
الأغنية الشعبية كمرآة للتراث.. قراءة في أغنية «مندل يكريم الغربي»
علي طه النوباني
لا تُختزل الأغنية الشعبية في بلاد الشام والعراق في كونها مجرد إيقاع وكلمات، بل هي «حافظة للتاريخ الشفوي»، ووعاءٌ للهوية الثقافية التي تشكَّلت عبر آلاف السنين. فمن ملحمة جلجامش في العراق القديم، إلى أغاني الحصاد في قرى الشام، تظل هذه المنطقة بوتقة انصهرت فيها الحضارات، وتفاعلت فيها اللغات والفنون، لتنتج تراثاً غنياً يتجلى في الأغاني التي تتناقلها الأجيال.
تتميز الأغنية الشعبية بكونها إنتاجاً جماعياً، تتداخل فيه الروايات الفردية مع الحكايات الجمعية، مما يجعلها «نصاً مفتوحاً» قابلاً للتأويل والتطوير بما يتناسب مع ما عرفنا عن النظم الشفوي من مشاركة جماعية أشبه بالسحابة الإلكترونية التي يساهم فيها الكثيرون دون حتى أن يعرفوا بعضهم أو يتفقوا على شيء سوى تجميل تحفتهم وإيصالها إلى أن تكون خير ممثل لوعيهم الجمعي.
وفي هذا السياق، تبرز أغنية «مندل يكريم الغربي» الأردنية كنموذجٍ فريدٍ يعكس عمق التفاعل بين الإنسان وبيئته، وبين العاطفة والرمز، وبين الموروث المحلي والروافد الثقافية المشتركة؛ ليقف شاهدا على امتزاج خطوات الإنسان بأرضه، وعلى التناغم بين خرير عيون المياه وضربات أقدام الناس في حلقات الدبكة في الأعراس والمناسبات السعيدة التي يخالطها دوما الحزن القادم من قلق الوجود والخوف من الفقد والضياع.
تبرز الكلمة كمفتاح دلالي «مندل»، والمكونة - فيما أعتقد - من «ما أندل» من الفعل (دلّ أي أرشد) وحرف النفي (ما)، بمعنى (لا أعرف الطريق). وكلمة «مندل» بهذا تحمل دلالة مزدوجة: ضياع جغرافي (عدم معرفة طريق الكرم الغربي)، وضياع عاطفي (فقدان الحبيبة)، وهو انزياح من المادي إلى المعنوي يُجسِّد فلسفة التراث الشامي-العراقي في ربط المكان بالوجدان، كما في الأشعار العربية التي تربط الصحراء بالفراق، أو أغاني العراق التي تحوِّل دجلة إلى رمز للشوق. ولهذا تشكل هذه الكلمة اللازمة التي تتكرر في كل مقاطع الأغنية بنغمتها الحزينة؛ لترسل إيحاءاتها للسامعين وتؤكد عليها.
ويأتي المفتاح الثاني من الكرم والعناقيد، ف»كريم» (تصغير كرم) ليس مجرد بستان عنب، بل هو «فردوس مفقود» يرمز للجمال والخصوبة، وهو رمز متجذر في ثقافة المنطقة منذ عصور الرافدين، حيث ارتبطت حدائق بابل المعلقة بالجنَّة الأرضية. أما فقدان العناقيد فيشير إلى زوال النعمة أو فقدان الحبيبة، وهو استعارةٌ تعكس ثقافة الزراعة التي تهيمن على المخيال الشعبي في بلاد الشام، حيث يُصوَّر الحبيب كـ «غصن زيتون» أو «سنبلة قمح».
ثم يأتي على ذكر الحبيب وزينته: «جانا الغالي يتعلل... لابس ساعة وسوارة بيده»، فالساعة والسوار يمثلان إبرازا لثراء الحبيب، وهو ليس تفصيلاً عابراً، بل هو انعكاس لـثقافة المظاهر في المجتمعات التقليدية، حيث تُستخدم الحلي كوسيلة لإثبات المكانة الاجتماعية، تماماً كما في أغاني الأردن العراق وسوريا التي تمدح الفرسان بـ «خنجر مذهَّب» أو «عباءة مطرَّزة». أما (التعاليل) والسهرات مع الأحبة فهي عادةٌ اجتماعيةٌ راسخة في بلاد الشام والعراق، تجسيداً لقيم التكافل والفرح الجماعي، والتي تظهر أيضاً في «العرس الشامي» بطبوله وأهازيجه، أو في «المجالس البغدادية» التي تجمع الشعر والغناء.
ولا يفوتنا أن نلاحظ ورود الوفاء واللعنة في الأغنية: «وللي يخون بعهد الله... ريت العمى بعيونه»، فاللعنات حاضرة في التراث، والدعاء بالعمى على الخائن يُذكرنا بـاللعنات الطقسية في الموروث الديني والشعبي، كالتي وردت في النصوص الآرامية أو التراتيل المسيحية المبكرة في سوريا، حيث تُستخدم اللغة كسلاحٍ رمزي لحفظ القيم الأخلاقية.
كما تظهر في الأغنية لافتة مهمة تشير بقوة إلى الموت والذكرى: «حطو قبري بعاريضة... بلكي تمرق يا خلي» وهي إشارة إلى الجنازة كطقس جماعي، فطلب الدفن في قبر في «رأس الشعيب» (مكان مرتفع) يعكس رغبةً في البقاء مرئياً للجماعة، وهي فكرةٌ تعكس «الرهبة من النسيان» في الثقافة العربية. ثم تظهر سورة الفاتحة كصلة روحية تمثل ارتباط قراءة الفاتحة بالذكرى، وتجسد التمازج بين الإسلام والعادات المحلية، حيث تُوظف السورة كجسر بين الأحياء والأموات، تماماً كما في طقوس «الختمة» العراقية أو «الزار» الشامي مع اختلاف السياقات الدينية.
ويبرز تشبيه النساء بالخيول الجامحة (من عربنا لعربكم... ما من فرس هذابة). والهذّابة هنا من التهذيب بمعنى الترويض، حيث تستدعي الأغنية ثقافة البداوة التي تقدِّس الفرس كرمز للحرية والقوة، وهو تشبيهٌ متكرر في الشعر النبطي وفي أغاني العراق كقولهم: «يا خيل الله اركبي». لكن تحويل الفرس إلى رمزٍ للعشق المُعذَّب يُظهر الانزياح من البطولة الذكورية إلى الحيرة العاطفية، فالنص يحيل إلى العذاب الناتج عن جموح الأنثى وعدم ميلها للهوى والغرام في تعبير عن شوق أسطوري للحرية البدائية المفتوحة دون قيود أو معيقات.
وهكذا فإن أغنية «مندل يكريم الغربي» في سياقها الثقافي الأوسع تختزن شكلا عميقا من التفاعل مع التراث الإنساني والثقافي لمنطقة بلاد الشام والرافدين، فهي تشبه الكثير من الأغاني التي تستخدم التكرار والإيقاع الدائري، وتتقاطع مع كثير من نصوص الغزل في التاريخ العربي. كما أنها تقدم حافظة لتاريخ اللغة من خلال حفظها لكلمات مثل «شويقي» (تصغير شوق)، والتي تعكس لهجات محلية اندثر بعضها، فحفظتها الأغنية، ورددها الناس غير واعين للكثير من دلالاتها، على الرغم من أنها مختزنة في اللاوعي الجمعي للمجتمع. ومن جهة أخرى تظهر الرمزية الزراعية جلية من خلال العناقيد والكروم، فتذكرنا بأسطورة «تموز وعشتار» في بلاد الرافدين، حيث يرتبط موت الإله وقيامته بمواسم الزراعة والحصاد.
أغنية «مندل يكريم الغربي» ليست مجرد تعبير عن حكاية حب، بل هي نصٌّ ثقافيٌّ مركب، يحمل في طياته بصمات التاريخ الزراعي وكوداته الخفية، وقيم المجتمع البدوي، وتأثيرات الأديان، وصراع الإنسان مع الجغرافيا والوجدان. إنها حلقة في سلسلة الإبداع الإنساني الذي بدأه السومريون بكتابة الملاحم على الألواح الطينية، وواصلته الأجيال عبر نقل الأغاني على ألسنة الرواة. وسوف تظل الأغنية الشعبية في بلاد الشام والعراق ذاكرة حية، تُعيد تشكيل نفسها كلما تغنَّى بها جيل جديد، حاملةً معها عبق التراب، وهمسات الأجداد، وشغف العاشقين.
هذه قراءة في واحدة من أجمل الأغاني الشعبية، وهي دعوة لدراسات موسعة تتناول خفايا التراث الغنائي، بما فيها من دلالات لغوية واجتماعية وثقافية تملأ الكثير من الفراغات التي تقف عقبة في وجه الكثير من الجهود البحثية في كافة المجالات ذات العلاقة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

يمرس
منذ 35 دقائق
- يمرس
هزة ارضية في خليج عدن
سجلت محطات مركز رصد ودراسة الزلازل والبراكين اليمني، الجمعة 23 مايو/آيار 2025 هزة ارضية من خليج عدن ، بعيدا عن المياه الاقليمية اليمنية.


أرقام
منذ 36 دقائق
- أرقام
وزارة الصحة تعتمد اشتراطات جديدة لاستيراد الأغذية
أعلنتْ وزارةُ الصحّة العامَّة عن إصدار تحديثٍ جديدٍ لقائمة الأغذية المحظور استيرادُها إلى دولةِ قطرَ، إلى جانبِ اعتمادِ مَجموعةٍ من الاشتراطات والمعايير الاحترازيَّة الجديدة؛ لضمان سلامة الأغذية المُستوردة، وذلك بالتعاون مع إدارة الثّروة الحيوانيَّة بوزارة البلدية. وأكَّدت الوزارةُ، أنَّ التحديثَ يتضمنُ ستةَ أقسام رئيسيَّة، تشملُ أغذيةً يُحظر استيرادُها نهائيًّا، وأخرى يُشترطُ لها شهادات مطابقة أو إفادات إضافيَّة، فضلًا عن اشتراطات تتعلّقُ بأمراض حيوانية، مثل: الحُمى القُلّاعية، فيروس إنفلونزا الطيور عالي الضراوة، ومرض جنون البقر، بالإضافة إلى حالات حظر خاصّة لبعض الدول. وذكرت الوزارةُ أنَّ قائمة الحظر الكامل تشمل بذور القِنَّب والخَشخاش، سواء كانت بمفردها، أو ضمن مكونات أخرى، وذلك من جميع الدول ولجميع الأغراض، تِجارية أو شخصيّة.كما شدَّدت على ضرورة إرفاق شهادة «حلال» صادرة عن هيئة إسلامية مُعتمدة عند استيراد اللحوم أو المنتجات ذات الأصل الحيواني من الدول غير الإسلامية؛ لضمان مطابقتها لمتطلبات الشريعة الإسلامية. وتشملُ الاشتراطاتُ الجديدةُ، أيضًا، إلزاميةَ تقديم شهادات مطابقة من طرف ثالث لاستيراد أنواع محددة من الخَضراوات الورقية، والفواكه الطازجة، والسمك المُبرد من دولٍ مثل: مصر، والأردن، كما يُشترط تقديم شهادة تحليل خالية من مادة الإيثيلين أوكسيد لاستيراد السمسم ومنتجاته من دولٍ مثل: ألمانيا، والهند، وبلجيكا. وفيما يتعلقُ بالأمراض الحيوانية، فرضت الوزارةُ شروطًا خاصةً على واردات اللحوم ومنتجاتها من بعض الدول، منها ضرورة أن تكون خاليةً من العظم، أو معالجة حراريًا للقضاء على الفيروسات، وذلك للوقاية من الحُمى القُلاعية. كما تم فرض قيود إضافية على لحوم الدواجن والبيض المستوردة، من دول تشهد انتشارًا لإنفلونزا الطيور. أمَّا بخصوص مرض جنون البقر، فقد ألزمت الوزارة أن تكون اللحوم المستوردة من دولٍ مثل: المملكة المتحدة، وتايلاند، واليونان منزوعةَ الأجزاء عالية الخطورة، وألا يتجاوز عمر الحيوان المذبوح 30 شهرًا.كما شمل التحديثُ حظرًا خاصًّا على جميع أنواع اللحوم ومنتجاتها القادمة من الصومال، وكوريا الشمالية؛ بسبب عدم توفر معلومات وبائية دقيقة عن الوضع الصحّي فيهما.


أرقام
منذ 36 دقائق
- أرقام
رئيس مجلس إدارة البنك التجاري: يمكن للبنوك قيادة هيكلة وتنظيم الصكوك والسندات محلياً ودولياً
رأى رئيس مجلس إدارة البنك التجاري الكويتي الشيخ أحمد الدعيج، أن دور البنوك يتطور من مجرد جهات تمويل وإقراض إلى شريك فاعل في تمكين أسواق رأس المال، وذلك مع توجه الكويت نحو تنويع مصادر التمويل عبر آليات متنوعة، مثل أسواق الدين والطروحات العامة والأدوات المالية المبتكرة. جاء ذلك خلال مشاركة الدعيج في فعاليات مؤتمر «إستراتيجية الكويت الاقتصادية الجديدة 2025» الذي نظمته هيئة تشجيع الاستثمار المباشر، بالتعاون مع مجموعة «ذا بزنس يير». تكيف القطاع المصرفي وعبر الدعيج عن سعادته بالمشاركة في المؤتمر، مؤكداً أنه يأتي في ظل جهود الدولة لإطلاق حزمة من القوانين الاقتصادية الهادفة إلى الإصلاح الاقتصادي والتنمية الشاملة، ضمن رؤية خطة التنمية الوطنية كويت جديدة 2035، حيث تسعى لتعزيز مناخ الاستثمار وتنويع الاقتصاد الوطني. وأكد ضرورة تكيف القطاع المصرفي مع هذا التحول، حيث يمكن للبنوك لعب دور محوري في دعم عمليات الطرح العام وتوجيه الشركات نحو الاندماج الناجح في الأسواق المالية. وشدد على أن تنويع الاقتصاد الكويتي وتقليل الاعتماد على النفط بشكل كبير يتطلب تعزيز النمو في القطاعين العام والخاص، ما يستدعي بالضرورة إجراء المزيد من التطوير للنظام المالي، ليكون قادراً على دعم هذه التحولات. وأشار إلى أن التحول نحو أسواق رأس المال يمثل فرصة استثنائية للبنوك لإعادة تحديد أدوارها، والمساهمة في دفع عجلة التطور في الأسواق المالية. وفي معرض حديثه عن دور البنوك في دعم الشركات الناشئة والمتوسطة، أشار إلى أن البنوك تقوم بالفعل بدعم تلك الشركات خلال مختلف مراحل النمو بدءاً من التمويل الأولي ووصولاً إلى التأهيل للطرح العام داعياً إلى مواصلة تقديم وزيادة ذلك الدعم. وعن أسواق الدين اعتبر أنه يمكن للبنوك أن تقود عمليات هيكلة وتنظيم للصكوك والسندات للعملاء المحليين والدوليين. ومع تزايد اهتمام المستثمرين بأدوات الدخل الثابت، خاصة من صناديق الثروة السيادية والمستثمرين المؤسسيين، يمكن للبنوك توظيف خبراتها الائتمانية وقدراتها على التكتل وشبكاتها لتقديم المنتجات والخدمات وتوفير التمويل والسيولة. ورأى أن الفرصة السانحة، لاستكشاف سبل التمويل الأخضر وصناديق الاستثمار العقاري والأوراق المالية الموجهة للاستثمار في مشروعات البنية التحتية، حيث يمكن للبنوك تصميم وهيكلة وترويج هذه الأدوات، وهذا من شأنه دعم الأهداف الاقتصادية الوطنية، وتعزز صورة البنوك كمؤسسات مصرفية مسؤولة وقادرة على تقديم الرؤى والابتكار في الخدمات المالية. شراكات فعالة وشدد على ضرورة زيادة المشاركة الدولية وتعزيز التعاون بين دول الخليج لتعظيم القيمة الاقتصادية الإقليمية، وتبني شراكات فعالة بين القطاعين لدفع عجلة التنمية وتعزيز البنية التحتية المالية بما يساهم في بناء اقتصاد متنوع يشمل جميع القطاعات الحيوية، مثل الخدمات والبنية التحتية والتكنولوجيا، مع الحفاظ على نظام مالي قوي وآمن يدعم النمو المستدام. وفي ختام، حديثه أعرب عن ثقته وتطلعه أن تحقق الكويت جميع مستهدفات خطة التنمية الوطنية «كويت جديدة 2035»، بالنظر إلى ما تتمتع به من إمكانات واعدة ممثلة في مواردها البشرية والاقتصادية مثمناً جهود العاملين على المؤتمر حيث مثلت الفعاليات المصاحبة منصة مثالية لتبادل الأفكار والرؤى حول مستقبل الاستثمار والتمويل في الكويت، مع التأكيد على أن التحول نحو اقتصاد متنوع وقائم على المعرفة يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، من القطاعين العام والخاص والمؤسسات المالية.