أحدث الأخبار مع #أورويل


شبكة النبأ
منذ 12 ساعات
- سياسة
- شبكة النبأ
جورج أورويل: وچاي وچذب العراقيين
يحدد جورج أورويل صفتين للمجتمعات الشمولية: الكذب والفصام عن الواقع. فالكذب في هذه المجتمعات عملية منظمة وليست تكتيكاً، ويتطلب باستمرار إعادة كتابة الماضي لاحتواء الحاضر. فحاضرنا المُزري هو نتاج مظلومية الماضي. ولأن التاريخ لم ينصفنا، بتنا غير قادرين على إنصاف أنفسنا... يحدد جورج أورويل صفتين للمجتمعات الشمولية: الكذب والفصام عن الواقع. فالكذب في هذه المجتمعات عملية منظمة وليست تكتيكاً، ويتطلب باستمرار إعادة كتابة الماضي لاحتواء الحاضر. فحاضرنا المُزري هو نتاج مظلومية الماضي. ولأن التاريخ لم ينصفنا، بتنا غير قادرين على إنصاف أنفسنا. أما الفصام، فيتجسد بإقامة نظام فكري فصامي يعتمد على قوانين الفطرة السليمة ليتمكن من احتواء الفرد والتخفيف من معاناته النفسية. وهو يرى يومياً التعارض بين قوانين العدالة التي يؤمن بها وتربى عليها، وبين الواقع غير العادل الذي يعيشه. لذا، يلجأ للتبرير والانفصال عن الواقع. "نحن واقعون تحت أنياب المؤامرة... العدو يتربص بنا، لذا علينا المحافظة على وحدتنا وعدم انتقاد قادتنا... كل ما نحن فيه من سوء هو نتاج المظلومية التاريخية... الله يمتحن صبرنا ويمحصنا قبل أن نرى الخير الوارف"، وغير ذلك من السرديات التاريخية والمؤدلجة والمصممة خصيصاً لنرضى بالواقع الأليم وندافع عن الظلم العميم دون أن تهتز ضمائرنا أو تتأذى مشاعرنا. شخصية ازدواجية هذا ما يسميه أورويل التفكير المزدوج، ويسميه الوردي ونجيب محفوظ الشخصية الازدواجية، في حين اسميته الدور الاجتماعي في كتابي (ثقافة التصلب: منظور جديد لفهم المجتمع العراقي). تهتم النظم الشمولية جميعها بتنشئة الفرد ليس فقط على حب القائد، أو الرمز الديني أو الدنيوي، وإنما أيضاً تنميط دماغه وسلوكه ليعكس مجموعة المبادئ والمعايير والقيم التي تتناسب مع ما يريده الأخ الأكبر. وسواء من خلال المدارس أو الإعلام أو المنابر أو معسكرات الشبيبة والتجنيد، فإن المطلوب هو خلق أجيال من الروبوتات البشرية المنمطة التي تستخدم الأيديولوجيا التي تمت برمجة عقولهم وسلوكهم بها لكي يبرروا هذا الكذب الذي يعيشونه ويمارسونه. وهم يرون القائد وأولاده وأحفاده وزبانيته يركبون أفخر السيارات ويسكنون أفخم القصور ليخاطبوهم من شرفاتها، ويدعونهم للجهاد والدفاع عن الحق والفقراء والمظلومين! إنهم يريدون تصديق أن قائدهم، أو ملهمهم، أو شيخهم، أو بابهم إلى الله وطريقهم لجنات الخلد، يعاني أكثر منهم فلا يجد مالاً ليزوج به ابنه المدلل، ولا ينام إلا بعد أن يقوم الليل كله، ولا يأكل سوى كسرة خبز لتقيه الجوع، ولا يسافر بطائراته الخاصة إلى منتجعات العالم إلا ليسهر على حل مشاكل الشعب الفقير والأمة المظلومة. لا طريق لحل هذا التنافر الفكري (cognitive dissonance) بين ما تربوا عليه ويؤمنون به، وبين ما يرونه من سلوك قادتهم وسراتهم والعالمين بدينهم ودنياهم، إلا بتكذيب ما يرون والانفصال عن الواقع الذي يعيشون. والأدهى من ذلك أن هذا السلوك التبريري ثنائي القطب يجري استبطانه وتقليده من قبل أفراد الشعب ذاته. آليات منهجية ففي النهار، هم المُبشِّرون (بكسر الشين) بالورع والجهاد والشرف والنزاهة، وفي الليل هم أهل الرقص والمجون، والسُكْرِ والفنون، والفساد والجنون. إنهم شعب "الچاي والچذب"، حيث يكذبون وهم يشربون السُكّر في شايهم، ويصدقون وهم يشربون السَكَر في مجلسهم. إعادة صياغة الماضي والعيش فيه، والكذب والتبرير والانفصال عن الواقع، آليات دفاعية يتم تنظيمها وفق آليات منهجية مستمرة في المجتمعات الشمولية لإدامة التخدير وإدمان التبرير. العقل في صيام دائم، والخرافة والوهم هي الحق القائم.


الغد
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- الغد
الكتاب الجيد في عصر الخوارزميات
في واحدةٍ من أكثر مقولاته عُمقًا؛ يقول جورج أورويل: «الكتاب الجيد هو الذي يُخبرك بالذي تعرفه مُسبقًا». قد تبدو هذه العبارة للوهلةِ الأولى متناقضة مع فكرة البحث عن الجديد في القراءة، لكنها في الحقيقة تحمل رؤية فلسفية دقيقة حول طبيعة المعرفة الإنسانية ودور الأدب في إعادة اكتشاف الذات. فالكتاب الجيد في فهم أورويل لا يقتصر على تقديم معلومات جديدة، بلْ يوقظ في القارئ إحساسا دفينا أو فكرةً كان يحملها في داخله دون أنْ يعيها تمامًا. فهو مرآة تعكس أعماقنا، وتُعيد ترتيب أفكارنا، وكأننا نعبد اكتشاف أنفسنا من جديد بين سطوره. اضافة اعلان لكن في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، تغيَّرت طبيعة «الكتاب» و»القارئ» بشكل جذري، فلم يعُد الكتاب ورقيًّا أو حتى إلكترونيًّا بالمعنى التقليدي، بل أصبح منشورًا عابرًا أو تغريدة أو مقطع فيديو قصير. ولم يعدْ القارئ مُتلقِّيًا سلبيًّا؛ بلْ أصبح مُنتجًا ومُستهلكًا في آن واحد. وهنا تَبرُز مُفارقة عميقة؛ فوسائل التواصل الاجتماعي رغم ضجيجها وتنوُّعها، غالبًا ما تُحقق مَقولة أورويل بشكل أكثر تطرُّفًا، إذ إنها لا تُقدّم لنا الجديد بِقدرِ ما تُعيد تدوير ما نعرفه ونُؤمن به مُسبقًا، وتُغذِّي فينا الحاجةَ المستمرة لسماعِ صدى أفكارِنا. فخوارزميات هذه الوسائل مُصَمَّمة بعنايةٍ لِتغذيةِ قناعاتنا، وتقديم محتوى يتوافق مع مُيولنا وأفكارنا؛ إذْ نميل بطبيعتنا إلى مُتابعة من يُشبهوننا، ونشارك ما يعبِّر عن هويَّتنا، وننخرط في دوائر مُغلقة من الأفكار المتشابهة. وهكذا يصبح «الكتاب الجيد» في زمن السوشال ميديا هو المنشور الذي يُؤكِّد ما نعرفه ونُؤمن به، ويمنحنا شُعورًا بالانتماء والاطمئنان؛ بلْ إننا نميل إلى رفْضِ أو تجاهلِ كل ما يتعارض مع قناعاتنا حتى لو كان يحمل قيمة معرفية حقيقية. هنا تظهر بِوضوحٍ ظاهرة «فُقّاعَة المعلومات»، وهي إحدى أخطر نتائج تطوِّر الخوارزميات الرَّقمية، إذْ تقوم هذه الخوارزميات بتحليل سلوك المُستخدمين ومُيولهم وتفضيلاتهم، لتقدِّم لهُم مُحتوى يتوافق مع هذه التّفضيلات، وفي النَّتيجة يُصبحُ كلّ فرد يعيش في «فُقّاعَتهِ» الخاصَّة، مُحاطًا بأفكارٍ وآراءٍ تُشبه أفكارَه وآراءَه، ويكاد لا يرى أو يسمع إلاَّ ما يُؤكِّد قناعاته المُسبقة، ومع الوقت، يتحوَّل الفضاء الرَّقمي من ساحة حِوار وتبادُل إلى جُزُرٍ معزولة، كلُّ منها يُردِّد قناعاته دون حِوار حقيقي مع الآخر. خُطورة هذه الفُقَّاعَة لا تكمنْ فقط في الانغلاق الذِّهني بلْ في تضييق أُفُق الحِوار المُجتمعي، وتفاقُم الاستقطاب، وانتشار الأخبار الزَّائِفة والمُضلِّلة؛ فكلُّ مجموعة تعيش في عالمها الخاص، وتسمع فقط صدى أصواتها، وتظن أنَّ ما تراه وتسمعه هو الحقيقة المُطلقة، وهذه الفُقّاعَة لا تتشكّل فقط بفعل الخوارزميات بلْ أيضًا بسبب ميْل الإنسان الطّبيعي إلى تجنُّب ما يُزعجه أو يُخالف مُعتَقداته. ومع الوقت؛ يُصبح من الصّعب علينا تقبُّل أو حتى الاستماع إلى وِجهات النَّظر المُختلفة، ويبدأ في النَّظر إلى الآخر المختلف بِرَيْبة أو عداء. ربَّما علينا اليوم أنْ نُعيد قِراءة مَقولة أورويل في ضوء عصرِنا الرَّقمي؛ فالكتاب الجيِّد ليس فقط ما يُخبرنا بما نعرفه بلْ ما يوقظ فينا أسئلة جديدة حول ما نعرفه، ويدفَعُنا إلى مُراجعة مُسَلَّماتنا. فوسائل التَّواصل الاجتماعي تملكُ القدرة على أنْ تكون هذا «الكتاب الجيِّد» إذا أحسنا استخدامها، وفتحنا نوافذنا على المختلف، وسمحنا لأنفسنا بالخروج من دائرة التكرار إلى فضاءِ الاكتشاف؛ فالمعرفةُ الحقيقيةُ لا تكتملْ إلا حين نسمح لأنفسنا بسماعِ ما لا نعرفه، أو حتى ما لا نُحب سماعه، ونمنح عقولنا فرصة للنُّمو خارج حدود الفُقَّاعَة.


نافذة على العالم
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- نافذة على العالم
ثقافة : إنقاذ 160 وثيقة لمؤلف "1984" جورج أورويل
الاثنين 12 مايو 2025 07:00 مساءً نافذة على العالم - حصلت جامعة لندن على 160 وثيقة تاريخية لمؤلف رواية "1984" جورج أورويل، أحد أبرز الكُتّاب البريطانيين في القرن العشرين، الذي اشتهر بشخصية "الأخ الأكبر"، وهو الحاكم الغامض للدولة الدكتاتورية، الذي أصبح كمرادف للتعسف في استعمال السلطة وعدم احترام الحريات المدنية. وقالت جامعة كلية لندن (UCL)، إنها حصلت على أرشيف ناشر مؤلف "1984" الذي يشكّل "قطعة قيّمة من التراث الثقافي لبريطانيا، ويضم مراسلات جورج أورويل، والعقود الأدبية، وتقارير القرّاء المتعلقة برواياته الأولى". تعود الوثائق إلى الفترة بين 1934 إلى 1937، وأن المراسلات هي أكبر مجموعة من المواد البحثية المتعلقة بالكاتب في العالم. وتشتمل على ملاحظاته حول السياسة في أوروبا في الثلاثينيات، التي ساعدت في تشكيل أفكاره وآرائه، وفقًا لصحيفة الجارديان، ونقلتها عدة وكالات. تتعلق الأوراق بأربعة من أولى أعماله المنشورة وهي: "ابنة رجل الدين"، و"دع الزنبقة تطير"، و"الطريق إلى ويغان بيير"، و"داخل الحوت". مراسلات أدبية تعود لجورج أورويل كانت المجموعة تعود إلى ناشره، فيكتور جولانز، الذي أسس واحدة من أبرز دور النشر في القرن العشرين، وتمّ الاستحواذ على الشركة من قِبل مجموعة "أوريون"، التي أصبحت جزءاً من "هاشيت"، المملوكة من "لاجاردير"، التي قررت بيع الأرشيف، بسبب إغلاق مستودعها العام الماضي. وحذرت ليز طومسون، المتخصصة بتجارة الكتب منذ 35 عاماً، "من فقدان أرشيف لا يقدر بثمن" عندما سمعت عن توزيعه، كما شعرت بالخيبة، عندما علمت أن أحد التجار باع مراسلات جولانز الخاصة بكتاب أورويل "مزرعة الحيوان" بسعر مئة ألف جنيه إسترليني، وشملت تلك المراسلات رسالة أورويل عام 1944، حيث وصف "مزرعة الحيوان" بأنها "قصة خرافية صغيرة ذات معنى سياسي". وكان ريتشارد بلير، ابن أورويل، اشترى عام 2021، 50 رسالة من أرشيف والده المبعثر، لتقديمها كهدية لأرشيف جامعة لندن، خوفاً من بيعها في السوق قائلاً: "عندها لن يراها أحد مرة أخرى." مظروف يحتوي على مراسلات أورويل تمّت عملية الشراء التي قامت بها جامعة لندن، من مكتبات "جونكرز" النادر، ومكتبات "بيتر هارينجتون" النادرة، بدعم من صندوق التراث الوطني، وصندوق أصدقاء مكتبات الأمم. وقالت سارة آيتشيسون، مديرة مجموعات (UCL) الخاصة: "إن المجموعة كشفت عن عمليات التحرير وراء أعمال أورويل المنشورة، والقلق القانوني الذي دفعه للتعديلات التي أدخلها على نصوصه". وتُظهر الأوراق المتعلقة بكتابه "دع الزنبقة تطير"، إحباطه بسبب التغييرات المطلوبة. وتنازله بتردد: "هذه التعديلات تفسد الكتاب تماماً". وقال كاتب سيرة أورويل دي جي تايلور: "المراسلات الأدبية هي كنز مهم للغاية من وجهة نظر أورويل وتاريخ النشر.. تمتلك المخطوطات الأدبية عادة سيئة، تتمثل في اختفائها في خزائن الجامعين الخاصين، لتختفي عن الأنظار مرّة أخرى، لذا من الرائع أن يتمكن الجميع الآن من الوصول إليها". وأعربت البروفسورة جان سيتون، مديرة مؤسسة أورويل، عن دهشتها "لأن الناشر لم يفهم قيمة الأرشيف، وجادلت بأن مثل هذه الأرشيفات الأدبية لا ينبغي توزيعها على الجامعين الذين يريدون "جوائز". وقال بيل هاملتون، الوكيل الأدبي والمنفذ لعقار أورويل عن الاستحواذ: "نحن متشوّقون. شيئاً فشيئاً، كل هذه المواد المهمّة لأورويل تجد طريقها إلى جامعة لندن، حيث ينبغي أن تكون حقاً".


Independent عربية
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- Independent عربية
ماذا بين المحققين في رواية "اللجنة" و"الأخ الأكبر" في "1984"؟
تؤسس رواية "الديستوبيا"، على نحو ما، أحد اتجاهات أدب اللامعقول، إذ تمثل إيماناً بلا معقولية الشكل ولا معقولية الوجود معاً، عبر اقتراح علاقات بديلة للعلاقات المألوفة في العالم، وعبر وجود معاكس للمأمول الذي تحركه القيم المطلقة: الحق والخير والجمال، فيبلغ التمرد في رواية "الديستوبيا" حد قلب نظام العلاقات إلى ما أساسه الجور، والشر، والقبح، وليس ذلك بهدف فهم اللامعنى، بل لمضاهاة لا معناه، ولتحديه بتأكيده. تعود جذور هذا الاتجاه إلى القرن الـ19، حيث هاجمت كثير من الأعمال المعقول، عبر قصص الرعب والفزع، المزدحمة بعالم الأشباح والأساطير، كقصص إدغار آلان بو. الفنان الفرنسي توماس أزويلوس يحوّل سرد صنع الله إبراهيم في رواية "اللجنة" إلى رواية مصوّرة تكشف ملامح المجتمع المصري عبر العقود (مواقع التواصل) لكن أبطال هذا النوع من القصص لم ينتموا إلى عالم البشر أو أنهم بشر لم يتمتعوا بقوى الإنسان العاقل كلها، فهم على حافة الجنون أو اللاشعور، في حين نجد معظم أبطال الديستوبيا عاديين، لكنهم يعيشون في عالم غير عادي بالنسبة إلينا، بوصفنا متلقين، ويأتي عدم عاديته من شذوذ قيمه، واختلال خريطة العلاقات بين عناصره، مما يؤدي إلى اختلاف منطق الحدث الروائي ومغايرة سيرورته للمألوف. في حين غالباً ما نجد المكان باسمه المألوف وبتفاصيله ذاتها، مقدماً بعين القبح، وليس المكان هنا قلاعاً موحشة، وقصوراً عتيقة بأثاث مهمل رطب، كما في قصص الرعب التي تحدثنا عنها، كما يتجاور في هذا الفضاء الناس العاديون والمشوهين، والأشباح، والضواري، متقبلين جميعاً تجاورهم هذا، مما يجعلنا نتقبله أيضاً. التحليق بالخيال الأسود هرباً من الأنظمة الشمولية لقد كان لانتشار نصوص التشيكي فرانز كافكا، والبريطاني جورج أورويل في الثقافة العربية أثر كبير في التوجه لكتابة رواية "الديستوبيا"، لا سيما في النصف الثاني من القرن الـ20، في حين بقي انتشار رواية "نحن" للروسي يفغيني زامياتين محدوداً، التي كتبها في عام 1923، نتيجة منعها، وعدم ظهورها كاملة بالروسية إلى عام 1988، وتأخر وصول ترجمتها إلى اللغات الأخرى، حتى إن جورج أورويل نفسه قرأها بالفرنسية وكتب نقداً عنها في عام 1946، لقد صار اسم كافكا دالاً على فظائع المدينة في القرن الـ20، لكنه لم ينتشر في أوروبا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تراخت قبضة النازية من جهة، وابتدأ المتحدثون بالألمانية من الجيل الجديد يسمعون عنه، ويتعرفون إليه من تقارير الأجانب من جهة ثانية. رواية جورج أورويل بالترجمة العربية (نيل وفرات) كان طه حسين قد عرف الثقافة العربية إلى كافكا، إذ كتب في عام 1946 مقالة عنه بعنوان "الأدب المظلم"، ونشر الدسوقي فهمي في صحيفة "المساء" عام 1968 ترجمته عن الإنجليزية لنصي "التحول" و"الدودة الهائلة". أما رواية أورويل "1984" التي نشرها في عام 1949 فقد ترجمها إلى العربية أول مرة أحمد عجيل عام 1984 في بغداد، ونشرتها الدار العالمية للنشر، والتي يشير صاحبها إلى أنه قرأها أول مرة بالعربية في عام 1957، إذ ظهرت في مكتبات مصر لفترة قصيرة ثم سحبت. ولم تنتشر في العالم العربي على الوجه المستحق، كما يبدو لي، نتيجة القبضة الأمنية المستحكمة على الفكر والمنشورات، نظراً إلى أن جمهورية الخوف التي تعريها الرواية تتطابق مع البلدان العربية ذات الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، التي استمدت بنيتها الحديثة من النهج الستاليني الذي فككه أورويل برؤية تهكمية. فظائع الانفتاح الرأسمالي في القرن الـ20 لا نستطيع استثناء المقاربة بين أعضاء "لجنة" صنع الله إبراهيم، و"الأخ الأكبر الذي يراقبك" في "1984"، أو بين شخصية السارد/ البطل في اللجنة، ووينستون سميث السارد/ البطل في رواية أورويل، ولا بين اللغة الجديدة التي تكلم عليها بطل "اللجنة"، و"نيوسبيك"، وهي اللغة الجديدة التي ابتكرتها حكومة "أوقيانيا". ظهرت رواية "اللجنة" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم في عام 1981، عن دار الكلمة في بيروت. ويمكن أن أعدها أول نص ديستوبي عربي متكامل، ويمثل تجربة فريدة في تلك المرحلة، فهي تقدم بلا احتجاج من السارد/ البطل خريطة العلاقات المضادة للمألوف في المجتمع على أنها المألوفة، والتي يحركها ثالوث بديل للقيم المطلقة المعروفة منذ أفلاطون (الحق، الخير، الجمال)، حيث سيصير النموذج الجمالي السائد هو القبيح، والأخلاقي هو السيئ، والسياسي هو الجبان، والاقتصادي هو الفاسد. رواية "المحاكمة" بالترجمة العربية (دار تكوين) ولا بد من الحديث عن السياق التاريخي للنص، إذ تولد عن سياسة الانفتاح الاقتصادي السياسي المصرية، التي أنتجت كلاً من الخصخصة، وتغول الرأسمالية، وضرب الإنتاج الوطني، فعاثت القطط السمان في السوق واستشرى الفساد، وقد حدث ذلك كله بعد "كامب ديفيد" 1978، إذ انكسر الحلم بالدولة الوطنية المستقلة ذات اقتصاد الاكتفاء الذاتي، وتحكم كومبرادورات الاقتصاد، أصحاب التوكيلات العالمية، في خريطة السوق وحركة النقد، الذين يمثلون دور العملاء لطبقة أخطر، وهي طبقة الشركات متعددة الجنسيات، المرتبطة بأفراد ذوي سطوة ينتمون إلى محفل ما، كالماسونية أو الصهيونية، ويتحكمون باقتصاد العالم، وقد تمثل "اللجنة" ظلهم في مصر، ويشير محمود أمين العالم قائلاً، "ومن المقارنة بين مرحلتي الستينيات والسبعينيات أن هذا الذي يجري هو الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ مع منتصف السبعينيات، وما يتعلق بهذا الانفتاح من سلوك وقيم ومواقف". تقدم الرواية تصويراً أليغورياً للمجتمع، مؤسساً، حسب العالم، على "مسح نقدي ساخر للتضاريس الاجتماعية، والأيديولوجية لمصر السبعينيات... بل تمتد بإشارات عامة إلى بقية البلاد العربية". ويشير مصلح النجار إلى أن "الرواية تلج عالم المثقف المنتهك في العالم الثالث، تقدمه وهو مسحوق بأحلامه في أن يكون شيئاً. وهو عندما يسلك السبل المتاحة أمامه لا يجد سوى اللجنة التي من شروطها أن يكون متفوقاً في الرقص، وعلى رغم ذلك لم تكتف بأن يكون راقصاً، وإنما أصرت على أن يعطيها كل نفسه من الداخل، وكل جسده وفكره، وعندما لاحت فيه إشارة تمرد واحدة كان قرارها أن يأكل نفسه، وبدأ الأكل من ذراعه المعطوبة التي لم يجد من يعالجها له جيداً"، وذلك نتيجة استشراء الفساد في مفاصل المجتمع. يدين نص "اللجنة" الفئات الاجتماعية كافة: الكتاب، والقضاة، والصحافيين، وزعماء العمال، ونواب الشعب، والأطباء، والمهندسين، والمغنين، والمدرسين، وأساتذة الجامعات... فهم جميعاً مشغولون بجمع الثروات، وبحسب محمود أمين العالم مرة أخرى: "إنه يدينهم جميعاً لأنهم يقفون موقفاً سلبياً أو متواطئاً لما يجري، أي إنهم يستسلمون كما استسلم هو... إدانة للواقع السائد". يبحث السارد/ البطل عن "ألمع شخصية عربية معاصرة"، وسيكون معيار اللمعان هو الفاعلية في صياغة الحاضر والمستقبل، وهذا الحاضر هو حاضر الانفتاح، حاضر السماسرة، والكومسيونجية، والمقاولين وعملاء الشركات الأجنبية والأميركية بخاصة، والفئات الطفيلية من الرأسماليين. يتواكب بل يتناسج كشف مظاهر لمعان الشخصية- القيمة السائدة، مع كشف مظاهر التبعية الاقتصادية، فضلاً عن صور الفساد والخراب والانحدار المستشرية في المجتمع مادياً ومعنوياً، مثل صعوبة المواصلات، وانقطاع الكهرباء والمياه وتعطل التلفونات واستيراد السلع المصنعة والسجائر الأجنبية على حساب إنتاج الصناعات المصرية، وتحايل المالكين على القوانين، وخلع الأشجار العامة لمصلحة تجار الأخشاب الذين يتلاعبون بالسوق السوداء، وتفاقم الفساد والاستغلال وسيادة روح المتاجرة بكل شيء، والاستسلام لإغراء البحث عن الثروة، وتحول مياه الحنفيات إلى اللون الأسود تمهيداً لظهور تجارة المياه المعدنية المستوردة، واختفاء المشروبات المصرية لمصلحة المشروبات المستوردة، وبخاصة الكوكا كولا، مما يرمز إلى التبعية الشاملة للشركات الاحتكارية العالمية، وانتشار أساليب التعذيب والتصفيات الجسدية في السجون وتعطش الزعماء العرب للدم، فضلاً عن خيانة المصالح الوطنية والقومية والتعاون والتواطؤ مع الأعداء من صهاينة وأميركان إلى جانب انتشار مرض الاكتئاب النفسي والعنة الجنسية، وفتور الهمة واللامبالاة والتعصب الديني، وظهور كلمات منحوتة ليس لها سابقة ولكنها تعبر عن الأوضاع الجديدة السائدة مثل: التهليب والتطنيش والتطبيع والتنويع، وتدني الصحف الرسمية التي أصبح المكان الملائم لقراءتها، كما يقول الأنا السارد في سخرية مرة، هو مكان قضاء الحاجة. حيونة الإنسان بتفريغه من الحلم تنتهي تلك الديستوبيا بأن يبدأ السارد بأكل يده المعطوبة نتيجة علاج طبيب فاسد، وذلك تنفيذاً لحكم اللجنة، وهي ديستوبيا مناسبة للمرحلة التي عاشها المجتمع العربي بعامة، إذ بدت التحولات في منتهى الفداحة آنذاك، وقد مثلت الرواية تجاوزاً معرفياً جمالياً شاسعاً لقيم مجتمعها باتجاه القبيح. لقد كان سقوط اليوتوبيا الاشتراكية العربية مدوياً في تلك المرحلة، إذ انكسرت أحلام اليسار العربي في الاستقلال منذ كامب ديفيد، وفي التحرر الاقتصادي، واكتفاء الفرد والدولة، وإقامة مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، وتحقيق الكرامة الإنسانية، وهي تلك الأحلام التي ظهرت بظهور الدولة القومية، أي قبل ما يقارب قرن من الزمان على ظهور رواية "اللجنة". قد نبطل اليوم عما حدث وصف الكارثة، فهي أقل بكثير مما شهدناه بعدها من الحروب والموت والدمار، وما ذلك إلا بسبب الاعتياد على الهزيمة، أو المضي في عملية "الحيونة"، أي عملية الانحطاط والتقزيم والتشويه التي تعرض لها الإنسان منذ فقد الجنة، والذي يشير إليها ممدوح عدوان بقوله، "تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا". تعقد جلسات اللجنة في المحكمة، والتي تشبه "قلعة" كافكا، وتشبه مقر وزارة الحقيقة حيث يعمل وينستون سميث بطل أورويل، حيث يراجع التاريخ، كما يفعل بطل اللجنة في بحثه التاريخي. يمكن القول إن رواية "اللجنة" هي ديستوبيا القتل النفسي، والتمثيل بالفرد، والكرامة الإنسانية، استعداداً للقتل الجسدي العبثي في الروايات التالية، التي ستظهر في بنى ديستوبية دامغة، وستبقى "اللجنة" لصنع الله إبراهيم عتبة ثابتة لتاريخ المجزرة.


الوطن
١١-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- الوطن
الكتابة: بين الهروب والواقع
الكتابة واحدة من أبرز أشكال التعبير البشري تأثيرًا، حيث تُستخدم كوسيلة للتفاعل مع العالم الخارجي أو للهروب منه. وقد طرحت سؤالًا مهمًا ذات يوم على الدكتور عبدالله الغذامي، كان نصه «هل تعد الأفكار والكتابة وسيلة للهروب من واقعٍ مرهق، أم هي طريقة للتفاعل مع الواقع بشكل أعمق وأكثر وعيًا؟»، وكان جوابه، «الأفكار قراءة للوجود وتتضمن التعالي عليه من أجل الانفصال عنه كما ننفصل عن صفحة في كتاب، لكنه ليس انفصالًا سلبيًا، بل هو مزيد من الانتماء، كما نبتعد عن الجبل كي نراه من بعيد فتزداد قيمته عندنا». من هنا، جاءت كتابة هذا المقال لتسليط الضوء على تجارب بعض الكتاب الذين تناولوا في أعمالهم العلاقة المعقدة بين الخيال والواقع. الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع يرتبط الهروب من الواقع بالكتابة في عديد من الحالات، حيث يرى بعض الكتاب في الأدب وسيلة للتحرر من قيود الحياة اليومية والضغوط النفسية. كما يعتقد البعض أن الخيال والكتابة يمكن أن يشكلا ملاذًا نفسيًا من متاعب الواقع. 1. سيغموند فرويد يعد فرويد من المفكرين البارزين الذين تحدثوا عن فكرة الهروب عبر العقل الباطن. في دراساته النفسية، أوضح كيف يلجأ الناس إلى الأحلام والخيال كطريقة لتحقيق توازن نفسي، خصوصا عندما يجدون صعوبة في مواجهة الواقع بشكل مباشر. كان يعتقد أن الكتابة، مثلها مثل أنواع الفن الأخرى، هي وسيلة للتعبير عن الرغبات المكبوتة والضغوط النفسية. ومن وجهة نظره، يُستخدم الخيال كطريقة دفاعية للتعامل مع ضغوط الحياة، مما يدفع الأفراد إلى خلق عوالم خيالية أو التعبير عن رغباتهم التي لا يستطيعون الإفصاح عنها في الواقع. 2. فرانس كافكا يُعد كافكا مثالاً آخر على الكتاب الذين استخدموا الكتابة للهروب من واقعهم. في رواياته مثل «المحاكمة» و«القلعة»، يعرض كافكا عالماً مليئاً بالضياع والاغتراب، حيث يصبح الواقع غير قابل للفهم أو التحمل. كانت كتاباته تركز على شخصيات غارقة في غربتها، تتعامل مع تقاليد اجتماعية معقدة وأنظمة بيروقراطية ثقيلة تشكل ضغطًا نفسيًا كبيرًا. في هذه الأعمال، يسعى الشخصيات للهروب من واقعهم القاسي بالبحث عن ملجأ في عوالم خيالية، لكنهم يكتشفون بسرعة أن هذا الملجأ ليس سوى وهم، سراب لا يمكن الوصول إليه. 3. جورج أورويل في روايته «1984»، قدم جورج أورويل رؤية مستقبلية مظلمة، حيث يسود نظام سلطوي قمعي يعزل الأفراد عن حقوقهم وحرياتهم الأساسية. لكن، بعيدًا عن كونها مجرد تحذير اجتماعي من أخطار الأنظمة الاستبدادية، يمكن أيضًا اعتبار الرواية نوعًا من الهروب الفكري من واقع كان أورويل يشعر أنه لا يحمل الأمل. في ذلك الوقت، كان الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه أورويل يعكس كثيرًا من الظلم والتقييد للحرية، فاختار تصوير مستقبل أسوأ ليفرّ من هذا الواقع القاتم. استخدم أورويل الخيال لخلق سيناريوهات مرعبة، حيث يُسيطر النظام على كل جوانب الحياة، ويُمحى الفرد في داخل آلة ضخمة تُدار بمنتهى القسوة. هذا الهروب الفكري عن الواقع لم يكن فقط وسيلة للتعبير عن مخاوفه، بل كان أيضًا دعوة للتفكير في كيف يمكن أن يصبح المستقبل أسوأ إذا استمر البشر في تجاهل حقوقهم وحرياتهم. بشكل غير مباشر، استخدم أورويل الرواية كأداة للتفكير في واقع كان يسعى للهروب منه، عبر تصور أسوأ السيناريوهات الممكنة التي قد تحدث إذا سُمح للأنظمة السلطوية بأن تسيطر بالكامل. 4. أجاثا كريستي تُعدّ أجاثا كريستي واحدة من أعظم كتّاب الروايات البوليسية في العالم، وقد استخدمت الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع بطريقة مبتكرة. رغم أن رواياتها تحفل بالغموض والتشويق، فإن كثيرًا منها يعكس اهتمامها بحل الألغاز النفسية والاجتماعية التي تحدد مصائر الشخصيات. في روايات مثل جريمة على متن القطار السريع وموت فوق النيل، تستعرض كريستي قضايا معقدة وتتناول العلاقات بين الشخصيات في أجواء مليئة بالضغط الاجتماعي والنفسي. يمكن القول إنّ مغامرات محققها الشهير، هرقل بوارو، كانت وسيلة للهروب من الواقع المألوف والتوجه إلى عوالم مشحونة بالأسئلة الأخلاقية والفكرية. الكتابة كوسيلة للتفاعل مع الواقع على النقيض من ذلك، يوجد عدد كبير من الكتاب الذين يرون في الكتابة وسيلة لفهم الواقع ومواجهته بشكل أعمق. هؤلاء الكتاب ينغمسون في التفاعلات البشرية، ويتناولون قضايا اجتماعية وسياسية تؤثر في العالم. 1. تشارلز ديكنز يعد ديكنز واحدًا من أشهر الكتاب الذين استخدموا الأدب للتفاعل مع قضايا الواقع. في أعماله مثل «توقعات العظمة» و«تاريخ نيكولاس نيكلبي»، أظهر مشكلات الفقر والظلم الاجتماعي في إنجلترا في القرن التاسع عشر. من خلال شخصياته المثيرة وحبكاته المعقدة، كان يعبر عن دعوات للتغيير الاجتماعي. لم يكن ديكنز يهرب من الواقع، بل كان يسعى لتصحيحه والتأثير عليه من خلال كتاباته. 2. توماس هاردي هاردي كانت تركز كتاباته على تأثير الحياة الريفية والتقاليد الاجتماعية على صراع الأفراد. في أعماله مثل تحت الشجرة الخضراء والعلاجات البائسة، عكس هاردي الواقع الاجتماعي والتاريخي لبريطانيا في تلك الحقبة. من خلال رواياته، قدّم تصويرًا لحياة معقدة لا يمكن الهروب منها، بل يجب مواجهتها وفهمها. كانت كتاباته تركز على صراع الأفراد مع قوى البيئة والمجتمع والخداع والابتزاز، والزواج المتعدد، والقتل، والاغتصاب. مع تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها الناس في محاولاتهم للعيش في ظل التقاليد والقيم الاجتماعية المهيمنة. 3. جون شتاينبك يُعد جون شتاينبك من الكتاب الذين تناولوا قضايا الطبقات الاجتماعية والفقر في أعماله الأدبية بشكل جلي. في رواياته مثل عناقيد الغضب وفئران ورجال، عكس شتاينبك معاناة الطبقات العاملة في الولايات المتحدة خلال فترة الكساد الكبير. من خلال شخصياته البسيطة، يقدم شتاينبك صورة عن الواقع الاجتماعي القاسي، ويعكس التحديات التي يواجهها الأفراد في سياقات اقتصادية صعبة، مما يجعل رواياته وسيلة لفهم الواقع العميق والمظلم في بعض الأحيان، بدلاً من الهروب منه. 4. فيودور دوستويفسكي يُعد فيودور دوستويفسكي من أعظم الكتاب الروس والعالميين الذين استخدموا الكتابة للتفاعل مع الواقع، لا سيما في ما يتعلق بالصراع النفسي والاجتماعي. في رواياته مثل الأخوة كارامازوف والشياطين والجريمة والعقاب، تناول دوستويفسكي أسئلة عميقة حول الطبيعة البشرية، والوجود، والعدالة، مما يعكس واقع روسيا في القرن التاسع عشر من خلال شخصيات تعيش صراعات أخلاقية ونفسية. في أعماله، كان يسلط الضوء على التوترات بين القيم الاجتماعية والدينية والفردية، معبرًا عن الألم الداخلي والتجارب الشخصية التي يمر بها الأفراد في مواجهة المجتمع. الكتابة بين الخيال والواقع: تجربة المثقفين السعوديين في السياق السعودي، تتسم الكتابة في كثير من الأحيان بتوازن بين التفاعل مع الواقع الاجتماعي المحلي والهروب إلى عوالم خيالية، حيث يعبّر المثقفون السعوديون عن تجارب مجتمعية وثقافية فريدة. 1. عبدالله الغذامي الدكتور الغذامي من أكثر المثقفين السعوديين تأثيرًا وجرأة. لم يستخدم الغذامي قلمه ليصف الواقع فحسب، بل ليفهمه ويحلله بعمق. عبر كتبه المهمة مثل «المرأة واللغة» و«الخطيئة والتكفير»، اقتحم قضايا معقدة مثل الثقافة والهوية ومكانة المرأة في المجتمع. ولم يتوقف مشروعه النقدي عند حدود الأدب أو اللغة، بل اتسع ليشمل قضايا الحداثة وما بعدها، كما في كتابه «حكاية الحداثة»، حيث رصد التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع السعودي. وفي مؤلفه «ثقافة الوهم»، انتقد الغذامي الصورة الإعلامية والاجتماعية التي تصنع نماذج ثقافية وهمية تبتعد عن الواقع. وما يميز الغذامي حقًا هو قدرته على تجاوز الظاهر ليغوص في الأعماق النفسية والاجتماعية للمجتمع السعودي، مما يجعله من الكتاب الذين يسهمون في تشكيل الواقع أكثر من الهروب منه. 2. غازي القصيبي غازي القصيبي من ألمع الأسماء في الأدب السعودي، إذ استطاع أن ينسج بين الواقع والخيال بخفة وحكمة. في رواياته الشهيرة مثل «شقة الحرية» و«العصفورية»، طرق القصيبي أبواب القضايا الاجتماعية والسياسية بجرأة، بينما حملت نصوصه لمسات فلسفية عميقة كشفت كيف يتأثر الفرد بالمجتمع من حوله. لم تكن كتاباته مجرد انعكاس للواقع فحسب، بل كانت أيضًا مساحة للتمرد الفكري، إذ تميز أسلوبه بلغة أدبية ثرية ومتمردة في آنٍ معًا. عُرف عن القصيبي قدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية وتحليل الصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد في مواجهة الواقع، مما جعل أعماله لا تُقرأ فقط من باب الاستمتاع الأدبي، بل تُعد أيضًا مرآة تعكس التوترات الثقافية والسياسية في المجتمع السعودي. كان دائمًا يكتب بناءً على الواقع، بعيدًا عن الهروب إلى عوالم خيالية لا تمت للواقع بصلة، بل كان يواجه مشاعر القلق والضغط الاجتماعي بصدق وموضوعية. 3. حليمة مظفر حليمة مظفر كاتبة سعودية، تُعد من الأسماء المهمة في الأدب السعودي المعاصر. تمكنت من ترك بصمة واضحة في الساحة الثقافية. في كتاباتها، تتناول مظفر قضايا اجتماعية ونفسية تسلط الضوء على التحديات التي يواجهها الفرد السعودي في المجتمع المعاصر. أسلوبها يعكس وعيًا اجتماعيًا عميقًا، ومحاولة لفهم التغيرات الثقافية التي تمر بها السعودية. تميزت مظفر بطرحها الإنساني وفهمها للقضايا من أكثر من زاوية، مما يتيح لها بناء صورة شاملة ومعقدة للمجتمع، وهذا ما يجعلها جزءًا من الحوار المستمر حول الهوية والمجتمع. كما تسلط الضوء على تجارب المرأة السعودية ودورها المتنامي في المجالات الثقافية والاجتماعية، مع تأكيدها على أهمية التعبير عن الذات والحرية الفكرية. تعكس أعمالها أيضًا التحولات التي يشهدها المجتمع السعودي في ظل رؤية 2030، وكيف يمكن للأدب أن يسهم في تشكيل المستقبل والتوعية بالقضايا المعاصرة. 4. عبده خال خال أحد أبرز الكتاب السعوديين الذين لا يترددون في تناول قضايا المجتمع السعودي المعقدة من خلال أعماله الأدبية. في روايته «ترمي بشرر»، يتناول خال مسائل مثل التقاليد، القيم الاجتماعية، والصراعات الشخصية في بيئة محافظة، مما يجعله يقدم صورة حية ومتجذرة في الواقع السعودي. تركز الرواية على معاناة الشخصيات في مواجهة التحديات المجتمعية والتقاليد التي تحد من حريتهم. وعلى الرغم من أن خال يتعامل مع واقع معقد مليء بالتناقضات، فإنه لا يكتفي بوصفه، بل يقدم أيضًا نقدًا اجتماعيًا وثقافيًا حادًا يعكس تساؤلاته العميقة حول قضايا مثل العنف، الفقر، والظروف النفسية التي تهيمن على أفراد المجتمع. من خلال هذه الرواية، يفتح خال باب النقاش حول الموروثات الثقافية ودورها في تشكيل الفرد والجماعة، مؤكدًا ضرورة النظر إلى المستقبل بعين ناقدة بعيدًا عن الاصطفاف التقليدي. ختامًا، الكتابة بين الهروب من الواقع وارتباطها بالواقع ليست مجرد مفهوم ثابت، بل هي مساحة مرنة يعبّر فيها الكُتاب عن أفكارهم ورؤاهم المتنوعة. سواء كان الكاتب يهرب إلى الخيال أو يتفاعل مع الواقع، تظل الكتابة أداة فكرية قوية تمكّن الأفراد من استكشاف العالم الداخلي والخارجي في آن واحد. ومن خلال التجارب التي ذُكرت في هذا المقال، نرى كيف يمكن للأدب أن يشكل أدوات فهم وتغيير، سواء كان ذلك من خلال الهروب أو المواجهة المباشرة للواقع.