أحدث الأخبار مع #أسامةدليقان


قاسيون
٠٤-٠٥-٢٠٢٥
- أعمال
- قاسيون
أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (2- الميل التاريخي لانخفاض الرّبحيّة)
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان وفقاً لماركس، فإنّ أيّ أزمة كبرى تتطلب حلاً لمشكلتين؛ الأولى ضرورةُ اتخاذِ تدابيرَ لرفع معدَّل الربح العام، والثانية ضرورة التخلّص من وسائل الإنتاج المُصابَة بالاهتلاك المعنويّ، التي لم تعد قادرة على المنافسة، وباتت متخلّفة عن الرَّكب في تطوير قدراتٍ إنتاجية أعلى، وذلك لإفساح المجال لمجموعة جديدة من الآلات والمعدّات وأساليب الإنتاج الأحسن. تتخذ آلية التخلُّص من القدرة الإنتاجية القديمة شكلاً سمّاه ماركس «انخفاض القيمة» أو الاهتلاك، بعكس «اكتساب القيمة» أيْ بعكس العملية التي يضيف بها الإنتاجُ قيمةً جديدة إلى موضوع العمل من خلال إنفاق العمل الحي عليه. وبما أنّ اكتساب القيمة يشير إلى زيادتها، فإنّ «انخفاض القيمة» يشير إلى خسارةٍ فيها، قد تصل إلى خسارةِ القيمة بأكملها. ومن خلال هذه العملية، يفقد رأس المال المتجسّد في المصنع أو الآلة أو المعدّات قيمتَه أو يتخلَّصُ منها ليصبح عديمَ القيمة، وبالتالي لا يعود صالحاً كوسيلةِ إنتاج. وعلى مدى فترة زمنية طويلة يؤدّي الاستبدال التدريجي للعمل الحي وإحلال الآلات والأتمتة مكانَه، إلى انخفاض معدَّل الربح، وتكوين السبب الحقيقي وراء أزمة التراكم الرأسمالي. إعادة الإنتاج البسيط والموسَّع في تحليله لتراكم رأس المال، يُميّز ماركس إعادةَ الإنتاج البسيط بأنّها حالةٌ تستهلك فيها الطبقة الرأسمالية القيمةَ الزائدة بالكامل كإيرادات. ولأنّ هذا غير واقعي، فهو مجرد أداة استدلالية تُستخدم لتوضيح خصائص السيناريو الثاني الذي يحدث في الواقع وهو: إعادة الإنتاج الموسّع، والذي هو تراكم رأس المال نفسه؛ أي أنّ رأس المال يُوسِّع نطاقَ إنتاجِه باستخدام القيمةِ الزائدة لشراء وسائل إنتاج جديدة وتوظيف عمّالٍ جدد. تُدفَع لهؤلاء العمال الجدد أجورٌ تُستخدَم بعد ذلك لاستهلاك سلعٍ استهلاكية إضافيّة تفوقُ ما يستهلكُه العمَّال الموظَّفون قبلَ هذا التوسيع. فتراكم رأس المال (أو إعادة الإنتاج الموسَّع) سيخلق، في ظلّ الظروف العادية، طَلباً كافياً لاستهلاك القيمة الزائدة المُنتَجة. قانون ميل معدّل الربح إلى الانخفاض يُعدّ النقاش حول انخفاض معدّل الربح بالغَ الأهمية لدرجة أنّ ماركس وصفه بأنّه «أهم قانون في الاقتصاد السياسي الحديث». وكما الحال مع جميع القوانين العَلمية، فإنّ قانون مَيل معدّل الربح إلى الانخفاض هو «قانون مَيْل»؛ أي إنّ القانون نفسه يخضع باستمرار للتعديل ويشتدّ أو يضعف تأثيره مؤقّتاً، بل وقد يتوقّف مؤقتاً تحت تأثير ميولٍ أخرى (قوانين أخرى) تُعاكِسهُ. ومع ذلك، فإنّ هذا القانون يملك قوّة الاتجاه السائد، بحيث أنّه عاجلاً أم آجلاً، سيؤكّد نفسها كقَدَرٍ لا رادَّ لَه. يمكن تفسير هذا القانون على مستويَين مختلِفَين. التفسير الأول، الوارد في المجلد الأول من كتاب رأس المال، يستند إلى دراسة العلاقة بين رأس المال والعمل المأجور، أو بين الرأسمالي والعامل بأجر، بمعزلٍ عن عوامل التعقيد الأخرى. أمّا التفسير الثاني، الوارد بشكل رئيسي في المجلد الثالث، فيندرج ضمن نطاق المنافسة بين رؤوس الأموال. المستوى الأول لقانون انخفاض الرّبحية يتمحور هذا المستوى حول إنتاج القيمة الزائدة النسبية. يميز ماركس بين أسلوبين لإنتاج القيمة الزائدة: المطلق والنسبي. الزيادة المطلقة بالقيمة الزائدة لا تتطلب أيّ تغييرات في تقنيات أو أساليب الإنتاج، بل تَعتمد ببساطة على إطالة يومِ العمل، أمّا زيادتها النسبية، فتعتمد في أوضح صورها وأكثرها منهجية على التغييرات في الأساس التقني وأساليب الإنتاج، أيْ رفع القدرة الإنتاجية للعمل عبر تطوير أبحاث علمية جديدة، واكتشاف مواد جديدة، وتطبيق الاكتشافات العلمية، واستحداث أساليب إنتاج جديدة... ومع انتشار ارتفاع القدرة الإنتاجية على نطاق واسع في جميع أنحاء الاقتصاد، يصبح مقدار العمل الضروري لإنتاج كل سلعة متناقصاً باستمرار. ومن بين هذه السلع، بالطبع، كمية السلع الاستهلاكية التي يستهلكها العامل وأسرته، والتي مع انخفاض أسعارها، تتناقص كمية العمل الضروري لإعادة إنتاج كمية القيمة المعادِلة لأجر العامل، وبالتالي إذا لم يتغير طول يوم العمل، سيقضي العاملُ جزءاً أطول من يوم العمل هذا في إنتاج القيمة الزائدة. بهذه الطريقة، يستولي الرأسمالي على قيمة زائدة أكبر مما سبق. هذه العملية هي الأساس العِلمي لتأكيد ماركس، الذي طرَحَه باكراً في البيان الشيوعي، أنّ أصحاب رأس المال «لا يستطيعون البقاء دون إحداث ثورة مستمرة في أدوات الإنتاج» سعياً وراء قيمة زائدة أعلى، وبالتالي ربح أعلى. ومع ذلك، يخلق هذا تناقضاً بالنسبة لرأس المال. ففي معظم الأحيان، ينطوي التقدُّم في التقنيات على دمج آلاتٍ جديدة وموادَّ أكثر تكلفة في عملية الإنتاج. وهكذا، يزداد رأس المال الثابت (أي المَصنَع والآلات والمعدّات الأخرى والعناصر المساعدة كالطّاقة وغيرها) مقارنةً بالعمل الحي، وهذا التناسب بينهما هو ما يُطلِق عليه ماركس التركيبَ التقني والتركيبَ العضوي لرأس المال، أيْ نسبة رأس المال الثابت إلى العمل الحي. ولمّا كان، بحسب ماركس، مصدرُ كلّ قيمة، وبالتالي كلّ قيمة زائدة، هو العمل الحي، فإنّ رأس المال عندما يسعى إلى زيادة القيمة الزائدة، فإنه يُقصِي من عملية الإنتاج مصدرَ القيمة نفسِه، أكثر فأكثر، أيْ العمل الحيّ. إنّ معدَّل الربح يساوي نسبة القيمة الزائدة (بَسط الكَسر) إلى إجمالي رأس المال (مَقام الكَسر). ولأنّ رأس المال الثابت (الآلات، إلخ) يزداد بوتيرة أسرع من وتيرة زيادة العمل الحي، ولأنّ أيّ كمية مُحدَّدة من العمل الحي لا يُمكنها إلّا أنْ تُنتجَ كميةً مُحدَّدة من القيمة الزائدة، فإنّ تزايد مَقامَ الكَسر (في النَّسبة) يكون أسرع من تزايد البسط، ممّا يُؤدّي إلى انخفاض معدِّل الربح. و«التسابق» بين البسط والمقام يُحسَم (في فترةٍ زمنية محدود) بناءً على أيّهما ينمو أسرع خلال تلك الفترة: إنتاجية العَمل أم التركيب العضوي لرأس المال. ولكن مع ازدياد الاستثمار اللازم لاستخراج قيمة زائدة إضافية مع تطور التكنولوجيا تاريخياً، سيتغلَّب، في نهاية المطاف، التركيب العضوي على الاتجاه المعاكس، وسيبدأ معدَّل الربح في الانخفاض. المستوى الثاني لقانون انخفاض الرّبحية ينبع التفسير الثاني ليس من منظور علاقات الإنتاج بين رأس المال والعمل، بل من منظور ديناميكيات المنافَسة بين رؤوس الأموال. هناك عوامل عديدة ومختلفة تُحدِّد من سينتصر مِن بين المتنافِسين. ما يهمّنا عملياً على المدى الطويل هنا هو المنافسة السِّعرية القائمة على التغيير التقني. فمن أجل التفوُّق على منافسيها، ستبتكر الشركة تقنيّةً أو طريقةَ إنتاجٍ جديدة تزيد إنتاجيّة قوّتها العاملة. هذا يعني أنّ القيمة الفردية لسلع الشركة (أو خدماتها) ستكلّف كمية أقل من العمالة مقارنة بالسلع (أو الخدمات) المماثلة لمنافسيها، ممّا يسمح لها بخفض سعرها. وهذا يضع منافسي الشركة في مأزق: إمّا أنْ يستمرّوا في فرض سعرهم السابق نفسه، ممّا سيؤدي إلى هجرة المشترين إلى منافسهم الذي يمكنه تقديم السلعة نفسها بالجودة نفسها (أو ربما أجود) بسعرٍ أقل، أو سيتعيّن عليهم خفض أسعارهم بطريقة مماثلة، ما يعني تكبّدَهم لخسائر. لذلك، على المدى الطويل، لا يوجد مخرج للشركات الأخرى في صراع البقاء سوى اعتماد التقنية نفسها (أو حتى أفضل منها إذا توفّرت). وبمجرد تحقيق ذلك، يمكن لجميع الشركات خفض أسعارها إلى المستوى نفسه. ما عواقب هذا التقدّم في القوى الإنتاجية؟ هذه العملية تضطرّ جميع الشركات إلى زيادة الإنفاق على السلع الرأسمالية (الآلات، والمعدّات، والمواد الجديدة، إلخ) مع بقاء مستوى الأرباح بالمقارنة مع التكاليف الإضافية اللّازمة للتحديث. والنتيجة، على المدى الطويل، هي انخفاض معدّل الربح. بالنسبة للرأسمالي، فإنّ هدف الإنتاج هو الحصول على أعلى قيمة زائدة (وبالتالي أعلى ربح) من مقدار معيَّن من رأس المال في ظل ظروف معيَّنة. وبالتالي، فإنّ انخفاض معدل الربح سيجعل الرأسماليين أقلّ رغبة في استثمار رأس مالٍ جديد (أي في مراكمة رأس المال) بالوتيرة السابقة نفسها. وهذا يعني الافتقار إلى قيمةٍ زائدةٍ كافية لمواصلة إعادة الإنتاج المُوسَّع. وهكذا كشَف لنا ماركس أحدَ أسرار تباطؤ الاقتصاد الرأسمالي ووقوعه في الأزمات. (يتبع في الجزء الثالث).


قاسيون
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- قاسيون
أساسيّات الفهم العلمي للأزمة الرأسمالية (1- مقدّمة)
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان في تشرين الأول 2023 نشر «معهد ترايكونتيننتال للأبحاث الاجتماعية»، ذو التوجّه الماركسي (بإدارة الناشط الهندي فيجاي براشاد وزملائه)، كُتيّباً أعدَّه اثنان من الباحثين في الاقتصاد السياسي (أرطغرل أحمد توناك، وسونغور سافران)، وتضمّن عرضاً لأبرز الأسس العلمية للنظرية الماركسية حول الأزمات الرأسمالية والركود الاقتصادي العالمي. اخترنا منه الآتي. الهدف الطبقي والسياسي للعلم الماركسي بالأزمات إنّ انعدام العدالة الذي تُنتجه الرأسمالية حتماً قد خلق عالماً يمتلك فيه أغنى 2153 مليارديراً ثروةً تفوق ما يمتلكه أفقر 4.6 مليار شخص، والذين يُشكلون 60% من سكان العالم. [أوكسفام 2020، والأرقام ستكون أسوأ اليوم بالتأكيد]. هذان الاتجاهان ليسا استثناءً اقتصر على جائحة كوفيد-19 وتأثيراتها، فهما مستمرّان منذ سنوات وعقود، مُتشابكان بفعل قوانين الرأسمالية وأزماتها. نسعى إلى تسليط الضوء على الأزمة العميقة التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، والتي تتكشف منذ أكثر من عقد. إن شرح الأزمة ليس مجرد تمرين فارِغ للتباهي بالبراعة التقنية للاقتصاديين المحترفين، بل هو ضرورة تتجاوز المظاهر السطحية لاكتشاف جوهر العملية برمتها. بهذه الطريقة، يُمكننا تسليط الضوء على مسار نضال الطبقة العاملة والشعوب المُضطهَدة في جميع بلدان العالم، في وجه أمواج الفقر والبؤس. وفي سعينا لتقديم نتائج ملموسة للبروليتاريا والمُعذَّبين في الأرض، من المهم شرح التناقضات الكامنة في الرأسمالية التي تُؤدِّي إلى هذه الأزمات. فالتفسيرات الخاطئة من شأنها تضليل الجماهير والإضرار بنضالاتهم. منذ 2008: «ركود» أم «كساد»؟ تاريخياً، شهدت الرأسمالية أنواعاً مُختلفة من الأزمات، مُتفاوتة الشدّة والمُدّة. وأكثرها شيوعاً يحدث عادةً مرة واحدة تقريباً كل عَقد، وقد دُرست ويُشار إليها في الأدبيات المُتخصصة باسم «دورات الأعمال/دورات البزنس». وعادةً ما تكون ذروة دورة الأعمال هي «الركود/recession»، وهي فترة وجيزة ينكمش خلالها الاقتصاد. تُعرَّف فترات الركود (في الأدبيات البرجوازية تقليدياً) بأنها فترات قصيرة نسبياً تستمر لأكثر من رُبعين (ستّة أشهر)، وتُحدَّد بمتغيِّر اقتصاديٍّ واحد، هو معدَّل النمو، عندما يدخل هذا الأخير في المنطقة السلبية - أي عندما ينكمش الاقتصاد. عادةً ما يتم التغلب على هذا النوع من الأزمات الركوديّة من خلال تعديل قوى السوق، وهو ما ساهمت فيه إلى حد ما السياسات الحكومية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا «الكساد/depression» فهو نوع مختلف من الأزمات في تاريخ الرأسمالية. إنّه يستمر لفترة أطول بكثير، قد تصل لعقدٍ من الزمن، وأحياناً لعدة عقود. لا يمكن إدارته والتغلب عليه من خلال التعديل التقليدي لمتغيِّرات السوق، ويتطلب اضطرابات جذرية ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل أيضاً في المجالات السياسية والأيديولوجية، وحتى العسكرية (الحروب). عندما كان الكساد يتكشف على مستوى الرأسمالية العالمية، كان العرف، حتى الآن، هو تسميتُه «كساداً كبيراً/great depression». وقعت أول أزمة من هذا النوع، والتي عُرفت آنذاك بـ«الكساد الطويل»، في نهاية القرن التاسع عشر، تقريباً بين عامي 1873 و1896. أمّا الثانية، فهي «الكساد الكبير» الأشهر، الذي بدأ بانهيار وول ستريت عام 1929 وانتشر على نطاق واسع طوال ثلاثينيّات القرن العشرين، واستمرّ في العديد من البلدان، وخاصةً في أوروبا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويرى العديد من الاقتصاديين الماركسيّين، بمن فيهم مؤلِّفو هذا النصّ، أنَّ الأزمة المطوَّلة والعميقة التي نمرُّ بها منذ عام 2008 وحتى الآن هي أيضاً كسادٌ كبير. في بداية الأزمة عام 2008 استُخدِم اسم «الأزمة المالية العالمية» حصرياً لوصف الأزمة العميقة في الاقتصاد العالمي التي أطلق شرارتها انهيار ليمان براذرز (أحد بنوك الاستثمار الكبرى في وول ستريت). ولكن سرعان ما تبيَّن خطأ هذه التسمية، عندما انكشف أنّ الأزمة لم تكن مقتصرةً على مجال التمويل، بل امتدت إلى ما نسمّيه «الاقتصاد الحقيقي» أيْ إلى مجال الإنتاج... ثم بدأت الدوائر الحاكمة للاقتصاد الرأسمالي والحكومات في استخدام المصطلح الجديد «الركود الكبير» (recession) وليس الكساد (depression)، وتنسَب تسمية الأزمة بالركود الكبير (great recession) إلى الفرنسي دومينيك شتراوس كان (DSK كما كان يُعرف في الدوائر المالية والحكومية)، المدير الإداري لصندوق النقد الدولي آنذاك. ومع ذلك، اعترف كثيرون من داخل المؤسسات البرجوازية نفسها بأنّها «أزمة مالية تحدث مرة واحدة كل قرن»، في إشارة واضحة ومقارنة بالكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنهم آلان غرينسبان، الذي شغل منصب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لما يقرب من عقدين من الزمن. وهكذا، فإنّ من يقتصرون على تسمية الأزمة منذ ذلك الحين بأنها مجرّد «ركود» أو حتى «ركود كبير» إنما يريدون التهرّب من ذكر الكلمة المرعبة (d-word) الحقيقية وهي «الكساد». كانت هذه مجرد مقدمة لهذه السلسلة من المقالات حول الأزمة. في الحلقة القادمة، سنتعمق في نظرية ماركس للأزمة وتشديده على المكانة المركزية للأزمات في الحركة التاريخية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهو أحد أبرز أسباب تفوُّق التحليل الماركسي للرأسمالية على النظريات الاقتصادية البرجوازية السائدة. وكما سنرى، لم يُقدّر ماركس الأزمات فحسب، وهي ظاهرة شائعة في الرأسمالية، بل قدّم تحليلاً شاملاً لها، باعتبارها المحور الذي يتوقف عليه مصير الاقتصاد والمجتمع الرأسماليَّين. * أرطغرل أحمد توناك: بروفسور في الاقتصاد السياسي، وخاصةً الماركسي، وتاريخ الفكر الاقتصادي، باحث وأستاذ جامعي في عدة جامعات تركية ودولية، من كتبه الحديثة 2024: «في مسارات رأس مال ماركس: نقاشات في الاقتصاد السياسي الماركسي ودروس لرأسمالية القرن الحادي والعشرين». سونغور سافران: مدرّس في جامعة أوكان إسطنبول ومحرّر مجلة «الماركسية الثورية».


قاسيون
٠٧-٠٤-٢٠٢٥
- علوم
- قاسيون
خَصخصة المَعرِفة العامَّة وتحويل العُلماء إلى مُقاوِلِين
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان قبل نشر أيّ نتيجة، ينشغل العلماء بالفعل بمستلزمات تسجيل براءات الاختراع. لم يعد ناتج البحث العلمي يقتصر على الأوراق البحثية المنشورة في المجلّات العلمية التي تُوسِّع آفاق المعرفة، بل يشمل براءات الاختراع التي يُمكِن تحويلها إلى أموال. تحويل العُلماء إلى مُقاوِلين أدّى هذا إلى هدفٍ جديد داخل الجاليات العِلمية: خلق فئة جديدة من العلماء الذين يتصرّفون كمُقاوِلين (أو ما يسمّى روّاد أعمال)، والذين غالباً ما يعملون ضمن مؤسسات علمية عامّة، لكنهم أصبحوا مُقاوِلين علميّين بدافع التربُّح الخاصّ من مخرَجات أبحاثهم. لم يعد هدفُ البحث إنتاج المعرفة، بل خلق احتكارات إمّا لرأس المال الخاص أو للعالِم بوصفه «رائدَ أعمال/مُقاوِلاً». إنَّ احتكار المعرفة، سواءً استُخدم لبيع برنامج كمبيوتر أو دواء أو بِذرة زراعية...إلخ، يُترجَم إلى القدرة على تحقيق أرباح هائلة. كما أنّه يُجهِضُ إمكانية تطوير العِلم من خلال شبكةٍ مفتوحة. ومن المفارقات أنّه في حين أنّ الإنترنت والوصول المفتوح إلى المعرفة قد مكّنا مجموعات كبيرة من الناس حول العالم من التعاون المشترَك وتحقيق تقدّم كبير في العلوم، فإنّنا نشهد أيضاً عصراً تُحشَر فيه المعرفةُ في جيوبٍ ضيقة، ممّا يسلب ثمار التعاون الاجتماعي لصالح حفنة أفراد. أظهرت حركة البرمجيّات الحرّة (كمشاعٍ معرفيّ) في ثمانينيّات القرن الماضي قوّةَ الهياكل الشبكية الجديدة في إنشاء البرمجيات، وتفوُّقها على القطاع الخاص (تطوير البرمجيات المخَصخَصة). لم يسبق للمجتمع من قبل أنْ امتلكَ القدرة على جمع جاليات علمية وموارد متنوّعة بهذا الحجم. لقد رأينا ما يمكن للتعاون أنْ يحقّقه عند تسخيره للأنشطة العلمية مثل فيزياء الجسيمات تحت الذرّية أو علم الفلك. إذن، ما الذي يَحُول دون تحرير هذه القوة الهائلة للعمل المشترَك من أجل توليد معارف وفنون جديدة؟ مِن أبرز العوائق حقوقُ الاحتكار والاستيلاء الخاص المتأصِّل في نظام حقوق الملكية الفكرية الخاصّة. ميزةٌ هامّة للمَشاع المعرفي مقارنةً بالطبيعي إنّ إدراك ضرورة استعادة العِلم كممارسةٍ مفتوحة وتعاونية قد أدّى إلى ولادة حركة «الموارد المشتركة/مَشاع الموارِد». وبينما حاربت الحركات البيئية والإيكولوجية خصخصةَ الموارد المُشتركة، فإنَّها ضيّقَت قَصَرَتْ نظرتَها إلى الموارد المَشاع على أنّها «المشاعات الطبيعية» فقط، مثل المراعي والغابات ومصايد الأسماك والمحيطات والغلاف الجوي. هذه الموارد المشتركة هي موارد طبيعية كان يُعتقد سابقاً أنّها غير محدودة، ويُفهَم الآن أنّها محدودة، وقابلة للاستغلال المفرِط والتدهور. تختلف الموارد المشترَكة المعرفية (المَشاعات المعرفيّة) اختلافاً جوهرياً من حيث أنّها لا تتدهور أو تُستَنفَد مع الاستخدام المتكرِّر، بل على العكس؛ فاستخدامها المفتوح على نطاق واسع يُثري المعارف العامَّة ويطوّرها كمّاً ونوعاً. ومن وجهة النظر إلى العِلم كمَشاع، تُعدّ حقوق الملكية الفكرية الخاصّة محاولاتٍ لاستبعاد الناس من نطاق المعرفة عبر حصرها، على غرار حصر مَشاع القُرى الذي جرى على مدى الخمسمائة عام الماضية. ويُستخدم هذا حيلةً قانونيةً تُسمَّى «حقوق الملكية الفكرية» لخصخصة المعرفة التي لطالما كانت مُلكاً عامّاً. إنَّ حصر المعرفة له ضررٌ مضاعَف: فهو لا يُقيّد وصول الآخرين إليها فحسب، بل يُقيّد أيضاً الوصول إلى شيءٍ قابلٍ للتّكرار بلا حدود ولا يتدهور مع الاستخدام. إنّ حصر المعرفة عن طريق تطبيق نظام حقوق الملكية الفكرية الخاصّة أكثرُ ظُلماً من حركات الحصريّة السابقة، التي جادلتْ بأنّ حقوق الملكية الخاصة تمنع تدهور المَشاع. إنّ الصراع ضدَّ حقوق الملكية الفكريّة بمختلف أنواعها هو معركةٌ للحفاظ على المَشاع العالَمي، وتحديداً المعرفة بأشكالها المختلفة. تراجُع الاستقلالية النسبيّة للعِلم عن السوق والدولة كان النظام السابق لتطوير المعرفة العلمية قائماً بشكل أساسي ضمن هياكل التعليم العالي. كانت الجامعات والكليات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى مراكزَ انطلاق التطوّرات العلمية الجديدة. ولأنّ هذه المراكز التعليمية كانت تتمتع باستقلالية نسبية عن كلٍّ من الدولة والسوق، كان نظام توليد المعرفة الجديدة أقلّ تقييداً من قبل الهيمنة الطبقية المباشرة في المجتمع. وقد أنتج هذا داخل النظام الجامعي شعوراً بالاستقلالية النسبية والتنظيم الذاتي، وكان للتعليم المُقدَّم للطلاب هدفٌ يتجاوز مجرَّد خدمة رأس المال أو احتياجات الدولة. ولهذا السبب كان النظام التعليمي أقدَرَ، مما هو عليه الآن، على خلق مساحة لإبداع أفكار جديدة، ليس في مختلف التخصُّصات فحسب، بل وفي عموم المجتمع نفسه أيضاً. جاء تحول هذا النظام بعد أكثر من مئة عام من مصدرين متمايزين؛ الأول هو أن العلم والتكنولوجيا أصبحا أكثر تكاملاً من ذي قبل، ويمكن تحويل التطورات العلمية بسرعة إلى منتوجات قابلة للتسويق، مثل التطورات في علم الأحياء التي تُنتج مركبات دوائية جديدة، أو التطورات في الفيزياء التي تدخل في أحدث آلات صناعة الرقائق الإلكترونية، فهي تحدث اليوم بشكل أسرع بكثير مما كانت عليه في السابق. لكنّ المتعصّبين للسُّوق حول العالَم يطالبون بإجراءاتٍ مُشابهة لقانون بايه-دول الأمريكي لعام 1980 الذي أدخل تعديلات على قانون براءات الاختراع والعلامات التجارية، سامحاً للجامعات وغيرها من الكيانات غير الربحية بتسجيل براءات اختراع خاصّة للأبحاث المُموَّلة من الموارد العامة، مما أدّى لمزيد من حصر التقدم في المعرفة المُنتَجة من التمويل العام في أيادٍ خاصّة، وهيّأ الظروف اللازمة لنظام الجامعات في الولايات المتحدة للتعاون بشكل أوثق مع الشركات الخاصّة الكبرى، حيث أصبح بإمكان الجامعات خصخصة الأبحاث الممولة من القطاع العام، عن طريق بيع براءات الاختراع للشركات الخاصة. وهكذا يتم تدفيع الناس ثمناً باهظاً: مرة لتمويل الأبحاث من المال العام، ومرة أخرى للمنتوجات الخاصّة الباهظة الناتجة عن ذلك، رغم أنّها مُطوَّرة من الأبحاث المموَّلة من القطاع العام، أيْ من جيوب الناس في نهاية المطاف. كما ساهمت عوامل أخرى في تغيير نظام إنتاج المعرفة، أبرزها السياسات النيوليبرالية المُتَّبعة حول العالَم. عانى التمويل العام للأبحاث، لا سيّما في الدول النامية، إذْ فرضَ الاقتصاد النيوليبرالي التقشُّفَ على المالية العامّة. وقد أدى هذا، إلى جانب الاعتماد على السوق، إلى ظهور فكرة مفادها أنّ الطريق للمضي قدماً هو الحصول على تمويل الأبحاث من القطاع الخاص. وهناك أدلة اليوم على أن التمويل الخاص للأبحاث يُشوِّهُ الأولويّات التي يدعمها التمويل العام. ومُنِحَت الشركات الخاصة القدرَةَ على ممارسة سيطرة حاسمة على مسار البحث، حتّى عند تمويل أجزاءٍ مختارَة فقط من مشروع بحثي، لأنَّ ثمارَ الأبحاث المموَّلة من القطاع العام تُوضَع تحت تصرُّفها. إعادة المؤسَّسات العِلمية للاهتمام بالمجتمع والفقراء السؤال الثاني الذي نحتاج إلى معالجته هو كيفية استعادة اهتمام المؤسسات العلمية بالشواغل المجتمعية، والتحويل الديمقراطي للمؤسَّسات، بحيث تكون الأهداف الاجتماعية الأوسع هي التي تحدّد أولويّات العِلم؟ هل يُموّل قطاعُ الشركات الأبحاث المتعلّقة بالأمراض التي تُصيب الفقراء، وهو قطاع لا يهتم بتطوير أدوية لمن لا يستطيعون الدفع؟ كيف نأخذ في الاعتبار شواغل الدول الفقيرة التي لا تملك المال ولا الموارد العلمية لمعالجة هذه المشاكل؟ كيف نُرسي ونعزِّز العدالة في نظام تطوير المعرفة العِلمية؟ هذا يقودُنا مباشرةً إلى المسألة الأوسع، وهي كيفيّة سيطرة المجتمع ككلّ على مسيرة العِلم. إذا كان العِلم اليوم قوةً اقتصادية كبرى، فإنّ الهدف الأسمى للديمقراطية والمساواة في المجتمع يجب أنْ يشملَ العِلم حتماً. ليس مُستَغرباً أن تتطلَّب العديد من المسائل المصيرية في عالمنا اليوم فهماً للعِلم، ففي غياب هذا الفهم، سيتمكّن قلّةٌ من العلماء المنتمين إلى المؤسَّسة الحاكِمة مِن فرضِ أحكامهم على المجتمع بذريعة أنّها قرارات «عِلمية». * بتصرّف، مِن كتابه «المعرفة كمشاع عام: نحو العلم والتكنولوجيا الشاملَين» الصادر عام 2024 في الهند. برابير بوركاياستا هو مهندس في الطاقة والاتصالات والبرمجيات، ومؤسِّس في منتدى دلهي للعلوم ومحرِّر موقع ألّف عام 2023 كتاباً مشتركاً مع فيجاي براشاد بعنوان «انفجار إنرون: الرأسمالية المؤسَّسية وسرقة الموارد العالمية المشتركة».