logo
#

أحدث الأخبار مع #أنورعبدالرحمن،

بين فردوسي والخميني.. جدل الهوية بين القومية والدين
بين فردوسي والخميني.. جدل الهوية بين القومية والدين

البلاد البحرينية

timeمنذ 4 أيام

  • سياسة
  • البلاد البحرينية

بين فردوسي والخميني.. جدل الهوية بين القومية والدين

في جلسة عائلية حميمة قبل أيام، جمعتني لحظات ماتعة ومفعمة بالذكريات والتأملات مع مجموعة من الأصدقاء، من بينهم الصديق العزيز الأستاذ أنور عبدالرحمن، رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير جريدة 'أخبار الخليج'. أنور ليس مجرد صديق وزميل درب في بلاط صاحبة الجلالة، بل هو مثال نادر لرجل عصامي شق طريقه من الصفر إلى قمة النجاح، لا على الصعيد المادي فحسب، بل على المستوى المعرفي والثقافي أيضًا. ومن دون خلفية أكاديمية رسمية، استطاع أن يكوّن لنفسه رصيدًا فكريًا ومعرفيًا يضاهي كبار المثقفين؛ بفضل نهمه الدائم في القراءة، وحرصه على الاطلاع المتنوع باللغتين العربية والإنجليزية، إلى جانب إتقانه المدهش للغة الفارسية وآدابها، شعرًا ونثرًا، ويكاد يتألق أكثر عندما يدور الحديث حول الشاعر الفارسي العظيم عمر الخيام ورباعياته الخالدة، أو حول فردوسي وملحمته التاريخية 'الشاهنامه'، التي باتت في نظر كثيرين مرآة الهوية الفارسية العميقة. في تلك الجلسة، دار الحديث في منحى فلسفي وفكري حول إشكالية الهوية لدى الإيرانيين، أو الفُرس تحديدًا، هل يغلب لديهم الانتماء القومي الفارسي، أم الانتماء الإسلامي الشيعي؟ هل يمكن القول إن إيران - الدولة والنظام والشعب - هي أولا وأساسًا كيان فارسي، أم أن العقيدة الإسلامية (وتحديدا المذهب الشيعي) هي الركيزة الأهم في تشكيل وجدانها وسلوكها السياسي؟ قد يبدو السؤال مجرد جدل فكري، لكن واقع الحال يقول إنه سؤال شديد الحساسية والتعقيد، وله تداعيات كبرى على السياسات الداخلية والخارجية لإيران، وعلى علاقة هذه الدولة بجوارها العربي، وبالعالم الإسلامي عمومًا. لقد تمكن المد الإسلامي العربي منذ لحظة انطلاقه في القرن السابع الميلادي، من صهر هويات شعوب بأكملها ضمن بوتقة الهوية الإسلامية العربية الجامعة. مصر الفرعونية، على سبيل المثال، تخلّت عبر الزمن عن هويتها القديمة، وتماهت بالكامل مع العروبة والإسلام. وفي شمال إفريقيا، تراجعت لغات وثقافات الأمازيغ لصالح العربية لغةً وهويةً ودينًا. لكن المفارقة الكبرى هي أن الفرس، رغم خضوعهم المبكر للفتح الإسلامي، لم يفقدوا هويتهم العرقية والثقافية، بل امتصوا الإسلام وتمسكوا بجوهرهم القومي، وأعادوا قولبته بشكل يعكس عمق الذات الفارسية. إنها ظاهرة متميزة في التاريخ، أن يحتضن شعب دينًا جديدًا، لكنه لا يسمح لهذا الدين أن يطمس معالمه الحضارية، بل يعيد تشكيله وفقًا لروحه وثقافته. ولعل هذا ما دفع الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، أثناء زيارته لإيران ولقائه بالإمام الخميني في طهران إلى طرح السؤال الجوهري التالي: 'كيف احتفظ الإيرانيون بهويتهم الفارسية، بينما لم تتمكن مصر، رغم عمق حضارتها، من فعل الشيء نفسه؟'. فكان الرد كما رواه هيكل: 'لأنكم في مصر لا تملكون فردوسي، ولا تملكون شاهنامه'. تلك العبارة تحمل من الدلالة أكثر مما يبدو في ظاهرها. 'الشاهنامه' ليست مجرد ملحمة شعرية تاريخية، بل هي عمل تأسيسي للوجدان الفارسي، يربط بين الأرض، واللغة، والرموز القومية، ويعيد إحياء أساطير وأبطال ما قبل الإسلام، كأنها تحدٍ صامت للزمن العربي والإسلامي الذي تلاها. ومن هنا، يمكن فهم كثير من المفارقات في السلوك الإيراني الرسمي: فبينما يقدم النظام الإيراني نفسه كحامل راية الإسلام الشيعي، ومدافع عن المستضعفين وناصر لشيعة العالم، إلا أن سياساته غالبًا ما تنبع من اعتبارات قومية فارسية أكثر منها دينية، ولعل من بين أبرز الأمثلة على ذلك، الموقف الإيراني الأخير من أزمات سوريا ولبنان، ففي الوقت الذي ادّعى فيه النظام الإيراني مناصرة الشيعة في المنطقة، لم يتردد في التخلي عنهم، حين رأى في ذلك مصلحة استراتيجية تتفق مع أولوياته القومية. إن ما يحرك السياسة الخارجية الإيرانية ليس دائمًا البعد المذهبي أو العقائدي، بل البراغماتية المغلّفة بخطاب ديني، والمرتكزة في جوهرها على شعور قومي عميق بالجذور الفارسية. فحين تتعارض المصلحة السياسية مع الولاء الديني، فإن الكفة تميل - في أغلب الأحيان - إلى ما يخدم مشروع الدولة الإيرانية الحديثة، لا بالضرورة مشروع الأمة الإسلامية. ومن هنا تبرز المفارقة: دولة شيعية دينية في المظهر، لكنها قومية فارسية في الجوهر، تخوض صراعاتها في المنطقة تحت راية الإسلام، ولكن بروح 'الشاهنامه' وتحمل اسم الإمام، لكنها تسير في خطى كسرى. ربما لهذا السبب يصعب فهم إيران من زاوية مذهبية فقط؛ فالدين فيها ليس سوى أحد أوجه الهوية، وليس الوجه الأعمق. الوجه الأعمق هو الفردوسي، و 'الشاهنامه'، وتلك اللغة التي استعصت على الذوبان، وذلك المزاج الثقافي الذي بقي صامدًا في وجه المد العربي والإسلامي، واستمر حاضرًا بقوة، رغم كل موجات الأسلمة، والتشيّع، والثورات. ليست قضية الهوية شأنًا ثقافيًا مجردًا، بل هي في صميم السياسة والواقع والمصير. وإذا كانت إيران قد استطاعت أن توظّف روايتها القومية لتثبيت موقعها الإقليمي، فإن عالمنا العربي لا يزال يتخبط بين انتماءات متصارعة، تتوزع بين الطائفة والقبيلة، وبين الجغرافيا الضيقة والتاريخ المبتور. لقد رأينا كيف تم توظيف الدين والمذهب لتمزيق النسيج العربي في أكثر من ساحة، من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن، وكيف تحوّلت بعض الأقليات إلى أدوات للصراع لا شركاء في البناء، نتيجة غياب المشروع العربي الجامع الذي يصون التنوع ولا يختنقه. ورأينا كيف فقدت القضية الفلسطينية شعاعها ومركزيتها في الضمير العربي، لا بسبب تغير الوقائع فقط، بل بسبب تآكل الهوية الجامعة التي كانت توحّد الهمّ والمصير. فحين تضعف الهوية، تتشظى القضايا، ويتحوّل الصراع من صراع مع الخارج إلى صراع داخل الذات. نحن اليوم أمام مأزق وجودي، لا لغوي ولا عرقي. فإما أن نعيد تعريف أنفسنا من خلال سردية شاملة تجمع العربي والمسيحي، السني والشيعي، الأمازيغي والكردي، ضمن عقد ثقافي وسياسي جديد، أو نستمر في تفتيت الذات طائفيًا وعرقيًا حتى نغدو مجرد فسيفساء قابلة للكسر في أي لحظة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store