٠٢-٠٣-٢٠٢٥
عن العلم والطالب والأستاذ
«وينبغى أن لا تحكم على علم بالفساد؛ لوقوع الاختلاف بين أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب العلم بالعمل» .
أقوم منذ أعوام بدراسة بحثية عن أبى حامد الغزالى (1058-1111) بحكم تخصصى العلمى فى علم اللغة الاجتماعي. وفى دراستى أتطرق لعلاقة اللغة بالمجتمع عند علماء الصوفية وإلى استعمالهم الفريد للغة وإلى أهم أفكارهم. وجدتنى ونحن قد بدأنا الفصل الدراسى الثانى أتوقف عند نصائح الغزالى وكلامه عن العلم فى كتابه إحياء علوم الدين وكتابه ميزان العمل. وجدت أن الغزالى يتحدث كأنه يعيش معنا ويعرف مشاكلنا نحن كطلاب وأساتذة. فشعرت بأن هناك واجبا عليَّ لأشرح كلامه للقارئ من خلال مقالين ولو بتلخيص.وعن أهمية التعلم بشكل عام يتكلم الغزالى فيقول:«فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه. فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله».فالعقل هو النور الذى أعطاه الله للإنسان ليدرك به. وبالعقل جعله فى مرتبة مختلفة عن جميع المخلوقات.بالعقل يستعد الإنسان لإدراك الأشياء ودون إدراك كيف له أن يميز الخبيث من الطيب؟يوضح الغزالى أن العقل ينمو ويتطور مع الإنسان منذ ولادته إلى أن يصبح طفلا يميز بين بعض الأشياء وليس كلها. ثم يتم البلوغ فيدرك عواقب الأمور أكثر ويستطيع مثلا تحمل الصيام أو قمع رغباته. ويكتمل عقله فيدرك أشياء أكثر ولكن تثقله التجارب والقراءة فيزداد إدراكه.والناس تتفاوت فى قدرتها على الإدراك وقدرتها على قمع الشهوات أيضا.ولكن الغزالى يقول «وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصى من الجاهل لقوة علمه بضرر المعاصى وأعنى به العالم الحقيقى دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان».وعن العلم يتكلم الغزالى عن الطالب والأستاذ كأنه يعيش معنا فى عصرنا. كان هو طالبا وكان أستاذا فيعطى النصيحة للاثنين. وليتنا نطبق كلامه فى عصرنا هذا فى التعلم والتعليم.ما شروط تحصيل العلم؟للوصول إلى العلم شروط يجب تحصيلها. ربما شروط الغزالى تساعدنا فى حياتنا اليومية وفى القراءة وفى الفهم وفى التعامل مع المعلومة والنصيحة. هى شروط تنطبق على كل الأزمنة والأماكن. وتغربل كل النمطية والتقليد الذى يحيط بنا.شروط التعلم الصحيحةطهارة القلب:يشترط الغزالى فى تحصيل العلم صفاء القلب من الأخلاق الرديئة مثل الحسد والطمع والغضب والحقد وعدم الأمانة. ولكن يمكن لأحد أن يناقض هذا ويقول هناك علماء لا ضمير لهم فى وقتنا الحالى وناجحون ولهم أتباع فما قولك فى هذا؟ يجيب الغزالى إن هذا ممكن ويكون علمه ظاهرا فقط لا أصل له فى قلبه.لأن العلم يحتم عليك معرفة ما يفيدك لآخرتك ودنياك وسوء الأخلاق لا يفيدك لذا استشهد الغزالى بالحديث «ومن ازداد علما، ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا»الإخلاص:ليس مفاجأة أن تكون آخر وصية للغزالى لطلابه «عليكم بالإخلاص».وقد أخلص هو نفسه وعمل بما علم لذا نستطيع أن نفهم منه ونصدقه لأنه لم يخبرنا بأشياء عجز هو عنها. فلابد للعالم أن يركز فى علمه ولا ينشغل بتفاصيل تافهة حوله. يقول الغزالي: «وكلما توزعت الفكرة، قصرت عن درك الحقائق؛ ولهذا قيل: «العلم لا يعطيك بعضه، حتى تعطيه كلك».عدم التكبر :يستشهد الغزالى بقصة الخضر وموسى. فيحث طالبه على الصبر على المعرفة. لأن المعرفة لا تأتى مرة واحدة، ولكن بالتدريج. ولو كان الطالب متواضعا سهل عليه أن يمتص العلم من حوله.التدرج فى العلم:كما ننصح نحن طلابنا بأن يقرأوا بالتدريج ينصح الغزالى طالبه بهذا. فيطلب منه أولا أن يضع الأسس ثم يقرأ عن الاختلافات والفرق المتفرقة. التدرج فى العلم مهم فى كل العلوم. بل مستحب ممن حصل العلم بعد أن تأسس فيه أن يستمع إلى الاختلافات ويحاول فهمها وحلها.عدم تحقير أى علمهذا الشرط مهم جدا فى عصرنا الحالى وهو أن ندرك أن كل العلوم مهمة وكل العلوم مرتبطة بعضها ببعض. كما أن كل الأعمال مهمة ومرتبطة وكل العالم مرتبط. فلا نحقر علما لأننا لا نعرفه مثلا أو نظن أن تخصصنا أهم. فلا يحقر المهندس المعلم ولا يحقر المعلم الطبيب. فبالنسبة للغزالى كل علم يساعد على فهم العلم الآخر لذا هو يشجع الطالب على تحصيل أكثر من علم فى أكثر من تخصص. بل وينهى طالبه عن تحقير أو تسفيه أى علم. ويقول جملته الحقيقية المهمة وهى «الناس أعداء ما جهلوا».ويطلب منا الاطلاع على أكبر قدر من العلوم فيقول «فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها ببعض، ويستفيد منه فى الحال، حتى لا يكون معاديا لذلك العلم بسبب جهله به؛ فإن الناس أعداء ما جهلوا، قال تعالى وَإِذ لَم يَهتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفكٌ قَدِيمٌ.غاية المتعلملابد للطالب أن يكون هدفه من العلم المعرفة والكمال والفضيلة، وليس المال والجاه والمنصب والمباهاة بين الأقران ومجادلة العلماء. وليستعمل علمه فى التقرب من الله. وليتذكر الطالب أن الله يرفعه بقدر نيته وعلمه فى الدنيا والآخرة. قال تعالى «يَرفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُواْ العِلمَ دَرَجَات»«ومن قصد التقرب إلى الله بالعلوم، نفعه الله ورفعه لا محالة».كيف تحكم على علم؟ يضع لنا الغزالى منهجية بحث كأفضل علماء العالم:فبعد أن نهانا عن الحكم على علم ونحن لا نتقنه وبعد أن طلب منا أن نحصل أكثر من علم مثلا علم النحو والشعر والفقه معا أو الطب والحساب والبلاغة إلى آخره. بعد هذا يوضح لنا كيفية القراءة فيقول إنك ربما تبدأ فى تعلم علم فتجد فيه اختلافا. مثلا لو قرأت كتابا عن علم النفس فى عصرنا هذا فربما تجد أكثر من نظرية وتجد أن العلماء لا يتفقون على نتيجة واحدة. فهل هذا يعنى أن هذا العلم غير مجدٍ؟ لا بل لابد أن تدرك أن الاختلاف لا يقلل من شأن العلم وأن العلوم أنواع. يقول الغزالي:«وينبغى أن لا تحكم على علم بالفساد؛ لوقوع الاختلاف بين أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب العلم بالعمل».البحث عن الحقيقةثم يوضح لنا الغزالى ربما أهم حقيقة عن العلم وهى أن كون كتاب أو عالم قد نطق مرة أو مرات بالخطأ فهذا لا يعنى أن كل كلامه خطأ وكونه نطق مرة بصواب فهذا لا يعنى أن كل كلامه صواب. وقد تكلم الغزالى عن هذا فى إطار كلامه عن الفلسفة والمعتزلة. فقال بوضوح إن كلامهم به الصحيح والخطأ. وأول شيء لابد لطالب العلم أن يفهمه هو أن واجبه البحث عن الصواب بين كل الكلمات ولا يتخذ موقفا معاديا لأحد من كلام قاله خطأ أو كتاب كتبه به خطأ. بل فى المنقذ من الضلال يوضح الغزالى أن الراسخين فى العلم يبحثون فى كل العلوم وأن بحثه فى الفلسفة له سبب لأنه يستطيع أن يفرز الصواب والخطأ. فلو مثلا كنت تكره أحد العلماء فهذا لا يعنى أن كل ما يقوله خطأ ولو كنت تكره علما فهذا أيضا لا يعنى أن كل ما فيه خطأ. فلابد أن تعرف «الشيء فى نفسه». يقول: «فلا كل علم يستقل به كل شخص». لأن الإنسان وارد أن يخطئ ولا يوجد إنسان استقل وأتقن أى علم اتقانا كاملا. ثم يعطينا أهم نصيحة التى رددها فى الكثير من كتبه عن على بن أبى طالب «لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله».والشهر القادم نتكلم عن نصائح الغزالى للمعلم .