أحدث الأخبار مع #أَبِيالطَّيِّب


الاتحاد
منذ 13 ساعات
- منوعات
- الاتحاد
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (50)
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (50) وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُحِبُّ وَالْمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ... (141) وَشَرُّ مَا يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ مَا يَصِمُ يُمَهِّدُ أَبُو الطَّيِّبِ فِي هَذَا الشَّطْرِ لِصِيَاغَةِ مَفْهُومٍ جَلِيٍّ لِمَا يُسَمَّى فِي الْيَوْمِ بِصِيَانَةِ السُّمْعَةِ. فِي عَالَمِ الْعِلَاقَاتِ الْعَامَّةِ، لَا يَكْفِي بِنَاءُ السُّمْعَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ صِيَانَتِهَا، تَمَاماً كَمَا تُصَانُ السُّمْعَةُ الشَّخْصِيَّةُ مِنَ الزَّلَلِ وَالخَلَلِ وَ الدَرَنِ. وَبِالْعَكْسِ، يَجِبُ الْفِرَارُ مِنْ كُلِّ مَا يُلَطِّخُ هَذِهِ السُّمْعَةَ وَيَشُوبُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْعُيُوبِ. وَفِي هَذَا الْعَجُزِ يَتَحَدَّثُ الْمُتَنَبِّي مُحَذِّراً مِنْ خَدْشِ السُّمْعَةِ، فَمَا بَالُكَ بِجَرْحِهَا؟! الشَّرُّ: مَرَّ مَعَنَا فِي حَلْقَةٍ سَابِقَةٍ، أَنَّ الشَّرَّ عَكْسُ الْخَيْرِ، وَهُوَ سُوءٌوفسادٌ، وقيلَ: هوَ اسمٌ جامعٌ للرَّذَائِلِ والخَطَايَا، وفي التنزيل: ﴿وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾: كفر- ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾: شدّة من فقر أو مرض. أما شَرُّ في بيت القصيد، فاسم تفضيل مِنْ شَرّ: أصلها (أَشَرُّ)، حُذِفَت مِنهُ الهمزة: والمعنى أكثر سوءاً وفساداً. مثاله، قولهم: «الدَّيْنُ شَرُّ أنواع الفقر». وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾». يَصِمُ: أَيْ يَعِيبُ. وَفُلَانٌ وُسِمَ بِوَصْمَةِ عَارٍ، أَيْ حُكِمَ عَلَيْهِ حُكْماً اجتماعياً، بِاعْتِبَارِهِ مُرْتَكِباً فَضِيحَةً مُسِيئَةً جَالِبَةً لِلْعَارِ، وَالْوَسْمُ هُوَ الْعَلَامَةُ الثَّابِتَةُ، وَنَوْعِيَّةُ الْعَلَامَةِ تُشِيرُ بِوُضُوحٍ إِلَى جُرْمِهِ. «و ص م: وصَمَ يصِم، صِمْ، وَصْماً وصِمَةً، فهو واصِم، والمفعول مَوْصوم •وصَم فلاناً: عابَهُ، لطَّخه بقبيح، تنقَّص من قدره «وصَمهُ بالجُبن- وصَم شرفَ العائلة- وصَم حَسَبَ فلان: ألحق به العار- شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ به * وشرُّ ما يكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمِ» . صِمة [مفرد] : مصدر وصَمَ. وَصْم [مفرد] : ج وُصوم (لغير المصدر) : 1 - مصدر وصَمَ. 2 - عيب وعار «كان موقف النَّذالة الذي اتَّخذه وصْماً عليه».. وَصْمَة [مفرد] : ج وَصَمات و وَصْمات: 1 - اسم مرَّة من وصَمَ. 2 - وَصْم؛ عَيْبٌ وعار «وَصْمة عار- إنه يرى وصمة غيره ولا يرى وصمته: ما يعيب وينال من الشَّرف». سُمْعة: صِيت، ما يُسمَع عن شخص من ذِكر حسن أو سيّئ. «السُّمْعة الحسنة خيرٌ من الذهب». [مثل أجنبيّ]. صِيت: سُمعة، ذِكرٌ حَسَنٌ ينتشر في الناس. «ذهب صِيتُه بين النّاس»، صِيتُه يطبّق الآفاق: يملؤها- فلانٌ حَسَنُ الصِّيت: له ذكر في الناس حَسَنٌ- فلانٌ ذائعُ الصِّيت: له شهرة واسعة. • انظر: (معجم اللغة العربية المعاصرة)، أحمد عمر مختار . وَشَرُّ مَا يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ: أَيْ أَسْوَأُ مَا يَكْسِبُهُ. وَالْكَسْبُ هُنَا لَا يَعْنِي الرِّبْحَ، بَلْ يَعْنِي الْحِيَازَةَ، فَأَبُو الطَّيِّبِ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحُوزُهَا الْإِنْسَانُ شَرّاً، هِيَ مَا يَصِمُ: أَيْ مَا يَكُونُ وَصْمَةَ عَيْبٍ فِيهِ وَعِنْدَهُ. وَحِيَازَةُ الْأَشْيَاءِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، بَلْ تَتَجَاوَزُهَا لِتَشْمَلَ الْمَعْنَوِيَّاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَصَمَ الْمَرْءُ بِسُوءِ الْخُلُقِ، أَوْ بِالْجَفَاءِ، أَوْ بِالتَّلَوُّنِ، أَوْ بِالْوَقَاحَةِ، أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْمَعَايِبِ عَيَاذاً بِاللَّهِ. فَمَنْ ذُكِرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَسَبَ مَا يَصِمُ، وَبِئْسَ الْوَصْمُ. (142) وَلَكِنَّ طَبْعَ النَّفْسِ لِلنَّفْسِ قَائِدُ هَذَا الشَّطْرُ ذَكَرَ بَيْتَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي: (الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي)، وَذَكَرَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الثَّعَالِبِيُّ فِي كتابه: (يَتِيمَةُ الدَّهْرِ)، بَاب مَحَاسِنِ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي، بِقَوْلِهِ: وَمِنْهَا إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ. لِأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى سَجِيَّتِكَ بِطَبْعِ نَفْسِكَ، وَطَبْعُ نَفْسِكَ يَقُودُ نَفْسَكَ إِلَى سُلُوكِ مَا اعْتَدْتَ عَلَيْهِ وَطُبِعْتَ عَلَيْهِ جِبِلَّتُكَ. وَمَنْ تَعَوَّدَ عَلَى سُلُوكٍ وَشِيمَةٍ فَإِنَّهُ مُلَازِمُهَا، وَلَو ادَّعَى غَيْرَهَا. وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ الْأَعْوَرِ الشَّنِّيِّ: وَمَنْ يَقْتَرِفْ خُلْقاً سِوَى خُلْقِ نَفْسِهِ * يَدَعْهُ وَتَغْلِبُهُ عَلَيْهِ الطَّبَائِعُ وَأَدْوَمُ أَخْلَاقِ الْفَتَى مَا نَشَأَ بِهِ * وَأَقْصَرُ أَفْعَالِ الرِّجَالِ الْبَدَائِعُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْمَهْدِيِّ: مَنْ تَحَلَّى شِيمَةً لَيْسَتْ لَهُ * فَارَقَتْهُ وَأَقَامَتْ شِيمَتُهْ وَقَوْلُ سَالِمِ بْنِ وَابِصَةَ الْأَسَدِيِّ: يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ * إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ الْعَدْوَانِيُّ: كُلُّ امْرِئٍ رَاجِعٌ يَوْماً لِشِيْمَتِهِ * وَإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلَاقاً إِلَى حِيْنِ وَقَالَ أَيْضاً: لِكُلِّ فَتًى مِنْ نَفْسِهِ أَرْيَحِيَّةٌ * وَتُرَبَّى عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ الضَّرَائِبُ وَقَالَ أَيْضاً: اعْمَدْ إِلَى الْحَقِّ فِيمَا كُنْتَ فَاعِلَهُ * إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وقَالَ حَاتِم الطَائي: وَمَنْ يَبْتَدِعْ مَا لَيْسَ مِنْ خِيمِ نَفْسِهِ * يَدَعْهُ وَيَغْلِبْهُ عَلَى النَّفْسِ خِيمُهَا الْخِيمُ: السِّجِيَّةُ وَالطَّبِيعَةُ وَالْأَصْلُ.


الاتحاد
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- الاتحاد
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (45)
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (45) وَمَا زِلنَا نَعرِضُ أَعجَازَ أَبيَات شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالًا، فقد أَقَرَّ المُحِبُّ والمُبغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ... (129) أَشَدُّ مِنَ السُّقمِ الَّذِي أَذْهَبَ السُّقْمَا السُّقْمُ: السَّقَامُ وَالسُّقْمُ وَالسَّقَمُ، هِيَ الْمَرَضُ. لَا يُوجَدُ أَشَدُّ مِنَ الْمَرَضِ وَيُذْهِبُ الْمَرَضَ، إِلَّا الْمَوْتُ. وَالْمَوْتُ، أَشَدُّ مِنَ السُّقْمِ؛ لِأَنَّ السُّقْمَ يُزِيلُ الصِّحَّةَ، وَالْمَوْتَ يُزِيلُ الْحَيَاةَ وَيُبْطِلُهَا. وَشَطْرُ بَيْتِ الْمُتَنَبِّي هَذَا، هُوَ جُزْءٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَيْتٍ آخَرَ، يَشْرَحُ شَطْرَهُ: وَشَكِيَّتِي فَقْدُ السَّقَامِ لِأَنَّهُ * قَدْ كَانَ لَمَّا كَانَ لِي أَعْضَاءُ يَقُولُ: أَصْبَحْتُ الْآنَ أَفْتَقِدُ الْمَرَضَ، وَشَكْوَايَ هِيَ فَقْدِي الْمَرَضَ، إِذْ كَانَ الْمَرَضُ بِي يَوْمَ كَانَ لَدَيَّ أَعْضَاءٌ أَشْعُرُ بِهَا، أَمَّا بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُ الإِحْسَاسَ بِأَعْضَائِي، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْقَدَنِي الْمَرَضَ. يَقْصِدُ أَنَّ مَنْ يَتَمَنَّى الْمَرَضَ، إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يَعْنِي إِحْسَاسَهُ بِالْأَعْضَاءِ، وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ فَقْدِ الْمَرَضِ بِسَبَبِ عَدَمِ الإِحْسَاسِ بِالْأَعْضَاءِ وَانْعِدَامِ الشُّعُورِ بِهَا، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ السَّقَامِ! وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَكُنْتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ أَسْتَعْظِمُ النَّوَى * فَقَدْ صَارَتِ الصُّغْرَى الَّتِي كَانَتِ الْعُظْمَى وَقَوْلُهُ: وَإِنِّي لِمَنْ قَوْمٍ كَأَنَّ نُفُوسَنَا * بِهَا أَنَفٌ أَنْ تَسْكُنَ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَا وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: أَقُولُ وَقَدْ قَالُوا اسْتَرَاحَتْ بِمَوْتِهَا * مِنَ الْكَرْبِ رُوحُ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنَ الْكَرْبِ (130) فَإِنَّ الرِّفْقَ بِالجَانِي عِتَابُ هَذَا شَطْرٌ مِنْ بَيْتٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ، ذَكَرَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي مُنْتَقَيَاتِهِ الَّتِي اخْتَارَهَا مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي، وَجَمَعَهَا فِي كِتَابٍ وَضَعَهُ لِسَيِّدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، وَأَسْمَاهُ: (الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي). كَمَا ذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الثَّعَالِبِيُّ شَطْرَ الْبَيْتِ، فِي كِتَابِهِ: (التَّمْثِيلُ وَالْمُحَاضَرَةُ)، ضِمْنَ فَصْلٍ (الْأَمْثَالُ الصَّادِرَةُ عَنِ الْأَبْيَاتِ السَّائِرَةِ)، وَبَعْدَمَا أَوْرَدَهُ فِي (يَتِيمَةِ الدَّهْرِ)، عَلَّقَ عَلَيْهِ قَائِلًا: «هَذَا كَلَامٌ مَا لِحُسْنِهِ غَايَةٌ». لَقَدْ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ، وَأَقَرَّ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ، وَحَانَ وَقْتُ إِنْفَاذِ الْعُقُوبَةِ، حِينَهَا يُنْدَبُ إِلَى الْعَفْوِ، وَالصَّفْحُ مِنْ شِيَمِ الْأَحْرَارِ، وَالرِّفْقُ بِالْجَانِي مِنَ الإِحْسَانِ، وَالإِحْسَانُ قَيْدٌ يُقَيِّدُ الْمُحْسَنَ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ، فِي بَيْتِهِ الْبَدِيعِ: وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً * وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا فَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي يُقَيِّدُ الْجَانِي نَفْسَهُ بِهِ، ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ عِتَابِ الْجَانِي، بِالرِّفْقِ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (131) المَوتُ أَعذَرُ لِي ، والصَّبْرُ أَجَمل بِي يَقُولُ: إِنَّ الْمَوْتَ أَعْذَرُ مِنْ عَيْشِ الذَّلِيلِ، فَأَنَا أُفَضِّلُ الْمَوْتَ عَلَى الذُّلِّ. فَإِذَا قُتِلْتُ وَأَنَا مُقْبِلٌ طَالِبٌ لِلْعَلْيَاءِ فَإِنَّ الْمَوْتَ سَيَعْذُرُنِي، وَسَيَكُونُ عُذْرًا لِي، بِأَنِّي قَدَّمْتُ حَيَاتِي مِنْ أَجْلِ غَايَاتٍ سَامِيَةٍ، وَأَهْدَافٍ نَبِيلَةٍ، وَمَعَالِي الْأُمُورِ، وَهُوَ مِمَّا يُجَمِّلُ السِّيرَةَ، وَيَنْقِي السَّرِيرَةَ، وَيَرْفَعُ الْقَدْرَ، وَيُعْلِي الذِّكْرَ. وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَالتَّجَلُّدُ فِي النَّوَائِبِ، أَجْمَلُ بِي مِنَ الْجَزَعِ، فَالصَّبْرُ يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْزِ بِالنِّهَايَةِ، كَمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ وَبَشَّرَهُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. كَمَا إِنَّ الصَّبْرَ يَمْنَعُ شَمَاتَةَ الْأَعْدَاءِ. وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ، فِي رِثَاءِ أَوْلَادِهِ الْخَمْسَةِ، الَّذِينَ قَتَلَهُمُ الطَّاعُونُ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ * أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَصَبَّرُ، لِيُرِيَ الشَّامِتِينَ صَلَابَتَهُ، وَثَبَاتَهُ، وَعَدَمَ انْكِسَارِهِ أَمَامَ مَصَائِبِ الْحَيَاةِ، وَفَوَاجِعِ الدُّنْيَا. (132) والبَرُّ أَوسَعُ والدُّنيَا لِمَنْ غَلَبَا يَقُولُ: إِنَّ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ وَالْخُرُوجَ إِلَى الْبَرِّ، أَوْسَعُ مِنْ ضِيقِ بَيْتٍ أَرْتَهِنُ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ جُدْرَانِهِ، أَوِ الْبَقَاءَ فِي بَلَدٍ ضَاقَ بِي وَضَيَّقَ عَلَيَّ سُبُلَ رِزْقِي، لِذَا سَأَجِدُّ سَاعِياً فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ، مُبْتَغِياً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، بَاحِثًا عَنِ الرِّزْقِ. فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ يَجِدُ السَّعَةَ أَنْ يَقْبَلَ بِالضِّيقِ، وَلَا يَسْتَوِي ضِيقٌ وَسَعَةٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}. وَفِي الْبَابِ يَقُولُ الطُّغْرَائِيُّ: إِنَّ الْعُلَى حَدَّثَتْنِي وَهْيَ صَادِقَةٌ * فِي مَا تُحَدِّثُ إِنَّ الْعِزَّ فِي النُّقَلِ يَعْنِي أَنَّ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةَ، قَالَتْ لَهُ، وَصَدَقَتْ فِي قَوْلِهَا، إِنَّ تَحْقِيقَ الْعِزِّ وَمُفَارَقَةَ الذُّلِّ يَكُونُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَكُلَّمَا أُوْصِدَتْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ بِوَجْهِكَ فِي مَكَانٍ، فَانْتَقِلْ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عِزُّكَ. وَقَوْلُهُ (وَالدُّنْيَا لِمَنْ غَلَبَا): أَيْ أَنَّ الدُّنْيَا تَؤُولُ الْغَلَبَةُ فِيهَا لِمَنْ يُزَاحِمُ النَّاسَ بِالْمَنَاكِبِ، وَيَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ رِزْقِهِ، وَلَا يَغْلِبُ فِيهَا الَّذِي آثَرَ الدَّعَةَ، وَاسْتَحَبَّ الرَّاحَةَ، وَلَمْ يَبْذُلِ الْأَسْبَابَ فِي السَّعْيِ فِي الطَّلَبِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ. وَفِي ذَلِكَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَوْلُهُ: وَمَا طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِّي * وَلَكِنْ أَلْقِ دَلْوَكَ فِي الدِّلَاءِ تَجِئْكَ بِمَلْئِهَا طَوْرا وَطَوْراً * تَجِئْكَ بِحَمْأَةٍ وَقَلِيلِ مَاءِ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى كَسَلٍ تَمَنَّى * تُحِيلُ عَلَى الْمَقَادِرِ وَالْقَضَاءِ فَإِنَّ مَقَادِرَ الرَّحْمَنِ تَجْرِي * بِأَرْزَاقِ الرِّجَالِ مِنَ السَّمَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِقَبْضٍ أَوْ بِبَسْطٍ * وَعَجْزُ الْمَرْءِ أَسْبَابُ الْبَلَاءِ


الاتحاد
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- الاتحاد
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (44)
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (44) وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ المُحِبُّ وَالمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ. (128) وَمَنْ يَسُدُّ طَرِيقَ العَارِضِ الهَطِلِ العَارِضُ: السَّحَابُ العَظِيمُ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الأُفُقِ كَالجَبَلِ، وَسُمِّيَ عَارِضاً لِأَنَّ السُّحُبَ تَعْرِضُ أَمَامَ أَعْيُنِ النَّاسِ، خِلَالَ سَيْرِهَا فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَصْوِيرِ سَحَابَةٍ تَوَهَّمَهَا قَوْمُ عَادٍ مَطَراً: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، وَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ سَحَابَةُ عَذَابٍ، لَا رَحْمَةٍ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى، بِقَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى العَذَابِ، أَيْ: فَلَمَّا رَأَوْا العَذَابَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُعْتَرِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ظَنُّوهُ مَطَراً. قَالَ الأَعْشَى: يَا مَنْ يَرَى عَارِضاً قَدْ بِتُّ أَرْقُبُهُ * كَأَنَّمَا البَرْقُ فِي حَافَاتِهِ الشُّعَلُ وَلِلْفَرَزْدَقِ قَوْلُهُ: يَا مَنْ رَأَى عَارِضاً أَرِقْتُ لَهُ * بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ وَالعَارِضُ: السَّحَابُ الَّذِي يَعْتَرِضُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ. وَالعَارِضُ: السَّحَابُ المُطِلُّ يَعْتَرِضُ فِي الأُفُقِ. الهَطِلُ: المَطَرُ المُتَفَرِّقُ العَظِيمُ القَطْرِ المُتَتَابِعُ. قَصَدَ الشَّاعِرُ بِهَذَا الشَّطْرِ مِنَ البَيْتِ، التَّعْبِيرَ عَنْ مَعَانِي الخَيْرِ، فِي أَبْرَزِ صُورَةٍ، وَأَجْلَى هَيْئَةٍ، وَأَوْضَحِ وَصْفٍ. فَالمَطَرُ خَيْرٌ يَسُوقُهُ اللَّهُ إِلَى القُلُوبِ المَيِّتَةِ فَيُحْيِيهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ القَائِلُ: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. لِذَلِكَ سُمِّيَ المَطَرُ غَيْثاً. وَفِي عَجُزِ البَيْتِ صَوَّرَ الشَّاعِرُ الخَطَّ الزَّمَنِيَّ لِأُعْطِيَةِ الرَّحْمَنِ (المَطَرِ)، بِدَايَةً بِمَنْظَرِ (العَارِض): السَّحَاب الَّذِي هُوَ أَوَّلُ بَشَائِرِ الغَيْثِ وَالحَيَاةِ، وَالَّذِي يَتَبَيَّنُ مِنْ شَكْلِهِ أَنَّهُ وَدُودٌ، وَلُودٌ، مُحَمَّلَةٌ بِالمَطَرِ العَظِيمِ، قِيمَةً، وَحَجْماً، اسْماً، وَرَسْماً. وَكَانَ المُتَنَبِّي قَالَ فِي أَحَدِ أَنْصَافِ أَبْيَاتِهِ: كُلُّ مَا يَمْنَحُ الشَّرِيفُ شَرِيفُ وَهُنَا تَظْهَرُ بِوُضُوحٍ العَلَاقَةُ البَلَاغِيَّةُ بَيْنَ شَطْرَيِ البَيْتَيْنِ، فَكَمَا أَنَّ الغَيْثَ الشَّرِيفَ يَمْنَحُ خَيْراً شَرِيفاً هُوَ المَاءُ، فَكَذَلِكَ الإِنْسَانُ الشَّرِيفُ لَا يُنْتَظَرُ مِنْهُ إِلَّا الخَيْرُ وَالشَّرَفُ. وَسَنَرَى هَذَا الشَّطْرَ وَاقِعاً حَيَاتِياً فِي غَيْثِ الرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ، وَمَطَرِ السَّمَاءِ، وَأَعْطِيَةِ الكَرِيمِ الرَّحْمَنِ، سَحَاباً مُمْطِراً، بِمَطَرٍ كَثِيفٍ، مَنْظَرُهُ وَمَخْبَرُهُ، سَعَادَةٌ لِلْخَاطِرِ، وَمُتْعَةٌ لِلنَّاظِرِ. هَذَا العَارِضُ الهَطِلُ الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْبِلَادِ وَالعِبَادِ، لَا يُسَدُّ، وَلَا يُرَدُّ، وَمِنْ كَثْرَتِهِ لَا يُعَدُّ، لَا فِي هُطُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَلَا فِي تَحَوُّلِهِ سَيْلاً يَجْرَحُ وَجْهَ الفِيَافِي وَالأَزِقَّةِ وَالشَّوَارِعِ وَالمَسَاحَاتِ، وَهُوَ مُتَدَفِّقٌ مُنْدَفِعٌ فِي سَيْرِهِ عَلَى الأَرْضِ. لَقَدْ لَفَتَ الشَّاعِرُ إِلَى خَيْرِيَّةِ هَذَا العَارِضِ الهَطِلِ، بِسُؤَالٍ اسْتِنْكَارِيٍّ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِجَابَةٍ، لِبَدَهِيَّةِ الجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ يَسْتَنْكِرُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِ الخَيْرِ الَّذِي يَفِيضُ مِنْ نُفُوسِ الخَيِّرِينَ، أَوْ كَأَنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ بِإِمْكَانِهِ رَدَّ عَطَاءٍ مُتَدَفِّقٍ. وَيُمْكِنُ البِنَاءُ عَلَى ذَاتِ المَعْنَى الوَارِدِ فِي شَطْرِ البَيْتِ، بِالقَوْلِ: أَدَبُكَ الَّذِي قَوَّمْتَ نَفْسَكَ، لِيَكُونَ مِنْ عَادَاتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَسَجَايَاهَا، مَنْ يَسُدُّهُ وَيَمْلِكُ مَنْعَهُ، مِنْ قَلِيلِي الأَدَبِ؟! ارْفَعْ كَلِمَتَيْ (العَارِضِ الهَطِلِ)، وَضَعْ مَكَانَهُمَا أَيَّ كَلِمَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى الخَيْرِ بِصُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، مِثْلَ (الكَرَمِ الفَيَّاضِ)، أَوْ (العَفْوِ الجَمِيلِ)، أَوْ (الوَدِّ الصَّادِقِ)، وَسَيَسْتَقِيمُ المَعْنَى، وَسَتَكُونُ الجُمْلَةُ جُمْلَةً مُفِيدَةً، بَالِغَةَ الدَّلَالَةِ وَالعُمْقِ.


الاتحاد
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- الاتحاد
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (43)
مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (43) وَكَمَا بَيَّنَّا فِي حَلَقَاتٍ مَاضِيَةٍ أَنَّ إِرْسَالَ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ، يُعْتَبَرُ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، نَسْتَكْمِلُ فِي هَذِهِ الْحَلْقَةِ عَرْضَ أَعْجَازِ أَبْيَاتٍ لِلْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً. (125) وَلَا يَرُدُّ عَلَيْكَ الْفَائِتَ الْحَزَنُ الْفَائِتُ: الذَّاهِبُ، الَّذِي مَضَى وَانْقَضَى. الْمَرْءُ يَحْزَنُ عَلَى ذَهَابِ مَا يُحِبُّ، لَكِنَّ الْمُتَنَبِّي يَقُولُ لِقَارِئِ شِعْرِهِ، نَاصِحاً بِحِكْمَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي هَذَا الْعَجُزِ مِنَ الْبَيْتِ: إِنَّ حُزْنَكَ عَلَى (الْفَائِتِ)، أَيْ الَّذِي مَضَى وَذَهَبَ، وَصَارَ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ، لَا يُعِيدُهُ إِلَيْكَ. إِذَا عَلِمْتَ وَتَيَقَّنْتَ عَدَمَ جَدْوَى الْحُزْنِ، فَمِنَ الْعَقْلِ أَنْ تُقِلَّ مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتَ، فَالْحُزْنُ لَا يُخَلِّفُ لِلْمَحْزُونِ إِلَّا الْأَلَمَ وَالْغُصَصَ وَالْحَسَرَاتِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ تَرْكَهُ، فَهُوَ الْحَصِيفُ الْكَاسِبُ. وَهَكَذَا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾، بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ جَلَّ وَعَلَا فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾. وَلِأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ، مَطْلَعُ مَرْثِيَّةٍ، اعْتُبِرَ أَحْسَنَ بَيْتٍ افْتُتِحَتْ بِهِ مَرْثِيَّةٌ، وَذَٰلِكَ بِقَوْلِهِ مُخَاطِباً نَفْسَهُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلِي جَزَعاً إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا يَأْمُرُ نَفْسَهُ بِالتَّوَقُّفِ فَوْراً عَنِ الْجَزَعِ، وَهُوَ خِلَافُ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الْمَحْذُورَ وَقَعَ، وَالْجَزَعُ لَا يَرُدُّ غَائِباً. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: الْحَذَرُ أَشَدُّ مِنَ الْوَقِيعَةِ. وَإِنَّمَا حَقُّ الشَّيْءِ الْمُتَخَوَّفِ، أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُرْتَاعاً حَذَرَ وُقُوعِهِ، فَإِذَا وَقَعَ الْبَأْسُ ارْتَفَعَ ذَٰلِكَ الْحَذَرُ. وَمِنْ ذَٰلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الصَّلَاحِ: إِذَا اسْتَأْثَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ فَالْهَ عَنْهُ. (فَالْهَ عَنْهُ): أَمْرٌ بِإِلْهَاءِ النَّفْسِ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي صَارَ فِي يَدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَذَٰلِكَ بِالِانْشِغَالِ بِغَيْرِهِ... فَإِنَّ الْحُزْنَ عَلَى الْغَائِبِ الذَّاهِبِ لَا يُعِيدُهُ وَلَا يَرُدُّهُ. وَقِيلَ لِلْحَكِيمِ الْفَارِسِيِّ بَزَرْجَمْهَر: أَيُّهَا الْحَكِيمُ، مَا لَكَ لَا تَحْزَنُ عَلَى مَا فَاتَ؟! فَقَالَ: لِأَنَّ الْفَائِتَ لَا يُتَلَافَى بِالْعَبْرَةِ. يَقُولُ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: لَقَدْ جَرَّ نَفْعاً فَقْدُنَا لَكَ أَنَّنَا أَمِنَّا عَلَى كُلِّ الرَّزَايَا مِنَ الْجَزَعْ وَفِي الْبَابِ، قَوْلُ أَبِي نُوَاس: وَكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ عَلَيْهِ أُحَاذِرُ وَكَانَ الْمُتَنَبِّي، أَشَارَ إِلَى الْمَعْنَى ذَاتِهِ، بِقَوْلِهِ: فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَامٌ تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا لِأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي يَقُولُ: إِنَّ رَمْيَ الدَّهْرِ لِي بِالْمَصَائِبِ سِهَاماً تَتَكَسَّرُ بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ، أَصْبَحَ عَلَيَّ هَيِّناً سَهْلاً، فَمَا عُدْتُ أُبَالِي بِالرَّزَايَا: أَيْ مَا عُدْتُ أَجْزَعُ لِلْمَصَائِبِ، وَكُنْتُ جَرَّبْتُ أَنْ أَهْتَمَّ بِهَا، فَمَا نَفَعَنِي الِاهْتِمَامُ، فَلَنْ أَفْعَلَ مَا لَا يَنْفَعُ، وَلَنْ أَهْتَمَّ بِمُصِيبَةٍ بِحُزْنِي عَلَيْهَا، لِعَدَمِ جَدْوَى ذَٰلِكَ. إِنَّ مَا لَا تَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ، يَجِبُ أَلَّا تَحْزَنَ عَلَيْهِ. (126) إِذَا عَنَّ بَحْرٌ لَمْ يَجُزْ لِيَ التَّيَمُّمُ عَنَّ: أَيْ ظَهَرَ، وَبَدَا وَبَانَ. يُقَالُ: عَنَّتْ لَهُ حَاجَةٌ، إِذَا ظَهَرَتْ وَعَرَضَتْ لَهُ. التَّيَمُّمُ: هُوَ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ، بَدِيلاً عَنِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ، لِلْمَرِيضِ وَلِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَالتَّيَمُّمُ: التَّوَضُّؤُ بِالتُّرَابِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، أَيْ: اقْصِدُوا لِصَعِيدٍ طَيِّبٍ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهٰذِهِ الْكَلِمَةِ، حَتَّى صَارَ التَّيَمُّمُ: مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: إِذَا عَنَّ بَحْرٌ لَمْ يَجُزْ لِيَ التَّيَمُّمُ... يَتَطَابَقُ مَعَ قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ، تَقُولُ: «إِذَا حَضَرَ الْمَاءُ بَطَلَ التَّيَمُّمُ». فَالتَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِغِيَابِ الْمَاءِ، فَإِذَا تَوَفَّرَ الْمَاءُ انْتَفَتِ الرُّخْصَةُ، وَحَرُمَ اسْتِخْدَامُهَا. وَيُلْفَتُ فِي الْبَابِ إِلَى قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ: لَبِسْتُ سِوَاهُ أَقْوَاماً فَكَانُوا كَمَا أَغْنَى التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ (127) وَفِي التَّجَارِبِ بَعْدَ الْغَيِّ مَا يَزَعُ التَّجَارِبُ: جَمْعُ تَجْرِبَةٍ. قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهَا مِنْ إِصَابَةِ الْإِبِلِ بِالْجَرَبِ، فَإِنَّ ذَٰلِكَ يُجْعِلُ صَاحِبَهَا يَعْرِفُ كَيْفَ يُدَاوِيهَا. وَقَوْلُهُمْ: جَرَّبَ الْأُمُورَ، أَيْ مَرَّتْ عَلَيْهِ، وَعَايَشَهَا، فَتَعَلَّمَ مِمَّا مَرَّ بِهِ، مَا يَحْتَاجُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْمُدَارَاةِ. الْغَيُّ: الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ. يَزَعُ: أَيْ يَكُفُّ وَيَتْرُكُ. أَيْ: إِنَّ خَوْضَ التَّجَارِبِ يُجْعِلُ الْمَرْءَ يَتْرُكُ الْغَيَّ وَيَكُفُّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ تَجْرِبَةُ الْإِنْسَانِ لِلنَّاسِ، تَجْعَلُ مَنْ اغْتَرَّ بِهِمْ وَأَحْسَنَ بِهِمُ الظَّنَّ، قَبْلَ تَجْرِبَتِهِمْ، يَعُودُ عَنْ غَوَايَتِهِ بِمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُفُّ عَنْهَا.