصاد. أغنية «مندل يكريم الغربي» ليست مجرد تعبير عن حكاية حب، بل هي نصٌّ ثقافيٌّ مركب، يحمل في طياته بصمات التاريخ الزراعي وكوداته الخفية، وقيم المجتمع البدوي، وتأثيرات الأديان، وصراع الإنسان مع الجغرافيا والوجدان. إنها حلقة في سلسلة الإبداع الإنساني الذي بدأه السومريون بكتابة الملاحم على الألواح الطينية، وواصلته الأجيال عبر نقل الأغاني على ألسنة الرواة. وسوف تظل الأغنية الشعبية في بلاد الشام والعراق ذاكرة حية، تُعيد تشكيل نفسها كلما تغنَّى بها جيل جديد، حاملةً معها عبق التراب، وهمسات الأجداد، وشغف العاشقين. هذه قراءة في واحدة من أجمل الأغاني الشعبية، وهي دعوة لدراسات موسعة تتناول خفايا التراث الغنائي، بما فيها من دلالات لغوية واجتماعية وثقافية تملأ الكثير من الفراغات التي تقف عقبة في وجه الكثير من الجهود البحثية في كافة المجالات ذات العلاقة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store