أحدث الأخبار مع #أوغسطينوس


الوسط
منذ 14 ساعات
- سياسة
- الوسط
هل ستصبح الجزائر "محجاً" للمسيحيين الكاثوليك في العالم؟
Getty Images البابا لاون الرابع عشر يرغب في زيارة مسقط رأس القديس أوغسطين في الجزائر وجه البابا لاون الرابع عشر رسالة "خاصة" إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، عبر له فيها عن "رغبته الصادقة" في زيارة الجزائر، وذلك بعد توليه منصب الحبر الأعظم في الفاتيكان مباشرة. ووفق بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، فقد نقل الرسالة سفير الجزائر لدى الكرسي الرسولي، رشيد بلادهان، الذي حضر القداس لتهنئة البابا الجديد، بمناسبة انتخابه لمنصب "بابا الكنيسة الكاثوليكية، ورئيس دولة الفاتيكان". فما السر وراء هذه الرغبة البابوية، وما العلاقة "الخاصة" بين رأس الكنيسة الكاثوليكية والجزائر؟ في الواقع، أشارت رسالة البابا بوضوح إلى دوافع رغبته في زيارة الجزائر، وإلى علاقته الشخصية بها؛ حيث ذكر في حديثه مع السفير الجزائري أنه يرغب في رؤية مسقط رأس القديس أوغسطين، أبرز أعلام الفكر المسيحي، وأعظم الآباء اللاتين في الكنيسة الكاثوليكية، بعد بولس الرسول. وعرّف الحبر الأعظم نفسه، في خطاب تنصيبه، بأنه "ابن القديس أوغسطين"، قائلاً إنه يفتخر باتباع فكره ومنهجه في الدين والحياة. ولا شك في أن هذه الرابطة الروحية، دفعته إلى التعبير عن رغبته في زيارة الأرض التي أنجبت معلمه في الفكر وقدوته في العقيدة. وبعد انتخابه، أجرى البابا لاون الرابع عشر زيارة مفاجئة لرهبنة القديس أوغسطينوس في روما، وهي جماعة في الكنيسة الكاثوليكة لها فروع عبر العالم، كان رئيساً لها في الفترة من 2001 إلى 2013 حين كان يُعرف بالكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست. ودخل الكاردينال بريفوست دير الرهبنة الأوغسطينية في عام 1977، والتزم طريقتها في التعبد وأسلوبها في العمل طوال حياته. ونال شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي في روما عام 1987 بأطروحة عنوانها: "دور الرئيس المحلي لرهبانية القديس أوغسطينوس". لقد أصبح لاون الرابع عشر أول بابا ينتمي إلى الرهبنة الأوغسطينية، ويظهر تأثره بالقديس أوغسطين في شعار الدرع الذي اختاره لنفسه وهو على رأس الكنيسة الكاثوليكية. ففي نصف الدرع السفلي نرى كتاباً مُغلقاً فوقه قلب يخترقه سهم، وهذا شعار مستوحى من مقولات القديس أوغسطين. ويرمز الشعار إلى أعتناق القديس أوغسطينوس للمسيحية بعد رحلة طويلة وبحث عميق. ووصف حينها لقاءه "بكلمة الله" في هذه الصورة، بقوله "لقد جرحت قلبي بكلمتك". ويحمل درع البابوية أيضاً عبارة أوغسطينية باللاتينية، تقول: "في الواحد نصير واحداً". ويشرح البابا معناها، في مقابلة مع "أخبار الفاتيكان"، بقوله: "إن الوحدة والتشارك من صميم الهبة الخاصة التي تميز رهبنة القديس أوغسطينوس، وهما أيضاً محور تفكيري وأسلوب عملي. ثم إنني كأوغسطيني، أعتبر تعزيز الوحدة والتشارك أمراً جوهرياً". ومن الواضح أن فلسفة القديس أوغسطينوس وأفكاره في الدين والحياة، سيكون لها تأثير وبصمة في منهج الكنيسة الكاثوليكية وتوجهها، بقيادة البابا لاون الرابع عشر. ولا شك في أن زيارة مسقط رأس أحد أعظم مفكري المسيحية في العالم ستكون مصدر إلهام لتوجه الفاتيكان الجديد. من هو القديس أوغسطين (354 م -430 م)؟ Getty Images كنيسة القديس أوغسطين في عنابة شرقي الجزائر، وأسفلها آثار كنيسة السلام التي ترأسها في حياته يوصف القديس أوغسطينوس بأنه أعظم المفكرين والفلاسفة في التراث المسيحي كله، وواحد من أعمدة الثقافة والأدب في القرون الوسطى الغربية، وهو دون شك أغزر معاصريه تأليفاً، وأعمقهم تفكيراً، وأوسعهم علماً، وأقواهم تأثيراً. وحتى اليوم، يحتار مؤلفو سير الأعلام والدارسون للتراث المسيحي الغربي في الكم الهائل من الكتب والرسائل التي كتبها القديس أوغسطينوس؛ فقد تجاوز المعروف منها 230 كتاباً. والكثير من كتبه ورسائله تُرجِم إلى مختلف اللغات العصرية، لكن بعضها لا يزال حبيس المكتبات في النسخة اللاتينية الأصلية. كان القديس أوغسطين عالماً متمكناً في مختلف العلوم والفنون، ومجادلاً قوياً حاداً في رأيه. وقد خصص عدداً كبيراً من كتاباته للمناظرة والرد على الأفكار والعقائد التي يختلف معها. وألف أيضاً في البلاغة والأدب والموسيقى والأخلاق والفلسفة والقانون والحقوق. ومن أشهر أعماله وأوسعها انتشاراً كتاب "اعترافات"، الذي يقع في 13 جزءاً، يروي فيه تجاربه في الحياة ورحلته الطويلة بحثاً عن الحقيقة والإيمان الصحيح، انتهاء باعتناقه المسيحية، ويعد عمله هذا أول سيرة ذاتية كتبت في تاريخ الثقافة الغربية كلها. ويصفه هنري تشادويك، أستاذ علم اللاهوت بجامعة كامبريدج، في كتابه أوغسطينوس، بأنه "أول رجل حديث" في التاريخ. وتتميز كتاباته وأفكاره "بعمق غير مسبوق"، وكان له تأثير كبير في الطريقة التي ينظر بها الغرب إلى "طبيعة الإنسان" وإلى معنى كلمة "الرب". وفي كتابه "مدينة الله"، ينافح القديس أوغسطين عن عقديته بإيمان راسخ، ويتألف الكتاب من 22 جزءاً ينفي فيها مزاعم الوثنيين بأن المسيحية كانت سبباً في خراب روما. ويتحدث بتحليل عميق عن ثنائيات "الخير والشر"، و"حرية الاختيار والقدر الرباني"، و"الحياة الدنيا والآخرة". ولد القديس أوغسطين في يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 354 م في تاغاست (سوق أهراس)، الواقعة في بلاد الجزائر اليوم. وكان والده باتريكوس وثنيا، ويُروى أنه اعتنق المسيحية قبل وفاته بفترة قصيرة. أما والدته مونيكا فكانت مسيحية ورعة، ويُطلق عليها لقب القديسة أيضاً. حرصت والدته على تلقينه تعاليم المسيحية ومبادئها منذ صغره، لكنه نفر من الأساطير "الساذجة" التي كانت تُروى على لسان المبشرين والبطاركة، عن الدين وتعاليمه. وانجذب إلى علم الفلك والأدب و المسرح، ثم مال إلى المانوية واتبعها، قبل أن يهاجمها ويعود إلى المسيحية. ويُروى عن مونيكا أنها حزنت حزناً شديداً لما رأت من ابنها في شبابه من "انحراف" عن تعاليم الدين وانغماس في حياة "اللهو والمجون"؛ فكانت تبكي باستمرار لمدة عشرين سنة، إلى أن عاد ابنها إلى المسيحية. ومن أجل هذا، أطلِق على القديس أوغسطين لقب "ابن الدموع". تلقى القديس أوغسطين تعليمه الأول في مسقط رأسه تاغاست (سوق أهراس) شرقي الجزائر، التي كانت عبر التاريخ ملتقى للحضارات الرومانية والنوميدية والبيزنطية والإسلامية. ثم التحق بأكاديمية ماداوروس (مداوروش) على بعد 50 كيلومتر، من بلدته. ومدينة مداوروش اليوم دائرة إدارية، تابعة لولاية سوق أهرس، التي تبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 590 كيلومتر، شرقاً. وتعد أكاديمية مداوروش أول جامعة في تاريخ أفريقيا، فيها تعلم القديس أوغسطين على يد أستاذه ماكسيميليان المداوروشي، وهو عالم لغوي من مؤسسي قواعد اللغة اللاتينية، أخذ عنه فن البلاغة والخطابة، وأصبح فيما بعد صديقاً له، على الرغم من اختلافهما في العقيدة. ويذكر القديس أوغسطين في كتاباته أعلام بلاده ونوابغها، من بينهم الفيلسوف والعالم اللغوي أبوليوس المداوروشي (124 م-170 م)، الذي كان أستاذاً للبلاغة اللاتينية واليونانية في روما؛ لكنه يُعرف خاصة بروايته ذائعة الصيت "التحولات" أو "الحمار الذهبي". وتعد رواية أبوليوس "الحمار الذهبي" أول رواية معروفة في التاريخ، تحدث فيها عن مغامرات شاب تحول، بمفعول السحر، إلى حمار. ويرى فيها الدارسون للآداب القديمة بعض الجوانب من حياة الكاتب الشخصية؛ لأن الاهتمام بالسحر والاشتغال به كان رائجا في عصره. زيتونة القديس أوغسطين James Patterson Terrae Transmarinae زيتونة القديس أوغسطين في سوق أهراس، شرقي الجزائر، عمرها 2900 سنة في مدينة سوق أهراس اليوم، تقف زيتونة شهيرة على إحدى تلال البلدة القديمة، شاهدة على عراقة المنطقة الضاربة في أعماق التاريخ، وعلى حياة أحد نوابغها الذين أضاءوا بفكرهم طريق الحضارة الإنسانية، فسارت على أنوارهم أجيال وأمم قروناً وقروناً من بعدهم. وغير بعيد عن الزيتونة، يقع ضريح سيدي مسعود، الولي الصالح المتوفى في عام 1770م. وقد أنشأت السلطات الفرنسية، بعد احتلالها للجزائر في عام 1830، خلفهما بيتاً كانت تستخدمه جيوشها الغازية لتخزين البارود، قبل أن يتحول البناء اليوم إلى متحف للقديس أوغسطين. ولقد ساد الاعتقاد طويلاً بأن هذه الزيتونة غرسها القديس أوغسطين بنفسه؛ فقد ذكرها في العديد من كتاباته، وربما كان بيته قريبا منها، فكان يجلس تحت ظلها ليستريح أو يتأمل، أو يكتب رسائله؛ لكنّ الدراسات والاختبارات العلمية الحديثة أثبتت أنها أقدم من ذلك بقرون. فوفق ما جاء في دراسة أمريكية نشرت عام 1953، قد يصل عمر تلك الشجرة إلى 3 آلاف سنة، بعد أن أثبت مختبر علم تسنين الشجر للبروفيسور دوغلاس، في توسكان بولاية أريزونا، أن زيتونة القديس أوغسطين، عمرها في الواقع 2900 سنة على الأقل. وتذهب الأساطير الشعبية أبعد من ذلك في التاريخ، إذ يعتقد رواتها أن من هذه الزيتونة، الورقة التي حملتها الحمامة إلى النبي نوح، لتخبره بانحسار المياه عن الأرض في حادثة الطوفان، كما يقصها الإنجيل. وجاء في سفر التكوين: "فأرسل الحمامة من الفلك، فأتت إليه الحمامة عند المساء. وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلّت عن الأرض"، الأمر الذي جعل الحمامة وغصن الزيتون رمزاً للسلام والمحبة في كل العالم. ولا يذكر القرآن هذه القصة كما جاءت في الإنجيل، لكنه جعل "البركة" في الشجرة وزيتونها وزيتها في العديد من الآيات. وجاء في سورة النور" يُوقَد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربية، يكادُ زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نورٌ على نور، يهدي الله لنوره من يشاء". أسقف هيبون (عنابة) Getty Images أبوليوس المداوروشي (124م-170م) صاحب "الحمار الذهبي"، أول رواية معروفة في التاريخ سافر أوغسطين إلى روما مدرساً للبيان، ثم انتقل إلى ميلان، والتحقت به والدته. وهناك تغيرت أراؤه من المانوية، فعارضها واعتنق المسيحية. وبعد وفاة والدته ثم ابنه، عاد إلى بلاده. وفي تاغاست (سوق أهراس) اختار الاعتكاف والخلوة، من أجل التفكير والتأمل. كان عمر أوغسطين 36 عاما عندما عُين كاهناً على غير رغبته، ثم أسقفاً لمدينة هيبون (عنابة) الساحلية شرقي الجزائر، في عام 395 م. وقد بقي في منصبه حتى وفاته في عام 430 م أثناء حصار الوندال للمدينة. ولا تزال آثار كنيسة السلام، التي كان يرأسها، ماثلة للعيان. وفي عام 2013، أعادت السلطات الجزائرية ترميم كنيسة القديس أوغسطين التي بنيت في عام 1900، قريباً من آثار كنيسته الأصلية تكريماً له، وإحياءً لذكراه ومآثره، وفيها تمثاله الممدد في خزانة زجاجية، تحتوي أيضاً على عظام من أطرفه. وقد دافع أسقف هيبون (عنابة) عن المسيحية والكنيسة الرسمية التي تتبناها الدولة. ولذلك اصطدم مع الطوائف المنشقة عنها مثل الدوناتية، التي انتشرت وقتها في شمال أفريقيا. ودخل مع دعاتها ومع الوثيين والمانويين وغيرهم، في سجالات لا تنتهي ومناظرات حادة في هيبون (عنابة) وقرطاج (في تونس اليوم). وكان القديس أوغسطين يتميز عن خصومه ويتفوق عليهم بثقافته الواسعة، وأدلته القوية، وقدراته البلاغية الاستثنائية. واستطاع بفكره المستنير، وكتاباته الغزيرة أن يتبوأ مكانة القديسين في الكنيسة الكاثوليكية، ومرتبة العباقرة في الحضارة الغربية. الجسر الحضاري عاش القديس أوغسطين، من حيث الزمان، في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلاديين. فمكنته تجربته من استيعاب خلاصة ما أنتجه العلماء والمفكرون في القرن المنتهي، وساهم بدوره في صناعة وتطوير المفاهيم والفكر في القرن الجديد. وكان يمثل أيضاً رابطة مكانية بين الشمال والجنوب. فهو أفريقي في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وينتمي في الوقت نفسه إلى الحضارة الرومانية في الشمال من البحر. لكن عبقريته الأصيلة جعلت هذه الرابطة مبنية على المساواة والتكافؤ. موسم الحج إلى القديس أوغسطين إن رغبة البابا لاون الرابع عشر في زيارة الجزائر، تحمل كل المعاني التي عاش من أجلها في حياته الخاصة أو في رهبانية الأوغسطينيين التي كان يرأسها. وقد عبّر عن ذلك صراحة عندما أعلن اتباعه منهج القديس أوغسطين في الفكر والعقيدة. وسيجد البابا في سوق أهراس (تاغاست) شجرة زيتونة عمرها أكثر من 3 آلاف سنة، كان يستظل تحتها القديس أوغسطين وأمه القديسة مونيكا. وهي الزيتونة التي رافقته في تأملاته وصلواته، فذكرها في كتبه ورسائله. إنه الحج إلى منابع المسيحية الأولى بالنسبة لكل المؤمنين. وفي عنابة (هيبون) آثار كنيسة السلام، التي قادها الأسقف أوغسطين، ومنها خاض سجالاته الفكرية ومعاركه الفقهية، وبين أسوارها ألقى مواعظه على المؤمنين والأتباع، وفي جوفها اختلى بنفسه للتأمل والمناجاة، أو للكتابة والتأليف. Getty Images أثار مدينة ماداوروس، شرقي الجزائر، التي تعلم القديس أوغسطين في أكاديميتها الشهيرة إنها رحلة الفكر أيضاً إلى ملتقى الحضارات الرومانية والنوميدية والبيزنطية والإسلامية على أرض أفريقيا، في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وفيها يقتفي الباحث آثار العبقري الذين أرسى قواعد الفكر المسيحي الحديث، فهو شمس الجنوب التي أشرقت على الشمال. ويقول الأستاذ تشادويك في كتابه "فجر الكنيسة" إن "القديس أوغسطين تفوّق على معاصريه بعمق فكره وسعة عقله، لكنه كان أيضاً متقدماً في الفكر على من جاءوا بعده بقرون عديدة. وكان تأثيره واضحاً في الكاثوليكية والأرثوذوكسية على حد سواء". وعلى الرغم من أنه لا يمكن الحديث عن أي حقوق أو مكانة للمرأة في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، إلا أن القديس أوغسطين يقول في شرحه لسفر التكوين، إن "خلق الإنسان ذكراً وأنثى كان على أساس اختلاف الجسد فقط. فالتمايز بين الذكر والأنثى ليس تمايزاً في الطبيعة أو الروح أو العقل أو القيمة". وإنما هو اختلاف في النوع لا غير. وهذا مفهوم سبق إليه القديس أوغسطين قروناً من المفكرين والفلاسفة، وصاغه في عصر اتفقت فيه العقول البشرية على أن المرأة مجرد تابع للرجل ومتاع له. ولا تزال الكثير من العقول والمجتمعات إلى اليوم عاجزة عن استيعاب هذا المفهوم الأوغسطيني والإقرار به في حياتها.

مصرس
١٢-٠٢-٢٠٢٥
- صحة
- مصرس
القس سهيل سعود يكتب : لغز معضلة الألم
طرح الإنسان منذ وجوده على هذه البصيرة، السؤال الوجودي الأصعب، الذي لم يجد له جوابا شافيا حتى الآن. هذا السؤال هو: لماذا الألم؟ ما هي أسبابه؟ لماذا البعض يتألم بآلام موجعة، بينما البعض الآخر لا يتألمها؟ هل هناك من إجابات مقنعة، للغز معضلة الألم والمرض والموت، الذي لا يميّز بين صغير وكبير؟ إن تفسير معضلة الألم، تبقى التحدّي الأكبر والأصعب لمهمة الإيمان المسيحي. فكيف نفسّر هذه المعضلة، للإنسان المؤمن الذي يعاني المرض والألم، ونحن ندعوه للإيمان بالله الكلّي السيادة والكلّي القدرة والكلّي الخير؟ إذا ما درسنا العهد القديم من الكتاب المقدس، فإننا نلاحظ أن الفكر الذي كان سائدًا في ذهن العبرانيين، هو إرجاع سبب الألم إلى الخطية، إما خطية الإنسان نفسه، أو خطية آبائه وحتى أجداده. وهذا الفكر أيضا اشتركت فيه شعوب المنطقة المحيطة بالشعب العبري، منطقة شعوب الشرق الأدنى. فمفهوم الألم، كقصاص من الله على خطايا الإنسان أو أهله أو أجداده نراه واضحاً في قصة إرسال الله للطوفان، وقصة إحراق الله لمدينتي سدوم وعمورة، وغيرها من القصص الأخرى. أما السبب الآخر للألم، الذي يذكره العهد القديم، هو ليس القصاص وإنما تجربة الإنسان المؤمن واختبار مدى ثبات إيمانه ونضجه في علاقته الروحية مع الله. وفي هذا الإطار نفهم الآلام الكبرى التي تعرض لها النبي أيوب.يطلعنا إنجيل يوحنا في الاصحاح التاسع من إنجيله، على إجابة المسيح لتلاميذه حول تساؤلاتهم عن ألم إنسان ولد أعمى فاقد لنظره، محاولين معرفة سبب ذلك، فسألوه مستندين إلى الفكر السائد بين الشعب، «يا معلّم من أخطأ هذا أم أبواه حتى حتى ولد أعمى؟» (يوحنا 9: ) 2). فأجاب المسيح قائلا: «لم يخطئ هذا ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه». وبالتالي، فالمسيح لم يحمّل مسئولية الألم لا لخطيئة الأب ولا لخطيئة الابن. ولكنه في نفس الوقتلم يخبرنا عن سبب الألم، ولم يفسّر هذا السر اللغز لتلاميذه، إلا أن المسيح لم يقف مكتوف اليدين أمام ألم الأعمى، بل مدّ يده وساعده، فتفل على الأرض وصنع من التفل طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام. فمضى واغتسل، وأتى بصيرًا".إن مشكلة الألم تطرق إليها عدد من آباء الكنيسة واللاهوتيين عبر التاريخ، أبرزهم القديس أوغسطينوس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي. في كتاباته حول «أصل وطبيعة وحلول مشكلة الألم والشر في العالم»، ذكر أوغسطينوس بأن خليقة الله جيدة في الجوهر لأن الله عندما خلق الكون «كما تقول قصة الخليقة في سفر التكوين»، فقد رأى ذلك أنه حسن، إنما بسبب الخطية المتمثلة في سقوط آدم وحواء، حدث تشوّه في الإرادة والحرية البشرية، مما أدى إلى إساءة الإنسان علاقته مع الله ومع نفسه، ومع الآخر، في المجتمع، وأيضا مع الطبيعة.ونتيجة لهذا التشوه الإرادي وتدهور العلاقة على كل الأصعدة، ظهر ويظهر الشر بشكل متعاظم في العالم، يتجسد جزء منه في الحروب والقلاقل والمجاعات والآلام الأخرى التي يسببها الإنسان بسبب تشوه وفساد إرادته. وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم تحميل الرسول يعقوب للناس مسئولية الحروب «يعقوب 4: 1-3» والتفجيرات وقتل الناس الأبرياء.وأيضاً من نفس مبدأ تشوه وفساد الإرادة والحرية الإنسانية، نستطيع أن نفهم سوء علاقة الإنسان مع الطبيعة، بل سوء استخدام الإنسان للطبيعة والموارد الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور الكثير من الأمراض والأوبئة. لهذا تتعالى الأصوات اللاهوتية المسيحية اليوم التي تدعو إلى ضرورة حسن معاملة الطبيعة خليقة الله، والحفاظ عليها لأنه بالحفاظ عليها نحافظ على حياتنا وعلى عالمنا الذي نعيش فيه. فسر القديس أوغسطينوس الأمراض على أنها تشوه وظيفي، بل ظهور أعطال في النظام الوظيفي في الجسم الإنساني. ومن المبدأ نفسه نستطيع أن نفهم أسباب الزلازل والبراكين على أنها يضاً تشوه وظيفي وضعف جيولوجي يصيب بعض المناطق الجغرافية في العالم.بالرغم من محاولة القديس أوغسطينوس وغيره، تقديم تفسيرٍ جزئيّ لمعضلة الألم في العالم، إلا أنهم لم يستطيعوا سبر غور هذا اللغز الذي يبقى معرفته في سلطان الله. تمنى الشاعر والفيلسوف عمر الخيام، الذي بعد تفكيره وبحثه في أسرار الحياة،في القرن الحادي عشر، أمنية كبيرة مستحيلة التحقّق، فقال، «إن رغبة قلوبنا لو نستطيع أن نعيد صنع الكون بدون ألم».لكن الحقيقة الصارخة التي نواجهها كل يوم هي وجود الألم، لهذا فالسؤال الأساس الذي يجب أن نجيب عنه هو، كيف نتجاوب مع الألم عندما يعترضنا؟ لقد دعى اتباع الفلسفة الرواقية اليونانية القديمة إلى قبول الألم وتحمله بشجاعة لأن الإنسان يولد في عالم يحتوي الألم، وهو جزء من هذا العالم، فليخضع لهذا الواقع ويتحمله بهدوء. أما الجواب المسيحي واللاهوتي للآلام الإنسانية، هو أنه ليس هناك انتصاراً ظاهرياً وخارجياً لمعضلة الألم المستمرة في هذا العالم الحاضر.فالانتصار على معضلة الألم، هو أمر روحيّ داخليّ. يتحقق ليس بقدرات وانجازات الإنسان، ولكن بحضور الله في الحياة، إن الرؤية المسيحية للعالم المتألم هي، تقديم حقيقية النعمة والقوة وسط الألم، لتسنده وتمنحه الصبر لتحمل آلامه.


البوابة
١٢-٠٢-٢٠٢٥
- صحة
- البوابة
القس سهيل سعود يكتب : لغز معضلة الألم
طرح الإنسان منذ وجوده على هذه البصيرة، السؤال الوجودي الأصعب، الذي لم يجد له جوابا شافيا حتى الآن. هذا السؤال هو: لماذا الألم؟ ما هي أسبابه؟ لماذا البعض يتألم بآلام موجعة، بينما البعض الآخر لا يتألمها؟ هل هناك من إجابات مقنعة، للغز معضلة الألم والمرض والموت، الذي لا يميّز بين صغير وكبير؟ إن تفسير معضلة الألم، تبقى التحدّي الأكبر والأصعب لمهمة الإيمان المسيحي. فكيف نفسّر هذه المعضلة، للإنسان المؤمن الذي يعاني المرض والألم، ونحن ندعوه للإيمان بالله الكلّي السيادة والكلّي القدرة والكلّي الخير؟ إذا ما درسنا العهد القديم من الكتاب المقدس، فإننا نلاحظ أن الفكر الذي كان سائدًا في ذهن العبرانيين، هو إرجاع سبب الألم إلى الخطية، إما خطية الإنسان نفسه، أو خطية آبائه وحتى أجداده. وهذا الفكر أيضا اشتركت فيه شعوب المنطقة المحيطة بالشعب العبري، منطقة شعوب الشرق الأدنى. فمفهوم الألم، كقصاص من الله على خطايا الإنسان أو أهله أو أجداده نراه واضحاً في قصة إرسال الله للطوفان، وقصة إحراق الله لمدينتي سدوم وعمورة، وغيرها من القصص الأخرى. أما السبب الآخر للألم، الذي يذكره العهد القديم، هو ليس القصاص وإنما تجربة الإنسان المؤمن واختبار مدى ثبات إيمانه ونضجه في علاقته الروحية مع الله. وفي هذا الإطار نفهم الآلام الكبرى التي تعرض لها النبي أيوب. يطلعنا إنجيل يوحنا في الاصحاح التاسع من إنجيله، على إجابة المسيح لتلاميذه حول تساؤلاتهم عن ألم إنسان ولد أعمى فاقد لنظره، محاولين معرفة سبب ذلك، فسألوه مستندين إلى الفكر السائد بين الشعب، «يا معلّم من أخطأ هذا أم أبواه حتى حتى ولد أعمى؟» (يوحنا 9: ) 2). فأجاب المسيح قائلا: «لم يخطئ هذا ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه». وبالتالي، فالمسيح لم يحمّل مسئولية الألم لا لخطيئة الأب ولا لخطيئة الابن. ولكنه في نفس الوقت لم يخبرنا عن سبب الألم، ولم يفسّر هذا السر اللغز لتلاميذه، إلا أن المسيح لم يقف مكتوف اليدين أمام ألم الأعمى، بل مدّ يده وساعده، فتفل على الأرض وصنع من التفل طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام. فمضى واغتسل، وأتى بصيرًا". إن مشكلة الألم تطرق إليها عدد من آباء الكنيسة واللاهوتيين عبر التاريخ، أبرزهم القديس أوغسطينوس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي. في كتاباته حول «أصل وطبيعة وحلول مشكلة الألم والشر في العالم»، ذكر أوغسطينوس بأن خليقة الله جيدة في الجوهر لأن الله عندما خلق الكون «كما تقول قصة الخليقة في سفر التكوين»، فقد رأى ذلك أنه حسن، إنما بسبب الخطية المتمثلة في سقوط آدم وحواء، حدث تشوّه في الإرادة والحرية البشرية، مما أدى إلى إساءة الإنسان علاقته مع الله ومع نفسه، ومع الآخر، في المجتمع، وأيضا مع الطبيعة. ونتيجة لهذا التشوه الإرادي وتدهور العلاقة على كل الأصعدة، ظهر ويظهر الشر بشكل متعاظم في العالم، يتجسد جزء منه في الحروب والقلاقل والمجاعات والآلام الأخرى التي يسببها الإنسان بسبب تشوه وفساد إرادته. وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم تحميل الرسول يعقوب للناس مسئولية الحروب «يعقوب 4: 1-3» والتفجيرات وقتل الناس الأبرياء. وأيضاً من نفس مبدأ تشوه وفساد الإرادة والحرية الإنسانية، نستطيع أن نفهم سوء علاقة الإنسان مع الطبيعة، بل سوء استخدام الإنسان للطبيعة والموارد الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور الكثير من الأمراض والأوبئة. لهذا تتعالى الأصوات اللاهوتية المسيحية اليوم التي تدعو إلى ضرورة حسن معاملة الطبيعة خليقة الله، والحفاظ عليها لأنه بالحفاظ عليها نحافظ على حياتنا وعلى عالمنا الذي نعيش فيه. فسر القديس أوغسطينوس الأمراض على أنها تشوه وظيفي، بل ظهور أعطال في النظام الوظيفي في الجسم الإنساني. ومن المبدأ نفسه نستطيع أن نفهم أسباب الزلازل والبراكين على أنها يضاً تشوه وظيفي وضعف جيولوجي يصيب بعض المناطق الجغرافية في العالم. بالرغم من محاولة القديس أوغسطينوس وغيره، تقديم تفسيرٍ جزئيّ لمعضلة الألم في العالم، إلا أنهم لم يستطيعوا سبر غور هذا اللغز الذي يبقى معرفته في سلطان الله. تمنى الشاعر والفيلسوف عمر الخيام، الذي بعد تفكيره وبحثه في أسرار الحياة،في القرن الحادي عشر، أمنية كبيرة مستحيلة التحقّق، فقال، «إن رغبة قلوبنا لو نستطيع أن نعيد صنع الكون بدون ألم». لكن الحقيقة الصارخة التي نواجهها كل يوم هي وجود الألم، لهذا فالسؤال الأساس الذي يجب أن نجيب عنه هو، كيف نتجاوب مع الألم عندما يعترضنا؟ لقد دعى اتباع الفلسفة الرواقية اليونانية القديمة إلى قبول الألم وتحمله بشجاعة لأن الإنسان يولد في عالم يحتوي الألم، وهو جزء من هذا العالم، فليخضع لهذا الواقع ويتحمله بهدوء. أما الجواب المسيحي واللاهوتي للآلام الإنسانية، هو أنه ليس هناك انتصاراً ظاهرياً وخارجياً لمعضلة الألم المستمرة في هذا العالم الحاضر. فالانتصار على معضلة الألم، هو أمر روحيّ داخليّ. يتحقــــق ليس بقــــدرات وانجازات الإنســــان، ولكـــن بحضــــور الله فـــي الحياة، إن الرؤية المسيحية للعالم المتألم هي، تقديم حقيقية النعمة والقوة وسط الألم، لتسنده وتمنحه الصبر لتحمل آلامه.